ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في أيام قباذ في مملكته وبين عماله
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقى الحارث بن عمرو بن حجر ابن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة قتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهدٌ، وإني أحب أن القاك.
وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه، واستضعفه الناس، فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عددٍ وعدة حتى التقوا بقنطرة الفيوم، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواة، وأمر بطبق فجعل فيه تمر فيه نواه، ثم وضعا بين أيديهما، فجعل الذي فيه النوى يلي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه يلي قباذ. فجعل الحارث يأكل التمر ويلقي النوى، وجعل قباذ يأكل ما يليه. وقال للحارث: مالك لا تأكل مثل ما آكل! فقال: له الحارث إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. وعلم أن قباذ يهزأ به، ثم اصطلحا على أن يورد الحارث بن عمرو ومن أحب من أصحابه خيولهم الفرات إلى ألبابها، ولا يجاوزا أكثر من ذلك. فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف طمع في السواد، فأمر أصحاب مسالحه أن يقطعوا الفرات فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهم بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يحب لقاءه. فلقيه، فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد قبلك، فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوصٌ من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود، قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا، فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيج، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبعٍ وهو باليمن: إنى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فاجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شيءٌ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق. فجمع تبعٌ الجنود، وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهرًا إلى النجف ففعل، وهو نهر الحيرة. فنزل عليه ووجه ابن أخيه شمرًا ذا الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، وأمضى تبعٌ شمرًا ذا الجناح إلى خراسان، ووجه تبع ابنه حسان إلى الصغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كل واحد منهما في جيشٍ عظيم؛ يقال: كانا في ستمائة ألفٍ وأربعين ألفًا. وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم، وهو الذي يقول:
أيا صاح عجبك للداهية ** لحمير إذ نزلوا الجابيه!
ثمانون ألفًا رواياهمو ** لكل ثمانية راويه
فسار يعفر حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ثم مضى إلى رومية وبينهما مسيرة أربعة أشهر، فحاصرها وأصاب من معه جوعٌ، ووقع فيهم طاعونٌ فرقوا، فأبصرهم الروم وما لقوا، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وسار شمرٌ ذو الجناح حتى أتى سمرقند، فحاصرها فلم يظفر بشيءٍ منها. فلما رأى ذلك أطاف بالحرس، حتى أخذ رجلًا من أهلها، فسأله عن المدينة وملكها، فقال له: أما ملكها فأحمق الناس، ليس له هم إلا الشراب والأكل، وله ابنة وهي التي تقضى أمر الناس. فبعث معه بهدية إليها، فقال له: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتنكحني نفسها؛ فأصيب منها غلامًا يملك العجم والعرب، وأنى لم أجئ ألتمس المال، وأن معي أربعة الآف تابوت من ذهب وفضة هاهنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضي إلى الصين، فإن كانت الأرض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها. فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كل تابوتٍ رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل بابٍ منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدم في ذلك إلى رسله الذين وجه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهد شمر في الناس؛ فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها. ثم سار إلى الصين، فلقى زخوف الترك فهزمهم، ومضى إلى الصين فوجد حسان بن تبع قد كان سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها - فيما ذكر بعض الناس - حتى ماتا. وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة.
قال: وقال من زعم أنهما أقاما بالصين حتى هلكا: إن تبعًا جعل النار فيما بينه وبينهم، فكان إذا حدث حدثٌ أوقدوا النار بالليل، فأتى الخبر في ليلة، وجعل آية ما بينه وبينهم أن أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثًا فهو هلاك تبع، وإن كانت من عندهم نارٌ فهو هلاك حسان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما. فمكثوا بذلك.
ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثًا فكان هلاك تبع.
قال: وأما الحديث المجتمع عليه فإن شمرًا وحسان انصرفا في الطريق الذي كانا أخذا فيه حيث بدآ، حتى قدما على تبع بما حازا من الأموال بالصين، وصنوف الجوهر والطيب والسبى، ثم انصرفوا جميعًا إلى بلادهم، وسار تبع حتى قدم مكة، فنزل بالشعب من المطابخ، وكانت وفاة تبع باليمن، فلم يخرج أحدٌ من ملوك اليمن بعده عنها غازيًا إلى شيء من البلاد، وكان ملكه مائةً وإحدى وعشرين سنة.
قال: ويقال إنه كان دخل في دين اليهود للأحبار الذين كانوا خرجوا من يثرب مع تبع إلى مكة عدةٌ كثيرة.
قال: ويقولون: إن علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار، وكان كعب الأحبار رجلًا من حمير.
وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الاخر، وأنه تبع تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، وهوأبو حسان، حدثنا بذلك ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عنه.
ذكر ملك كسرى أنوشروان
ثم ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور. فلما ملك كتب إلى أربعة فاذوسبانين - كان كل واحد منهم على ناحية من نواحي بلاد فارس ومن قبلهم - كتبًا نسخة كتابه منها إلى فاذوسبان أذربيجان: بسم الله الرحمن الرحيم: من الملك كسرى بن قباذ إلى وارى ابن النخير جان فاذوسبان أذربيجان وأرمينية وحيزها، ود نباوند وطبرستان وحيزها، ومن قبله: سلام، فإن أحرى ما استوحش له الناس فقد من تخوفوا في فقدهم إياه زوال النعم ووقوع الفتن، وحلول المكاره بالأفضل فالأفضل منهم، في نفسه أو حشمه أو ماله أو كريمه، وإنا لا نعلم وحشةً ولا فقد شيء أجل رزيئةً عند العامة، ولا أحرى أن تعم به البلية من فقد ملكٍ صالح.
وإن كسرى لما استحكم له الملك أبطل ملة رجلٍ منافقٍ من أهل فسا يقال له: " زراذشت بن خرّكان " ابتدعها في المجوسية، فتابعه الناس على بدعته تلك، وفاق أمره فيها، وكان ممن دعا العامة إليها رجلٌ من أهل مذرية يقال له: " مزدق بن بامداذ، وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به، وحثهم عليه من الدين كان مكرمةً في الفعال، ورضًا في التفاوض. فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاءٌ عظيمٌ لم يكن لهم عهدٌ بمثله. فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيءٍ مما ابتدع زراذشت خرّكان، ومزدق بن بامداذ، وأبطل بدعتهما، وقتل بشرًا كثيرًا ثبتوا عليها، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها، وقومًا من المنانية، وثبت للمجوس ملتهم التي لم يزالوا عليها.
وكان يلي الإصبهبذة - وهي الرياسة على الجنود - قبل ملكه رجلٌ، وكان إليه إصبهبذة البلاد، ففرق كسرى هذه الولاية والمرتبة بين أربعة إصبهذين، منهم أصبهذ المشرق وهو خراسان وما والاها، وأصبهذ المغرب، وأصبهذ نيمروز؛ وهي بلاد اليمن، وأصبهذ أذربيجان وما والاها، وهي بلاد الخزر، وما والاها؛ لما رأى في ذلك من النظام لملكه، وقوى المقاتلة بالأسلحة والكراع، وارتجع بلادًا كانت من مملكة فارس، خرج بعضها من يد الملك قباذ إلى ملوك الأمم لعلل شتى وأسباب، منها السند، وبست، والرخج، وزايلستان، وطخارستان، ودردستان، وكابلستان، وأعظم القتل في أمةٍ يقال لها البارز، وأجلى بقيتهم عن بلادهم وأسكنهم مواضع من بلاد مملكته، وأذعنوا له بالعبودية، واستعان بهم في حروبه، وأمر فأسرت أمةٌ أخرى، يقال لها صول، وقدم بهم عليه، وأمر بهم فقتلوا، ما خلا ثمانين رجلا من كماتهم استحياهم، وأمر بإنزالهم شهرام فيروز، يستعين بهم في حروبه.
وإن أمةً يقال لها أبخز، وأمةً يقال لها بنجر، وأمة يقال لها بلنجر، وأمةً يقال لها ألّان؛ تمالئوا على غزو بلاده، وأقبلوا إلى أرمينية ليغيروا على أهلها، وكان مسلكهم إليها يومئذ سهلًا ممكنًا، فأغضى كسرى على ما كان منهم، حتى إذا تمكنوا في بلاده وجه إليهم جنودًا، فقاتلوهم واصطلموهم ما خلا عشرة آلاف رجلٍ منهم أسروا، فأسكنوا أذربيجان وما والاها، وكان الملك فيروز بنى في ناحية صول وألّان بناءً بصخرٍ أراده، أن يحصن بلاده عن تناول تلك الأمم إياها، وأحدث الملك قباذ بن فيروز من بعد أبيه في تلك المواطن بناءً كثيرًا، حتى إذا ملك كسرى أمر فبنيت في ناحية صول بصخرٍ منحوتٍ في ناحية جرجان مدنٌ وحصونٌ وآكامٌ وبنيانٌ كثيرٌ، ليكون حرزًا لأهل بلاده يلجئون إليها من عدوٍ إن داهمهم.
