ننزل معاً لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من الارتباك والتصنع، ويصبح همّها الوحيد أن نعود إلى البيت.
وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاً ما يكفينا من الأكل لقضاء يوم أو يومين معاً. لم أعد أناقشها ولا أقترح عليها شيئاً. كان ذلك أوفر وأكثر راحة لي، فلماذا كلّ هذا الجدل؟
قالت كاترين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:
- برافو خالد، أهنئك.. رائع كلّ هذا.. أيها العزيز.
تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل.
ما الذي غيّر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الحشد من الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا الافتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا المكان، أنها كانت منذ سنتين تضاجع عبقرياً دون أن تدري، وأنَّ ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعداً فنياً فريداً لا علاقة له بالمقاييس الجمالية؟
اكتشفت لحظتها، أنني خلال الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض.
في تلك اللحظات التي كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات الأولى للاستقلال.. وقتها كان للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين الناس. كانوا يوحون بالاحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالباً بتقديم أي شرح ولا أي سرد لقصتك.
كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أيّ تفسير.
اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من لا ماضي لهم.
يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.
ليس هذا الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب.
للبدلات الأنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المنتفخة. ولذا كثيراً ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي المقهى وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كلّ مرّة أن تسرد عليهم قصتك.
كلّ العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤالاً واحداً تخجل الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟".
ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة:
"أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل..".
لا ليست هذه الأماكن لك. شي من العزّة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضّل البقاء واقفاُ معلقاً بيد واحدة.
إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما كانت على يدك.
أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا.
ها أنت أمام جدلية عجيبة..
تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جُروحك. وتنتمي لوطن، يحترم جراحك ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة المعطوبة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟
أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في السابق. كنت أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك الأرق الداخلي الدائم.
كان داخلي شيء لا ينام، شيء يواصل الرسم دائماً وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش لأيام رجلاً عادياً بذراعين، أو بالأحرى رجلاً فوق العادة..
رجلاً يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس الأشياء بيد واحدة.
ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلّق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره الأفواه كيفما شاءت.. ولا أملك إلا أن أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قولاً ساخراً لـ "كونكور":
"لا شي يسمع الحماقات الأكثر في العالم.. مثل لوحة في متحف!".
جاء صوت كاترين خافتاً وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة:
- عجيب.. إنني أرى هذه اللوحات وكأنني لا أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة..
كدت أجيبها وأنا أواصل فكرة سابقة:
"إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاً.. إنها تماماً مثل الأشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت الأضواء!"
ولكنني لم أقل لها هذا.
قلت لها فقط:
- اللوحة أنثى كذلك.. تحبّ الأضواء وتتجمل لها، تحب أن ندلّلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن الأرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطِّيها به... تحبّ أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها الأعين حتى ولو لم تكن معجبة بها..
إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل لا غير..
قالت وهي تفكر:
- صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه الأفكار؟ أتدري أنني أحب الاستماع إليك؟ لا أفهم كيف لا نجد أبداً وقتاً للحديث عندما نلتقي.
وقبل أن أعلّق على سؤالها بجواب مقنع جداً.. أضافت بنوايا أعرفها وهي تضحك..
- متى ستعاملني أخيراً كلوحة؟
قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي لا تشبع:
- هذا المساء إذا شئت..
وعندما أخذت كاترين منّي مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل فستانها الأصفر نحو الباب.
قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها:
- أنا متعبة بعض الشيء.. سأسبقك.
أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار عليّ أو تغار منّي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها.
كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى. كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبّ بعد شهر من الوحدة،
█║S│█│Y║▌║R│║█
والركض لإعداد كلّ تفاصيل هذا المعرض.
لحقت بكاترين بعد ساعة.
كنت متعباً لأسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكلّ ما عشته من هزّات نفسية ذلك اليوم.
قالت وهي تفتح لي الباب:
- إنك لم تتأخر كثيراً..
قلت وأنا أداعبها:
- كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاً إلى البيت.. الوحي لا ينتظر كثيراً كما تعلمين!
ضحكنا..
كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية الجنون!
ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في الأريكة المقابلة لي تشاهد الأخبار، وتلتهم (سندويتشاً) أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائماً على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرّة _ كذلك _ لن تكونها!
إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي امرأة تعاني من عجز عاطفي، ومن فائض في الأنانية.. ولذا لا يمكنها أن تهب رجلاً ما يلزمه من أمان.
ليلتها، ادّعيت أنني لست جائعاً.
في الحقيقة كنت رافضاً وربما عاجزاً عن الانتماء لزمن "السندويتشات".
وبرغم ذلك..
حاولت ألا أتوقف عند تلك التفاصيل التي كانت تستفزّ بداوتي في أول الأمر.
تعوّدت منذ تعرفت على كاترين ألا أبحث كثيراً عن أوجه الاختلاف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، ولا أحاول أن أصنع منها نسخة منّي. بل إنني ربما كنت أحبها لأنها تختلف عني حدّ التناقض أحياناً.
فلا أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فلا شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن.
وكان كافياً لنكون سعيدين معاً.
تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك.
ثمَّ وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرّيّة.. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد..
كان يحدث أن نلتقي مرّة في الأسبوع، كما يحدث أن تمرّ عدة أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنّا نلتقي دائماً بشوق وبرغبة مشتركة.
كانت كاترين تقول "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرّت من هنا عندما ترحل.
في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلّ نهاية الأسبوع معي، وسعدت أن تقبل عرضي بحماس.
كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.
ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.
كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..
ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟
كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟
صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.
كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.
عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.
ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.
ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".
هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.
اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.
"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".
ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.
فابتسمت لها بتواطؤ.
إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"
وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!
رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.
ستأتي..
ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.
حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية كثيرة، حاولت أن أنسى أنني هنا لانتظارك..
قابلت صحافياً وتحدثت لآخر دون أن تفارق عيناي الباب. كنت أترقّبك في كل خطوة..
وكلما تقدّم الوقت زاد يأسي.
وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف!
نهضت إليه مسلّماً وأنا أخفي عنه دهشتي. تذكَّرت أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت أمّك كالعادة..".
- ع السلامة يا سيدي.. عاش من شافك!
قالها وهو يحتضنني ويسلّم عليّ بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا أسلّم عليه مثل تلك المرة.
وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدّم لي ذلك الصديق المشترك الذي كان يرافقه:
- شفت شكون جبتلك معايَ؟
صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:
- أهلاً سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة..
قال بمودة وهو يحتضنني بدوره:
- واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإلا كيفاش؟
رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أنّ
█║S│█│Y║▌║R│║█
في مرافقة سي الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليلاً على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما تقول الإشاعات.
عاتبني سي الشريف بودّ أحسسته صادقاً:
- يا أخي.. أيعقل أن نسكن هذه المدينة معاً دون أن تفكّر في زيارتي مرّة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين وعنواني معروف عندك.
تدخّل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح والجد:
- واش راك مقاطعنا.. وإلا كيفاش هاذا الغيبة..؟
أجبته بصدق:
- لا أبداً.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع أشياءه هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيّئة يتخذها الإنسان" وقد أصبحت لي أكثر من عادة سيئة هنا..
ضحكنا.. وتشعّب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبوراً ومجاملة فقط..
وكان لا بد أن يتوقّفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. لأفهم سرّ زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين منّي. قال:
- أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى.. ألا تذكر أنَّك بدأت الرسم يوم كنّا معاً في تونس؟ مازلت أذكر حتَّى لوحاتك الأولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟
لا لم أنسَ.. وكم كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من الإحراج وهو يستدرجني لتلك الفترة..
كان سي مصطفى صديقاً مشتركاً لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. فقد كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداً من الجرحى الذين نقلوا معي للعلاج إلى تونس، حيث قضى ثلاثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى الاستقلال في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد.
كان يومها بشهامة وأخلاق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكنُّ له احتراماً وودّاً كبيرين. ثم تلاشى تدريجياً رصيده عندي.. كلما امتلأ رصيده الآخر بأكثر من طريقة وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس للوليمة..
ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سلاحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي ولا يمكن للذاكرة رغم كلّ شيء أن تتجاهلها.
لعلّ أكثر تلك التفاصيل تأثيراً، تلك المصادفة التي جعلت الممرِّضة في تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل بها، والتي جف عليها دمه منذ عدّة أيّام.
