وفي الليلة التاسعة والخمسين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قوت القلوب قالت لهما: لا تحزنا، ثم أمرت العريف أن يأخذهما إلى بيته ويخلي زوجته تدخلهما الحمام وتلبسهما ثياباً حسنة وتتوصى بهما وتكرمهما غاية الإكرام وأعطته جملة من المال، وفي ثاني يوم ركبت قوت القلوب وذهبت إلى بيت العريف ودخلت عند زوجته فقامت إليها وقبلت يديها وشكرت إحسانها، ورأت أم غانم وأخته وقد أدخلتهما زوجة العريف الحمام ونزعت ما عليهما من الثياب فظهرت عليهما آثار النعمة فجلست تحادثهما ساعة ثم سألت زوجة العريف عن المريض الذي عندها فقالت: هو بحاله فقالت: قوموا بنا نطل عليه ونعود فقامت هي وزوجة العريف وأم غانم وأخته ودخلن عليه وجلسن عنده.
فلما سمعهن غانم بن أيوب المتيم المسلوب يذكرن قوت القلوب وكان قد انتحل جسمه ورق عظمه ردت له روحه ورفع رأسه من فوق المخدة ونادى: يا قوت القلوب فنظرت إليهم وتحققته فعرفته وصاحت بدورها: نعم يا حبيبي فقال لها: اقربي مني فقالت له: لعلك غانم بن أيوب المتيم المسلوب فقال لها: نعم أنا هو فعند ذلك وقعت مغشياً عليها. فلما سمعت أمه وأخته كلامهما صاحتا بقولهما: وافرحتاه ووقعتا مغشياً عليهما وبعد ذلك استفاقتا فقالت له قوت القلوب: الحمد لله الذي جمع شملنا بك وبأمك وأختك، وتقدمت إليه وحكت له جميع ما جرى لها مع الخليفة وقالت: إني قلت له قد أظهرت لك الحق يا أمير المؤمنين فصدق كلامي ورضي عنك وهو اليوم يتمنى أن يراك، ثم قالت لغانم: إن الخليفة وهبني لك ففرح بذلك غاية الفرح فقالت لهم قوت القلوب: لا تبرحوا حتى أحضر، ثم إنها قامت من وقتها وساعتها وانطلقت إلى قصرها وحملت الصندوق الذي أخذته من داره وأخرجت منه دنانير وأعطت العريف إياها وقالت له: خذ هذه الدنانير واشتر لكل شخص منهم أربع بدلات كوامل من أحسن القماش وعشرين منديلاً وغير ذلك مما يحتاجون إليه ثم إنها دخلت بهما وبغانم الحمام وأمرت بغسلهم وعملت لهم المساليق وماء الخولجان وماء التفاح بعد أن خرجوا من الحمام ولبسوا الثياب وأقامت عندهم ثلاثة أيام وهي تطعمهم لحم الدجاج والمساليق وتسقيهم السكر المكرر وبعد ثلاثة أيام ردت لهم أرواحهم وأدخلتهم الحمام ثانياً وخرجوا وغيرت عليهم الثياب وخلتهم في بيت العريف وذهبت إلى الخليفة وقبلت الأرض بين يديه وأعلمته بالقصة وأنه قد حضر سيدها غانم بن أيوب المتيم المسلوب وأن أمه وأخته قد حضرتا. فلما سمع الخليفة كلام قوت القلوب قال للخدام: علي بغانم، فنزل جعفر إليه وكانت قوت القلوب قد سبقته ودخلت على غانم وقالت له: إن الخليفة قد أرسل إليك ليحضرك بين يديه فعليك بفصاحة اللسان وثبات الجنان وعذوبة الكلام وألبسته حلة فاخرة وأعطته دنانير بكثرة وقالت له: أكثر البذل إلى حاشية الخليفة وأنت داخل عليه وإذا بجعفر أقبل عليه وهو على بغلته فقام غانم وقابله وحياه وقبل الأرض بين يديه وقد ظهر كوكب سعده وارتفع طالع مجده فأخذه جعفر ولم يزالا سائرين حتى دخلا على أمير المؤمنين، فلما حضرا بين يديه نظر إلى الوزراء والأمراء والحجاب والنواب وأرباب الدولة وأصحاب الصولة وكان غانم فصيح اللسان ثابت الجنان رقيق العبارة أنيق الإشارة فأطرق برأسه إلى الأرض، ثم نظر إلى الخليفة وأنشد هذه الأبيات: أفديك من ملك عظـيم الـشـان متتابع الحسنـات والإحـسـان متوقد العزمات فياض الـنـدى حدث عن الطوفان والـنـيران لا يلجون بغيره مـن قـيصـر في ذا المقام وصاحـب الإيوان تضع الملوك على ثرى أعتابـه عند السلام جواهر الـتـيجـان حتى إذا شخصت له أبصارهـم خروا لهيبته عـلـى الأذقـان ويفيدهم ذاك المقام مع الرضـا رتب العلا وجلالة السلـطـان ضاقت بعسكرك الفيافي والفـلا فاضرب خيامك في ذرى كيوان وأقري الكواكب بالمواكب محسناً لشريف ذاك العالم الروحانـي وملكت شامخة الصياصي عنوة من حسن تدبير وثبت جـنـان ونشرت عدلك في البسيطة كلها حتى استوى القاصي بها والداني فلما فرغ من شعره طرب الخليفة من محاسن رونقه