وإن سنجبوا خاقان كان أمنع الترك وأشجعهم، وأعزهم وأكثرهم جنودًا، وهو الذي قاتل وزر ملك الهياطلة غير خائف كثرة الهياطلة ومنعتهم، فقتل وزر ملكها وعامة جنوده، وغنم أموالهم، واحتوى على بلادهم إلا ما كان كسرى غلب عليه منها، وإنه استمال أبخز، وبنجر، وبلنجر؛ فمنحوه طاعتهم وأعلموه أن ملوك فارس لم يزالوا يتقونهم بفداء يكفونهم به عن غزو بلادهم، وإنه أقبل في مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل حتى شارف ما والى بلاد صول؛ وأرسل إلى كسرى في توعدٍ منه إياه واستطالةٍ عليه، أن يبعث إليه بأموالٍ، وإلى أبخز وبنجر وبلنجر بالفداء الذي كانوا يعطونه إياه قبل ملك كسرى، وأنه إن لم يعجِّل بالبعثة إليه بما سأل وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى بوعيده، ولم يجبه إلى شيء مما سأله لتحصينه كان ناحية باب صول، ومناعة السبل والفجاج التي كان سنجبوا خاقان سالكها إياه، ولمعرفته كانت بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية بخمسة آلاف مقاتلٍ من الفرسان والرجالة.
فبلغ سنجبوا خاقان تحصين كسرى ثغر صول، فانصرف بمن كان معه إلى بلاده خائبًا، ولم يقدر من كان بإزاء جرجان من العدو - للحصون التي كان أمر كسرى فبنيت حواليها - أن يشنوها بغارةٍ، ويغلبوا عليها، وكان كسرى أنوشروان قد عرف الناس منه فضلًا في رأيه وعلمه وعقله، وبأسه وحزمه، مع رأفته ورحمته بهم، فلما عقد التاج على رأسه دخل إليه العظماء والأشراف فاجتهدوا في الدعاء له، فلما قضوا مقالتهم، قام خطيبًا، فبدأ بذكر نعم الله على خلقه عند خلقه إياهم، وتوكله بتدبير أمورهم، وتقدير الأقوات والمعايش لهم، ولم يدع شيئًا إلا ذكره في خطبته، ثم أعلم الناس ما ابتلوا به من ضياع أمورهم، وامحاء دينهم، وفساد حالهم في أولادهم ومعاشهم، وأعلمهم أنه ناظرٌ فيما يصلح ذلك ويحسمه، وحث الناس على معاونته.
ثم أمر برءوس المزدكية فضربت اعناقهم، وقسمت أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعةً كثيرةً ممن كان دخل على الناس في أموالهم، ورد الأموال إلى أهلها، وأمر بكل مولودٍ اختلف فيه عنده أن يلحق بمن هو منهم؛ إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبًا من مال الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها، وبرضى أهلها. ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده، وبين تزويجٍ من غيره؛ إلا أن يكون كان لها زوج أول، فترد إليه. وأمر بكل من كان أضر برجل في ماله أو ركب أحدًا بمظلمة أن يؤخذ منه الحق ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. وأمر بعيال ذوي الأحساب الذي مات قيمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح شبانهم من بيوتات الأشراف وساق عنهم، وأغناهم، وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله، وخيّر نساء والده بين أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصرن في الأجر إلى أمثالهن، أو يبتغي لهن أكفاءهن من البعولة. وأمر بكري الأنهار، وحفر القنى وإسلاف أصحاب العمارات وتقويتهم؛ وأمر بإعادة كل جسر قطع أو قنطرة كسرت، أو قرية خربت أن يرد ذلك إلى أحسن ما كان عليه من الصلاح، وتفقد الأساورة، فمن لم يكن له منهم يسار قواه بالدواب والعدة، وأجرى لهم ما يقويهم ووكل ببيوت النيران، وسهّل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمال والولاة، وتقدم إلى من ولي منهم أبلغ التقدم، وعمد إلى سير أردشير وكتبه وقضاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها، فلما استوثق له الملك، ودانت له البلاد سار نحو أنطاكية بعد سنين من ملكه، وكان فيها عظماء جنود قيصر، فافتتحها. ثم أمر أن تصور له مدينة أنطاكية على ذرعها وعدد منازلها وطرقها، وجميع ما فيها، وأن يبتنى له على صورتها مدينة إلى جنب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالرومية على صورة أنطاكية، ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إياها.
فلما دخلوا باب المدينة مضى أهل كل بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية؛ كأنهم لم يخرجوا عنها.
ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخلّف طائفة من جنوده بأرض الروم، بعد أن أذعن له قيصر وحمل إليه الفدية، ثم انصرف من الروم، فأخذ نحو الخزر فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيته. ثم انصرف نحو عدن، فسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء تلك البلاد.
ثم انصرف إلى المدائن؛ وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن.
وملّك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم أقام في ملكه بالمدائن، وتعاهد ما كان يحتاج إلى تعاهده. ثم سار بعد ذلك إلى الهياطلة مطالبًا بوتر فيروز جده - وقد كان أنوشروان صاهر خاقان قبل ذلك - فكتب إليه قبل شخوصه يعلمه ما عزم عليه، ويأمره بالمسير إلى الهياطلة. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة.
ثم انصرف من خراسان، فلما صار بالمدائن وافاه قوم يستنصرونه على الحبشة، فبعث معهم قائدًا من قواده في جند من أهل الديلم وما يليها، فقتلوا مسروقًا الحبشي باليمن، وأقاموا بها.
ولم يزل مظفرًا منصورًا تهابه جميع الأمم، ويحضر بابه من وفودهم عدد كثير من الترك والصين والخزر ونظرائهم، وكان مكرمًا للعلماء.
وملك ثمانيًا وأربعين سنة، وكان مولد النبي في آخر ملك أنوشروان.
قال هشام: وكان ملك أنوشروان سبعًا وأربعين سنة. قال: وفي زمانه ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ، في سنة اثنتين وأربعين من سلطانه.
قال هشام: لما قوي شأن أنوشروان بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر - وأمه ماء السماء امرأة من النمر - فملّكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو، آكل المرار. فلما يزل على ذلك حتى هلك.
قال: وأنوشروان غزا بزجان، ثم رجع فبنى الباب والأبواب.
وقال هشام: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان - وأمه هر ابنة النعمان - سبع سنين.
ثم ملك بعده النعمان بن الأسود بن المنذر - وأمه أم الملك ابنة عمرو بن حجر أخت الحارث بن عمرو الكندي - أربع سنين.
ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور ابن أسس بن ربى بن نمارة بن لخم، ثلاث سنين.
ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء - وهو ذو القرنين، قال: وإنما سمي بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، وأمه ماء السماء، وهي مارية ابنة عوف ابن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضيحان ابن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط؛ فكان جميع ملكه تسعًا وأربعين سنة.
ثم ملك ابنة عمرو بن المنذر - وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار - ست عشرة سنة.
قال: ولثماني سنين وثمانية أشهر من ملك عمرو بن هند ولد رسول الله ؛ وذلك في زمن أنوشروان وعام الفيل الذي غزا فيه الأشرم أبو يكسوم البيت.
ذكر بقية خبر تبع أيام قباذ وزمن أنوشروان وتوجيه الفرس الجيش إلى اليمن لقتال الحبشة وسبب توجيهه إياهم إليها
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر وهو تبّان أسعدأبو كرب حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وقد كان حين مر بها في بدءته لم يهج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنًا له، فقتل غيلة، فقدمها وهو مجمع لإخرابها، واستئصال أهلها وقطع نخلها؛ فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره ليمتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن الطلة، أحد بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول؛ فخرجوا لقتاله. وكان تبّع حين نزل بهم، قد قتل رجل منهم - من بني عدي بن النجار يقال له أحمر - رجلا من أصحاب تبّع، وجده في عذق له يجده، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّره، ثم ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة يقال لها: ذات تومان. فزاد ذلك تبّعًا عليهم حنقًا.
فبينا تبّع على ذلك من حربه وحربهم يقاتلهم ويقاتلونه - قال: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم؛ ويقول: والله إن قومنا هؤلاء لكرام - إذ جاءه حبران من أحبار يهود منهم من بني قريظة، عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك لا تفعل؛ فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره. فتناهى عند ذلك من قولهما عما كان يريد بالمدينة، ورأى أن لهما علمًا، وأعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، وخرج بهما معه إلى اليمن واتبعهما على دينهما. وكان اسم الحبرين كعبًا وأسدًا، وكانا من بني قريظة، وكانا ابني عم، وكانا أعلم أهل زمانهما كما ذكر لي ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق؛ عن يزيد بن عمرو؛ عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك، عن أشياخ من قومه ممن أدرك الجاهلية؛ فقال شاعر من الأنصار وهو خال ابن عبد العزى بن غزية بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، في حربهم وحرب تبّع، يفتخر بعمرو بن طلة ويذكر فضله وامتناعه:
أصحا أم انتهى ذكره ** أم قضى من لذةٍ وطره
أم تذكرت الشباب وما ** ذكرك الشباب أو عصره!
