~ ~ ~ ~ ~
نظل ساهرات حتى ساعة متأخرة من الليل، الأمر الذي يجعل نشاطنا و حيويتنا محدودين في النهار التالي...
أنا و ابنتا خالتي نهلة و سارة لا نجد ما نفعله إلا الحديث و مشاهدة التلفاز و قراءة المجلات!
" أوف ! أشعر بالضجر ! نهلة ما رأيك في الذهاب إلى السوق ؟ "
قلت و أنا أزيح المنشفة عن شعري بملل ...
تفكّر نهلة قليلا ثم تقول :
"في هذا الصباح؟؟...إمممم... حسنا... تبدو فكرة جميلة!! "
و تسارع سارة بالقول :
" سأذهب معكما "
و هذه الـ سارة تلازمنا ما لا يكاد يقل عن 24 ساعة في اليوم !
قالت نهلة:
" إذن تولي أنت ِ إخبار أمّي و إقناع حسام بمرافقتنا ! "
و لم تكد نهلة تنهي جملتها إلا و سارة قد ( طارت ) لتنفيذ الأوامر!
ضحكنا قليلا... ثم باشرت بتسريح شعري أمام المرآة... كنت قد أنهيت حمامي الصباحي قبل قليل و تركت قطرات الماء تنساب من شعري على ظهري بعفوية...
وقفت ابنة خالتي خلفي تراقبني...
" طال شعرك رغد... ألن تقصّيه ؟ "
و قد كنت معتادة على قص شعري كلما طال، فالشعر الطويل لا يروق لي و لا يناسب ملامح وجهي ! هكذا كانت دانة تقول دوما...
" لم يكن بإمكاني ذلك قبل الآن..."
و أضفت :
" آه ... لقد كنت حبيسة الحجاب طوال شهور "
و أنا أسترجع ذكريات عيشي في المزرعة تحت أنظار وليد و العجوز
لقد كان المنزل صغيرا و لم أكن استطيع التجوّل بأرجائه بحرية و لم أكن أغادر غرفة النوم إلا بحجابي و عباءتي ... و جواربي أيضا !
أما هنا... فأنا أتحرّك بحرية في الطابق العلوي بعيدا عن أعين حسام و أبيه...
أما عينا نهلة فلا تزالان تتفحصانني!
قالت :
" و يبدو أنك كذلك نحفت ِ بعض الشيء يا رغد ! أنظري... تظهر ندبتك و كأنها قد كبرت قليلا"
و هي تمسك بذراعي الأيسر مشيرة إلى الندبة القديمة التي تركها الجمر عليها عندما أحرقني قبل سنين...
" مع أنني كنت آكل جيدا في المزرعة ! "
" كيف كانت حياتك في المزرعة ؟ "
تنهّدت تنهيدة طويلة و رفعت رأسي إلى السقف... كم من الوقت مضى و أنا سجينة هناك !
و بالرغم من قربي من وليد، لم أكن أشعر إلا بالضيق من وجود الشقراء الدخيلة... و لم تكن الأيام تمر بسلام...
" آه يا نهلة... حياة بسيطة جدا... ليس فيها أي شيء... هم يعملون في المزرعة و أنا أرسمها!... كانت جميلة و لكن العيش فيها أشبه بالعيش في السجن "
و وصفت لها شيئا من أحوالي هناك و كيف أنني افتقدت الحرية حتى في أبسط الأشياء و عانيت من الغربة و بعض المشاكل مع أروى
و حالما جئت بذكر اسم هذه الأخيرة عبست ُ بوجهي !
لاحظت نهلة ذلك... ثم قالت :
"إنها جميلة جدا! كم هو محظوظ ابن عمّك ! "
و لا أدري إن قالت ذلك عفويا أو عمدا لإزعاجي ! رفعت فرشاة شعري أمام وجهها و هددتها بالضرب !
