وكاتب جُند يحتاج إلى أن يَعرف مع الحساب الأطماعَ وشِيات الدواب وحُلَى الناس وكاتب قاضٍ يحتاج إلى أن يكون عالماً بالشّروط والأحكام والفُروع والناسخ والمَنسوخ والحلال والحرام والمواريث وكاتب شُرطة يحتاج إلى أن يكون عالماً بالجُروح والقِصاص والعقول والدَيات. فأيهم أنت أعزّك اللهّ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني إذا كان لك صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب فتزوجتْ أمهُ فكيف تكتب له أتهنِّيه أم تُعزِّيه قلت: والله ما أقفُ على ما تقول. قال: فلستَ بكاتب رسائل فأيهمِ أنت قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك اللهّ وقد ولاك السلطان عملاَ فَبَثَثْتَ عُمّالك فيه فجاءك قوم يتظلّمون من بعض عُمّالك فأردتَ أن تَنْظر في أمورهم وتًنصفهم إذا كنت تُحبّ العدل والبِرّ وتُؤثر حُسن الأحدوثة وطيب الذِّكر وكان لأحدهم قَرَاح كيف كنت تمسحه قال: كنت أضرب العُطوف في العَمُود وأنظر كم مقدار ذلك. قال: إذن تظلَم الرجل. قلتُ: فامسح العَمود على حِدَة. قال: إذا تظلَم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلستَ بكاتب خراج فأيهم أنت قلت: كاتب جُنْد. قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد أحدهما مَقْطوع الشفة العليا والآخرً مقطوع الشَّفة السُّفلى كيف كنت تكتب حِلّيتهما قال: كنت أكتب أحمدُ الأعلم وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورِزْقُ هذا مائتا درهم ورزق هذا ألفُ درهم فيقبض هذا على دَعْوة هذا فتظلِم صاحب الألف! قلت: واللهّ ما أدري. قال: فلستَ بكاتب جُند فأيهم أنت قلتُ: كاتب قاض. فمال: فما تقول أصلحك الله في رجل تُوفي وخَلَّف زوجة وسُرِّيّة وكان للزوجة بنت وللسُرّيَّة ابن فلما كان في تلك الليلة أخذت الحُرّة ابن السُرّية فادَّعَته وجعلتْ ابنتها مكانه فتنازعا فيه فقالت هذه: هذا ابني وقالت هذه: هذا ابني كيف تحكم بينهما وأنت خليفةُ القاضي قلت: والله لمست أدري. قال: فلستَ بكاتب قاض فأيّهم أنت قلت: كاتب شرطة. قال: فما تقول: أصلحك الله في رجل وَثب على رجل فشجَّه شَجة مُوضحة فوثب عليه المَشجوج فشجه شجّة مَأْمُومة قلتُ: ما أعلم. ثم قلت: أصلحك الله قد سألتَ ففسِّر لي ما ذكرتَ. قال: أما الذي تزوّجت أمّه فتكتبُ إليه: أما بعد فإن أحكامَ الله تَجْري بغير مَحابّ المَخْلوقين والله يختار للعباد فخار الله لك في قَبْضها إليه فإن القبرَ أكرمُ لها والسلام وأما القَراح فتضرب واحداً في مساحة العُطوف فمن ثَمَّ بابُه وأما أحمد وأحمد فتكتب حِلْية المَقْطوع الشّفة العُليا: أحمد الأعلم والمَقْطوع الشفة السفلى أحمد الأشرم وأما المرأتان فيُوزن لبن هذه ولبن هذه فأيّهما كان أخف فهي صاحبة البنت وأما الشّجّة فإن في المُوضحة خمساً مني الإبل وفي المأمومة ثلاثاً وِثلاثين وثُلثاً فيَرُدّ صاحبُ المأمومة ثمانيةً وعشرين وثُلثاً. قلت: أصلحك اللهّ فلا نزع بك إلى هنا قال ابنُ عمّ لي كان عاملاً على ناحية فخرجتُ إليه فألفيتُه مَعْزولاً فقُطع بي فأنا خارج أضطرب في المعاش. قلتُ: ألستَ ذكرتَ أنك حائك قال: أنا أحُوك الكلام ولستُ بحائك الثياب. قال: فدعوتُ المُزَيِّن فأخذ من شَعَره وأدْخِل الحمّام فطَرحْتُ عليه شيئاً من ثيابي. فلما صرتُ إلى الأهواز كلمت الرخّجيّ فأعطاه خمسةَ آلاف درهم ورَجع معي فلما صرتُ إلى أمير المؤمنين قال: ما كان من خَبرك في طريقك فأخبرتُه خبري حتى حدَّثتُه حديث الرجل. فقال لي: هذا لا يُستغنى عنه فلأيّ شيء يصلُح قلت: هذا أعلم الناس بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أميرُ المؤمنين البناء والمَرمَّة. فكنتُ والله ألقاه في المَوكب النبيل فينحطّ عن دابته فأحلِف عليه فيقول: سُبحان الله! إنما هذه نِعْمتك وبك أفدتُها.
