صفحة 6 من 9 الأولىالأولى ... 45678 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 24 من 33

الموضوع: مقدمة ابن خلدون - الجزء الخامس


  1. #21
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    في المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم. و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض. و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. و يسمون هذا الصدور بالتجلي. و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية. و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق. و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل. و ربما أنكر بظاهر الشرع. هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه. يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها. و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة. و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه. لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال. و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال. و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره. و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية. هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا. و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره. و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم. و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم. و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد. و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم و نحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه و هو من هذا المعنى أيضا. و إلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه و لا طريقة في لباس و لا حال. بل كان أبو بكر و عمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكثرهم عبادة. و لم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين و الزهد و المجاهدة. تشهد بذلك سيرهم و أخبارهم، نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم. و الذي يظهر أني المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، و ظهر كلامهم في الإمامة و ما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر و الباطن و جعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع، و أفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر و أن يكون على وزانه في الباطن و سموه قطبا لمدار المعرفة عليه، و جعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك. يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي و ما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #22
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات و إنما هو مأخوذ من كلام الشيعة و الرافضة و مذاهبهم في كتبهم. و الله يهدي إلى الحق. تذييل: و قد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أ بيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها و بقوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته تثنيه أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده و نعت من ينعته لاحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجمود على كل من وحد الواحد و لفظ الإلحاد على من نعته و وصفه. و استبشعوا هذه الأبيات و حملوا قائلها على الكفر و استخفوه. و نحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتقاء عين الحدوث بثبوت عين القدم و أن الوجود كله حقيقة واحدة وانية واحدة. و قد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر و عين ما بطن. و يرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. و هم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال و الصدا و المرأى. و أن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. و هذا معنى: كان الله، و لا شيء معه، و هو الآن على ما هو عليه كان عندهم. و معنى قول كبير الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله: ألا كل شيء، ما خلا الله باطل. قالوا: فمن وحد و نعت، فقد قال بموجد محدث. هو نفسه، و توحيد محدث هو فعله، موجود قدير، هو معبود. و قد تقدم معنى التوحيد انتقاء عين الحدوث، و عين الحدوث، الآن ثابتة بل متعددة، و التوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، و هما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت ! و قد قال بعض المحققين في قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان و هو فعل لابد من وقوعه في الزمان. و إنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق و عجز اللغات عن تأدية الحق فيها و بها. فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد، و عدم ما سواه جملة. صح التوحيد حقيقة. و هذا معنى قولهم لا يعرف الله إلا الله و لا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم و الآثار، و إنما هو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين. لأن ذلك لازم التقييد و العبودية و الشفعية. و من ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا، مع علمه بمرتبته، و أنه تلبيس تستلزمه العبودية و يرمعه الشهود و يطهر من دنس حدوثه عين الجمع. و أعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. و مدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، و إنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض و التنبيه و التفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية و يحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. و عبارة: فمن سلم استراح و من نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه و بصره. و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. و الذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه و لا خبر عنه. و هذا المقدار من الإشارة كاف. و التعمق في مثل هذا حجاب. و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات، و نقلته من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة. و سماه التعريف بالحب الشريف. و قد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا. إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له. لطول عهدي به. و الله الموفق. ثم إن كثيرا من الفقهاء و أهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات و أمثالها و شملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. و الحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات و ما يحصل من الأذواق و المواجد و محاسبة النفس على أعمالها لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما و يترقى منة إلى غيره كما قلناه و ثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية و العرش و الكرسي والملائكة و الوحي و النبؤة و الروح و حقائق كل موجود غائب أو شاهد و تركيب الألوان في صدورها عن موجودها و تكونها كما مر، و ثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، و رابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر و محسن و متأول. فأما الكلام في المجاهدات و المقامات و ما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها و محاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد و أذواقهم فيه صحيحة و التحقق بها هو عين السعادة. و أما الكلام في كرامات القوم و أخبارهم بالمغيبات و تصرفهم في الكائنات. فأمر صحيح غير منكر. و إن مآل بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. و ما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي و هو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات و إنكارها نوع مكابرة. و قد وقع للصحابة و أكابر السلف كثير من ذلك و هو معلوم مشهور. و أما الكلام في الكشف و إعطاء حقائق العلويات و ترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم و فاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. و اللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للتعارف و أكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك و نتركه فيما تركناه من المتشابه و من رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة. و أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات و يوآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس و الواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور. فمن علم منهم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا و أمثاله و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي و أمثاله. و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فموآخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فموآخذ أيضا. و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله. و الله أعلم. و سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع و الاقتداء ما استطاعوا. و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه و لم يحفل به بل يفرون منه و يرون أنة من العوائق و المحن و أنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك و منعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه و الوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع و الاقتداء و يأمرون أصحابهم بالتزامها. و هكذا ينبغي أن يكون حال المريد و الله الموفق للصواب.


