حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله حين انصرف من الطائف على دحنا؛ حتى نزل الجعرانة بمن معه من المسلمين؛ وكان قدم سبي هوازن حين سار إلى الطائف إلى الجعرانة، فحبس بها؛ ثم أتته وفود هوازن بالجعرانة؛ وكان مع رسول الله من سبي هوازن من النساء والذراري عدد كثير، ومن الإبل ستة آلاف بعير، ومن الشاء ما لا يحصي.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد ابن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: أتى وفد هوازن رسول الله وهو بالجعرانة؛ وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة؛ وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفي عليك، فأمنن علينا من الله عليك! فقام رجل من هوازن - أحد بني سعد بن بكر، وكان بنو سعدهم الذين أرضعوا رسول الله - يقال له زهير بن صرد، وكان يكني بأبي صرد - فقال: يا رسول الله؛ إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك! ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل ما نزلت به، رجونا عطفه وعائدته، وأنت خير المكفولين! ثم قال:
أمنن علينا رسول الله في كرم ** فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر ** ممزق شملها، في دهرها غير
في أبيات قالها، فقال رسول الله ص: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله؛ خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا، فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم؛ فإذا أنا صليت بالناس، فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا؛ فسأعطيكم عند ذلك؛ وأسأل لكم؛ فلما صلى رسول الله ص بالناس الظهر، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله.
قال: يقول العباس لبني سليم: وهنتموني! فقال رسول الله ص: أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن عبيد السعدي أبو وجزة، أن رسول الله كان أعطي علي بن أبي طالب جارية من سبي حنين يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة بن هلال بن ناصرة بن قصية بن نصر بن سعد بن بكر، وأعطي عثمان جارية يقال لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطي عمر بن الخطاب جارية، فوهبها لعبد الله بن عمر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: أعطي رسول الله ص عمر بن الخطاب جارية من سبي هوازن، فوهبها لي، فبعث بها إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم؛ وأنا أريد أن أصيبها إذا رجعت إليها، قال: فخرجت من المسجد حين فرغت؛ فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ قالوا: رد علينا رسول الله نساءنا وأبناءنا، قال: قلت: تلكم صاحبتكم في بني جمح؛ أذهبوا فخذوها، فذهبوا إليها فأخذوها؛ وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزًا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزًا وأرى لها في الحي نسبًا؛ وعسى أن يعظم فداؤها! فلما رد رسول الله ص السبايا بست فرائض أبي أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك؛ فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا درها بماكد، ولا زوجها بواجد. فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال؛ فزعموا أن عيينة لقي الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك، فقال: والله إنك ما أخذتها بكرًا غريرة، ولا نصفًا وثيرة؛ فقال رسول الله لوفد هوازن، وسألهم عن مالك بن عوف: ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف؛ فقال رسول الله: أخبروا مالكًا أنه إن أتاني مسلمًا رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فأتى مالك بذلك؛ فخرج من الطائف إليه؛ وقد كان مالك خاف ثقيفًا على نفسه أن يعلموا أن رسول الله ص قال له ما قال، فيحبسوه، فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له فأتى به الطائف؛ فخرج ليلًا، فجلس على فرسه فركضه؛ حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس له، فركبها، فلحق برسول الله فأدركه بالجعرانة - أو بمكة - فرد عليه أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل، وأسلم فحسن إسلامه.
وأستعمله رسول الله على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل حول الطائف: ثمالة وسلمة وفهم؛ فكان يقاتل بهم ثقيفًا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، فقال أبو محجن ابن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي:
هابت الأعداء جانبنا ** ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم ** ناقضًا للعهد والحرمه
وأتونا في منازلنا ** ولقد كنا أولى نقمه
وهذا آخر حديث أبي وجزة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما أعطي رسول الله ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة؛ حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه! فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفئ الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد! قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي! قال: فأجمع لي قومك في الحظيرة، قال: فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاءه رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما أجتمعوا إليه أناه سعد فقال: قد أجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله ، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم! قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل! فقال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار! قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم، ولصدقتم؛ أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك؛ وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار؛ أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فو الذي نفس محمد بيده؛ لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار! اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وجظًا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا.
