« ما أدفع رجلته ولا أنكر دربته ولكنّه رجل من أهل النار يقدم على الدماء ومكاره الناس. » قال ثابت في كتابه في التاريخ: ومن أعجب العجب أن يقول أبو الحسن ابن الفرات هذا القول ويصدّق قول حامد ويستجيده ويقول إنّه بأفعاله القبيحة من أهل النار وهو لا ينكر مع كرم طبعه وجلالة قدره وسلامة أخلاقه وإيثاره الإحسان إلى كلّ أحد على المحسّن ابنه طرائقه المنكرة وأفعاله العظيمة التي أنكرها على حامد بن العبّاس وقد زاد عليها للواحد واحدا ولا ينهاه ولا يعظه بما لحق حامدا فيرجع ويكون السعيد الذي وعظ بغيره فإنّ من يقدم على الله تعالى على بصيرة وبعد التنبيه والتذكير خلاف من يقدم وهو مغترّ غافل.
ثم راسل ابن الفرات حامد بن العبّاس في الإقرار بماله بمائتي ألف دينار منها المائة التي كانت له عند إبراهيم جهبذه، لأنّه قد كان وقف على حصول هذا المال من جهة الجهبذ في يد ابن الفرات.
وأخذ المحسّن شيئا آخر من جهة مونس خادمه إلى حضرة المقتدر بالله، وكتب إليه أنّه أخذ ذلك عفوا بغير مناظرة ولا مكروه وأطمع المقتدر من جهة حامد في أموال كثيرة واستخرج من مونس بعد ذلك بعد مكروه كثير أربعين ألف دينار وصودر جماعة من حاشيته بأموال أخر.
واستحضر ابن الفرات حامد بن العبّاس بحضرة الفقهاء والقضاة والكتّاب وناظره مناظرة طالت واستوفى حامد حججه إلى أن أخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد. وكان هذا الغلام يتولّى لحامد بيع غلّاته في الفرضة، فواقف حامدا عليه وأحضر غريبا فاعترف بذلك العمل وكان حمله سهوا منه، لأنّ حامدا كان في كلّ سنة يجمع جميع حسباناته ويغرّقها في دجلة.
فلمّا جرى المقدار على حامد بما جرى أنسى أن يطلب من هذا الغلام هذا العمل وكان في جملة الظهور. فكان ما ثبت في ذلك العمل من أثمان الغلّات لسنة واحدة خمسمائة ألف دينار ونيّفا وأربعين ألف دينار سوى شعير الكراع المحمول إلى الحضرة.
فبان أنّ في الضمان من الفضل أكثر من الضعف وظهر أيضا أنّ أسعار تلك السنة الثانية في العمل أسعار مناقصة وأنّ أسعار السنين التي بعدها بأسرها أزيد، واتّجهت حجّة ابن الفرات على حامد وأخذ ابن الفرات خطوط القضاة والكتّاب وشفيع اللؤلؤي بما ظهر من الحجّة على حامد.
وكان ابن الفرات يرفق في المناظرة ولا يسمعه ولا يخرق به ولا يزيد على إيجاب الحجّة عليه ويدعه حتى يستوفى منه لنفسه الحجّة.
وكان المحسّن ابنه يشتمه بحضرة الناس أقبح شتم ويقول:
« ليس يخرج المال منك إلّا مثل المكاره التي كنت تجريها على الناس. »
ويقول: « إني أعطى خطّى إن سلّم مني أن أستخرج منه ألفي ألف دينار معجّلة ويبذل دمه إن لم يف بذلك. » ويستكفّه أبوه وينهاه عن الشتم فلا ينتهى. فقال حامد:
« أيّها الوزير قد أكثر من شتمي واحتملته وليس الاحتمال له وإنّما أكرم مجلس الوزير وليس بعد الحال التي أنا فيها شيء يخاف أعظم من القتل فلو لا ما يلزمني من توقير مجلس الوزير لرددت عليه. » فحلف أبو الحسن لئن عاد المحسّن لشتم حامد ليستعفينّ الخليفة من مناظرته. فحينئذ أمسك عن الشتم ثم أعاده إلى المناظرة مرّات وكان يحصل في آخره أنّه لا مال له وكان قد باع ضياعه ومستغلاته وفرشه وداره ولم يبق له حيلة.
فلمّا أعيت ابن الفرات الحيلة فيه خلا به في داره من دور حرمه من حيث لم يحضر معهما أحد من خلق الله ورفق به وحلف له على أنّه إن صدقه عن أمواله وذخائره لم يسلّمه إلى المحسّن ولم يخرجه عن داره وحفظ نفسه. فإمّا أقام في داره مكرما وإمّا خرج إلى فارس متقلّدا لها أو إلى أيّ بلد أحبّ مع خادم من خدم السلطان يحفظ نفسه، ووكّد اليمين على ذلك. ثم قال له:
« أنت تعلم أنّك ضمنتنى من أمير المؤمنين لأسلّم إليك فافتديت نفسي بسبعمائة ألف دينار وأقررت بها عفوا من مالي حتى سلمت منك وأنت فقد تناسيت كلّ جميل فعلته وفعله أخي بك، والخليفة الآن مقيم على أن يسلّمك إلى المحسّن وهو حدث وقد أسلفته من المكاره ما لم يستعمله أحد مع وزير ولا مع ولد وزير، وأنا أرى لك أن تفتدى نفسك بمالك حتى تلحقك الصيانة من التسليم إلى المحسّن. » ووكّد له الأيمان.
فعند ذلك ركن حامد إلى قوله ويمينه وأقرّ له من الدفائن في البلاليع احتفرها وتولّى هو بنفسه دفن المال فيها بخمسمائة ألف دينار، وأقرّ بأنّ له عند جماعة من الوجوه والشهود نحو ثلاثمائة ألف دينار وأقرّ بأنّ له كسوة وطيبا مودعة بواسط.
فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وبادر بالركوب إلى المقتدر من غير أن يحضر معه المحسّن ولا عرّفه شيئا من الخبر.
فسرّ المقتدر بذلك ووعده أن يسلّم إليه كلّ من ضمنه من نصر الحاجب وشفيع اللؤلؤي وغيرهما وأشار ابن الفرات بإنفاذ شفيع لتسلّم هذا المال بواسط. فخرج شفيع فوجد تلك الأموال المدفونة واستخرج تلك الودائع وصار بها إلى المقتدر بالله.
وما زال حامد في دار ابن الفرات مصونا إلى أن توصّل المحسّن إلى المقتدر بالله على يد مفلح، فالتمس منه أن يوقّع إلى أبيه بأن يستخلفه على سائر الدواوين وجميع أمر المملكة. فتردّد مفلح برسائل من المقتدر بالله إلى أبي الحسن ابن الفرات وتنكّر ابن الفرات لابنه وجرت فيه ألوان مناظرات إلى أن خلع على المحسّن وركب معه أبوه والقوّاد ثم انصرف أبوه إلى داره ومضى المحسّن إلى داره.
ثم ركب المحسّن مع أبيه إلى دار السلطان وخاطب الخليفة بحضرة أبيه وقال:
« قد بقيت على حامد جملة وافرة من مال مصادرته، وإن سلّم إليّ استخرجت منه خمسمائة ألف دينار. » فأمر المقتدر أبا الحسن بتسليمه إليه. فقال ابن الفرات:
« قد عاهدته أن لا أسلّمه إليه. » فراجع المحسّن المقتدر إلى أن أمر المقتدر أمرا لم يمكن أبا الحسن مخالفته فيه. فسلّمه إليه وحمله المحسّن إلى داره وطالبه وأوقع به مكروها وأقام حامد على أنّه لم يبق له مال ولا حال، فأمر بصفعه فصفع خمسين صفعة وسقط كالمغشى عليه وما زال يصفع إلى أن تكلّم وقال:
« أيّ شيء تريد مني؟ » قال: « أريد المال. » قال: « ما بقي غير ضيعتي. » قال: « فاكتب بوكالة لابن مكرم - وكان أحمد بن كامل القاضي حاضرا - تقرّ فيها أنّك قد وكّلته في بيعها. » فكتب ذلك ووقعت الشهادة على حامد.
ثم إنّ المحسّن عامله بعد ذلك بمعاملة تجرى مجرى السخف من إذلاله والوضع منه. ثم سلّمه إلى خادم له مع خمسة من الفرسان وعشرة من الرجّالة ليحدروا به إلى واسط، ويبيع ضياعه وأملاكه.
وشاع ببغداد أنّ حامدا طلب ليلة انحداره بيضا فحمل إليه وتحسّى منه وقت إفطاره عشر بيضات، وأنّ خادم المحسّن الموكّل به طرح فيه سمّا فما استقرّ في جوفه حتى صاح ولحقه ذرب عظيم ودخل واسط وهو لمآبه.
فسلّمه الخادم إلى محمّد بن عليّ البزوفري وجعله في داره وبادر الخادم بالانصراف، وقام حامد أكثر من مائة مجلس ولم يتغذّ إلّا بسويق السّلت.
وأراد البزوفري الاستظهار لنفسه فاستحضر القاضي والشهود بواسط وكتب كتابا يقول فيه:
« إنّ حامدا وصل إلى واسط وتسلّمه البزوفري وهو عليل من ذرب شديد لحقه في طريقه بين بغداد وواسط وإنّه إن تلف من ذلك الذرب فإنّما مات حتف أنفه، ولا صنع للبزوفرى في شيء من أمره. » ووجّه بالكتاب إلى حامد فأظهر له حامد الاستجابة إلى الإشهاد على نفسه بما فيه. فلمّا دخل إليه القاضي والشهود قال لهم:
« ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض عاهدني وحلف لي بأيمان البيعة والطلاق، على أنّى إن أقررت بجميع أموالى لم يسلّمنى إلى ابنه المحسّن وصانني عن كلّ مكروه وأطلقنى إلى منزلي وولّانى أجلّ الأعمال، فلمّا أقررت له بجميع ما ملكته سلّمنى إلى ابنه المحسّن فعذّبنى بأصناف العذاب وأخرجنى مع فلان الخادم واحتال عليّ وسقاني بيضا وطرح فيه سمّا فلحقني الذرب ولا صنع للبزوفرى في دمى في هذا الوقت، ولكنّه فعل وصنع. ثم أخذ قطعة من أموالى وأمتعتى وجعل يحشوها في المساور البزيون المخلقة فتباع المسورة بخمسة دراهم وفيها أمتعة تساوى ثلاثة آلاف دينار فيشتريها هو فاشهدوا على ما شرحته لكم. » وتبيّن البزوفري حينئذ أنّه أخطأ فيما فعله.