نهلة ضحكت و ابتعدت بمرح... أما أنا فتملكني الشرود و الحزن، و لما رأت ذلك نهلة أقبلت و أخذت تداعب خصلات شعري المبلل و تربت علي ّ و تقول :
" أنت ِ أيضا جميلة يا رغد... الأعمى من لا يلحظ ذلك !"
قلت :
" لكنها أجمل منّي بكثير... و عندما تتزين تصبح لوحة فنيّة مذهلة... لا يمكن المقارنة بيننا "
قالت:
" و لم أصلا المقارنة بينكما ؟ أنت رغد و هي أروى "
قلت بصوت منكسر :
" نعم... أنا رغد اليتيمة المعدومة... لا أم و لا أب و بيت و لا مال... و هي أروى الحسناء الثرية صاحبة أكبر ثروة في المدينة الساحلية و إحدى أجمل المزارع في المدينة الزراعية... من سيلتفت إلي إزاء ما لديها هي ؟؟ "
و رميت بالفرشاة جانبا في غضب...
نهلة نظرت إلى مطولا ثم قالت :
" و ماذا بعد ذلك؟ هل ستتوقفين عن حب ابن عمّك هذا ؟ "
أتوقف؟
و كأن الأمر بيدي... لا أستطيع ...
أغمضت عيني في إشارة منّي إلى العجز...
" إذن... ماذا ستفعلين؟ الأمر تعقد الآن و الرجل قد تزوج ! "
قلت بسرعة :
" لا لم يتزوج ... خطب فقط... و يمكن أن ينهي علاقته بالشقراء في أي وقت "
و لأن نظرات الاستنكار علت وجه نهلة أضفت :
" فأنا بعد أكثر من أربع سنوات من الخطوبة الحميمة انفصلت عن خطيبي "
نهلة هزت رأسها بأسى... ثم قالت :
" رغد... هل تعتقدين أن هذه الفكرة هي التي تدور برأس ابن عمّك؟ الرجل قد ارتبط بفتاة أخرى و ربما هو يحبها و يعد للزواج منها ! "
قلت بغضب:
" و ماذا عنّي أنا ؟؟ "
نظرت إلى بتمعن و قالت و هي تشير بسبابتها اليمنى :
" أنت أيضا... ستتزوجين رجلا يحبّك و يحترمك كثيرا... وينتظر منك الإشارة "
و هنا أقبلت سارة تقول :
" حسام موافق ! "
~ ~ ~ ~ ~
اصطحبنا حسام بسيارته الصغيرة الضيقة إلى السوق و ظل مرافقا لنا طوال الوقت...
قضينا فترة لا بأس بها هناك ومع ذلك لم يبدِ تذمرا! بل كان غاية في اللطف و التعاون، و السرور كذلك...!
اشتريت العديد من الأشياء...
تعرفون أنه لم يعد عندي ما يكفي من الملابس و الحاجيات ... و أن أشيائي قد احترقت في بيتنا الحزين... و أن القليل الذي اقتنيته لاحقا تركته في المزرعة
كنت أنفق بلا حساب! فالمبلغ الذي تركه وليد معي... كبير و مغر ٍ...
حقيقة شعرت بالخجل و أنا آخذ ظرف النقود منه، و لكنني بالفعل بحاجة إليها... و حتى النقود التي تركها لي أبي رحمه الله قبل سفره إلى الحج، و التي لم أنفق منها ما يذكر، احترقت في مكانها في البيت...
و حتى بقايا رماد البيت المحروق... لم يكن لي نصيب في ورثها...
بعد أن فرغنا من مهمة التسوق اللذيذة عدنا إلى المنزل و ارتديت بعضا من أشيائي الجديدة شاعرة بسعادة لا توصف
فيما بعد... قررنا أنا و خالتي و أبناؤها التنزه في حديقة المنزل...
أبو حسام كان يحب حديقة منزله و يعتني بها جيدا، و بعد أن احترقت شجيراتها في القصف الجوي آنفا، أعاد زراعة و تنظيم الأشجار و العشب... و دبّت الحياة في تلك الحديقة مجددا..