عمرة رسول الله من الجعرانة
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج رسول الله ص من الجعرانة معتمرًا، وأمر ببقايا الفئ، فحبس بمجنة، وهي بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله من عمرته وانصرف راجعًا إلى المدينة؛ أستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله ص ببقايا الفئ.
وكانت عمرة رسول الله في ذي القعدة، فقدم رسول الله ص المدينة في ذي القعدة أو في ذي الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه، وحج تلك السنة بالمسلمين عتاب بن أسيد؛ وهي سنة ثمان؛ وأقام أهل الطائف على شركهم وأمتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة، إذ انصرف رسول الله عنهم إلى شهر رمضان من سنة تسع.
قال الواقدي: لما قسم رسول الله ص الغنائم بين المسلمين بالجعرانة، أصاب كل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة؛ فمن كان منهم فارسًا أخذ سهم فرسه أيضًا. وقال أيضًا: قدم رسول الله ص المدينة لليال يقين من ذي الحجة من سفرته هذه.
قال: وفيها بعث رسول الله ص عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد مصدقًا، فخليا بينه وبين الصدقة، فأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم، وأخذ الجزية من المجوس الذين بها، وهم كانوا أهل البلد، والعرب كانوا يكونون حولها.
قال: وفيها تزوج رسول الله الكلابية التي يقال لها فاطمة بنت الضحاك بن سفيان، فأختارت الدنيا حين خيرت. وقيل: إنها أستعاذت من رسول الله، ففارقها. وذكر أن إبراهيم بن وثيمة بن مالك بن أوس بن الحدثان؛ حدثه عن أبي وجزة السعدي أن النبي تزوجها في ذي القعدة.
قال: وفيها ولدت مارية إبراهيم في ذي الحجة، فدفعه رسول الله إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر ابن غنم بن عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد ابن عوف بن مبذول بن عمر بن غنم بن عدي بن النجار؛ فكانت ترضعه.
قال: وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول الله ص؛ فخرجت إلى أبي رافع فأخبرته أنها ولدت غلامًا؛ فبشر به أبو رافع رسول الله، فوهب له مملوكًا.
قال: وغارت نساء رسول الله ص، وأشتد عليهن حين رزقت منه الولد.
ثم دخلت سنة تسع
وفيها قدم وفد بني أسد على رسول الله - فيما ذكر - فقالوا: قدمنا يا رسول الله قبل أن ترسل إلينا رسولًا، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم ".
وفيها قدم وفد بلى في شهر ربيع الأول، فنزلوا على رويفع بن ثابت البلوي. وفيها قدم وفد الداريين من لخم، وهم عشرة.
أمر ثقيف وإسلامها
وفيها قدم - في قول الواقدي - عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله ص مسلمًا، وكان من خبره - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق - أن رسول الله ص حين انصرف عن أهل الطائف أتبع أثره عروة بن مسعود بن معتب حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم؛ وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال رسول الله ص - كما يتحدث قومهم: إنهم قاتلوك؛ وعرف رسول الله أن فيهم نخوة بالامتناع الذي كان منهم - فقال له عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم - وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا - فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، ورجا ألا يخالفوه لمنزله فيهم؛ فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله؛ فتزعم بنو مالك، وتزعم الأحلاف أنه قتله رجل منهم من بني عتاب بن مالك، يقال له وهب بن جابر. فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله ص قال فيه: إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه.
وفيها قدم وفد أهل الطائف على رسول الله ص، قيل: إنهم قدموا عليه في شهر رمضان.