وكتب صاحب الخبر بواسط إلى ابن الفرات بجميع ما تكلّم به حامد.
وتوفّى حامد بن العبّاس ليلة الثالثة عشر من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
ما جرى في أمر علي بن عيسى وتسليمه إلى ابن الفرات
لمّا قبض المقتدر على عليّ بن عيسى وجعله في يد زيدان القهرمانة، راسله بأن يقرّ بأمواله. فكتب رقعة يقول فيها: إنّه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار.
واتفق أن ورد الخبر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنّابى إلى البصرة سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر في ألف وسبعمائة راجل، وأنّه وصل إليها بسلاليم نصبها بالليل على سورها وصعد إلى أعلى السور، ثم نزل إلى البلد وقتل البوّابين الذين على أبواب السور وفتح الأبواب وطرح بين كلّ مصراعين منها حصى ورملا كان معه على الجمال لئلا يمكن إغلاق الباب عليه، وأنّه لم يعرف سبك المفلحى والى البصرة إلّا في سحر يوم الاثنين ولم يعلم أنّه ابن أبي سعيد الجنّابى، وقدّر أنّهم أعراب. فركب مغترّا ولقيه وجرت بينهم حرب شديدة وقتل سبك ووضع أبو طاهر في أهل البصرة السيف وأحرق المربد وبعض المسجد الجامع ومسجد قبر طلحة ولم يعرض للقبر.
وهرب الناس إلى الكلّاء، فكانوا يحاربونهم عدّة أيّام ثم أخذهم السيف فطرحوا أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم. وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يوما ويحمل على جماله كلّ ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، ثم انصرف إلى بلده فأنفذ إلى ابن الفرات في الوقت الذي ورد فيه خبر القرمطي بنيّ بن نفيس وجعفرا الزّرنجى إلى البصرة وقلّد محمّد بن عبد الله الفارقي أعمال المعاون بالبصرة وخلع عليه وانحدر في الطيّارات والشذاءات. وورد الخبر بوصوله إليها بعد انصراف أبي طاهر الجنّابى عنها فأقام فيها الفارقي رجاله وانصرف بنيّ والزّرنجى.
وكان بنيّ بن نفيس أنفذ جماعة من القرامطة إلى بغداد ذكر أنّهم استأمنوا إليه وأنّهم زعموا أنّ عليّ بن عيسى كاتبهم بالمصير إلى البصرة وأنّه وجّه إليهم في عدّة أوقات بهدايا وسلاح فوافوا بغداد وأنهى ابن الفرات الحال في ذلك إلى المقتدر بالله.
ذكر مناظرة ابن الفرات علي بن عيسى
وعرض الكتاب بعينه عليه فأمره المقتدر بإخراج عليّ بن عيسى إليه ليناظره، والجمع بينه وبين القرامطة حتى يواجهوه بما قالوا فيه، ففعل ابن الفرات فاحتجّ عليّ بن عيسى بأن قال:
« إنّه من كان في مثل حالتي وتحت سخط السلطان كاشفه الناس بالكذب والباطل لا سيّما إذا كان الوزير منحرفا ومغتاظا. » ثم أخذ ابن الفرات يخاطبه في أمر الأعمال وكان فيما ناظره عليه أمر المادرائيين وقال:
« قد كان أخذ ابن بسطام خطوطهما في أيّام وزارتي الثانية صلحا عمّا وجب عليهما من خراج ضياعهما بمصر والشام وما أخذاه من المرافق بها مدّة تقلّدهما في أيّامك الأولى بألفي ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار وأدّيا في أيّامى نحو خمسمائة ألف دينار فصرفت على ابن بسطام ساعة وليت الدواوين وقلّدت هذين العاملين المجاهرين باقتطاع مال السلطان وأنشأت إليهما كتابا عن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بإسقاط ذلك بأسره عنهما، ثم ادّعيت أنّ أمير المؤمنين أمر بذلك وقد أنهيت هذه الحال إلى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال:
« لم آمر بشيء من هذا ولا ظنّ أنّ أحدا يقدم عليه بمثلها. » فأجاب عليّ بن عيسى بأنّه كان في الوقت [ كاتبا ] لحامد بن العبّاس يخلفه على العمل، وكان أمير المؤمنين أمرنى بقبول قوله وأنّ حامدا ذكر أنّ أمير المؤمنين أمر بإسقاط هذا المال عن هذين العاملين ووقّع بذلك توقيعا فوقّعت تحت توقيع حامد بامتثال أمره كما يفعل خليفة الوزير فيما يأمره به صاحبه.
فقال ابن الفرات:
« أنت كنت تعارض حامدا وتخاصمه أبدا في اليسير تخرجه عليه في عبرة ما كان ضمنه حتى جرى بينكما ما تحدّث به الناس. فكيف تركت أن تستأذن أمير المؤمنين في هذا المال العظيم الجسيم؟ » فقال عليّ بن عيسى:
« كنت في أوّل الأمر كاتبا لحامد مدّة سبعة أشهر، ثم بان لأمير المؤمنين ما أوجب أن يعتمد عليّ، وكان الذي جرى من أمر المادرائيين في صدر أيّام حامد. » فقال له ابن الفرات:
« فلمّا اعتمد عليك أمير المؤمنين ألّا صدقّته عن خطأ حامد في هذا الباب وتلافيته؟ » فقال: « أغضيت عن ذلك لأنّى كنت في ذي القعدة سنة ستّ أوصلت الحسين بن أحمد إلى حضرة أمير المؤمنين وأخذت خطّه في مجلسه بما عقدته عليه من ضمان أعمال الخراج والضياع لمصر والشام في كلّ سنة بعد النفقات الراتبة وإعطاء الجيش في تلك النواحي وهو ألف ألف دينار في كلّ سنة خالصة للحمل إلى بيت المال لا ينكسر منه درهم واحد وذلك بعد أن أخذت خطّه بجميع ما تصرّف فيه من عطاء الجيش والنفقات الراتبة في ناحية ناحية ووقفت عليه أيضا في كلّ سنة لما ينكسر ويتأخّر في هذه الأعمال مائة وثلاثين ألف دينار وخطّه بذلك في ديوان المغرب وهذا غاية ما قدرت عليه. » فقال ابن الفرات:
« أنت تعمل أعمال الديوان منذ نشأت وقد وليت ديوان المغرب سنين كثيرة ثم تولّيت الوزارة ودبّرت أمر المملكة مدّة طويلة هل رأيت من يدع مالا واجبا يؤدّى معجّلا ويأخذ عوضا منه مالا مؤجّلا يحال به على ضمان، وهبك أغضيت كما ذكرت ورأيت ذلك صوابا في التدبير، فهل استوفيت مال هذا الضمان من هذا الضامن في مدّة خمس سنين دبّرت فيها المملكة؟ » فأجاب عن ذلك بأنّه قد كان ورد من مال الضمان للسنة الأولى جملة.
ثم سار العلوي من إفريقية حتى تغلّب على أكثر النواحي بمصر فنفذ مونس المظفّر إلى مصر لمحاربته فانصرف أكثر المال إلى أعطيات الجند ونفقات العساكر وانكسر باقيه لأجل استخراج العلويّ ما استخرجه من أموال النواحي المجاورة لمصر.
« فقال ابن الفرات:
« فقد انهزم العلويّ منذ صفر سنة تسع ووجب على هذا الضامن مال سنتين كاملتين بعد هزيمة العلويّ فهل استخرجت من هذا الضامن ألفي ألف دينار؟ » فأجاب عن ذلك ما لم يحفظ.
ثم قال له في آخر خطابه:
« فقد أمر أمير المؤمنين بمطالبتك بالأموال التي جمعتها وخنته فيها فينبغي أن تقرّ بها عفوا وتصون نفسك عن المكروه. » فقال عليّ بن عيسى:
« لست من ذوي المال وما أقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار. » ثم ناظره على أموال الحاشية، فقال لعليّ بن عيسى:
« أنت قد أسقطت من أرزاق الحرم والولد والحشم والفرسان الذين كنت أوفّيهم أرزاقهم على الإدرار في أيّامى الأولى والثانية مدّة خمس وسنين دبّرت فيها أمر المملكة ما يكون مبلغه في كلّ شهر مع ارتفاع الضياع التي هي ملك خاصّة خمسة وأربعين ألفا يكون في السنة خمسمائة وأربعين ألف دينار وفي هذه المدّة ستّة آلاف ألف دينار ولست تخلو من أن تكون احتجنتها لنفسك أو أضعتها. » فقال عليّ بن عيسى:
« ما استغللته من هذه الضياع، ووفّرته من أرزاق من يستغنى عنه تمّمت به عجز الدخل عن النفقات المسرفة حتى اعتدلت الحال فلم أمدّ يدي إلى بيت مال الخاصّة فأمّا الخمسة والأربعون الألف الدينار التي كنت تحملها من أموال المرافق فإني ما استصوبت ما استصوبته أنت من أخذها والإذن للعمّال في أن يرتفقوا، بل حضرتها ورفعتها فلم أعرض لها، لأنّها كانت طريقا إلى تلف أموال السلطان وظلم الرعيّة وخراب البلاد، وأنت كنت تعوّل في النفقات على ما كنت تحوّله من بيت مال الخاصّة إلى بيت مال العامّة، فترضى به الحاشية وتخرب به بيت المال. » وتكرّر الخطاب في هذا المعنى.
ثم ناظره على ما حمله إلى القرامطة من الهدايا والسلاح وما تردّد بينه وبينهم من المكاتبات مرّة والمقاربات أخرى فقال:
« أردت استمالتهم وإدخالهم في الطاعة وكففتهم عن الحاجّ وأعمال الكوفة والبصرة مدّة ولايتي دفعتين، وأطلقوا من الأسارى الذين كانوا من المسلمين عدّة. » فقال له ابن الفرات:
« فأيّ شيء أعظم من أن تشهد أنّ أبا سعيد وأصحابه الذين جحدوا القرآن ونبوّة النبي واستباحوا عمان وقتلوا أهلها وسبوهم مسلمين وتكاتبهم بذلك وتؤخّر إطلاق أرزاق من يحفظ السور بالبصرة حتى أخلوا بمراكزهم فدخلها القرمطي وقتل أهلها. » فاحتجّ بحجج يطول شرحها.