سأكِونكالِوُرد
كِلما ينجرحُ "بزخِات مِطِر " يفِوٌحُ عِطِراً ..!
العقد الفريد/الجزء الثالث/7
فضائل الكتابة
قالت أبو عثمان الجاحظ: ما رأيتُ قوماً أنفذ طريقةً في الأدب من هؤلاء الكتّاب فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّراً وَحشيّا ولا ساقطاً سُوقيا. وقال بعضُ المهالبة لبنيه: تزيّوا بزِيّ الكُتّاب فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السوقة. وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكُتاب فأمر بحَبْسهم فرفعوا إليه رُقعة ليس فيها إلا هذا البيت: ونحنُ الكاتبون وقد أسأنا فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا فعفا عنهم وأمر بتَخْلية سبيلهم. وقال المؤيد: كُتّاب المُلوك عُيونهم الناظرة وآذانهم الواعية وألسنتُهم الناطقة. والكتابةُ أشرفُ مراتب الدُّنيا بعد المحلافة وهي صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهلُ بن هَارون: الكتابة أولُ زِينة الدُنيا التي إليها يتناهَى الفضلُ وعندها تَقِف الرَّغبة.ما يجوز في الكتابة وما لا يجوز فيها
قال إبراهيم بن محمد الشَيباني: إذا احتجت إلى مُخاطبة المُلوك والوُزراء والعُلماء والكُتّاب والخُطباء والأدباء والشُّعراء وأوساط الناس وسُوقتهم فخاطبْ كُلاً على قَدْر أبهته وجلالته وعُلوَه وارتفاعه وفِطْنته وانتباهه. واجعل طبقات الكلام على ثمانية أقسام منها: الطبقات العَلِية أربع والطبقات الآخرً وهي دونها أربع لكل طبقة منها درجة ولكلّ قَسْمها لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصّر بأهلها عنها ويَقْلب معناها إلى غيرها. فالحدّ الأوّل: الطبقات العُليا وغايتها القُصوى الخِلافة التي أجل الله قدرَها وأعلَى شأنها عن مُساواتها بأحد من أبناء الدُّنيا في التعظيم والتوقير والطبقة الثانية لوزرائها وكتّابها الذين يُخاطبون الخلفاء بعقُولهم وألسنتهم ويَرْتِقُون الفُتوق بآرائهم والطبقة الثالثة أمراء ثُغورهم وقُوّاد جُنودهم فإنه تجب مُخاطبة كل أحد مِنهم على قدره ومَوْضِعه وحظّه وغَنائه وإجزائه واضطلاعه بما حَمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم والرابعة القضاة فإنهم وإن كان لهم تواضع العُلماء وحِلْية الفضلاء فمعهم أبهة السَّلطنة وهَيْبة الأمراء. وأما الطبقات الأربع الآخرً فهم: الملوك الذين أوجبت نعمُهم تعظيمَهم في الكَتْب إليهم وأفضالُهم تَفضيلَهم فيها والثانية وزراؤهم وكتَّابهم وأتباعهم الذين بهم تُقرع أبوابهم وبعناياتهم تُستماح أموالهم والثالثة هم العلماء الذين يجب توقيرهم في الكَتب بشرف العِلم وعلوّ درجة أهله والطبقة الرابعة لأهل القدر والجلالة والحلاوة والطلاوة والظرف والأدب فإنهم يضطرونك بحدّة أذهانهم وشدّة تمييزهم وانتقادهم وأدبهم وتصفّحهم إلى الاستقصاء على نفسك في مُكاتبتهم. واستغنينا عن الترتيب للسّوقة والعوامّ والتجّار باستغنائهم بمهناتهم عن هذه الآلات واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك فتزن كلامك في مُخاطبتهم بميزانه وتعطيه قَسمه وتُوفّيه نصيبه فإنك متىِ أهملت ذلك وأضعتَه لم آمن عليك أن تَعدل بهم عن طريقهم وتسلك بهم غير َمسلكهم ويَجرىَ شُعاع بلاغتك في غير مجراه وتَنْظَمِ جوهر كلامك في غير سِلكه. فلا تعتدّ بالمعنى الجَزْل ما لم تُلْبسه لفظاً لاثقاً لمن كاتبته ومُلتئماً بمن راسلته فإنّ إلباسَك المَعنى وإن صَحّ وشَرُف لفظاً مُتخلّفاً عن قَدْر المكتوب إليه لم تَجْر به عاداتهم تهجينٌ للمعنى وإحلال بقَدْره وظُلم بحق المَكتوب إليه ونَقْص مما يجب له كما أن في إتباع تعارفهم وما انتشرت به عادتهم وجَرت به سُنتهم قطعاً لعُذرهم وخُروجاً من حقوقهم وبُلوغاً إلى غاية مُرادهم وإسقاطاً لحُجة أدبهم. فمن الألفاظ المَرغوب عنها والصُّدور المستوحش منها في كتب السادات والمُلوك والأمراء على اْتفاق المعاني مثل: أبقاك الله طويلًا وعَمَّرك مَلِيّا. وإن كنّا نعلم أنه لا فرق بين قولهم: أطال الله بقاك وبين قولهم: أبقاك الله طويلًا. ولكنهم جعلوا هذا أرجَح وَزْناً وأنبه قدراً في المُخاطبة. كما أنّهم جعلوا: أكرمك الله وأبقاك أحسن منزلاً في كُتب الفُضلاء والأدباء من: جُعلت فداك على اشتراك معناه واحتمال أن يكون فداءَه من الخير كما يحتمل أن يكون فداءَه من الشر ولولا أنّ رسول الله قال لسعد بنٍ أبي وقّاص: ارْم فداك أبي وأمي، لكرِهنا أن يَكْتب بها أحد. على أن كُتّاب العَسكر وعوامّهم قد وَلعوَا بهذه اللَفظة حتى استعملوها في جميع مُحاوراتهم وعلوها هِجِّيراهم في مخاطبة الشريف والوَضيع والكبير والصغير. وذلك قال محمود الورَّاق: كُلّ مَنْ حَلّ سُرّ مَنْ نرى مِن الناس ومَن قد يُداخل الأملاكا لو رأى الكَلْب ماثلاً بطريق قال للكَلْب يا جُعِلت فِدَاكا وكذلك لم يجيزوا أن يكتبوا بمثل أبقاك الله وأمتع بك إلا في الابن والخادم المنقطع إليك وأما في كتب الإخوان فغير جائز بل مَذموم مَرغوب عنه. ولذلك كتب عبدُ الله بن طاهر إلى محمد بن عبد الملك الزيات: أحُلْتَ عما عَهدْتُ من أدبكْ أم نِلْتَ مُلْكاً فتِهْتَ في كُتبكْ أم قد تَرى أنًّ في مُلاطفة الْ إخوان نَقْصاً عليك في أدبك أكان حقّا كتابُ ذي مِقَة يكون في صَدْره: وأمْتَع بك أتعبت كفَّيك في مُكاتبتي حسبُك ما قد لقيتَ في تَعبك فكتب إليه محمد بن عبد الملك الزيات: أنكرتَ شيئاً فلستُ فاعلَه ولن تُراه يُخَطِّ في كتبك إنْ يك جهلٌ أتاك مِن قِبلي فعُد ْبفَضْلٍ عَليّ من حَسبك فاعفُ فدَتْك النُّفوس عن رجلٍ يَعيش حتى المماتِ في أدبك ولكلّ مَكْتوب إليه قدرٌ ووَزنْ يَنبغي للكاتب ألاّ يَتجاوز به عنه ولا يُقصّر به دونه. وقد رأيتهم عابُوا الأحوص حين خاطب المُلوك خطاب العوامّ في قوله: وأراك تَفعل ما تقُول وبعضًهم مَذِق الحديث يقول ما لا يَفْعلُ وهذا معنى صحيح في المدح ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يُمدحوا بما تُمدح به
سأكِونكالِوُرد
كِلما ينجرحُ "بزخِات مِطِر " يفِوٌحُ عِطِراً ..!