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرًا، ثم إنهم أئتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي، أن عمرو بن أمية أخا بني علاج كان مهاجرًا لعبد ياليل بن عمرو، الذي بينهما سييء - وكان عمرو بن أمية من أدهى العرب - فمشى إلى عبد ياليل بن عمرو وحتى دخل عليه داره، ثم أرسل إليه: إن عمرو بن أمية يقول لك: أخرج إلي، فقال عبد ياليل للرسول: ويحك! أعمرو أرسلك؟ قال: نعم، وهو ذا واقف في دارك.
فقال: إن هذا لشيء ما كنت أظنه! لعمرو كان أمنع في نفسه من ذلك. فلما رآه رحب به، وقال عمرو: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فأنظروا في أمركم. فعند ذلك أئتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا أقتطع به! فأئتمروا بينهم، وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله رجلًا، كما أرسلوا عروة، فكلموا عبد ياليل ابن عمرو بن عمير - وكان في سن عروة بن مسعود - وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشى أن يصنع به إذا رجع كما يصنع بعروة، فقال: لست فاعلًا حتى تبعثوا معي رجالًا، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك، فيكونوا ستة: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان أخو بني يسار، وأوس بن عوف أخو بني سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة أخو بلحارث؛ وبعثوا من الأخلاف مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب؛ فخرج بهم عبد ياليل - وهو ناب القوم وصاحب أمرهم؛ ولم يخرج إلا خشية من مثل ما صنع بعروة بن مسعود، ليشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه - فلما دنوا من المدينة، ونزلوا قناة لقوا بها المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله، وكانت رعيتها نوبًا على أصحابه، فلما رآهم المغيرة ترك الركاب وضبر يشتد ليبشر رسول الله بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قبل أن يدخل على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف أنهم قدموا يريدون البيعة والإسلام، بأن يشرط لهم شروطًا، ويكتتبوا من رسول الله كتابًا في قومهم وبلادهم وأموالهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر على رسول الله، فأخبره عن ركب ثقيف بقدومهم، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله ص، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولما أن قدموا على رسول الله ص ضرب عليهم قبة في ناحية مسجده - كما يزعمون - وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله ص؛ حتى أكتتبوا كتابهم؛ وكان خالد هو الذي كتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعامًا يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد؛ حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم - وقد كان فيما سألوا رسول الله ص أن يدع الطاغية؛ وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين؛ فأبى رسول الله ذلك عليهم؛ فما برحوا يسألونه سنة سنة، فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم؛ فأبى أن يدعها شيئًا يسمى؛ وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام - فأبى رسول الله ذلك إلا أن يبعث آبا سفيان بن حرب والمغيرة ابن شعبة فيهدماها؛ وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم؛ فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه؛ وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه؛ فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة.
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله كتابهم؛ أمر عليهم عثمان بن أبي العاص - وكان من أحدثهم سنًا - وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن، فقال أبو بكر لرسول الله ص: يا رسول الله؛ إني قد رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة، قال: فلما خرجوا من عند رسول الله صص وتوجهوا إلى بلادهم راجعين، بعث رسول الله ص أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في هدم الطاغية، فخرجا مع القوم؛ حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: أدخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بما له بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه دونه - بنو معتب - خشية أن يرمي أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرًا يبكين عليها، ويقلن:
ألا أبكين دفاع ** أسلمها الرضاع
لم يحسنوا المصاع قال: ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لك! واهًا لك! فلما هدمها المغيرة أخذ مالها وحليها وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله ص أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود، فقضى منه دينهما.
وفي هذه السنة غزا رسول الله ص غزوة تبوك.
ذكر الخبر عن غزوة تبوك
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: أقام رسول الله ص بالمدينة بعد منصرفه من الطائف، ما بين ذي الحجة إلى رجب.
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم؛ كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض، وكل قد أجتمع حديثه في هذا الحديث. إن رسول الله ص أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم؛ وذلك في زمن عسرة من الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد؛ وحين طابت الثمار وأحبت الظلال؛ فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله قلمًا يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له؛ ألا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشفة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم.
فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه لما فيه؛ مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم؛ فقال رسول الله ص ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك ياجد العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني! فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء منى؛ وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله ص وقال: قد أذنت لك؛ ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: " ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني " الآية؛ أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر - وليس ذلك به - فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم؛ وإن جهنم لمن ورائه. وقال قائل من المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكًا في الحق، وإرجافًا بالرسول، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون " إلى قوله: " جزاء بما كانوا يكسبون ".
ثم إن رسول الله جد في سفره، فأمر الناس بالجهاز والأنكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، ورغبهم في ذلك، فحمل رجال من أهل الغنى فأحتسبوا، وأنفق عثمان ابن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم من نفقته.
ثم إن رجالًا من المسلمين أتوا رسول الله؛ وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، فأستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة، فقال: " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون ". قال: فبلغني أن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحًا فأرتحلاه، وزودهما شيئًا من تمر، فخرجا مع رسول الله ص.
قال: وجاء المعذرون من الأعراب، فأعتذروا إليه فلم يعذرهم الله عز وجل؛ وذكر لي أنهم كانوا من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.
ثم استتب برسول الله ص سفره، وأجمع السير؛ وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا أرتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف؛ وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم، فلما خرج رسول الله ص ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على حدة أسفل منه بحذاء ذباب؛ جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع. وكان - فيما يزعمون - ليس بأقل العسكرين؛ فلما سار رسول الله تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب - وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع؛ وكانوا من عظماء المنافقين؛ وكانوا ممن يكيد الإسلام وأهله.
قال: وفيهم - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري - أنزل الله عز وجل: " لقد أتبغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور "، الآية.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، وأستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، أخا بني غفار، فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب، وقالوا: ما خلفه إلا أستثقالا له، وتخففًا منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ على سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو بالجرف فقال: يا نبي الله؛ زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ أنك أستثقلتني وتخففت مني! فقال: كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي، فأرجع فأخلفني في أهلي وأهلك؛ أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى المدينة، ومضى رسول الله على سفره.
ثم إن أبا خيثمة أخا بني سالم رجع - بعد أن سار رسول الله ص أيامًا - إلى أهله في يوم حار، فوجد أمرأتين له في عريشين لهما في حائط، قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا؛ فلما دخل فقام على باب العريشين؛ فنظر إلى أمرأتيه وما صنعتا له، قال: رسول الله في الضح والريح، وأبو خيثمة في ظلال باردة وماء بارد وطعام مهيإ وأمرأة حسناء، في ماله مقيم! ما هذا بالنصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله؛ فهيئا لي زادًا؛ ففعلتا. ثم قدم ناضحه فأرتحله، ثم خرج في طلب رسول الله ص حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله ص، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتى رسول الله ص. ففعل، ثم سار حتى إذا دنا من رسول الله ص وهو نازل بتبوك، قال الناس: يا رسول الله، هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله: كن أبا خيثمة! فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة! فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله ، فقال له رسول الله: أولى لك يا أبا خيثمة! ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله ص خيرًا، ودعا له بخير.
وقد كان رسول الله حين مر بالحجر نزلها وأستقى الناس من بئرها، فلما راحوا منها قال رسول الله ص: لا تشربوا من مائها شيئًا، ولا تتوضئوا منها للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له؛ ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله ص إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فأحتملته الريح حتى طرحته في جبلي طيئ، فأخبر بذلك رسول الله ص فقال: ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحب له! ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ؛ فإن طيئًا هدته لرسول الله ص حين قدم المدينة.
قال أبو جعفر: والحديث عن الرجلين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي: فلما أصبح الناس - ولا ماء معهم - شكوا ذلك إلى رسول الله ص، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى أرتوي الناس، وأحتملوا حاجتهم من الماء.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم؛ والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه ومن عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضًا على ذلك؛ ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله ص حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان، ودعا رسول الله ص حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى أرتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء! قال: سحابة مارة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)