وأعجبه فصاحة لسانه وعذوبة منطقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة الستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب لما أعجب الخليفة فصاحته ونظمه وعذوبة منطقه قال له: ادن مني فدنا منه ثم قال له: اشرح لي قصتك وأطلعني على حقيقة خبرك فقعد وحدث الخليفة بما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فلما علم الخليفة أنه صادق خلع عليه وقربه إليه وقال: أبري ذمتي فأبرأ ذمته وقال له: يا أمير المؤمنين إن العبد وما ملكت يداه لسيده ففرح الخليفة بذلك ثم أمر أن يفرد له قصر ورتب له من الجوامك والجرايات شيئاً كثيراً فنقل أمه وأخته إليه وسمع الخليفة بأن أخته فتنة في الحسن فخطبها منه وقال له غانم: إنها جاريتك وأنا مملوكك فشكره وأعطاه مائة ألف دينار وأتى بالقاضي والشهود وكتبوا الكتاب ودخل هو وغانم في نهار واحد فدخل الخليفة على فتنة وغانم بن أيوب على قوت القلوب فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يؤرخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره وأن يدون في السجلات لأجل أن يطلع عليه من يأتي بعده فيتعجب من تصرفات الأقدار ويفوض الأمر إلى خالق الليل والنهار وليس هذا بأعجب من حكاية عمر النعمان وولده ضوء المكان وما جرى لهم من العجائب والغرائب. قال الملك: وما حكايتهم؟
== حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان ==
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بمدينة دمشق قبل خلافة عبد الملك بن مروان ملك يقال له: عمر النعمان وكان من الجبابرة الكبار وقد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة وكان لا يصطلى له بنار ولا يجاريه أحد في مضمار وإذا غضب يخرج من منخريه لهيب النار وكان قد ملك جميع الأقطار ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار وأطاع له جميع العباد ووصلت عساكره إلى أقصى البلاد ودخل في حكمه المشرق والمغرب وما بينهما من الهند والسند والصين واليمن والحجاز والسودان والشام والروم وديار بكر وجزائر البحار وما في الأرض من مشاهير الأنهار كسيحون وحجيجون والنيل والفرات وأرسل رسله إلى أقصى البلاد ليأتوا بحقيقة الأخبار فرجعوا وأخبروه بأن سائر الناس أذعنت لطاعته وجميع الجبابرة خضعت لهيبته وقد عمهم بالفضل والامتنان وأشاع بينهم العدل والأمان لأنه كان عظيم الشأن وحملت إليه الهدايا من الكل فكان واجبي إليه خراج الأرض في طولها وعرضها. وكان له ولد وقد سماه شركان لأنه نشأ آفة من آفات الزمان وقهر الشجعان وأباد الأقران فأحبه والده حباً شديداً ما عليه من مزيد وأوصى له بالملك من بعده. ثم إن شركان هذا حين بلغ مبلغ الرجال وصار له من العمر عشرون سنة أطاع له جميع العباد لما به من شدة البأس والعناد وكان والده عمر النعمان له اربع نساء بالكتاب والسنة لكنه لم يرزق منهن بغير شركان وهو من إحداهن والباقيات عواقر لم يرزق من واحدة منهن بولد ومع ذلك كله كان له ثلاثمائة وستون سرية على عدد أيام السنة القبطية وتلك السراري من سائرا لأجناس وكان قد بنى لكل واحدة منهن مقصورة وكانت المقاصير من داخل القصر، فإنه بنى اثني عشر قصراً على عدد شهور السنة وجعل في كل قصر ثلاثين مقصورة فكانت جملة المقاصير ثلاثمائة وستون مقصورة وأسكن تلك الجواري في هذه المقاصير وفرض لكل سرية منهن ليلة يبيتها عندها ولا يأتيها إلا بعد سنة كاملة، فأقام على ذلك مدة من الزمن، ثم إن ولده شركان اشتهر في سائر الأنحاء ففرح به والده وازداد قوة فطغى وتجبر وفتح الحصون والبلاد واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري النعمان قد حملت واشتهر حملها وعلم الملك بذلك ففرح فرحاً شديداً وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون كلها ذكوراً فأرخ يوم حملها وصار يحسن إليها فعلم شركان بذلك فاغتمم وعظم الأمر وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الصباح.