  • #23
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل الثامن عشر: في علم تعبير الرؤيا هذا العلم من العلوم الشرعية و هو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع و كتب الناس فيها. و أما الرؤيا و التعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف. و ربما كان في الملوك و الأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. و إلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق و لابد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن. و كذلك ثبت عن الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أبي بكر رضي الله عنه و الرؤيا مدرك من مدارك الغيب. و قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبؤة. و قال: لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين و إعزازه. و أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انحبس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان و الروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته و ذاته عين الإدراك. و إنما يمنع من تعلقه للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن و قواه و حواشه. فلو قد خلا من هذا الحجاب و تجرد عنه لرجع إلى حقيقته و هو عين الإدراك فيعقل كل مدرك. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له و هو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها و هي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه. و إذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. و المدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية و المتصرف منها هو الخيال. فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر و الاستدلال. و كذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول و الخيال واسطة بينهما. و لذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة و يدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنة محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. و الخيال أيضا واسطة. هذه حقيقة الرؤيا. و من هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. و لكن إن كانت تلك الصور متتزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا. و إن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام. و اعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها و تشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله مما ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنة يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة و لو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن و عوارضه، و منها ثبوت ذلك الإدراك و دوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخيلها سهو و لا نسيان. و لا يحتاج إلى إحضارها بالفكر و التذكير، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. و لا يغرب عنه شيء منها، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني و لا يلحقه ترتبت، بل يدركه دفعة في زمن فرد. و أضغاث الأحلام زمانية. لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. و أفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك و المتقدم و المتأخر. و يعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. و ليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية، و لا ترتيب فيها. و ما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. و قد تبقى الرؤيا بعد الانتباه. حاضرة في الحفظ أياما من العمر. لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قويا، و إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر و الوجهة إليها، و ينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة، و إنما هي من أضغاث الأحلام. و هذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه و الرؤيا لها نسبة من النبوة و الوحي كما في الصحيح. قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة فلخواصها أيضا نسبة إلى خواص النبوة. بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحق. و الله الخالق لما يشاء. و أما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركة و ألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ و هو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة و أن المدرك وراءها و هو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا: هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان و كذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها و كذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك. و من المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها و وضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك و شبهه. و لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل و التي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير و الرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث. و اعلم أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه. فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس و ما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر و لا العدو بالحية و لا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه و إنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها و مناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات و المشمومات. و ليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير و فسد قانونه. ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه. و تأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الهم والأمر الفادح. و مثل ما يقولون: الحية تدل على العدو، و في موضع آخر يقولون: هي كاتم سر، و في موضع آخر يقولون: تدل على الحياة و أمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، و يعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا. و تلك القرائن منها في اليقظة و منها في النوم و منها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه و كل ميسر لما خلق له. و لم يزل هذا العلم فتناقلا بين السلف. و كان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء و كتب عنه في ذلك القوانين و تناقلها الناس لهذا العهد. و ألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون و أكثروا. و المتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع و غيره و كتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه و أحضرها. و كذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. و هو علم مضيء ينور النبؤة للمناسبة التي بينهما و لكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح و الله علام الغيوب.