فسأل نصر الحاجب والمحسّن أبا الحسن ابن الفرات أن يدعهما يخلوان به، فخلوا وأشارا عليه بالمصادرة فاستجاب إليها، وألزماه ثلاثمائة ألف دينار يعجّل منها في مدّة شهر مائة ألف دينار أوّلها يوم خروجه من دار السلطان إلى حيث يأمن فيه على نفسه ويصل إليه الناس. فأخذ ابن الفرات خطّه بذلك وأنفذه إلى المقتدر بالله فأمضاه.
ثم كتب ابن الفرات كتبا عن نفسه إلى كلّ واحد من أصحاب الدواوين يذكر فيها خيانة عليّ بن عيسى وسرقته وما واجهه به وما بذله من المصادرة.
وحكى أبو الفرج ابن هشام عن ابن المطوّق أنّ أبا الحسن عليّ بن عيسى كان سأل أبا الحسن ابن الفرات أن يتجافى له عن ارتفاع ضيعته لسنة إحدى عشرة وثلاثمائة ليؤدّيه من جملة المصادرة وأنّ ابن الفرات قال له:
« هو خمسون ألف دينار. » فقال عليّ بن عيسى:
« قد رضيت بعشرين ألف دينار. » وذكر أنّه دون ذلك. فلمّا نفى إلى مكّة وجد في ضيعته نحو الخمسين الألف الدينار.
قال أبو الفرج: فسمعت الهمانى الواسطي يقول: سمعت أبا الحسن عليّ بن عيسى يوبّخ أبا عبد الله البريدي ويقول له:
« يا با عبد الله، أما خفت الله حيث حلفت بما حلفت به ونحن مجتمعون في دار السلطان أطال الله بقاءه أنّ استغلالك واستغلال إخوتك من ضيعتكم بواسط عشرة آلاف دينار وقد وجدته من حساب رفعه إليّ - يعنى الهمانى - ثلاثين ألف دينار. »
فقال أبو عبد الله:
« افتديت بسيّدنا - أيّده الله - حيث سأله أبو الحسن ابن الفرات عن ارتفاع ضيعته فلم يصدقه وساتره وعلمت أنّه مع ديانته لو لم يعلم أنّ التقيّة مباحة عند من يخاف ظلمه، لما حلف بتلك اليمين. » فكأنّه ألقم عليّ بن عيسى حجرا.
ونعود إلى تمام خبر عليّ بن عيسى مع ابن الفرات
امتنع المقتدر من تسليم عليّ بن عيسى إلى ابن الفرات. فذكر عليّ بن عيسى أنّه لا يمكنه أن يؤدّى مال مصادرته إلّا بعد أن يخرج من دار الخليفة. وأحضره المحسّن دفعتين وطالبه ورفق به فلم يؤدّ إلّا ثمن دار باعها فقيّده المحسّن، فلمّا رأى نصر ذلك نهض عن المجلس وطالب المحسّن عليّ بن عيسى فقال:
« لو كنت أقدر هاهنا على أداء المال لما قيّدت. » فألبسه جبّة صوف وأقام على أمره فحينئذ صفعه عشر صفعات.
فقام نازوك من المجلس، فقال المحسّن:
« إلى أن تقوم؟ » فقال: « ما أحبّ أن أحضر مكروه هذا الشيخ. » وأعيد عليّ بن عيسى إلى محبسه، وبلغ أبا الحسن ابن الفرات ما عامل به المحسّن عليّ بن عيسى فأقلقه ذلك وقال لابنه:
« قد جنيت علينا بما فعلته، كان يجب أن تقتصر على القيد. »
ابن الفرات يشفع لعلي بن عيسى
ثم كاتب المقتدر بالله يشفع لعليّ بن عيسى وذكر أنّه لمّا وقف على ما جرى عليه لحقه من الغمّ أمر لا يذكر مثله وأنّه لم يطعم طعاما منذ عرف خبره، لأنّه شيخ من مشايخ الكتّاب وقد خدم أمير المؤمنين وتحرّم بداره ومثله يخطئ وأمير المؤمنين أولى بالصفح، وسأل أن يزال عنه القيد والجبّة الصوف.
فأجابه المقتدر بأنّ عليّ بن عيسى مستحقّ لأضعاف ما جرى عليه وأنّ المحسّن قد أصاب فيما عامله به، وأنّه قد شفعه في أمره، وأمر بحلّ قيده ونزع جبّة الصوف عنه، وتقدّم بعد ذلك بتسليم عليّ بن عيسى إلى ابن الفرات ليؤدّى مال التعجيل من مصادرته.
فلمّا حمل إليه [ قال ]:
« لست أحبّ أن يكون في دارى لئلّا يلحقه مرض وهو شيخ فينسب إليّ، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يأذن في تسليمه إلى شفيع. » فقيل للمقتدر ذلك. فقال:
« أنا أسلّمه إليك لأنّك الوزير فاحفظ نفسه ولا تسلّمه إلى المحسّن، فأمّا غير هذا فأنت أولى وما تراه. » فأنفذ ابن الفرات إلى شفيع وأحضره. وأخذ ابن الفرات في توبيخ عليّ بن عيسى وعاتبه على أمر وقوف وقّع أمير المؤمنين بردّها عليه وأنّ مالها كان ينصرف إلى أشياء يتقرّب بها إلى الله - عز وجل - وينصرف بعضها إلى ولده وغلمانه وأنّ ما فعله لا يجوز في الدين ولا في المروءة.
فأخذ عليّ بن عيسى يعترف بالتفريط الذي وقع منه وسأله قبول عذره، وكان المحسّن حاضرا فأطنب في توبيخه وتقريعه على هذا الباب، فأجابه بمثل ما أجاب به والده وزيادة. وقال في عرض كلامه:
« أنا والله أستحليك.. » فقامت على المحسّن القيامة من هذه الكلمة وغلظت على أبيه أيضا، فأجابه المحسّن بجواب فيه غلظة وأقبل أبوه يسكّنه ويرفق به، ثم قال لعليّ بن عيسى:
« أبو أحمد كاتب أمير المؤمنين وصنيعته. » وأخذ يصف محلّه منه وتفويضه إليه. وأخذ عليّ بن عيسى في الاعتذار من تلك الكلمة. ونهض عليّ بن عيسى مع شفيع فأجلسه شفيع في صدر طيّاره وحمله إلى داره.
وحكى أبو الحسن ابن أبي هشام أنّه كان حاضرا المجلس وأنّه رأى الحسن بن دولة ابن أبي الحسن ابن الفرات خرج في تلك الحال، فقام له عليّ بن عيسى وقبّل رأسه وعينيه فاستكثر ذلك ابن الفرات وقال له:
« لا تفعل يا أبا الحسن، هذا ولدك. » ثم فتح دواته ووقّع إلى هارون بن عمران الجهبذ أن يحمل إلى أبي الحسن عليّ بن عيسى بلا دعاء ألفى دينار يستعين به على أمره في مصادرته، وقال لابنه المحسّن:
« وقّع أنت أيضا بشيء. » فوقّع بألف دينار، ثم أحضرا بشر بن هارون وكتب قبضا لعليّ بن عيسى من مال مصادرته بهذه الثلاثة الآلاف الدينار. فانصرف عليّ بن عيسى شاكرا.
ولم يقبل عليّ بن عيسى من أحد من الكتّاب معونة في مصادرته مع بذل جماعتهم له وحملهم إليه ما أطاق كلّ واحد منهم، إلّا من ابن فرجويه وابني أبي الحسن بن الفرات الفضل والحسين، فإنّه قبل من كلّ واحد منهما خمسمائة دينار وحمل إليه أبو الهيجاء ابن حمدان عشرة آلاف دينار، فردّها وقال:
« لو كنت متقلّدا فارس لقبلتها منك ولكني أعلم أنّ هذه جميع حالك وما أحبّ أن أثلمك. » فحلف أبو الهيجاء أن لا يرجع إلى ملكه، ففرّقت في الطالبيين وفي الصدقة على الضّعفى وبذل له شفيع اللؤلؤي ألفى دينار، فامتنع من قبولها وقال:
« لا أجمع عليك مؤونتي ومعونتى في مصادرتى. » وقبل من هارون بن غريب ومن نصر الحاجب وشفيع والمقتدري.
إبعاد علي بن عيسى إلى مكة ثم إلى صنعاء
فلمّا أدّى عليّ بن عيسى أكثر مال مصادرته قال ابن الفرات للمقتدر:
« إنّ في مقام عليّ بن عيسى في دار شفيع ضررا عليه، فإنّ الأراجيف قد كثرت وإن ردّ إلى دار السلطان زاد الإرجاف. » والتمس الإذن في إبعاده إلى مكّة فأذن له المقتدر في ذلك، فأطلق ابن الفرات لما قدر له من نفقته وما يحتاج إليه سبعة آلاف درهم، فخرج إليها. ثم كتب ابن الفرات بإبعاده إلى صنعاء اليمن فأبعد إليها.
ابن الفرات وأسباب علي بن عيسى
ثم استخرج ابن الفرات من أسباب عليّ بن عيسى وعمّاله وكتّابه مالا عظيما بالمكاره وبسط يد ابنه فأنكر الناس أخلاقه وما كان يعرف من كرمه ونبله.
فأمّا أبو عليّ ابن مقلة فإنّه كتب إلى أبي عبد الله محمّد بن إسماعيل [ بن ] زنجي رقعة وكانت بينهما مودّة وضمّنها أبياتا له ما أثبتها لأنّى لم أستجدها. وكتب رقعة إلى ابن الفرات يذكّره بحرمته وقديم خدمته ويستعطفه وجعلها في درج تلك الرقعة وسأله إيصالها فلمّا وقف ابن الفرات عليها تقدّم بحلّ قيده وتقرّير مصادرته على ما ينهض به ثم خفّف عنه بعد ذلك وأطلقه.
فأمّا ابن الحوارى فإنّ ابن الفرات سلّمه إلى ابنه المحسّن فصفعه صفعا عظيما في دفعات وضربه بالمقارع ثم أخرجه إلى الأهواز مع مستخرج له، فلمّا وصل إليها قتله المستخرج.
فأمّا المادرائيّان فانّه كتب بإشخاصهما، فحمل الحسين بن أحمد وهو أبو زنبور فاعتقله ابن الفرات في داره واستحضر القضاة وأصحاب الدواوين إلى داره وحضر المحسّن وأحضروا أعمالا عملوها لأبي زنبور وناظره ابن الفرات عليها وأخذ خطّه من الأبواب التي نوظر عليها بألفي ألف وأربعمائة ألف دينار. ثم استكثر ابن الفرات هذا المال فقرر مصادرته على ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وعرض خطّه بذلك على المقتدر بالله فاستصاب فعله. وتناهى ابن الفرات في معاملته بالجميل، وكان يسترجله ويصف فهمه ويقول: إنّه ما خاطب عاملا أفهم منه ولا أجلد، وسامه أن يواجه عليّ بن عيسى بأنّه أرفقه في أيّام تقلّده ديوان المغرب وفي أيّام وزارته فاستعفاه من ذلك.