كان في جيب سترته يومها بطاقة تعريفه التي تكاد لا تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها لأعيدها إليه فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي، وربما دون أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباً إلى مكان لا يحتاج فيه إلى بطاقة تعريف.
سنة 1973 عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة. وكنت آنذاك أجمع أشيائي استعداداً للرحيل..
تردّدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها إليه، فقد كنت أدري أنَّ تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن أواجهه بالذاكرة.. دون أيّ تعليق.
وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب المنفى أن أنهي علاقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ 1975 من بلد إلى آخر، وكأنني أنهي علاقاتي بالوطن، وأضعه أخيراً هو وأشياءه خارج الذاكرة..
يومها دهش سي مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة.
أهو الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟
شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاً كان ملتصقاً بصدري؛ شيئاً منّي، ربما ذراعي الأخرى، أو أيّ شيء كان لي..
كان أنا!
ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الأول الذي جمعنا يوماً، مكافأة للذاكرة ووهماً ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل الآخر داخله.
ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيه الرجل "الآخر".. فكيف راهنت يوماً عليه؟
في هذه اللحظة، لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي؛ وربما كان مستعداً أن يدفع أيّ ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه لا يحسب كثيراً في هذه الحالات، مثله مثل بعض السياسيين والأثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، لأسباب لا علاقة لها غالباً بالفنّ، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفنيّ أيضاً.. وبهاجس الانتساب للنخبة.
وربما كان أكثر سخاءً معي أنا بالذات، للأسباب نفسها التي تجعلني اليوم أكثر رفضاً له.
لقد قرّر أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة (أكواريل) يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم بالألوان المائية.. ولو بعد ربع قرن!
سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي الشريف دون أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت بسببه. فلا يمكن لي أن آكل من الخبز الملوّث. هناك من يولدون هكذا بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كلّ ما هو قذر!
كنت في الواقع على عجل. أريد أن أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناك.
وكنت قلقاً ومبعثراً بين الأحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى بعد كلّ تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام.. ولكنك لم تأتي.. لا أثناء ذلك ولا بعده.
من أين هجمت عليّ كلّ تلك الكآبة بعد ذلك؟
وإذا بقدميّ تقودانني بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق الجارف.
ماذا لو لم أرك مرّة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم تعودي؟.
ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ الجد؟
كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنّب الهارب؟
وحدها تلك البطاقة التي أعطاني إيّاها سي الشريف وهو يودّعني كانت تبعث شيئاً من الأمل في نفسي. فقد كنت أعرف أخيراً الأرقام السرية التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر هاتفي قد يجمعني بك. ولكنّ الحب عندما يأتي لا يبحث له عن مبرر، ولا يأخذ له موعداً.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون لأطالع جريدتي، حتى رأيتك تدخلين.
كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراً بك.
وكان الحبّ الذي تجاهلني كثيراً قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيراً أن يهبني أكثر قصصه جنوناً..
█║S│█│Y║▌║R│║█
الفصلالثالث
التقينا إذن..
قالت:
- مرحباً.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا يوم..
قلت:
- لا تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر بعمر.
قالت:
- كم يلزمني إذن لتغفر لي؟
قلت:
- ما يعادل ذلك العمر من عمر!
وجلس الياسمين مقابلاً لي.
يا ياسمينة تفتحت على عجل.. عطراً أقلّ حبيبتي.. عطراً أقل!
لم أكن أعرف أنّ للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن.
مرتبكاً جلس الوطن وقال بخجل:
- عندك كأس ماء.. يعيشك؟
وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي.
ارتوي من ذاكرتي سيدتي.. فكلّ هذا الحنين لكِ.. ودعي لي مكانا هنا مقابلاً لكِ..
أحتسيك كما تُحتسى، على مهل، قهوة قسنطينية.
أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث.
قلت معتذرة:
- أنا لم أحضر البارحة، لأنني سمعت عمّي يتحدث لشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففضّلت أن أؤجّل زيارتي لك إلى اليوم حتى لا ألتقي بهما..
أجبتك وأنا أتأملك بسعادة من يرى نجمه الهارب أخيراً أمامه:
- خفت ألا تأتي أبداً..