  • #24
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل التاسع عشر: في العلوم العقلية و أصنافها و أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها. و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة. و تسمى هذه العلوم علوم الفلسفة و الحكمة و هي مشتملة على أربعة علوم: الأول علم المنطق و هو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة و فائدته تمييز الخطأ من الصواب. فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية و المكونة عنها من المعدن و النبات و الحيوان و الأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. و النفس التي تنبعث عنها الحركات و غير ذلك. و يسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي و هو العلم الثاني منها. و إما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و هو الثالث منها. و العلم الرابع و هو الناظر في المقادير و يشتمل على أربعة علوم و تسمى التعاليم. أولها: علم الهندسة و هو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة و هي إما ذو بعد واحد و هو الخط أو ذو بعدين و في السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة و هو الجسم التعليمي. ينظر في هذه المقادير و ما يعرض لها إما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. و ثانيها علم الأرتماطيقي و هو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد و يؤخذ له من الخواص و العوارض اللاحقة. و ثالثها علم الموسيقى و هو معرفة نسب الأصوات و النغم بعضها من بعض و تقديرها بالعدد و ثمرته معرفة تلاحين الغناء. و رابعها علم الهيئة و هو تعيين الأشكال للأفلاك و حصر أوضاعها و تعددها لكل كوكب من السيارة و الثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها و من رجوعها و استقامتها و إقبالها و إدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفية و هي سبعة: المنطق و هو المقدم منها و بعده التعاليم فالأرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب و من فروع علم العدد علم الحساب والفرائض و المعاملات و من فروع الهيئة الأزياج و هي قوانين لحساب حركات الكواكب و تعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك و من فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجومية و نحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها. و اعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام و هما فارس و الروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدولة و السلطان قبل الإسلام و عصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم و أمصارهم. و كان للكلدانيين و من قبلهم من السريانيين و من عاصرهم من القبط عناية بالسحر و النجامة و ما يتبعها من الطلاسم و أخذ ذلك عنهم الأمم من فارس و يونان فاختص بها القبط و طمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت و ماروت و شأن السحرة و ما نقله أهل العلم من شأن البراري بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك و تحريمه فدرست علومه و بطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. و الله أعلم بصحتها. مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. و أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما و نطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة و اتصال الملك. و لقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا و غلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم و علومهم. إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، و أصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر و لما فتحت أرض فارس و وجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها و تنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. و أما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا و كان لهذه العلوم بينهم مجال رحب و حملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة و غيرهم. و اختص فيها المشاءون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم كانوا يقرؤون في رواق يظلم من الشمس و البرد على ما زعموا. و اتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي، و تامسطيون و غيرهم. و كان أرسطو معلما للأسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم و انتزع الملك من أيديهم. و كان أرسخهم في هذه العلوم قدما و أبعدهم فيه صيتا و شهرة. و كان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان و صار الأمر للقياصرة و أخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل و الشرائع فيها. و بقيت في صحفها و دواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام و كتب هذه العلوم باقية فيهم. ثم جاء الله بالإسلام و كان لأهله الظهور الذي لا كفاء له و ابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. و ابتدأ أمرهم بالسذاجة و الغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح من السلطان و الدولة و أخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم و تفننوا في الصنائع و العلوم. تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة و الأقسة المعاهدين بعض ذكر منها و بما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها. فبغث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس و بعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون و اطلعوا على ما فيها و ازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها. و جاء المأمون بعد ذلك و كانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا و أوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين و انتساخها بالخط العربي و بعث المترجمين لذلك فأوعى منه و استوعب. و عكف عليها النظار من أهل الإسلام و حذقوا في فنونها و انتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. و خالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول و اختصوه بالرد و القبول لوقوف الشهرة عنده. و دونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم و كان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي و أبو علي بن سينا بالمشرق و القاضي أبو الوليد بن رشد و الوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. و اختص هؤلاء بالشهرة والذكر و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم و ما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر و الطلسمات. و وقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق و مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس و تلميذه. و دخل على الملة من هذه العلوم و أهلها داخلة و استهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها و الذنب في ذلك لمن ارتكبه. و لو شاء الله ما فعلوه. ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما و تناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس و تحت رقبة من علماء السنة. و يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة و خصوصا في عراق العجم و ما بعده فيما وراء النهر و أنهم على بح من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم و استحكام الحضارة فيهم. و لقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام و أصول الفقه و البيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. و في أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية و قدما عالية في سائر الفنون العقلية و الله يؤيد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة و ما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق و أن رسومها هناك. متجددة و مجالس تعليمها متعددة و دواوينها جامعة متوفرة و طلبتها متكثرة و الله أعلم بما هنالك و هو يخلق ما يشاء و يختار.

  • صفحة 6 من 9 الأولىالأولى ... 45678 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. مقدمة ابن خلدون - الجزء الرابع
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 72
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 03:15 AM
    2. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:47 AM
    3. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:24 AM
    4. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM
    5. باب الحارة الجزء الخامس
      بواسطة En.muhammed manla في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 03-09-2010, 12:41 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1