كنت قد اخترت من بين ملابسي الجديدة جلابية زرقاء فضفاضة طويلة الكمين، و وشاحا طويلا داكن اللون، و خاتما فيروزيا براقا لأقضي بهم نزهتي داخل حديقة المنزل...
الجو كان لطيفا و أنسام الهواء عليلة و نشطة... الشمس قد احمر ذيلها في الأفق... و تسابقت غيوم خفيفة على حجب حمرتها الأخاذة عن أعين الناظرين... بينما امتدت الظلال الطويلة على العشب... مضفية عليه خضرة نضرة...
المنظر من حولي خلاب و مبهج للغاية... إنها بدايات الشتاء...
فرشنا بساطا كبيرا على العشب الرطب، و جلسنا نحن الخمسة فوقه نتناول المكسرات و نتبادل الأحاديث... و نتسلى بلعبة الألغاز الورقية !
لقد كنت آنذاك مسرورة و مرتاحة... و غاية في الحيوية و المرح !
~~~~~~~~~~
عندما فـُتـِحت البوابة، وجدت ُ حسام في استقبالي...
تبادلنا التحية و لم يحاول إخفاء علامات التعجب و الاستنكار الجلية على وجهه و هو يستقبلني دون سابق إعلام...
دعاني للدخول، فسرت إلى جانبه و أنا أشعر ببعض الحرج من زيارتي المفاجئة هذه...
هنا وصلتني أصوات ضحكات جعلتني التفت تلقائيا نحو المصدر...
على بساط مفروش فوق العشب في قلب الحديقة كانت أربع نسوة يجلسن في شبه حلقه مستديرة...
جميعهن التفت إلي ّ لدى ظهوري في الصورة و جميعهن أخرسن ألسنتهن و بدين مندهشات !
غضضت بصري و تنحنحت ثم ألقيت التحية... و سمعت الرد من أم حسام مرحبة بي...
" تفضّل يا وليد... أهلا بك... "
قال حسام :
" تعال شاركنا "
و هو يحثّني على السير نحو البساط... و أضاف :
" كنا نتسلى بالألغاز ! الجو منعش جدا "
وقفت شقيقة حسام الكبرى ثم الصغرى هامتين بالانصراف فقلت :
" كلا... معذرة على إزعاجكم كنت فقط أود إلقاء التحية و الاطمئنان على ابنة عمّي"
أم حسام قالت مباشرة :
" أي إزعاج يا وليد؟ البيت بيتك و نحن أهلك... تفضّل بني "
" شكرا لك خالتي أم حسام... أدام الله عزك "
كل هذا و عيني تحدّق في العشب في خجل...
و تمكنت من رفعهما أخيرا بحثا عن رغد... و رأيتها جالسة بين ابنتي خالتها... و هي الأخرى تبعثر نظراتها على العشب !
يا إلهي كم اشتقت إليها !... لا أصدق أنها أمامي أخيرا...
" كيف حالك يا رغد ؟ "
التفتت رغد يمنة و يسرة كأنها تبحث عن مصدر الصوت!
هذا أنا يا رغد ! هل نسيت صوتي ؟؟
ثم رأيتها تبتسم و يتورد خداها و تجيب بصوت خافت :
" بخير "
لم يكن جوابا شافيا ! أنا أريد أن أعرف تفاصيل كل ما حصل مذ تركتك ِ هنا تلك الليلة و حتى هذه اللحظة ! ألا تعلمين كم كنت مشغول البال بك ؟؟
" كيف تسير أمورك صغيرتي ؟ "
و ابتسمت ابتسامة أكبر... و قالت :
" بخير ! "
بخير ... بخير !
كل هذا و هي لا ترفع نظرها عن العشب الرطب...
قلت :
" الحمد لله... "
قالت أم حسام :
" تفضّل بالجلوس "
قال حسام :
" سأصطحبه إلى المجلس ... "
و خاطبني :
" تفضّل وليد "
لم أجد بدا من مرافقته ... فذهبت تاركا عقلي مرميا و مبعثرا هو الآخر فوق ذات العشب !
