الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر، والدائم بلا زوال، والقائم على كل شيء بغير انتقال، والخالقِ خلقه من غير أصلٍ ولا مثال فهو الفردُ الواحد من غير عدد، وهو الباقي بعد كل أحد، إلى غير نهاية ولا أمد. له الكبرياءُ والعظمة، والبهاء والعزة، والسلطان والقدرة، تعالى عن أن يكون له شريك في سلطانه أو في وحدانيته نديد، أو في تدبيره مُعين أو ظهير، أو أن يكون له ولد، أو صاحبة أو كُفء أحد، لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، حمد من أفرده بالحمد، وشكر من رجا بالشكر منه المزيد، وأستهديه من القول والعمل لما يقربني منه ويرضيه، وأومنُ به إيمانَ مخلص له التوحيد، ومفرد له التمجيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده النجيب، ورسوله الأمين، اصطفاه لرسالته، وابتعثه بوحيه، داعيًا خلقه إلى عبادته، فصدع بأمره، وجاهد في سبيله، ونصح لأمته، وعبده حتى أتاه اليقين من عنده، غير مقصر في بلاغ، ولا وانٍ في جهاد، صلى الله عليه أفضل صلاة وأزكاها، وسلّم.
أما بعد، فإنّ الله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، خلقّ خلقه من غير ضرورة كانت به إلى خلقهم، وأنشأهم من غير حاجة كانت به إلى إنشائهم، بل خلق من خصّه منهم بأمره ونهيه، وامتحنه بعبادته، ليعبدوه فيجود عليهم بنعمه، وليحمدوه على نعمه فيزيدهم من فضله ومننه، ويسبغ عليهم فضله وطوله، كما قال عز وجل: " وما خلقت الجن والإنس إلى ليعبدون. ما أزيد منهم من رزق وما أريدُ أن يطعمونِ إنَّ الله هوَ الرزاقُ ذو القوةِ المتين ".
فلم يزده خلقهُ إياهم - إذ خلقهم - في سلطانه على ما لم يزل قبل خلقه إياهم مثقالَ ذرة، ولا هو إن أفناهم وأعدمهم ينقصه إفناؤه إياهم ميزان شعرة، لأنه لا تغيره الأحوال، ولا يدخلُه الملال، ولا ينقصُ سلطانه الأيام والليال، لأنه خالق الدهور والأزمان، فعم جميعهم في العاجل فضله وجودهُ، وشملهم كرمه وطوله فجعل لهم أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، وخصهم بعقول يصلون بها إلى التمييز بين الحق والباطل، ويعرفون بها المنافع والمضار، وجعل لهم الأرض بساطًا ليسلكوا منها سبُلًا فجاجًا، والسماء سقفًا محفوظًا وبناء مسموكًا، وأنزل لهم منها الغيث بالإدرار، والأرزاق بالمقدار، وأجرى لهم فيها قمر الليل وشمس النهار يتعاقبان بمصالحهم دائبين، فجعل لهم الليل لباسًا، والنهار معاشًا، وخالف - منًّا منه عليهم وتطولًا - بين قمر الليل وشمس النهار، فمحا آية الليل وجعل أية النهار مبصرةً، كما قال جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا أية الليلِ وجعلنا أية النهار مبصرةً لتبتغوا فضلًا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناهُ تفصيلًا ".
وليصلوا بذلك إلى العلم بأوقات فروضهم التي فرضها عليهم في ساعات الليل والنهار والشهور والسنين، من الصلوات والزكوات والحج والصيام وغير ذلك من فروضهم، وحين حل ديونهم وحقوقهم، كما قال عز وجل: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج "، وقال: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدرهُ منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلقَ الله ذلك إلى بالحق يفصلُ الآياتِ لقومٍ يعلمونَ. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقونَ ".
إنعامًا منه بكل ذلك على خلقه، وتفضلًا منه به عليهم وتطولا، فشكره على نعمه التي أنعمها عليهم من خلقه خلق عظيم، فزاد كثيرًا منهم من آلائه وأياديه، على ما ابتدأهم به من فضله وطوله، كما وعدهم جل جلاله بقوله: " وإذا تأذنَ ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنِّ عذابي لشديدٌ "، وجمع لهم إلى الزيادة التي زادهم في عاجل دنياهم، الفوز بالنعيم المقيم، والخلود في جنات النعيم، في آجل آخرتهم. وأخر لكثير منهم الزيادة التي وعدهم فمدهم إلى حين مصيرهم إليه. ووقت قدومهم عليه، توفيرًا منه كرامته عليهم يوم تبلى السرائر. وكفر نعمه خلق منهم عظيم، فجحدوا آلاءه وعبدوا سواه، فسلب كثرًا منهم ما ابتدأهم به من الفضل والإحسان، وأحل بهم النقمة المهلكة في العاجل، وذخر لهم العقوبة المخزية في الآجل، ومتع كثيرًا منهم بنعمه أيام حياتهم استدراجًا منه لهم، وتوقيرًا منه عليهم أو زارهم، ليستحقوا من عقوبته في الآجل ما قد أعد لهم.