فقال له ابن الفرات:
« فكيف واجهتني أنا بأمره ولا تواجهه بأمري؟ » فقال: « ما حمدت معه تلك الحال ولا أستحسنها إلى أحد مع الظاهر من إساءة الوزير إليّ بتسليمه إيّاى إلى ابن بسطام وبسطه يده عليّ في أيّام وزارته الثانية، فكيف تستحسنون لي هذه الحال في معاملة عليّ بن عيسى مع قديم وحديث إحسانه إليّ. » فأعفاه ابن الفرات من ذلك.
ثم قدم محمّد بن عليّ المادرائى ولم يكن تقلّد في أيّام وزارة حامد ابن العبّاس شيئا من الأعمال، فناظره ابن الفرات على المال الباقي عليه وعلى الحسين بن أحمد من ضمان أجناد الشام ومصر وعن حقّ بيت المال في ضياعه وهو حينئذ شريك للحسين بن أحمد في الضمان فاحتجّ في بعضه.
فقال له ابن الفرات:
« لست بأفهم من الحسين وقد احتجّ بأكثر ما ذكرت فلم تثبت له حجّة. » وأخذ خطّه بلا تهديد ولا مكروه بألف ألف وسبعمائة ألف دينار، ثم سلّمه إلى المحسّن وكان في داره على أتمّ صيانة، وأقام فيها يوما واحدا. وكان المحسّن يتطاول عليه إذا حضر. ثم أطلقه وكان السبب في ذلك أنّه حمل إليه مالا جليلا وثيابا فاخرة وجواهر نفيسة وخدما روقة.
ذكر ما دبره ابن الفرات في أمر مونس حتى أبعده
كان ورد مونس من الغزو بعد أن ظفر بالروم ظفرا حسنا، فتلقّاه المحسّن ونصر الحاجب وشفيع ومفلح وسائر القوّاد ولقي المقتدر بالله، فتحدّث الناس أنّ مونسا أنكر ما جرى على الكتّاب والعمّال من المكروه العظيم من ابن الفرات والمحسّن وما ظهر من وفاة حامد بن العبّاس، وأنّ أكثر الفرسان التفاريق بالحضرة قد عملوا على الانضمام إلى عسكر مونس المظفّر لتروج أرزاقهم.
فغلظ ذلك على ابن الفرات وصار إلى المقتدر بالله بعد أسبوع من قدوم مونس المظفّر فخلا به وأعلمه ما عمل مونس عليه من ضمّ الرجال إليه، وأنّه إن تمّ له ذلك صار أمير الأمراء وتغلّب على أمر المملكة ولا سيّما والقوّاد والغلمان منقادون له. وعظّم عليه الأمر وأغراه به إغراء شديدا.
فلمّا ركب مونس المظفّر إلى دار المقتدر بالله، قال له المقتدر بحضرة ابن الفرات:
« ما شيء أحبّ إليّ من مقامك، لأنّى أجمع إلى الأنس بك والتبرّك برأيك الانتفاع بحضورك في أمر الحضرة كلّه، ولكن أرزاق الفرسان برسم التفاريق عظيمة، وما يتهيّأ أن تطلق أرزاقهم على الإدرار ولا النصف من استحقاقهم وليس يطيعون في الخروج إلى نواحي مصر والشام، لأنّهم يحتجّون بقصور أحوالهم عن ذلك. وقد علمت أنّ الريّ وأبهر وزنجان متعلّقة بأخي صعلوك وكذلك أرمينية وأذربيجان بيوسف بن أبي الساج، وإن أقمت ببغداد التمس الرجال الانضمام إليك، فإن لم أجبهم شغبوا وأفتنوا البلد، وإن أقمت لم يرج من مال ديار ربيعة ومضر والشام شيء، وليس يفي مال السواد والأهواز وفارس بنفقات الحضرة ومال عسكرك. والوجه أن تخرج إلى الرقّة وتتوسّط عملك وتنفذ عمّالك في اقتضاء الأموال وتستخرج ما يجب على المادرائيّين من الأموال العظيمة التي بذلوا بها خطوطهم وتهابك عمّال المعاون والخراج بمصر والشام فيستقيم أمر الملك. » ورسم له الشخوص من وقته في سائر الغلمان الحجريّة والساجيّة برسمه.
فعلم مونس أنّ هذا من رأى ابن الفرات وتدبيره وعرف شدّة عداوته له، فسأل المقتدر بالله أن يأذن له في المقام بقية شهر رمضان حتى يعيّد ببغداد، فأجابه إلى ذلك. فلمّا عيّد صار إلى ابن الفرات لوداعه، فقام له قياما تامّا فاستعفاه مونس وحلف عليه أن يجلس في المصلّى فامتنع، وسأله مونس في عدّة أمور فوقّع له بجميع ما التمسه وأراد القيام عند خروجه من حضرته فاستحلفه برأس الخليفة ألّا يفعل، ثم ودّع الخليفة وخرج إلى مضربه في يوم مطير.
ما دبره ابن الفرات بعد مونس في أمر الحاشية
ولمّا فرغ ابن الفرات من مصادرة جميع الكتّاب وأخرج مونسا شرع في القبض على نصر الحاجب وشفيع المقتدري. فوصف للمقتدر ما في جنب نصر خاصّة من الأموال والضياع وكثرة ما يصل إليه من الأعمال التي يتولّاها، ثم من سائر وجوه مرافقه فأجابه المقتدر إلى تسليمه إليه، واتّصل الخبر بنصر فلجأ إلى السيّدة واستغاث إليها. فكلّمت ابنها وقالت له:
« قد أبعد ابن الفرات مونسا عنك وهو سيفك وثقتك ويريد الآن أن ينكب حاجبك ليتمكّن منك فيجازيك على ما عاملته به من إزالة نعمه وهتك حرمه. فليت شعري بمن تستعين عليه إن أراد بك مكروها من خلعك والتدبير عليك، لا سيّما مع ما أظهر من شرّه وإقدام ابنه المحسّن على كلّ عظيمة. » وقد كان نصر مضى إلى منزله واستظهر بتفريق ماله في الودائع واستتره فراسلته السيّدة بالرجوع إلى داره، فوثق وعاد وهو مع ذلك شديد التذلّل لابن الفرات وابنه وابن الفرات يعرّف المقتدر من أحواله ومن إفساده ابن أبي الساج حتى ضيّع على الخلافة خمسة آلاف ألف دينار من ارتفاع نواحيه ما يهمّ معه المقتدر بتسليمه إليه.
فلمّا كان في ذي الحجّة من هذه السنة ورد الخبر على ابن الفرات بإيقاع ابن أبي الساج بأحمد بن عليّ أخي صعلوك وقتله إيّاه وأنّه أخذ رأسه وهو على حمله إلى بغداد.
فركب المحسّن إلى المقتدر والتمس من مفلح أن يوصله إليه من غير حضور نصر الحاجب فأوصله وبشّره بالفتح وبشّره بالفتح وأعلمه أنّ نصر الحاجب يكره ذلك وأنّه عدوّ لابن أبي الساج وهو الذي أفسده على السلطان فلذلك كتمه الخبر.
ودخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة
فلمّا كان بعد أيّام ظهر في دار للسيّدة كان المقتدر يكثر الجلوس فيها عند والدته رجل أعجمى على سطح مجلس من مجالسها وعليه ثياب فاخرة وتحتها ممّا يلي بدنه قميص صوف ومعه محبرة ومقدحة وسكّين وأقلام وورق وسويق وحبل، يقال إنّه دخل مع الصّنّاع فحصل في الموضع وبقي أيّاما فعطش وخرج ليطلب الماء فظفر به وسئل عن خبره فقال:
« ليس يجوز أن أخاطب غير صاحب الدار. » فأخرج إلى الوزير أبي الحسن ابن الفرات فقال له:
« أنا أقوم مقام صاحب الدار فقل ما شئت. » فقال: « ليس يجوز غير خطابه في نفسه ومسألته عمّا احتاج إليه. » فرفق به فلم يغن الرفق. فلمّا لم تكن فيه حيلة أخذ الخدم يقرّرونه بالضرب والعنف فعدل عن الكلام بالعربية فقال بالفارسية:
« ندانم. » فصلب ولفّ عليه حبل من قنّب ومساقة ولطّخ بالنفط وضرب بالنار.
وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضرة المقتدر في أمر هذا الرجل، وقال له:
« ما أحسبك ترضى لنفسك أن يجرى عليك في دارك مثل هذا الذي جرى على أمير المؤمنين وأنت حاجبه وحافظ داره وما تمّ مثل هذا على أحد من الخلفاء في قديم ولا حديث وهذا الرجل هو صاحب أحمد بن عليّ أخي صعلوك لا محالة، والدليل على ذلك أنّه أعجمى، فإمّا أن يكون أحمد بن عليّ - قبل أن يقتل - واطأك حتى أوصلته إلى هذا الموضع وإمّا أن تكون أنت دسسته ليفتك بأمير المؤمنين لتخوّفك على نفسك منه ولأجل عداوتك لابن أبي الساج وصداقتك لأحمد بن عليّ ولأجل عظيم ما وصل إليك من أحمد بن عليّ من الأموال. » فقال له نصر الحاجب:
« ليت شعري أدبّر على أمير المؤمنين لأنّه أخذ أموالى وهتك حرمي أو قبض ضياعي أو حبسني عشر سنين؟ » فقال المقتدر:
« لو تمّ هذا على بعض العوامّ لكان عظيما. » وتمكّن ابن الفرات منه واندفع عنه المكروه بما ورد به الخبر ممّا جرى على الحاجّ من القرمطي وسنشرحه فيما بعد. فشغل ابن الفرات بنفسه وقوى أمر نصر وسلم من ابن الفرات.
وفي هذه السنة ورد الكتاب بشرح الخبر في مصير ابن أبي الساج من أذربيجان إلى الريّ ومحاربته أحمد بن عليّ وحمل رأس أحمد بن عليّ وجثّته إلى مدينة السلام.