في ذلك المجلس كان أبو حسام يشاهد الأخبار ... و بعد الترحيب بي فتحنا موضوع المظاهرات و العمليات الاستشهادية النشطة و عمليات الاعتقال و الاغتيالات العشوائية التي تعيشها البلدة بشكل مكثف في الآونة الأخيرة...
و كذلك المنظمات السرية المعادية التي يتم الإيقاع بعملائها و زجّهم إلى السجون أو قتلهم يوما بعد يوم...
الأنباء أثارت في نفسي كآبة شديدة و مخاوف متفاقمة خصوصا بعد أن علمت من أبي حسام عن تورط بعض معارفه في إحدى المنظمات المهددة بالخطر...
و حكيت له الصعوبات التي واجهناها مع السلطات أثناء رحلتـَي ذهابنا و عودتنا إلى و من المدينة الساحلية...
و تعرفون كم أكره الشرطة و أرعب منهم...
فيما بعد... خرجنا نحن الثلاثة من المنزل قاصدين الذهاب إلى المسجد...
و نحن نعبر الحديقة رأيت رغد مع ابنتي خالتها و هن لا يزلن يجلسن على ذلك البساط و يلهون بأوراق الألغاز...
حسام هتف سائلا :
" من فاقكن ذكاء ؟ "
أجابت شقيقته الصغرى :
" رغد ! إنها ذكية جدا "
ضحك حسام و قال :
" استعيري شيئا منها ! "
و انطلقت ضحكة عفوية من رغد...
حسام قال بمرح :
"... سأغلبك ِ في الجولة المقبلة يا رغد ! استعدّي "
قالت رغد و هي تنظر إله بتحد :
" قبلت التحدّي ! "
حسام ضحك و قال بإصرار :
" سترين أنا عبقريتي... انتظري فقط ! "
و ضحكت رغد بمرح...
كل هذا و أنا... واقف أسمع و أتفرج و أخرس لساني و أكتم في صدري غضبا شديدا...
~~~~~~~~
~ ~ ~ ~ ~
" فيم تحدّقين ؟ "
سألتني نهلة و هي تراني أحملق في البوابة... التي أغلقها حسام بعد خروجه و أبيه و وليد قبل قليل...
قلت :
" هل رأيت ِ كيف يبدو حسام إلى جانبه ؟ كواحد من الأقزام السبعة ! "
تعجّبت نهلة و بدا أنها لم تفهم شيئا !
قلت:
" أراهن أنه سيلحق بهما بسيارته... يستحيل على هذا الشيء أن يدخل سيارة شقيقك تلك! إلا إذا أخرج رأسه من فتحة السقف ! "
و أخذت سارة تضحك بشدّة !
لا أدري إن لشيء فهمته أو لشيء لم تفهمه!
وقفت ُ بعد ذلك و أخذت ُ أمدد أطرافي و استنشق الهواء العليل... شاعرة بسعادة تغمر قلبي... و برغبة هوسية في معانقة الهواء!
أخذت ُ أدندن بمرح... و أمشي حافية على العشب بخفة... كعصفور على وشك الطيران...
نهلة أصدرت أصواتا خشنة من حنجرتها للفت انتباهي فاستدرت إليها و وجدتها تراقبني باهتمام...
إنني أشعر بالدماء تتحرك بغزارة في شعيرات وجهي... و متأكدة من أنني في هذه اللحظة حمراء اللون !
" رغد يا صغيرتي كيف تسير أمورك ؟ "
قالت ذلك نهلة و هي تهب واقفة على أطراف أصابعها و تنفخ صدرها و ترفع كتفيها و تضغط على حبالها الصوتية ليظهر صوتها خشنا، فيما تقطب حاجبيها لتقلّد وليد !
و مرة أخرى تنفجر سارة ضحكا... و تثير عجبي!
إنها غبية في أحيان كثيرة و لكن يبدو أن ذكاءها محتد هذا الساعة !