في الليلة الثانية والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رسل ملك القسطنطينية قبلوا الأرض بين يدي الملك عمر النعمان بعد أن حكوا له ثم أعلموه بالهدية وكانت الهدية خمسين جارية من خواص بلاد الروم وخمسين مملوكاً عليه أقبية من الديباج بمناطق من الذهب والفضة وكل مملوك في أذنه حلقة من الذهب فيها لؤلؤة تساوي ألف مثقال من الذهب والجواري كذلك وعليهم من القماش ما يساوي مالاً جزيلاً، فلما رآهم الملك قبلهم وفرح بهم وأمر بإكرام الرسل وأقبل على وزرائه يشاورهم فيما يغفل فنهض من بينهم وزير وكان شيخاً كبيراً يقال له: دندان فقبل الأرض بين يدي الملك عمر النعمان وقال: أيها الملك ما في الأمر أحسن من أنك تجهز عسكراً جراراً وتجعل قائدهم ولدك شركان ونحن بين يديه غلمان هذا الرأي أحسبن لوجهين: الأول أن ملك الروم قد استجار بك وأرسل إليك هدية فقبلتها، والوجه الثاني أن لعدو لا يجسر على بلادنا فإذا منع عسكرك عن ملك الروم وهزم عدوه ينسب هذا الأمر إليك ويشيع ذلك في سائر الأقطار والبلاد، ولا سيما إذا وصل الخبر إلى جزائر البحر وسمع بذلك أهل المغرب فإنهم يحملون إليك الهدايا والتحف والأموال. فلما سمع لملك هذا الكلام من وزيره دندان أعجبه واستصوبه وخلع عليه وقال له: مثلك من تستشيره الملوك ينبغي أن تكون أنت في مقدم العسكر وولدي شركان في ساقة العسكر ثم إن الملك أمر بإحضار ولده فلما حضر قص عليه القصة وأخبره بما قاله الرسل وبما قاله الوزير دندان وأوصاه بأخذ الأهبة والتجهيز للسفر وأنه لا يخالف الوزير دندان فيما يشور به عليه وأمره أن ينتخب من عسكره عشرة آلاف فارس كاملين العدة صابرين على الشدة فامتثل شركان ما قاله والده عمر النعمان وقام في الوقت واختار من عسكره عشرة آلاف فارس ثم دخل قصره وأخرج مالاً جزيلاً وأنفق عليهم المال وقال لهم: قد أمهلتكم ثلاثة أيام فقبلوا الارض بين يديه مطيعين لأمره، ثم خرجوا من عنده وأخذوا من الأهبة وإصلاح الشأن ثم إن شركان دخل خزائن السلاح وأخذ ما يحتاج إليه من العدد والسلاح، دخل الإصطبل واختار منه الخيل المسالمة وأخذ غير ذلك وبعد ذلك أقاموا ثلاثة أيام ثم خرجت العساكر إلى ظاهر المدينة وخرج الملك عمر النعمان لوداع ولده شركان فقبل الأرض بين يديه وأهدى له سبع خزائن من المال وأقبل على الوزير دندان وأوصاه بعسكر ولده شركان فقبل الأرض بين يديه وأجابه بالسمع والطاعة وأقبل الملك على ولده شركان وأوصاه بمشاورة الوزير دندان في سائر الأمور، فقبل ذلك ورجع والده إلى أن دخل المدينة، ثم إن شركان أمر كبار العسكر بعرضهم عليه وكانت عدتهم عشرة آلاف فارس غير ما يتبعهم ثم إن القوم حملوا ودقت الطبول وصاح النفير وانتشرت الأعلام تخفق على رؤوسهم ولم يزالوا سائرين والرسل تقدمهم إلى أن ولى النهار وأقبل الليل، فنزلوا واستراحوا وباتوا تلك الليلة.