نعوذ بالله من عمل يقرب من سخطه، ونسأله التوفيق لما يدني من رضاه ومحبته.
قال أبو جعفر: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتدأ ربنا جلّ جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم، من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل، أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف، فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعمًا، وإلى ما تفضل به عليه فضلًا، ومن أخر ذلك له منهم، وجعله له عنده ذخرًا. ومن كفر منهم نعمه فسلبه ما ابتدأه به من نعمه، وعجل له نقمه. ومن كفر منهم نعمه فمتعه فما أنعم به عليه إلى حين وفاته وهلاكه، مقرونًا وذكرُ كل من أنا ذاكره منهم في كتابي هذا بذكر زمانه، وجمل ما كان من حوادث الأمور في عصره وأيامه إذ كان الاستقصاء في ذلك يقصر عنه العمر وتطولُ به الكبت، مع ذكرى مع ذلك مبلغ مدة أكله، وحين أجله، بعد تقديمي أمام ذلك ما تقديمه بنا أولى، والابتداء به قبله أحجى، من البيان عن الزمان: ما هو؟ وكم قدر جميعه، وابتداء أوله، انتهاء آخره؟ وهل كان قبل خلق الله تعالى إياه شيء غيره؟ وهل هو فانٍ؟ وهل بعد فنائه شيء غير وجه المسبح الخلاق، تعالى ذكره؟ وما الذي كان قبل خلق الله إياه؟ وما هو كائن بعد فنائه وانقضائه؟ وكيف كان ابتداء خلق الله تعالى إياه، وكيف يكون فناؤه؟ والدلالة على أن لا قديم إلا الله الواحد القهار، الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى بوجيزٍ من الدلالة غير طويل، إذ لم نقصد بكتابنا هذا قصد الاحتجاج لذلك، بل لما ذكرنا من تأريخ الملوك الماضين وجمل من أخبارهم، وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم، وأيام الخلفاء السالفين وبعض سيرهم، ومبالغ ولاياتهم، والكائن الذي كان من الأحداث في أعصارهم، ثم أنا متبع آخر ذلك كله - إن شاء الله أيد منه بعون وقوة - ذكر صحابة نبينا محمد وأسمائهم وكناهم ومبالغ أنسابهم ومبالغ أعمارهم، ووقت وفاة كل إنسان منهم، والموضع الذي كانت به وفاته. ثم متبعهم ذكر من كان بعدهم من التابعين لهم بإحسان، على محو ما شرطنا من ذكرهم. ثم ملحق بهم ذكر من كان بعدهم من الخلف لهم كذلك، وزائد في أمورهم للإبانة ممن حمدت منهم روايته، وتقبلت أخباره، ومن رفضت منهم روايته ونبذت أخباره، ومن وهن منهم نقله، وضعف خبره. وما السببُ الذي من أجله نُبذ منهم خبره، والعلة التي من أجلها وهن من وهن منهم نقله.
وإلى الله عز وجل أنا راغب في العون ما أقصده وأنويه، والتوفيق لما ألتمسه وأبغيه، فإنه ولي الحول والقوة، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليمًا.
وليعلم الناظر في كتابنا هذا أنّ اعتمادي في كلّ ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أبناء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بإخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا.
القول في الزمان ما هو
قال أبو جعفر: فالزمانُ هو ساعات الليل والنهار، وقد تعال ذلك للطويل من المدة والقصر منها، والعرب تقول: " أتيتك زمانَ الحجاج أمير، وزمن الحجاج أمير " - تعنى به: إذ الحجاج أمير. وقول: " أتيتك زمان الصرام " وزمن الصرام - تعني به وقت الصرام. ويقولن أيضًا: " أتيتك أزمان الحجاج أمير " فيجمعون الزمان، يريدون بذلك أن يجعلوا كل وقت من أوقات إمارته زمانًا من الأزمنة كما قال الراجز:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ** شرازم بضحك منه التواق
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)