قلت موضحة :
" إنه يناديني بالصغيرة منذ طفولتي ما الجديد في ذلك ؟ "
و نهلة لا تزال قاطبة حاجبيها و تردد :
" رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي ! رغد يا صغيرتي "
و سارة لا تزال تضحك !
قلت :
" و لأني يتيمة... فهو يعاملني كابنته! و طلب منّي اعتباره أبي ! "
و نظرت الفتاتان إلى بعضهما و ضحكتا بشدة !
قلت و أنا أولي هاربة :
" أوه... خير لي أن أذهب لتأدية الصلاة ! أنتما لا تطاقان ! "
لم يكن لحضور وليد قلبي أي هدف غير الاطمئنان علي، لذا فإنه هم بالمغادرة بعد ذلك مباشرة لولا أن العائلة ألحت عليه لتناول العشاء معنا...
أنا أيضا كنت أريد منه أن يبقى فمجرد وجوده على مقربة... يمنحني شعورا لا يمكن لأي إنسان منحي شعورا مماثلا له
آه لو تعلمون...
كم في البعد من شوق و كم في القرب من لهفة...
كيف سارت حياتي بدونك يا وليد؟؟
كيف استطعت العيش طوال هذه الأيام بعيدة عنك؟؟
و كيف سأتحمّل رحيلك... و كيف سأطيق الذهاب معك ؟؟
بعد العشاء، وليد و حسام و أبوه خرجوا و جلسوا في الحديقة على نفس البساط الذي كنا نجلس عليه...
كان الجو رائعا تلك الليلة، لا يقاوم...
و من داخل المنزل فتحت النافذة المطلة على الحديقة سامحة لنسمات الليل و ضوء القمر، و الأصوات كذلك، بالتسلل إلى الداخل... بينما أنا أراقب عن كثب... تحركات وليد !
كان وليد غاية في الأدب و اللباقة... كان قليل الحديث أو الضحك... مغايرا لحسام المزوح الانفعالي...
و بدا فارق السن بينهما جليا في طريقة حديثهما و تحركهما بل و حتى في الطريقة التي يشربان بها القهوة !
بإدراك أو بدونه... كنت أسترق السمع إلى أي كلمة تخرج من لسان وليد و أراقب حتى أتفه حركة تصدر منه... بل و حتى من خصلات شعره الكثيف و الهواء يعبث بها ...
" ما الذي تراقبه الصغيرة الجميلة ؟ "
قالت نهلة و هي تنظر إلي بمكر... فهي تعرف جيدا ما الذي يثير اهتمامي في قلب الحديقة !
قلت بتحد :
" بابا وليد ! "
كادت تطلق ضحكة كبيرة لولا أنني وضعت كفي فوق فمها و كتمت ضحكتها
" اخفضي صوتك ! سيسمعونك ! "
أزاحت نهلة يدي بعيدا و مثلت الضحك بصوت منخفض و من ثم قالت :
" مسكين وليد ! عليه أن يرعى طفله بهذا الحجم ! "
و فتحت ذراعيها أقصاهما... كنت ُ أعرف أنها لن تدعني و شأني ... هممت ُ بإغلاق النافذة فأصدرت صوتا... فرأيت حسام يلوّح بيده نحونا و يهتف :
" رغد... تعالي "
تبادلت و نهلة النظرات و بقيت مكاني...
قال حسام :
" وليد يرغب في الحديث معك "
عندها ابتعدت عن النافذة و وضعت يدي على صدري أتحسس ضربات قلبي التي تدفقت بسرعة فجأة...