العوامّ لأن صِدْق الحديث وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامّة والمُلوكُ لا يُمدحون بالفرائض الواجبة إنما يَحسن مدحُهم بالنّوافل لأنّ المادح لو قال لبعض المُلوك: إنك لا تَزْني بحليلة جارك وإنك لا تخون ما استودعْت وإنك لتصدًق في وَعدك وتَفي بعهدك فكأنه قد أثنى بما يجب ولو قَصد بثنائه إلى مَقصده كان أشبهَ في الملوك. ونحن نعلم أنَّ كل أمير يتولَّى من أمر المؤمنين شيئاً فهو أميرُ المؤمنين غير أنهم لم يُطلقوا هذه اللفظة إلا على الخُلفاء خاصة. ونحنِ نعلم أن الكَيّس هو العاقل لكن لو وصفتَ رجلاً فقلت: إنه لعاقل كنت مدحته عند الناس وإن قلت: إنه لكيّس كنت قد قَصَّرْت به عن وَصْفه وصَغَّرت من قدره إلا عند أهل العلم باللغة لأنَّ العامَّة لا تلتفت إلى معنى الكلمة ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر إذ كان استعمال العامَّة لهذه الكلمة مع الحَداثة والغِرّة وخَساسة القدر وصِغَر السن. وقد روينا عن عليّ كرم الله وجهه أنه تسمّى بالكيّس حين بَنى سِجن الكوفة فقال في ذلك: أما تُراني كَيِّساً مُكَيسَا بنيتُ بعد نافع مُخَيَّسَا حِصْناً حصيناً وأميناً كيسا وقال الشاعر: ما يَصْنع الأحمقُ المرْزوق بالكَيْس وكذلك نعلم أن الصلاة رحمة غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعدُ بن أبي وقّاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تَلْبيته: لَبَّيك يا ذا المعارج فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج ولكن ليس كذا كنَّا نلبّي على عهد رسول الله إنما كنِّا نقول: لبَّيك اللهم لبيك. وكان أبو إبراهيم المُزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن خَلَف الأصبهاني: فإِن قال كذا فقد خرج عن الملّة والحمد لله. فنقض ذلك عليه داودُ وقال فيما ردّ عليه: تَحمد الله على أن تُخرج امرأ مُسلماً من الإسلام وهذا موضع استرجاع فامتثِل هذه المذاهب واجر على هذه القواعد وتحفّظ في صُدور كُتبك وفًصولها وخواتمها وضَع كل معنى في موضع يليق به وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها وليكن ما تختم به فُصولك في موضع ذكر البَلْوى بمثل: نسأل الله دَفْعَ المَحْذور وصَرف المكروه وأشباه هذا وفي موضعِ ذكر المُصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع ذكر النِّعمة: الحمد لله خالصاَ والشكر لله واجباً. فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقَدها ويتحفظ فيها فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يَضع كل معنى في موضعه ويعلق كل لفظة على طبقتها من المعنى. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمالُ ما أتت به أيُ القرآن من الاقتصار والحذف ومخاطبة الخاصّ بالعام والعام بالخاصّ لأنَّ الله جل ثناؤه خاطَب بالقرآن قوماً فُصحاء فَهِموا عنه جلّ ثناؤه أمرَه ونَهيه ومُراده والرسائل إنما يُخاطب بها أقوامٌ دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يَجتنب اللفظ المشترك والمعنى المًلْتبس فإنه إذن ذهب يُكاتب على مثل معنى قول الله تعالى: " واسأل القَرْية التي كُنّا فيها والعِيَر التي أقبلنا فيها " وكقوله تعالى: " بل مكر الليل والنهار " أحتاج الكاتب أن يُبين معناه: بل مكرهم بالليل والنهار ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا يجوز أيضاًً في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار المَوزونة لأنّ الشاعر مُضطر والشِّعرَ مَقْصور مقيَّد بالوزن والقوافي فلذلك أجازوا لهم صَرْفَ ما لا ينصرف من الأسماء وحذفَ ما لا يُحذف منها واغتفروا فيه سوء النظم وأجازوا فيه التَّقديم والتأخير والإضمار في موضع الإظهار وذلك كله غير