تفريق المال على طلاب الأدب
وفيها فرّق ابن الفرات على طلّاب الأدب مالا وعلى من يكتب الحديث مثله، وكان السبب في ذلك أنّه جرى حديثهم في مجلسه فقيل لعلّ الواحد منهم يبخل على نفسه بدانق فضّة أو دونها ويصرفه إلى ثمن ورق وحبر.
وكان ابن الفرات موصوفا بسعة الصدر وحسن الخلق، وكان فرّق في الشعراء مالا. فقال لمّا جرى حديث هؤلاء:
« أنا أولى من عاونهم على أمرهم. » وأطلق لهم لما يصرفونه إلى ذلك عشرين ألف درهم. » فذكر أنّه لم يسبق ابن الفرات إلى ذلك إلّا ما حدّث به الضبعي عن رجاله أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى عند وفاته بالثلث من ثلثه لطلّاب الأدب وقال:
« هم مجفوءون. » وكان يستعمل كلّ يوم في مطبخ ابن الفرات من لحوم الحيوان وفي دوره من الثلج الكثير ومن الأشربة التي تعرض على كلّ من دخل ومن الشمع ومن القراطيس ما لم يستعمله أحد قبله ولا بعده. وكان إذا ولى الوزارة ارتفعت أسعار الشمع والثلج والقراطيس خاصّة وإذا عزل رخصت.
وكان أهدى إلى مونس المظفّر عند موافاته من المغرب وإلى بشرى ويلبق وإلى نازوك وغيرهم من الغلمان والخدم لمّا حضر النوروز هدايا عظيمة لم تسمح نفس أحد بمثلها وقدّر أنّهم يستكفّهم بها فلم يقع موقعه الذي أراد.
ذكر السبب في ضعف أمر ابن الفرات بعد تناهيه في القوة والاستقامة
اتّفق أن ورد الخبر إلى بغداد على ابن الفرات بأنّ أبا طاهر ابن أبي سعيد الجنّابى ورد إلى الهبير ليتلقّى حاجّ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم، فأوقع بقافلة فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرها واتّصل خبره بهم وهم بفيد فأقاموا حتى فنى زاد من فيها وضاق بهم البلد فارتحلوا على وجوههم.
وأشار عليهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان - وكان إليه طريق الكوفة وطريق مكّة وبذرقة الحاجّ - لمّا بلغهم خبر الهجري، أن يعدل بهم من فيد إلى وادي القرى لئلّا يجتازوا بالهبير فضجّوا من ذلك وامتنعوا عليه وساروا وسار معهم ضرورة إلى الهبير.
فلمّا قربوا من الهبير عارضهم أبو طاهر ابن أبي سعيد الجنّابى وقاتلهم فظفر بهم وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد بن كشمرد وغرير العمرى وأحمد بن بدر عمّ السيّدة أمّ المقتدر وجماعة من خدم السلطان وحرمه.
وأخذ أبو طاهر جمال الحاجّ في سائر القوافل وسبى ممّن كان فيها من اختار من النساء والرجال والصبيان وسار بهم إلى هجر وترك باقى الحاجّ في مواضعهم بلا زاد ولا جمال. وكانت سنّ أبي طاهر في ذلك الوقت سبعة عشر سنة ومات أكثر من خلّف من الحاجّ بالعطش والحفا والرجلة.
وانقلبت بغداد وطرقها في الجانبين وخرج النساء حفاة منشّرات الشعور مسوّدات الوجوه يلطمن ويصرخن في الشوارع وانضاف إليهن حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات وذلك في يوم السبت لسبع خلون من صفر فكانت صورة فظيعة قبيحة شنعة لم ير مثلها.
وتقدّم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة في الجانبين ببغداد بسبب حركة العامّة فركب في جميع جيشه من الفرسان والرجّالة والنفّاطين حتى سكّن العامّة.
ثم قدم سائق الحاجّ فشرح الصورة لابن الفرات، فركب ابن الفرات آخر هذا اليوم وقد ضعفت نفسه إلى المقتدر وشرح له الحال واستدعى نصرا الحاجب وأدخله في المشاورة وتمكّن نصر من خطاب ابن الفرات بحضرة المقتدر وانبسط لسانه عليه وقال له:
« الساعة تقول: أيّ شيء الرأي، بعد أن زعزعت أركان الدولة وعرّضتها للزوال بإبعادك مونسا الذي يناضل الأعداء ويدفع عن الدولة، فمن يمنع الآن هذا الرجل عن السرير ومن الذي أسلم رجال السلطان وقوّاده وحرمه وخدمه إلى القرمطي سواك وقد ظهر الآن أمر الأعجميّ الذي وجد في دار السلطان وأنّه إنّما كان صاحب القرمطي. » وأشار نصر على المقتدر بمكاتبة مونس بالتعجّل إلى الحضرة، فأمر أن يكتب بذلك. ووثبت العامّة على ابن الفرات ورجمت طيّاره وبالآجرّ، وركب المحسّن من داره يريد طيّاره فرجموه وضجّت العامّة في الطرقات بأنّ:
« ابن الفرات القرمطي الكبير وليس يقنعه إلّا إتلاف أمّة محمّد. » وتحرّكت العامّة فامتنعت من الصلاة في المساجد الجامعة ذلك اليوم وارتجّت بغداد بأسرها من الجانبين. وأشار ابن الفرات بإنفاذ ياقوت إلى الكوفة لضبطها لئلّا تردها الهجريّة ويضمّ الغلمان الحجريّة ووجوه القوّاد إليه وإن كان الهجري مقيما سار لمحاربته.
فتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالشخوص، وإلى ابن الفرات بإزاحة علّته فالتزم ابن الفرات له ولولديه وهما المظفّر ومحمّد وللزيادة في إقطاعهم وموائدهم ولمن ضمّ إليه أموالا عظيمة.
وخرج ياقوت بمضربه إلى باب الكناسة، وورد الخبر على ابن الفرات بانصراف الهجري إلى بلده. فوقّع إلى ياقوت بالرجوع فرجع وبطل نفوذه إلى الكوفة.
وأصلح المقتدر بين ابن الفرات وبين نصر وأمر الجماعة بالتضافر على ما فيه الصلاح للدولة وكفاية الهجري.
دخول مونس بغداد
ودخل مونس بغداد وتلقّاه الناس فلم يتأخّر عنه أحد وركب إليه ابن الفرات للسلام عليه ولم تجر له بذلك عادة ولا لأحد قبله. فلمّا عرف مونس خبره خرج إلى باب داره وتلقّاه وسأله أن ينصرف فلم يفعل، وصعد إليه من طيّاره حتى هنّاه بمقدمه. فلمّا خرج لينصرف خرج معه مونس إلى أن نزل إلى طيّاره.
ما عامل به المحسن المنكوبين لما اضطرب أمره وأمر أبيه
استوحش المحسّن بعد إيقاع الهجري بالحاجّ من المنكوبين ونظر إلى سقوط حشمته، فخاف أن يظهر ما أخذه وارتفق به وما أسقطه من أداء المصادرين وفاز به، فنصب أبا جعفر محمّد بن عليّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر وكان هذا يدّعى من حلول اللاهوت فيه ما ادّعاه الحلّاج.
وكان المحسّن قد غنى بهذا الرجل فاستخلفه بالحضرة لجماعة من العمّال وكان له صاحب يعرف بملازمته مقدام على الدماء من أهل البصرة. فسلّم المحسّن إلى صاحب ابن الفرات هذا البصري جماعة فيهم النعمان بن عبد الله وعبد الوهّاب ابن ما شاء الله ومونس خادم حامد وأظهر أنّه يطالبهم بما بقي عليهم من المال، فلمّا حصلوا في يده ذبحهم كما يذبح الغنم. وكان جماعة مستترين، فكتب ابن الفرات إليهم كتبا جميلة حتى ظهروا، ثم صادرهم واستخرج منهم أموالا كثيرة.
ذكر القبض على أبي الحسن ابن الفرات وهرب ابنه المحسن
واشتدّ الإرجاف بابن الفرات حتى استتر أولاده وكتّابه فراسله المقتدر على لسان نسيم.
فحكى أبو القاسم ابن زنجي أنّه كان بين يديه إذ جاءه نسيم فتقدّم إليه فأدّى الرسالة التي كانت معه، فسمعته يقول في جوابها:
« قل له: أنت تعلم يا أمير المؤمنين أنّى عاديت في استيفاء حقوقك الصغير والكبير واستخرجت لك المال من الدنيء والشريف وبلغت غاية ما أمكننى في تأييد دولتك ولم أفكّر في أحد مع سلامة نيّتك وما قرّبنى منك واجتلب لي حسن رأيك، فلا تقبل فيّ قول من يريد إبعادى عن خدمتك ويغريك بما لا فائدة فيه ويدعوك إلى ما تذمّ عواقبه.
« وبعد فطالعى وطالعك واحد وليس يلحقني شيء ولا يلحقك مثله، فلا تلتفت إلى ما يقال، فقد علمت الخاصّة والعامّة أنّى أطلقت للرجال النافذين إلى طريق مكّة ما لم يطلقه أحد تقدّمنى واخترت رؤساء الجند والقوّاد وشجعان الرجال وأزحت العلّة في كلّ ما التمس مني، فحدث من قضاء الله عز وجل على الحاجّ ما قد حدث مثله في أيّام المكتفي بالله رحمه الله فما أنكره على وزيره ولا ألزمه جريرته ولا أفسد عليه رأيه. » وتكلّم في هذا المعنى بما يشاكله وانصرف نسيم والغلمان بانصراف نسيم.
واحتدّت الأراجيف وكثرت بأبي الحسن ابن الفرات والمحسّن ابنه، وأراد المقتدر أن يسكّن منهما فكتب إليهما رقعة يحلف فيها على ما هو عليه لهما وما يعتقده من الثقة بهما، وأنّه ينبغي لهما أن يثقا بما تقرّر في نفسه من موالاتهما وأمرهما أن يظهرا رقعته إليهما لأهل الحضرة ويكتب بنسختها إلى جميع عمّال الحرب والخراج في البلدان.
ثم ركب بعد ذلك ابن الفرات والمحسّن إلى الدار، فوصلا إلى المقتدر في شهر ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة، ولمّا خرجا أجلسهما نصر الحاجب وكان راسل الغلمان الحجريّة المقتدر في القبض عليهما فدخل مفلح برسالتهم، ثم أشار عليه بتأخير الأمر وقال له:
« إنّ صرف الوزير بكلام الأعداء خطر وخطأ في التدبير وإطماع للغلمان. » فأمره أن يتقدّم إلى نصر بإطلاقهما ويعرّف الغلمان أنّ الأمر يجرى فيما راسلوه على محبّتهم فتقدم مفلح وقال:
« لينصرف الوزير. »
فأذن نصر للوزير وابنه في الانصراف فقام ابن الفرات في الممرّات كالمهزول حتى وصل إلى طيّاره وكذلك ابنه المحسّن. فلمّا وصلا إلى دار الوزير دخل إليه المحسّن فسارّه سرارا طويلا ثم خرج من عنده وانصرف إلى منزله وجلس فيه ساعة وتقدّم بما أراد ثم خرج فاستتر.