نهلة نظرت إلي من طرف عينيها و قالت مازحة ساخرة :
" هيا يا صغيرتي المطيعة ... اذهبي لأبيك "
و لما لم تظهر على وجهي التعبيرات التي توقعتها بدا الجد في نظراتها و سألتني:
" ما الأمر ؟؟ "
قلت و أنا مكفهرة الوجه و يدي لا تزال على صدري :
" لا بد أنه سيغادر الآن... "
نظرت إلي نهلة باستغراب... بالطبع سيغادر... و جميعنا نعلم أنه سيغادر!... ما الجديد في الأمر...؟؟
قلت :
" لا أريده أن يبتعد عني يا نهلة... لا أحتمل فراقه... أريده أن يبقى معي... و لي وحدي... أتفهمين ؟؟ "
في وسط الحديقة... على العشب المبلل برذاذ الماء... و بين نسمات الهواء الرائعة المدغدغة لكل ما تلامسه... و تحت نور باهت منبعث من القمر المتربع بغرور على عرش السماء... وقفنا وجها لوجه أنا و وليد قلبي...
لأصف لكم مدى لهفتي إليه... سأحتاج وقتا طويلا... و لكن الفرصة ضئيلة أمامي... و العد التنازلي قد بدأ...
حسام و أبوه دخلا المنزل تاركـَين لنا حرية الحديث بمفردنا... و إن كنت لا أعرف أي حديث سيدور في لحظة كهذه ...؟
نسمات الهواء أخذت تشتد و تحوّلت دغدغاتها إلى لكمات خفيفة لكل ما تصادفه
وليد بدأ الحديث من هذه النقطة :
" يبدو أن الريح ستشتد... إنه إنذار باقتراب الشتاء ! "
" نعم... "
" المكان هنا رائع... "
و هو يشير إلى الحديقة من حوله...
" أجل... "
و نظر إلي و قال :
" و يبدو أنك تستمتعين بوقتك هنا... "
هززت رأسي إيجابا...
قال بصوت دافئ حنون :
" هل أنتِ ... مرتاحة ؟ "
قلت بسرعة :
" بالطبع... "
ابتسم برضا ... ثم قال :
" يسرني سماع ذلك... الحمد لله "
هربت من نظراته و سلطت بصري على العشب... ثم سمعته يقول :
" ألا... تريدين... العودة إلى المزرعة ؟ "
رفعت رأسي بسرعة و قد اضطربت ملامح وجهي...
وليد قال بصوت خافت :
" لا تقلقي... فأنا لن أجبرك على الذهاب معي... "
ثم أضاف :
" أريد راحتك و سعادتك يا رغد... و سأنفذ ما ترغبين به أنت ِ مهما كان... "
قلت موضحة :
" أنا مرتاحة هنا بين أهلي... "
و كأن الجملة جرحته ... فتكلّم بألم :
" أنا أيضا أهلك يا رغد... "
تداركت مصححة :
" نعم يا وليد و لكن ... و لكن ... "
و ظهرت صورة الشقراء مشوهة أي جمال لهذه اللحظة الرائعة ...
أتممت :
" ولكنني... سأظل أشعر بالغربة و التطفل هناك... لن يحبني أحد كما تحبني خالتي و عائلتها... و لن أحب أحدا لا تربطني به دماء واحدة ..."
نظر إلي ّ وليد بأسى ثم قال :
" تعنين أروى ...؟ "
فلم أجب، فقال :
" إنها تحبك و كذلك الخالة... و هما تبعثان إليك بالتحيات "
قلت :
" سلّمهما الله... أنا لا أنكر جميلهما و العجوز علي... و لو كان لدي ما أكافئهم به لفعلت... لكن كما تعلم أنا فتاة يتيمة و معدومة... و بعد رحيلهما لم يترك والداك لي شيئا بطبيعة الحال... "
و هنا توتر وليد و قال باستنكار :
" لم تقولين ذلك يا رغد ؟؟ "
قلت مصرة :
" هذه هي الحقيقة التي لا يجدي تحريفها شيئا... أنا في الحقيقة مجرّد فتاة يتيمة عالة على الآخرين... و لن أجد من يطيقني و بصدر رحب غير خالتي "
و ربما أثرت جملتي به كثيرا... فهو قد لاذ بالصمت لبعض الوقت... ثم نطق أخيرا:
" على كل... لا داعي لأن نفسد جمال هذه الليلة بأمور مزعجة... "
ثم ابتسم ابتسامة شقّت طريقها بين جبال الأسى و قال:
" المهم أن تكون صغيرتي مرتاحة و راضية... "
ابتسمت ممتنة...