مُستساغ في الرسائل ولا جائز في البلاغات. فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل قول الشاعر: قواطناً مَكةَ من وُرْق الحَمَى يعني الحمام وقول الآخر: صِفر الوشاحين صَموت الخَلْخل يريد: الخلخال وكقول الآخر: دار لسَلْمَى إذ مِن هَواكا يريد: إذ هي وكقول الحُطيئة: فيها الرماحُ وفيها كلُّ سابغة جَدْلاء مَسْرودة من صُنع سلّاَم يريد: سليمان. وكقول الآخرً: من نَسْج داود أبي سلاَّم والشيخ عُثمان أبي عفّان أراد: عثمان بن عفان. وكما قال الآخرً: وسائلةٍ بثَعلبةَ بنِ سَير وقد عَلِقت بثَعلبةَ العَلوقُ ولستُ بآتيه ولا أسُتطيعه ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْل أراد: ولكن. وكذلك لا ينبغي في الرسائل أن يُصغَّر الاسم في موضع التَّعظيم وإن كان ذلك جائزاً مثل قولهم: دُويهية تصغير داهية. وجُذلِل تصغير جِذْل. وعُذيق تصغير عَذق. وقال الشاعر هو لَبيد: وكُل أناس سوف تَدْخل بينهم دُويهيةٌ تَصْفرّ منها الأناملُ وقال الحُباب بن المُنذر يومَ سَقيفة بني ساعدة: أنا عُذَيقها المُرجّب وجُذيلها المُحكّك. وقد شرحه أبو عبيد. ومما لا يجوز في الرّسائل وكَرهوه في الكلام أيضاً مثلُ قولهم: كلّمتُ إياك وأعني إيّاك وهو جائز في الشعر. وقال الّشاعر: وأحْسِنْ وَأَجْمِلْ في أسيرك إنّه ضعيفٌ ولم يأسِر كإياك آسرُ وقال الراجز: إياك حتى بلَغت إياك فتخَيَّر من الألفاظ أرجحَها لفظاً وأجزَلها معنى وأشرفَها جوهراً وأكرِمَها حسباً وأليقها في مكانها وأشكلها في
سأكِونكالِوُرد
كِلما ينجرحُ "بزخِات مِطِر " يفِوٌحُ عِطِراً ..!
موضعها فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها بميزانِ التِّصريف إذا عَرضت وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت فإنه ربما مَرّ بك موضعٌ يكون مخرج الكلام إذا كتبتَ: أنا فاعل أحسنَ من أن تكتب: أنا أفعل وموضع آخرً يكون فيه: استفعلت أحلى من: فعلت. فأدِر الكلام على أماكنه وقلِّبه على جميع وُجوهه فأيّ لَفظة رأيتَها أخف في المكان الذي ندبتها إليه وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه فأوْقعها فيه ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في موضعها نافرةً عن مكانها فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه وأفسدتَ المكان الذيِ أردت إصلاحه فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها وقَصْدَك بها إلى غير مًصابها وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه ولم تتقارب أجزاؤه فخرج من حَدّ الجدّة وتغيّر حُسْنه كما قال الشاعر: إنّ الجديدَ إذا ما زيد في خَلَقٍ تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ وكذلك كلما احلولى الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع وأشدّ اتصالاً بالقُلوب وأخفّ على الأفواه لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ مِونِق شريف ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه ولم يُفسده التّعقيد باستغلاقه. وكتب عيسى بن لَهيعة إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع فوقع في أسفل كتابه: أنيَّ يكون بليغاً من اسمه كان عِيْا وثالثُ الحرف منه أذًى كفيت ميسًّا قال: وبلغني أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة فخرج عنه ومرّ بباب الطاق فإذا بطيْر يدعى الشَفانين فاشتراه وبعث به إليه وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته: وتذكرْ أنه يقال له شَفانين أرجو أن يكون شفاءً من أنين. فرفع في أسفل الكتاب: والله لو عطستَ ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا فاقصر عن تنًطّعك وسَهِّل كلامك. قوله: لو عَطست ضبّا يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم فقال: لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً. وقد جاء في بعض الحديث: إن القِطّ من نثرة عَطْسة الأسد وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير. فقال هذا: لو أن الضبّ من نَثرتك لم تكن إلا نبطياً. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا: أنت عندي عربيّ ليس في ذاك كلامْ شَعْر ساقيك وفَخْذي ك خُزامَى وثُمام وضُلوع الصدر من شل وكَ نَبْع وبَشَام لو تحرّكت كذا ان جَفلت منك نَعَام وظباءٌ راتعا ت وَيرابيع عِظام وحَمام يتغنّى حبذا ذاك الْحَمام أنا ما ذنبي لأنْ كذِّبني فيك الأنام وفتًى يحلف ما إن عَرَّقتْ فيه الكرام ثمِ قالوا جاسميّ من بني الأنباط حام كَذبوا ما أنت إلا عربيّ والسّلام وقد رأيتُهم شبّهوا المعنى الخفيّ بالروح الخفي واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر وإذا لم ينهضِ بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة ولا النظام مُتّسقاً وتضاؤُل المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار الرثة. وإنما يدل على المعنِى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعَقد وخط. وقد ذكر له أرسطا طاليس صِنفاً خامساَ في كتاب المنطق وهو الذي يسمى النَصيبة. والنَّصيبة: الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف الأربعة وهي الناطقة بغير لفظ ومُشير إليك بغير يد. وذلك ظاهر في خَلْق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن أعيان المَعاني وسافرة عن وُجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف صِنْفان هما: القلم واللسان وكلاهما للقلب تَرجمان. فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام إلى حدّ الِإنسانية بالكلام ولذلك قال صاحب المنطق: حدُ الإنسان الحيّ الناطق. وقالت هشام بن عبد الملك: إن الله رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح. وقال عليّ بن عبيده: إنما يُبين عن الإنسان اللسان وعن المودّة العينان. وقال آخرً: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال الشاعر: وما المرء إلا الأصغران لسانُه ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ فإنْ طُرّة راقتْك يوماً فربما أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر وللخط صورة معروفة وحِلْية موصوفة وفضيلة بارعة ليست لهذه الأصناف لأنه يقوم مَقامها الإيضاح عند المَشهد ويَفْضُلها في المَغيب لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة والبُلدان المتفرّقة وتُدرس في كل عصر وزمان وبكل لسان والّلسان وإن كان ذَلْقا فَصيحاً لا يعدو سامعَه ولا يُجاوزه إلى غيره.البلاغة
قال سهل بن هارون: سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة قال: التقرُب من المَعنى البعيد والدَلالة بالقليل على الكثير. وقيل لابن المُقفَّع: ما البلاغة قال: قِلة الْحَصَر والْجُرأة على البَشر قيل له: فما العِي قال: الإطْراق من غير فِكْرة والتًنحنح من غير غلة. وقيل لآخرً: ما البلاغة قال: تَطْوِيلُ القَصِير وتَقْصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة فقال: حَذْف الفُضول وتَقْريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة فقال: حُسْن الاستعارة. قيل لجالينوس: ما البلاغة فقال: إيضاح المُعْضِل وفَك المُشكل. وقيل للخليل بن أحمد: ما البلاغة فقال: ما قَرُب طَرَفاه وبعُدَ مُنتهاه. وقيل لخالد بن صَفْوان: ما البلاغة قال: إِصابةُ المعنى والقَصْد للحُجًة.
سأكِونكالِوُرد
كِلما ينجرحُ "بزخِات مِطِر " يفِوٌحُ عِطِراً ..!
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)