ثم أضفت:
- أمّا الآن فيسعدني أنني انتظرتك يوماً آخر، إنّ الأشياء التي نريدها تأتي متأخرة دائماً!
تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟
ساد شي من الصمت بيننا وارتباك الاعتراف الأول.. عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة فضولي:
- أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟
قلت سعيداً ومتعجباً:
- وماذا تعرفين مثلاً؟
أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه:
- أشياء كثيرة قد تكون نسيتها أنت..
قلت لك بمسحة حزن:
- لا أعتقد أن أكون نسيت شيئاً. مشكلتي في الواقع أنني لا أنسى!
أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم أعِ ساعتها كلّ عواقبه القادمة عليّ:
- أمّا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى كل شيء.. تصوّر.. البارحة مثلاً نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي الأخرى. ومنذ أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي الباب.. إنها كارثة.
قلت ساخرا:
- شكراً إذن لأنك تذكرت موعدنا هذا!
أجبت باللهجة الساخرة نفسها:
- لم يكون موعداً.. كان احتمال موعد فقط.. لا بدّ أن تعلم أنني أكره اليقين في كلّ شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو ألتزم به.. الأشياء الأجمل، تولد احتمالاً.. وربّما تبقى كذلك.
سألتك:
- لماذا جئتِ إذن.؟
تأمّلتني.. وراحت عيناك تتسكعان في ملامح وجهي، وكأنهما تبحثان عن جواب لسؤال مفاجئ.. ثمّ قلت في نظرة مثقلة بالوعود والإغراء..
- لأنك قد تكون يقيني المحتمل!
ضحكت لهذه الجملة التي تحمل تناقضاً أنثوياً صارخاً_ لم أكن أعرف بعد أنه سِمَتك_ وقلت وقد ملأتني عيناك غروراً وزهواً رجالياً:
- أمّا أنا فأكره الاحتمالات.. ولذا أجزم أنني سأكون يقينك.
قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة الأخيرة:
- إنه افتراض.. محتمل كذلك!
وضحكنا كثيراً.
كنت سعيداً وكأنني أضحك لأول مرة منذ سنوات. كنت أتوقع لنا بدايات أخرى، وكنت قد أعددت جملاً ومواقف كثيرة لمبادرتك في هذا اللقاء الأول. ولكن اعترف أنني لم أكن أتوقع لنا بداية كهذه.
فقد تلاشى كلّ ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت لغتي أمام لغتك التي لم أكن أدري من أين تأتين بها.
كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معاً. كان هناك تلقائية وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن تلغي ذلك الحضور الأنثوي الدائم.. وكنت تملكين تلك القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة واحدة. وكأن فتوّتك وحيويّتك قد انتقلتا إليّ عن طريق العدوى. كنت ما أزال تحت وقع تصريحاتك تلك، عندما فاجأني كلامك:
- في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأنٍّ أكثر، لم أكن أريد أن أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد من الناس.. عندما أحبّ شيئاً.. أفضل أن أنفرد به!
كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرة لرسّام.. وأجمل ما يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. وقبل أن أذهب بعيداً في فرحتي أو أشكرك أضفت:
- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعرَّف عليك منذ زمن بعيد. لقد كانت جدتي تحدثني أحياناً عنك عندما تذكر أبي. يبدو أنها كانت تحبك كثيراً..
سألتك بلهفة:
- وكيف هي (أمّا الزهرة)؟ إنني لم أرها منذ زمان.
قلت بمسحة حزن:
- لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت أمي لتعيش مع أخي ناصر في العاصمة. وجئت أنا إلى باريس لمتابعة دراستي. لقد غيّر موتها حياتنا بعض الشيء.. فهي التي ربَّتنا في الواقع..
حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى انغرست في قلبي يومها. فقد كان فيها شيء من (أمّا)، من عطرها السري، من طريقتها في تعصيب رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة "النفّة" الفضّيّة في صدرها الممتلئ. وكانت لها تلك الحرارة التلقائية التي تفيض بها الأمهات عندنا، تلك الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من الحنان لعمر بأكمله.
ولكن الوقت لم يكن للحزن. كنتِ معي أخيراً، وكان على الزمن أن يكون للفرح فقط.
قلت لك:
- رحمها الله.. لقد كنت أنا أيضاً أحبّها كثيراً..
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)