فلما اصبح الصباح ركبوا وساروا ولم يزالوا سائرين، والرسل يدلونهم على الطريق مدة عشرين يوماً ثم أشرفوا في اليوم الحادي والعشرين على واد واسع الجهات كثير الأشجار والنبات، وكان وصولهم إلى ذات الوادي ليلاً فأمرهم شركان بالنزول والإقامة فيه ثلاثة أيام فنزل العساكر وضربوا الخيام وافترق العسكر يميناً وشمالاً ونزل الوزير دندان وصحبته رسل أفريدون، صاحب القسطنطينية، في وسط ذلك الوادي وأما الملك شركان فإنه كان في وقت وصول العسكر، وقف بعدهم ساعة حتى نزلوا جميعهم وتفرقوا في جوانب الوادي ثم إنه أرخى عنان جواده وأراد أن يكشف ذلك الوادي، ويتولى الحرس بنفسه لأجل وصية والده إياه فإنهم في أول بلاد الروم وأرض العدو فسار وحده بعد أن أمر مماليكه وخواصه بالنزول عند الوزير دندان ثم إنه لم يزل سائراً على ظهر جواده في جوانب الوادي، إلى أن مضى من الليل ربعه فتعب وغلب عليه النوم فصار لا يقدر أن يركض الجواد وكان له عادة أنه ينام على ظهر جواده. فلما هجم عليه النوم نام ولم يزل الجواد سائراً به إلى نصف الليل فدخل به في بعض الغابات وكانت تلك الغابة كثيرة الأشجار فلم ينتبه شركان حتى دق الجواد بحافره في الأرض فاستيقظ فوجد نفسه بين الأشجار، وقد طلع عليه القمر وأضاء في الخافقين فاندهش شركان لما رأى نفسه في ذلك المكان وقال كلمة لا يخجل قائلها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فبينما هو كذلك خائف منا لوحوش متحير لا يدري أين يتوجه فلما رأى القمر أشرف على مرج كأنه من مروج الجنة سمع كلاماً مليحاً وصوتاً علياً وضحكاً يسبي عقول الرجال فنزل الملك شركان عن جواده في الأسحار ومشى حتى أشرف على نهر فرأى فيه الماء يجري وسمع كلام امرأة تتكلم بالعربية وهي تقول: وحق المسيح إن هذا منكن غير مليح ولكن كل من تكلمت بكلمة صرعتها وكتفتها بزنارها كل هذا وشركان يمشي إلى جهة الصوت حتى انتهى إلى طرف المكان ثم نظر فإذا بنهر مسرح وطيور تمرح وغزلان تسنح ووحوش ترتع والطيور بلغاتها لمعاني الحظ تنشرح وذلك المكان مزركش بأنواع النبات، فقال: ماتحسن الأرض إلا عند زهرتـهـا والماء من فوقها يجري بـإرسـال. صنعا الاله العظيم الشأن مـقـتـدرا معطى العطايا ومعطي كل منفضال. فنظر شركان إلى ذكل المكان فرأى فيه ديراً، ومن داخل الدير قلعة شاهقة في الهواء في ضوء القمر وفي وسطها نهر يجري الماء منه إلى تلك الرياض وهناك امرأة بين يديها عشر جوار كأنهن الأقمار وعليهن من أنواع الحلي والحلل ما يدهش الأبصار وكلهن أبكار بديعات كما قيل فيهن هذه الأبيات: يشرق المرج بما فيه من البيض العـوال زاد حسناً وجـمـالاً من بديعات الخلال كل هيفاء قـوامـا ذات غـنـج ودلال راخيات الشـعـور كاعناقيد الـدوالـي فاتـنـات بـعـيون راميات بالـنـبـال مائسـات قـاتـلات لصناديد الـرجـال فنظر شركان إلى هؤلاء العشر جوار فوجد بينهن جارية كأنه البدر عند تمامه بحاجب مرجرج وخبير أبلج وطرف أهدب وصدغ معقرب فأنشد: تزهو علي بألحـاظ بـديعـات وقدها مخجل للسـمـهـريات تبدو إلينـا وخـداهـا مـوردة فيها منا لظرف أنواع الملاحات كأن طرتها في نور طلعتـهـا ليل يلوح على صبح المسرات فسمعها شركان وهي تقول للجواري: تقدموا حتى أصارعكم قبل أن يغيب القمر ويأتي الصباح فصارت كل واحدة منهن تتقدم إليها فتصرعها في الحال وتكتفها بزنارها فلم تزل تصارعهن وتصرعهن حتى صرعت الجميع ثم التفتت إليها جارية عجوز كانت بين يديها وقالت لها وهي كالمغضبة عليها: يا فاجرة أتفرحين بصرعك للجواري فها أنا عجوز وقد صرعتهن أربعين مرة فكيف تعجبين ينفسك ولكن إن كان لك قوة على مصارعتي فصارعيني فإن أردت ذلك وقمت لمصارعتي أقوم لك وأجعل رأسك بين رجليك فتبسمت الجارية ظاهراً وقد امتلأت غيظاً منها باطناً وقامت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي بحق المسيح أتصارعينني حقيقة أو تمزحين معي؟ قالت لها: بل اصارعك حقيقة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت لها: أصارعك حقيقة قالت لها: قومي للصراع إن كان لك قوة، فلما سمعت العجوز منها اغتاظت غيظاً شديداً وقام شعر بدنها كأنه شعر قنفذ وقامت لها الجارية فقالت لها العجوز: وحق المسيح لا أصارعك إلا وأنا عريانة يا فاجرة، ثم إن العجوز أخذت منديل حرير بعد أن فكت لباسها وأدخلت يديها تحت ثيابها ونزعتها من فوق جسدها ولمت المنديل وشدته في وسطها فصارت كأنها عفرية معطاء أو حية رقطاء ثم انحنت على الجارية وقالت لها: افعلي كفعلي كل هذا وشركان ينظر إليهما، ثم إن شركان صار يتأمل في تشويه صورة العجوز ويضحك، ثم إن العجوز لما فعلت ذلك قامت الجارية على مهل وأخذت فوطة يمانية، وتنتها مرتين وشمرت سراويلها فبان لها ساقان من المرمر، وفوقهما كثيب من البلور ناعم مربرب، وبطن يفوح المسك من أعكانه كأنه مصفح بشقائق النعمان وصدر فيه نهدان كفحلي رمان ثم انحنت عليها العجوز وتماسكا ببعضهما فرفع شركان رأسه إلى السماء ودعا الله أن الجارية تغلب العجوز، فدخلت الجارية تحت العجوز ووضعت يدها الشمال في شفتها ويدها اليمين في رقبتها مع حلقها ورفعتها على يديها فانفلتت العجوز من يديها، وارادت الخلاص فوقعت على ظهرها فارتفعت رجلاها إلى فوق فبانت شعرتها في القمر، ثم ضرطت ضرطتين عفرت إحداهما في الأرض ودخنت الأخرى في السماء، فضحك شركان منهما حتى وقع على الأرض، ثم قام وسل حسامه والتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً غير العجوز مرمية على ظهرها فقال في نفسه: ما كذب من سماك ذات الدواهي ثم تقرب منهما ليسمع ما يجري بينهما. فأقبلت الجارية ورمت على العجوز ملاءة من حرير رفيعة وألبستها ثيابها واعتذرت إليها وقالت لها: يا سيدتي ذات الداواهي ما أردت إلا صرعك لأجل جميع ما حصل لك ولكن أنت انفلت من بين يدي فالحمد لله على السلامة، فلما ترد عليها جواباً وقامت تمشي من خجلها ولم تزل ماشية إلى أن غابت عن البصر وصارت الجواري مكتفات مرميات، والجارية واقفة وحدها فقال شركان في نفسه لكل رزق سبب ما غلب علي النوم وسار بي الجواد إلى هذا المكان إلا لبختي فلعل هذه الجارية وما معها يكون غنيمة لي ثم ركب جواده ولكزه ففر به كالسهم إذا فر من القوس وبيده حسامه، مجرد من غلافه ثم صاح: الله أكبر فلما رأته الجارية نهضت قائمة، وقالت: اذهب إلى أصحابك قبل الصباح لئلا يأتيك البطارقة فيأخذونك على أسنة الرماح وأنت ما فيك قوة لدفع النسوان فكيف تدافع الرجال الفرسان فتحير شركان في نفسه وقال لها: وقد ولت عنه معرضة لقصد الدير: يا سيدتي أتذهبين وتتركين المتيم الغريب المسكين الكسير القلب؟ فالتفتت إليه وهي تضحك، ثم قالت له: ما حاجتك فإني أجيب دعوتك؟ فقال: كيف أطأ أرضك واتحلى بحلاوة لطفك وأرجع بلا أكل من طعامك وقد صرت من بعض خدامك؟ فقالت: لا يأبى الكرامة إلا لئيم تفضل باسم الله على الرأس والعين واركب جوادك وسر على جانب النهر مقابلي، فأنت في ضيافتي.