وجلس أبوه غير مكترث ينظر في العمل وبين يديه وجوه الكتّاب وانصرفوا آخر النهار وقد تشكّكوا فيما بلغهم من صورة الأمر لمّا رأوه من نشاطه وانبساطه وجريه على رسمه في الحديث والأنس والأمر والنهى.
وتحدّث بعض خواصّه قال: سمعته يقول في آخر الليل وهو في مرقده يتمثّل بهذا البيت:
وأصبح لا يدرى وإن كان حازما ** أقدّامه خير له أم وراؤه
فدلّ ذلك على سهره وتفكّره في أمره، وجلس من الغد ينظر في أمره.
قال أبو القاسم ابن زنجي: فبينا هو كذلك إذ وردت رقعة لطيفة مختومة فقرأها فما عرفت ممّن هي في الوقت ثم عرفت أنّها كانت من مفلح. ثم وردت رقعة أخرى من رجل يجرى مجرى الجند كان ملازما لدار السلطان.
فلمّا قرأها أمسك قليلا ثم دعا يحيى قهرمانه فأسرّ إليه بشيء وانصرف. ثم صرف الناس وواعدهم البكور ونهض ابن الفرات عن مجلسه إلى دور حرمه وتفرّق الناس.
فلمّا صرت إلى الرّوشن ذكرت شغلا عليّ كان شغلي به فانصرفت وجلست لذلك، فإذا بنازوك قد دخل عليه سيفه وبيده دبّوس وإذا بيلبق يتلوه وهما بخلاف ما أعهدهما من الانبساط ومع كلّ واحد منهما نحو خمسة عشر غلاما بسلاح. فلمّا لم يجدوه في مجلسه دخلوا إلى دار حرمه فأخرجوه منها حاسرا وأجلس في طيّار وحمل إلى دار نازوك وقبض معه على ابنيه الفضل والحسين ومن وجد من كتّابه.
ومضى نازوك ويلبق إلى مونس المظفّر وعرّفاه الخبر وكان قد خرج إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه خرج للنزهة، فانحدر معه هلال بن بدر وجماعة من قوّاده وذهب يلبق إلى دار نازوك وأخرج ابن الفرات من هناك مع ولديه وأسبابه وأخرج نازوك من داره رداء قصب وطرحه على رأسه لأنّه كان حاسرا. فلمّا رأى ابن الفرات مونسا أظهر الاستبشار بحصوله في يده فأجلسه معه في الطيّار وخاطبه بجميل مع عتاب وتذلّل ابن الفرات وخاطبه بالأستاذيّة فقال له مونس:
« الساعة تخاطبني بالأستاذيّة وبالأمس تخرجني على سبيل النفي إلى الرقّة والمطر يصبّ على رأسى ثم تذكر لمولانا أمير المؤمنين أنّى أسعى في فساد مملكته! » وانحدر به إلى دار السلطان وتقدّم بحمل ولديه وكتّابه إليها وتسليمهم إلى نصر. فتكاثر العامّة على ابن الفرات ومعهم أسباب المنكوبين يدعون عليه ويضجّون واجتهد مونس في دفعهم فما قدر على ذلك ورجموا طيّار مونس لمكان ابن الفرات فيه وصاحوا:
« قد قبض على القرمطي الكبير وبقي القرمطي الصغير. » ولمّا وصلوا إلى باب الخاصّة صعد جمع عظيم من السميريّات لرجم ابن الفرات وولديه وكتّابه بالآجر حتى حوربوا واحتيج إلى رميهم بالسهام وجرح بعضهم فانصرفوا وتسلّمهم نصر.
فكانت مدّة ابن الفرات في هذه الوزارة الثالثة عشرة أشهر وثمانية عشر يوما.
تسليم ابن الفرات إلى شفيع اللؤلؤي
ثم اجتمع وجوه القوّاد إلى دار السلطان وأقاموا على أنّ ابن الفرات إن حبس في دار الخلافة خرجوا بأسرهم إلى المصلّى وأسرفوا في التهدّد.
فدعا المقتدر مونسا ونصرا وشاورهما فأشارا بتسكين القوّاد وبأن يخرج ابن الفرات ويسلّم إلى شفيع اللؤلؤي ويعتقل عنده. فاستحضر شفيع وسلّم إليه.
ذكر توصل أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله الخاقاني إلى الوزارة
كان أبو القاسم عبد الله بن محمّد الخاقاني استتر في أيّام وزارة ابن الفرات الثالثة وأبوه أبو عليّ شديد العلّة وقد أسنّ وتغيّر فهمه ولمّا اضطرب أمر ابن الفرات عند ما جرى على الحاجّ ما جرى، سعى عليه أبو القاسم الخاقاني وعلى ابنه المحسّن وعمل لهما عملا وسعى له في ذلك نصر الحاجب وثمل القهرمانة وغيرهما. وكان مونس أشار بأبي القاسم الخاقاني قبل ذلك.
فقال المقتدر:
« أبوه خرّب الدنيا وهو شرّ من أبيه ولكن نقلّد الحسين بن أحمد المادرائى. » فعرّفه مونس أنّه قد نفذ إلى مصر وأنّ استحضاره يبعد. ثم ساعده نصر وابن الخال في ذلك، ثم استحضره المقتدر وشافهه بتقليده الوزارة والدواوين وخلع عليه وركب معه مونس المظفّر وهارون بن غريب إلى داره.
ذكر ما جرى عليه أمر ابن الفرات وأسبابه بعد تقلد أبي القاسم الخاقاني الوزارة
ذكر أبو الحسن أنّه سلّم إلى شفيع كما ذكرنا فراسله شفيع على يد المعروف بالجمل كاتبه، فيما يبذله من المصادرة عن نفسه ليسلم من أعدائه ومن تسليمه إلى الخاقاني وأبي العبّاس ابن بعد شرّ وهو كاتب الخاقاني فأجابه ابن الفرات بأنّه لا يفعل أو يثق من المقتدر بالله في حفظ نفسه من تسليمه إلى أحد من هذه الطبقة. وقال للكاتب الملقّب بالجمل:
« قل لصاحبك إني قد خلّفت في يد هارون الجهبذ وابنه مائة ونيّفا وستين ألف دينار حاصلة قبلهما من المصادرين ليعرف الخليفة ذلك ويتقدّم بحملها إلى بيت مال الخاصّة من وقته هذا حتى لا يوهمه الخاقاني أنّه هو استخرجه ثم يصرفه في النفقات التي سبيلها أن ينفق من بيت مال العامّة. » فركب شفيع للوقت وأنهى ذلك إلى المقتدر فوجّه إلى الجهبذين وكانا في دار الخاقاني لم يكلّمهما بعد لتشاغله بالتهنئة فأحضرا واعترافا بالمال وحملاه وصحّحاه في بيت مال الخاصّة.
وتقدّم المقتدر إلى نصر الحاجب بتسليم أولاد ابن الفرات وكتّابه وأسبابه إلى الخاقاني، فسلّمهم إليه وأخذ خطّه بتسلّمهم وسلّمهم الخاقاني إلى أبي العبّاس ابن بعد شرّ فقيّدهم وأجلسهم على الأرض في الحرّ الشديد ثم أخذ خطّ كلّ واحد من ولدي ابن الفرات بمائة ألف دينار وخطّ سعيد بن إبراهيم بمائتي ألف وخطّ أبي غانم كاتب المحسّن بمائتي ألف دينار، ووقع النداء على المحسّن وهشام وابني فرجويه والتهديد لمن وجدوا عنده بعد النداء بالنهب وإحراق المنازل وضرب ألف سوط. وواقف أبو الحسن شفيعا على أن يضمن عنده مالا إن ردّ إلى دار السلطان ولم يسلّم إلى أحد.
فذهب شفيع فخاطب في ذلك المقتدر فقال له المقتدر:
« إنّ مونسا ونصرا وهارون بن غريب قد أجمعوا على أنّه لا يمشى للخاقانى أمر إلّا بتسليم ابن الفرات إليه وضمن أن يستخرج منه ومن ابنه وأسبابه ألفي ألف دينار.
فانصرف شفيع ووجّه إلى ابن الفرات بكاتبه يشرح الصورة له.
لام لابن الفرات في وزارة الخاقاني
فقال هذا الكاتب وهو الملقّب بالجمل: كنت أدخل إلى ابن الفرات في كلّ يوم لتفقّد أحواله. فكنت أجده أقوى الناس نفسا وأصبرهم على نوائب الدهر. قال:
ولقد سألنى: عمّن تقلّد الوزارة.
فعرّفته أنّه أبو القاسم بن أبي على الخاقاني.
فقال: « السلطان نكب وما نكبت أنا. » وسألنى: « عمّن تقلّد الديوان - يعنى ديوان السواد، فقلت:
« محمّد بن جعفر بن حفص. »
فقال: « رمى بحجره. » وسألنى: عمّن تقلّد باقى الدواوين.
فعرّفته أنّهم يحيى بن نعيم المالكي ومحمّد بن يعقوب المصري وإسحاق بن عليّ القنّاى. فقال:
« لقد أيّد الله هذا الوزير بالكفاة. »
مناظرة ابن الفرات لاستخراج ماله
وكان المناظر لابن الفرات ابن بعد شر فرفق به فوعده أن يتذكّر ودائعه ويعرّفه إيّاها فعاوده بالرفق فأقرّ أنّ له عند التجّار مائة وخمسين ألف دينار.
وكان المقتدر رسم أن يكون مال مصادرة ابن الفرات وحده يحصّل في بيت المال الخاصّة ومال مصادرة أسبابه في بيت مال العامّة.
ولمّا استخرج ما ذكره ابن الفرات من التجّار أعاد ابن بعد شر مطالبة ابن الفرات، فذكر أنّه لم يبق له مال فأوقع به مكروها يسيرا، ولم يكن ابن الفرات ممّن يستجيب بالمكروه فتقاعد وامتنع دفعة واحدة من أداء شيء.