قال :
" حسنا... يجب أن أذهب الآن قبل أن يتأخر الوقت أكثر... "
تسارعت ضربات قلبي أكثر... لم أكن أريده أن يرحل... ليته يبقى معنا ليلة واحدة...أرجوك لا تذهب يا وليد...
قال :
" أتأمرين بأي شيء ؟ "
ليتني أستطيع أمرك بألا ترحل يا وليد !
قلت :
" شكرا لك "
كرر سؤاله :
" ألا تحتاجين لأي شيء ؟ أخبريني صغيرتي أينقصك أي شيء؟؟ "
" كلا... "
" لا تترددي في طلب ما تحتاجينه منّي... أرجوك رغد... "
ابتسمت و قلت :
" شكرا لك... "
وليد أدخل يده في جيبه ! أوه كلا ! هل يظن أنني أنفقت تلك الكومة من النقود بهذه السرعة ؟ لست مبذرة لهذا الحد !
كدت ُ أقول ( كلا ! لا أحتاج نقودا ) لكنني حين رأيت هاتفه المحمول يخرج من جيبه حمدت الله أن ألجم لساني عن التهور !
و للعجب... وليد قدّم هاتفه إلي ّ !
" ابقي هذا معك... اتصلي بي في المزرعة متى احتجت لأي شيء..."
نظرت إليه باندهاش فقال :
" هكذا استطيع الاتصال بك و الاطمئنان على أوضاعك كلما لزم الأمر دون حرج"
بقيت أحدق في الهاتف و في وليد مندهشة ...
" و ... لكن ... !! "
صدر التلكين منّي فقال وليد :
" لا تقلقي، سأقتني آخر عاجلا... يمكنني الاستغناء عنه الآن ... خذيه "
و بتردد مددت يدي اليمنى و أخذت الهاتف فيما وليد يراقب حركة يدي بتمعن !
قال :
" لا تنسي... اتصلي بي في أي وقت... "
" حسنا... شكرا لك "
وليد ابتسم بارتياح... ثم بدا عليه بعض الانزعاج و قال :
" سأنصرف الآن و لكن... "
و لم يتم جملته، كان مترددا و كأنه يخشى قول ما ود قوله... تكلمت أنا مشجعة :
" لكن ماذا وليد ؟؟ "
أظن أن وجه وليد قد احمر ! أو هكذا تخيّلته تحت ضوء القمر و المصابيح الليلية الباهتة...
وليد أخيرا نظر إلى عيني ثم إلى يدي الممسكة بالهاتف ثم إلى العشب... و قال:
" ارتدي عباءتك حينما يكون حسام أو أبوه حاضرين "
ذهلت... و كاد قلبي يتوقف... و حملقت في وليد باندهاش ...
وليد تراجع ببصره من العشب، إلى يدي، إلى عيني ّ و واصل :
" و لا داعي لوضع الخواتم في حال وجودهما... "
الدماء تفجرت في وجهي ... طأطأت ُ برأسي نحو الأرض في حرج شديد... توقفت أنفاسي عن التحرك من و إلى صدري و إن ظلّت الريح تعبث بوجهي و وشاحي الطويل... في حين حاولت يدي اليسرى تغطية خاتمي الفيروزي الجديد في يدي اليمنى ...
وليد حاول تلطيف الموقف فقال مداعبا :
" و لكن افعلي ما يحلو لك ِ في غيابنا "
ثم قال مغيرا المسار و خاتما اللقاء :
" حسنا صغيرتي... أتركك في رعاية الله ... "
~~~~~~~~
عمل رائع أختي أستمري
لتوصل معي على الفيس بوك بإمكان اضافتي على الحساب التالي :
https://www.facebook.com/Microsoft.Engineer
نصائح واستشارات امنية في مجال امن المعلومات والإتصالات
كبار استشاري امن المعلومات في شركة مايكروسوفت
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 16 (0 من الأعضاء و 16 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)