ففرح شركان وبادر إلى جواده وركب وما زال ماشياً مقابلها وهي سائرة قبالته إلى أن وصل إلى جسر معمول بأخشاب من الجوز وفيه بكر بسلاسل من البولاد وعليها أقفال في كلاليب فنظر شركان إلى ذلك الجسر وإذا بالجواري اللاتي كن معها في المصارعة قائمات ينظرن إليها فلما أقبلت عليهن كلمت جارية منهن بلسان الرومية وقالت لها: قومي غليه وأمسكي عنان جواده ثم سيري به إلى الدير فسار شركان وهي قدامه إلى أن عدي الجسر وقد اندهش عقله مما رأى، وقال في نفسه: يا ليت الوزير دندان كان معي في هذا المكان وتنظر عيناه إلى تلك الجواري الحسان، ثم التفت إلى تلك الجارية وقال لهاك يا بديعة الجمال قد صار لي عليك الآن حرمتان حرمة الصحبة وحرمة سيري إلى منزلك وقبول ضيافتك وقد صرت تحت حكمك وفي عهدك فلو أنك تنعمين علي بالمسير إلى بلاد الإسلام وتتفرجين على كل أسد ضرغام وتعرفين من أنا فلما سمعت كلامه اغتاظت منه وقالت له: وحق المسيح لقد كنت عندي ذا عقل ورأي ولكني اطلعت الآن على ما في قلبك من الفساد وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب بها إلى الخداع كيف أصنع هذا؟ وأنا أعلم متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه لأنه ما في قصوره مثلي ولو كان صاحب بغداد وخراسان، وبنى له اثني عشر قصراً في كل قصر ثلاثمائة وست وستون جارية على عدد أيام السنة والقصور عدد أشهر السنة وحصلت عنده ما تركني لأن اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم فكيف تكلمني بهذا الكلام؟ وأما قولك: وتتفرجين على شجعان المسلمين فوحق المسيح إنك قلت قولاً غير صحيح فإني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين فلما أقبلتم لم أر تربيتكم تربية ملوك وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة وأما قولك: تعرفين من أنا فأنا لا أصنع معك جميلاً لأجل إجلالك وإنما افعل ذلك لأجل الفخر ومثلك ما يقول لمثلي ذلك ولو كنت شركان بن الملك عمر النعمان الذي ظهر في هذا المكان فقال شركان في نفسه: لعلها عرفت قدوم العسكر وعرفت عدتهم وأنهم عشرة آلاف فارس وعرفت أن والدي أرسلهم معي لنصرة ملك القسطنطينية ثم قال شركان: يا سيدتي أقسمت عليك بمن تعتقدين من دينك أن تحدثيني بسبب ذلك حتى يظهر لي الصدق من الكذب ومن يكون عليه وبال ذلك فقالت له: وحق ديني لولا أني خفت أن يشيع خبري أني من بنات الروم لكنت خاطرت بنفسي وبارزت العشرة آلاف فارس وقتلت مقدمهم الوزير دندان وظفرت بفارسهم شركان وما كان علي من ذلك عار ولكني قرأت الكتب وتعلمت الأدب من كلام العرب، ولست أصف لك نفسي بالشجاعة، مع أنك رأيت مني العلامة والصناعة والقوة في الصراع والبراعة ولو حضر شركان مكانك في هذه الليلة وقيل له نط هذا النهر لأذعن واعترف بالعجز وإني أسأل المسيح أن يرميه بين يدي في هذا الدير حتى خرج له في صفة الرجال أو أأسره واجعله في الأغلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)