إنها حربٌ رباعيةٌ ** مثلها آتى الفتى عبره
فسلا عمران أو فسلا ** أسدًا إذ يغدو مع الزهره
فيلقٌ فيهاأبو كربٍ ** سابغًا أبدانها ذفره
ثم قالوا من يؤم بها ** ابني عوفٍ أم النجره
يا بني النجار إن لنا ** فيهم قبل الأوان تره
فتلقتهم عشنقةٌ ** مدها كالغبية النثره
سيدٌ سامي الملوك ومن ** يغز عمرًا لا يجد قدره
وقال رجل من الأنصار، يذكر امتناعهم من تبّع:
تكلفني من تكاليفها ** نخيل الأساويف والمنصعه
نخيلًا حمتها بنو مالكٍ ** خيول أبي كرب المفظعه
قال: وكان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة - وهي طريقه إلى اليمن - حتى إذا كان بالدف من جمدان بين عسفان وأمج، في طريقه بين مكة والمدينة، أتاه نفر من هذيل، فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر، قد أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده. وإنما يريد الهذليون بذلك هلاكه لما قد عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده.
فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك؛ ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعًا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق عنده رأسك وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك؛ ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوا حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك. أو كما قالا له.
فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم. ثم مضى حتى قدم مكة، وأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل؛ فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وألا يقربوه دمًا ولا ميتة ولا مئلاثًا وهي المحائض، وجعل له بابًا ومفتاحًا، ثم خرج متوجهًا إلى اليمن بمن معه من جنوده، وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة ابن عبيد الله يحدث أن تبّعًا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دينٌ خير دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم - قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نارٌ تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم - فلما قالوا ذلك لتبع قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج النار منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر فصبروا، حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما، لم تضرهما، فأصفقت حمير عند ذلك على دينه؛ فمن هناك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن الحبرين ومن خرج معهما من حمير؛ إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجالٌ من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها فلم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه؛ فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، وكان رئام بيتًا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم ويلعب بهم، فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به؛ فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبًا أسود، فذبحاه وهدما ذلك البيت؛ فبقاياه اليوم باليمن - كما ذكر لي - وهو رئام به آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
فقال تبع في مسيرة ذلك وما كان هم به من أمر المدينة وشأن البيت وما صنع برجال هذيل الذين قالوا له ما قالوا، وما صنع بالبيت حين قدم مكة من كسوته وتطهيره، وما ذكر له الحبران من أمر رسول الله :
ما بال نومك مثل نوم الأرمد ** أرقًا كأنك لا تزال تسهد
حنقًا على سبطين حلَّا يثربًا ** أولى لهم بعقاب يومٍ مفسد!
ولقد نزلت من المدينة منزلًا ** طاب المبيت به وطاب المرقد
وجعلت عرصة منزلٍ برباوةٍ ** بين العقيق إلى بقيع الغرقد
ولقد تركنا لابها وقرارها ** وسباخها فرشت بقاعٍ أجرد
ولقد هبطنا يثربًا وصدورنا ** تغلي بلابلها بقتلٍ محصد
ولقد حلفت يمين صبرٍ مؤليًا ** قسمًا لعمرك ليس بالمتردد
إن جئت يثرب لا أغادر وسطها ** عذقًا ولا بسرًا بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالمٌ ** حبرٌ لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قريةٍ محفوظةٍ ** لنبي مكة من قريشٍ مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ ** وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه ** يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا ** نفرًا أولي حسبٍ وبأسٍ يحمد
نفرًا يكون النصر في أعقابهم ** أرجو بذاك ثواب رب محمد
ما كنت أحسب أن بيتًا طاهرًا ** لله في بطحاء مكة يعبد
حتى أتاني من هذيلٍ أعبدٌ ** بالدف من جمدان فوق المسند
قالوا بمكة بيت مالٍ داثرٍ ** وكنوزه من لؤلؤٍ وزبرجد
فأردت أمرًا حال ربي دونه ** والله يدفع عن خراب المسجد
فرددت ما أملت فيه وفيهم ** وتركتهم مثلًا لأهل المشهد
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ** ملكًا تدين له الملوك وتحشد
ملك المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب علم من حكيمٍ مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ** في عين ذي خلبٍ وثأطٍ حرمد
من قبله بلقيس كانت عمتي ** ملكتهم حتى أتاها الهدهد
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: هذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وأنه أراد هلاكهم حين قدم عليهم المدينة، فمنعوه منهم، حتى انصرف عنهم ولذلك قال في شعره:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)