فمضى هارون بن غريب إلى المقتدر وعرّفه أن الخاقاني جنى على السلطان بتسليمه ابن الفرات إلى ابن بعد شر وأنّه كان ينبغي أن يرفق به ويداريه، فإنّه ممّن لا يستجيب بالمكروه. فتقدّم المقتدر إلى الخاقاني بأن تكون مناظرة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب وأن يرفق به. وكان ابن بعد شر قد ضيّق على ابن الفرات في مطعمه ومشربه حتى أنّه أدخل إليه خبز خشكار وقثّاء وماء الهواء، فوجّه إليه بطعام واسع وشراب وثلج كثير وفاكهة واعتذر إليه عمّا جرى وحلف أنّه لم يعلم بما عومل به.
ثم إنّ الخاقاني راسله على يد خاقان بن أحمد بن يحيى برفق ومداراة بأن يقرّ بماله ولا يلاجّ السلطان فليس ذلك بمحمود. فأجابه بأن قال:
« قل للوزير ليست حدثا غرّا فتحتال عليّ في المناظرة، ولست أقول إني لا أقدر على المال ولكن إذا وثقت لنفسي بالحياة فديتها بالمال.
وإنّما أثق بذلك إذا كتب أمير المؤمنين بخطّه لي أمانا وشهد الوزير والقضاة بخطوطهم ويكتب لي الوزير أيّده الله أمانا بخطّه ويسلّمنى إلى أحد رجلين:
إمّا مونس المظفّر وإن كان عدوّى وإمّا شفيع اللؤلؤي فإن لم يفعل ذلك فقد وطّنت نفسي وعلى التلف. » فوجّه إليه الخاقاني:
« بأنّى لو قدرت على التوثّق لك لتوثّقت، ولكن إن تكلّمت في هذا المعنى عاداني خواصّ الدولة لأجلك، ثم لم تنتفع أنت بذلك وقد ردّ الخليفة أمرك إلى هارون بن غريب. » فتواعدوا إلى دار الخاقاني بالمخرّم واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته فتماتن ابن الفرات. فبدأ ابن بعد شر يسمعه المكروه فأنكره هارون وزبره وقال:
« بهذا تريد أن تستخرج مال ابن الفرات؟ » وأقبل هو على ابن الفرات وداراه وخاطبه بجميل وقال له:
« أنت أعرف بالأمور من كلّ من يخاطبك والخلفاء لا يلاجّهم وزراؤهم إذا سخطوا عليهم. » فقال له ابن الفرات:
« أشر عليّ أيّها الأمير فإنّ من كان في مثل حالي عزب عنه الرأي. » فلم يزل معه في مناظرات إلى أن أخذ خطّه بمصادرة ألفي ألف دينار على أن يعجّل منها الربع وعلى أن يحتسب له من الربع بما أدّاه وما أخذ بعد ذلك ممّا لعلّه استخرج من ودائعه بغير إقرار منه ويطلق له بيع أملاكه وما يستبيع من ضياعه وأمتعته وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان ويطلق الكلوذانى ليتصرّف في جمع أمواله ويطلق له الدواة ليكاتب من يرى مكاتبته فأخذ هارون بن غريب خطّه بجميع ما كتب به وحمله إلى المقتدر بالله.
ذكر اتفاق سيء اتفق على المحسن حتى ظفر به وصودر وقتل
كان المحسّن استتر عند حماته حنزابة وهي حماته ووالدة الفضل بن جعفر بن الفرات فكانت تحمله كلّ يوم، بكرة إلى المقابر في زيّ النساء وتردّه إلى المنازل التي يثق بها بالليل.
فمضت به يوما إلى مقابر قريش في زيّ النساء على رسمه وأمست فبعد عنها الطريق إلى الكرخ فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تثق بها ليس معها رجل لأنّ زوجها مات منذ سنة. فصارت حنزابة مع النسوة والمحسّن إلى هناك فقالت لصاحبه الدار:
« إنّ معنا امرأة لم تتزوّج بعد، وقد عادت من مأتم وضاقت عليها فأفردى لها بيتا. »
فأفردت لها بيتا في صفّة وأدخلت إليه المحسّن ثم ردّت عليه الباب وجلس النسوة مع المحسّن في البيت. فجاءت جارية سوداء بسراج معها فوضعته في الصفّة وأدخلت حنزابة إلى المحسّن بسويق وسكّر وكان المحسّن قد نزع ثيابه فاطّلعت الجارية السوداء من حيث لا يشعر المحسّن ولا حنزابة في البيت، وعلمت أنّه رجل، فانصرفت وأخبرت مولاتها.
فلمّا جنّ الليل جاءت مولاتها وطالعت البيت فرأت المحسّن وكان ذلك من نحس المحسّن وخذلان الله إيّاه، لأنّ تلك المرأة كانت زوجة لمحمّد بن نصر وكيل عليّ بن عيسى وكان المحسّن طلبه فأدخل إلى ديوانه فرأى ما يلحق الناس من المكاره بحضرة المحسّن فمات من الفزع فجأة من غير أن يكلّمه المحسّن.
فمضت المرأة في الوقت إلى دار السلطان حتى وصلت إلى دار نصر الحاجب وشرحت له الصورة فأنهى نصر الحاجب الخبر إلى المقتدر بالله، فتقدّم بالبعثة إلى نازوك ليركب إلى الموضع ويقبض على المحسّن.
فركب نازوك من وقته إلى الموضع وكسبه وقبض على المحسّن، وضربت الدبادب لذلك نصف الليل عند الظفر به حتى ارتاع الناس ببغداد وظنّوا أنّ القرمطي قد كبس بغداد.
وحمل المحسّن إلى دار الوزارة بالمخرّم وتسلّمه ابن بعد شر [ وجرّعه ] في وقته مكروها عظيما وأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف دينار. وحضرت هارون بن غريب دار المخرّم وناظر المحسّن فوعده أن يتذكّر وودائعه ويقرّ بها ولحقه في يومين متواليين مكروه عظيم فلم يذعن بدرهم واحد وقال:
« ليس يجمع بين نفسي ومالي. »
وحضر بعد ذلك هارون بن غريب ومعه شفيع اللؤلؤي وأحضر المحسّن والكتّاب وابن بعد شرّ وناظر المحسّن وأوقع به مكروها عظيما وقال له:
« هبك لا تقدر أن تؤدّى المال الذي أخذ خطّك به لا تقدر أن تؤدّى مائة ألف دينار. » فقال له:
« بلى إذا أمهلت وزال عني المكروه. » فقال له:
« نحن نمهلك فاكتب خطّك بمائة ألف دينار. » وكتب بذلك خطّه وأنّه يؤديها في مدّة ثلاثين يوما.
فلمّا قرأ هارون بن غريب الرقعة قال:
« كأنّك ترجو أن تعيش ثلاثين يوما. » فخضع له المحسّن وقال له: « أفعل ما يأمر به الأمير. » قال: « أكتب بأنّك تؤدّيها في مدّة سبعة أيّام. » فارتجع الرقعة ليكتب بدلها. فلمّا حصلت في يده مضغها وبلعها وامتنع أن يكتب غيرها. فقيّد وغلّ وألبس جبّة صوف وضرب على رأسه بالدبابيس على أن يكتب ما كان كتبه فلم يكتب، فأعيد إلى محبسه وعذّب فيه بأنواع العذاب فلم يذعن بدرهم واحد.
الخاقاني يناظر ابن الفرات
فلمّا كان بعد ذلك حضر الأستاذ مونس ونصر الحاجب والقضاة والكتّاب مجلس الوزير الخاقاني وأحضر أبو الحسن ابن الفرات وناظره الخاقاني ولم يكن الخاقاني من رجاله، فكاد أبو الحسن ابن الفرات أن يأكله فكان فيما قال له:
« إنّك استغللت ضياعك في مدّة أحد عشر شهرا ألف ألف دينار. » فقال: « قد كانت هذه الضياع في يد عليّ بن عيسى عشر سنين أيّام وزارته وأيّام وزارة حامد بن العبّاس وما ارتفع له منها إلّا أربعمائة ألف دينار فقد ادّعيت لي المعجزات. » فقال له:
« أضفت حقوق ضياع السلطان إلى ضياعك. » فقال: « الدواوين لا يمكن أن يكتم ما فيها فتنظر في ارتفاع النواحي السلطانية في أيّام نظري فيها وفي ارتفاعها أيّام عليّ بن عيسى ووزارة حامد بن العبّاس ووزارة أبيك التي دبّرتها أنت حتى تعلم هل زادت ارتفاع ضياع السلطان في أيّامى أم نقصت. » ونوظر فيمن قتل وشنّع عليه بهم فقال:
« ليس يخلو من ذلك من أحد أمرين: إمّا أن يقال إني أنا قتلتهم فلم أغب عن الحضرة والقتل لا ينسب إليّ والمدّعى قتله بالبعد منها، وإمّا أن يقال كتبت خطّك بقتلهم وهؤلاء أصحاب المعاون وثقات السلطان وعمّال الخراج ووجوه متصرّفى عمّال السلطان قد حكّمتهم على نفسي. » فقيل له:
« قد قتلهم ابنك. » فقال: « أنا غير ابني وأنتم تناظروننى. »
فقال له ابن بعد الشرّ:
« إذا قتل ابنك الناس فأنت قتلتهم. » فقال له ابن الفرات:
« هذا غير ما حكم الله ورسوله، فإنّه عز وجل يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وقال النبي لرجل من أصحابه: أهذا ابنك؟
فقال: نعم. قال: أما إنّه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، ومع هذا فهو في أيديكم سلوه فإن وجب عليه قود بادّعاء قتل في موضع ناء عنه يقال فيه إنّ غيره تولّى قتله فالحكم في هذا معروف. » فتحيّر القوم في الجواب.
فقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب:
« إن رأى الحاجب أن يقول له حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أدّيت وإلّا سلّمتك إلى المحسّن، أكنت تسلّمه ليسقيه السويق والسكّر أو ليعذّبه؟ ومن أطلق التعذيب فقد أطلق القتل، لأنّ الإنسان قد يتلف بمقرعة واحدة يضرب بها فضلا عن غيرها. » فخاطبه نصر بذلك فقال في الجواب:
« إنّ الخليفة أطال الله بقاءه ولّى المحسّن وأنا إذ ذاك محبوس وهو مطلق فضمن ما ضمنه وجرى ذلك على يد مفلح وتوسّطه جماعة من ثقات السلطان. ثم لمّا تقلّدت الأمر كنت أحبّ الرفق بالناس وإذا ناظرتهم ورفقت بهم لم يذعنوا بما يلزمهم فإذا أقاموا على الامتناع سلّمتهم إلى من نصبه السلطان وأمر بتسليمهم إليه. » فقال له مونس:
« كأنّك تحيل على الخليفة في قتل الناس فإنّ الخليفة قال: ما أمرت بقتل أحد سوى ابن الحوارى فقط. » ثم أقبل نصر عليه فقال له:
« معي رسالة من الخليفة إليك فتسمعها وتجيب عنها. » قال: « وما هي؟ » قال: « يقول: سلّمت إليك قوما بمال ضمنته لي وأريد منك أحد أمرين:
إمّا وفّيتنى المال أو رددت عليّ القوم. » فقال ابن الفرات:
« أمّا المال فقد صحّ في بيت المال، وأمّا الرجال فما ضمنت أرواحهم ولا بقاءهم وقد تلفوا حتف آنافهم. » فقال له مونس المظفّر:
« هب أنّ لك في كلّ شيء عذرا وحجّة، أيّ عذر لك في إخراجى إلى الرقّة حتى كأنّى من العمّال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ » قال: « أنا أخرجتك؟ » قال: « فمن أخرجنى؟ » قال: « مولاك أمرنى بإخراجك. » قال: « مولاي لم يأمر بذلك. » قال: « معي حجّة بخطّه كتب إليّ رقعة احتفظت بها لأنّها بخطّه يشكو فيها أفعالك وقتا بعد وقت وفتحك البلدان بالمؤمن الغليظة ثم إغلاقك إيّاها بسوء تدبيرك وآثارك القبيحة. » قال: « وأين الرقعة؟ » قال: « في أيديكم في جملة المهمّات التي أمرت بحفظها في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطّى بالتحفّظ به من المهمات وفيها الأمر بإخراجك إلى الرقّة والتوكيل بك حتى تخرج. » فأمر الخاقاني بإحضار السفط فوجده مختوما بخاتم ابن الفرات ووجد فيه الرقعة بعينها وفيها جميع ما ذكر ابن الفرات بخطّ المقتدر فأخذها.
ومضى مونس من وقته إلى المقتدر حتى لقيه وأقرأه الرقعة فاغتاظ المقتدر على ابن الفرات غيظا شديدا، فأمر هارون بضربه بالسوط. فمضى هارون حتى ضرب ابن الفرات بين الهنبازين خمس درر فقط وقال له:
« يا هذا أذعن بمالك. » فأعطى خطّه بعشرين ألف دينار وقال:
« هذا مالي. » ثم أخرج المحسّن في الوقت فضربه ضرب التلف، فلم يذعن بشيء بتّة.
فصار هارون بن غريب إلى المقتدر بالله واستعفى من مناظرة ابن الفرات وابنه وقال:
« هؤلاء قوم ليس في عزمهم أن يؤدّوا شيئا البتّة وقد استقتلوا. » فأمر بتسليمهما إلى نازوك وبسط المكروه عليهما فأوقع نازوك بالمحسّن أنواع المكاره حتى تدوّد بدنه ولم يبق فيه فضل لمكروه. وضرب أبا الحسن ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يذعن بدرهم واحد.
واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني الوزير وقال له:
« ما رأيت شيئا ممّا ضمنته من أموال ابن الفرات وابنه صحّ. » فقال: « لأنّه لم يترك والتدبير. » وإنّ ابن الفرات لمّا عدل به عن مناظرة الكتّاب وسلّم إلى أصحاب السيوف يئس من الحياة فضنّ بالمال ونظر إليه ابنه فاقتدى به. » وقال نازوك للمقتدر:
« قد انتهيت بهؤلاء القوم من المكاره إلى الغاية حتى إنّ المحسّن مع ترفه قد تدوّد بدنه وصبر بعد ذلك على مكاره عظام لم يسمع بمثلها وقد مضت له الآن أيّام لم يطعم طعاما وإنّما يشرب الماء شربا يسيرا وهو في أكثر أوقاته مغشيّ عليه. » فقال المقتدر بالله:
« إذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من حملهما إلى دارى. » فأظهر مونس والجماعة:
« إنّ الصواب في ذلك. » وقال الخاقاني:
« قد وفّق الله أمير المؤمنين. » وخرجت الجماعة من حضرته.
فأسرّ الخاقاني إليهم وهم بعد مجتمعون في دار السلطان وقال:
« إن حمل ابن الفرات إلى دار الخليفة بذل أسبابه عنه وعن ابنه الأموال، وإذا وثق مع ذلك بالخليفة وحصل في داره أخرج أمواله وتوثّق لنفسه ولابنه، فإذا أمن على نفسه تضمّن الجماعة وحمل الخليفة على تسليمها إليه ويطمعه في أن يوفّر أرزاقها وإقطاعاتها وضياعها ويجمع له أموالا جليلة خطيرة. والوجه أن يقع التجمّع من القوّاد واليمين على أنّهم إن وقفوا على أنّ ابن الفرات وابنه حملا إلى دار الخليفة خلعوا الطاعة. » فقال مونس:
« هذا شيء إن لم نفعله لم يصف لنا عيش. » وتجرّد لهذه الحال هارون بن غريب ونازوك فجمعا القوّاد ووجوه الغلمان الحجريّة وكان يلبق يستحلفهم.
ذكر مقتل أبي الحسن ابن الفرات وابنه المحسن
ثم اجتمعوا بأسرهم إلى مونس ونصر وأظهروا ما في نفوسهم. فأشار مونس بأن يلتمس القوّاد نقل ابن الفرات وابنه إلى دار مونس فإن مات المحسّن استبقى أبوه. فقال له هارون بن غريب:
« إذا مات المحسّن لم يصلح أن يستبقى أبوه وكيف يوثق به وقد قتل ابنه حتى يؤمن على الملك؟ » ثم كاشفوا المقتدر بالله وقالوا بأجمعهم:
« إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء بأسرهم الطاعة. »
وواصل هارون بن غريب مخاطبة المقتدر في قتل هذين وقال:
« ليست آمن أن يجتمع الأولياء على البيعة لبعض بنى هاشم، ثم لا يتلافى الأمر. » وأرادت الجماعة من الوزير الخاقاني التجريد في ذلك فقال:
« لست أدخل في سفك الدماء وإنّما أشرت بألّا يحملا إلى دار السلطان، فأمّا قتله فخطأ، لأنّه ليس ينبغي أن يسهّل على الملوك ولا يحسّن لهم قتل أحد، فإنّهم متى فعلوا ذلك خفّ عليهم قتل خواصّهم حتى يأتوا عليهم بأدنى ذنب وخطإ يكون منهم. » فلمّا كان يوم الأحد لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر قدّم إلى ابن الفرات طعامه فأمر برفعه وقال:
« أنا صائم. » وحضر وقت الإفطار فقدّم إليه لمّا حضر وقت الطعام فقال:
« لست أفطر الليلة. » فحضر عنده من اجتهد به أن يفطر فقال:
« أنا مقتول في غد لا محالة. » فقيل له: « أعيذك بالله. » فقال: « بلى رأيت البارحة أخي أبا العبّاس رحمه الله في النوم وقال لي:
أنت تفطر عندنا يوم الاثنين بعد غد وما قال قطّ في النوم شيئا إلّا صحّ وغدا الاثنين وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن عليّ صلوات الله عليه. » فلمّا كان من الغد وهو يوم الاثنين انحدر الناس إلى دار الخليفة، فلم يصلوا فكتب هؤلاء الرؤساء بقتل ابن الفرات وابنه فأجابهم المقتدر أن:
« دعوني أنظر في ذلك. » فكتبوا إليه: أنّه إن تأخّر قتل ابن الفرات وابنه عن هذا اليوم جرى على المملكة ما لا يتلافى.
وكتب المقتدر إلى نازوك بأن يضرب أعناقهما ويحمل رؤوسهما إلى حضرته فقال نازوك:
« هذا أمر عظيم لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع. » فأمر المقتدر الأستاذين والخدم بالخروج إليه برسالته بإمضاء ما كتب به فخرجوا إليه بذلك فقال:
« لا أعمل على رسالة ولا بدّ من مشافهة بذلك. » وابن الفرات يراعى الخبر فلمّا قيل له إنّ الناس قد انصرفوا وإنّ نازوك انصرف إلى منزله سكن قليلا ثم قيل له:
إنّ نازوك قد عاد إلى دار السلطان.
فاضطرب جدا وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم فجلس في الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلا فيها ووجّه بعجيب خادمه ومعه السودان حتى ضرب عنق المحسّن وصار برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه فارتاع لذلك ارتياعا شديدا وعرض هو على السيف فقال لنازوك:
« يا با منصور ليس إلّا السيف؟ راجع أمير المؤمنين في أمري فإنّ لي أموالا عظيمة وودائع كثيرة وجواهر جليلة. » فقال له نازوك:
« قد جلّ الأمر عن هذا. »
وأمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس ابنه إلى المقتدر بالله فأمر بتغريقهما، فغرّقا في الفرات وغرّقت الجثتان في التمارين ببغداد.
وكانت سنّ أبي الحسن ابن الفرات رحمه الله يوم قتل إحدى وسبعين سنة وشهورا وسنّ ابنه المحسّن ثلاثا وثلاثين سنة.
حكم المنجم في ابن الفرات وابنه
وقد كان حكم العاصمي المنجّم في تلك السنة أنّه يخاف فيها على ابن الفرات نكبة وتلفا بالسيف وذكر ذلك في مولده الذي كان بين يديه، وحكم على مولد المحسّن أنّ عمره ثلاث وثلاثون سنة، فصحّ حكمه.
إطلاق القرمطي الحاج الأسرى عنده
وفي هذه السنة ورد كتاب الفارقي من البصرة يذكر أنّ كتاب أبي الهيجاء ابن حمدان ورد عليه من هجر يذكر أنّه كلّم أبا طاهر القرمطي في أمر من استأسر من الحاجّ وسأل إطلاقهم فوعده بهم وأنّه أحصى من عنده منهم فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين رجلا ومن النساء نحو خمسمائة امرأة.
ثم وردت الأخبار بورود قوم بعد قوم إلى أن كان آخر من ورد منهم أبو الهيجاء وأحمد بن بدر عمّ السيّدة. وقدم بقدوم أبي الهيجاء رسول أبي طاهر القرمطي يستدعى الإفراج عن البصرة والأهواز ونواح أخر فأنزل الرسول وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة ثم صرف ولم يقع إجابة إلى شيء ممّا التمس.
عدة حوادث
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)