ذكر سوء سياسة اتفق على أبرويز في جنده حتى ظهر الروم عليه
لم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم. الذي كان نصره، ويهاديه، إلى أن وثبت الروم عليه في شيء أنكروه منه، فقتلوه وملّكوا غيره. فبلغ ذلك أبرويز، فامتعض، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن الملك المقتول اللاجئ إليه، وتوّجه، وملّكه على الروم، ووجّه معه جنودا كثيفة مع شهر براز، فدوّخ بهم البلاد، وملك صاحب كسرى بيت المقدس، وأخذ خشبة الصليب، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين سنة من ملكه. ثم احتوى على مصر، والإسكندرية، وبلاد نوبة، وبعث مفاتيح مدينة الإسكندرية إلى كسرى في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وقصد قسطنطينية، فأناخ على ضفّة الخليج القريب منها، وخيّم هناك. فأمر كسرى فخرّب بلاد الروم، غضبا مما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ولم يخضع لابن ملكهم المقتول أحد، ولا منحوا الطاعة، غير أنّهم قتلوا الملك الذي ملّكوه بعد أبيه المسمّى فوقا لما ظهر من فجوره وسوء تدبيره، وملّكوا عليهم رجلا يقال له: هرقل. فلمّا رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فارس إيّاها، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريّهم، واستباحتهم أموالهم، تضرّع إلى الله، وأكثر الدعاء والإبتهال.
فيقال: إنّه رأى في منامه رجلا ضخم الجثّة رفيع المجلس، عليه [ بزّة، قائما في ناحية عنه ]، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل:
« إني قد سلّمته في يدك. » فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثاله. فرأى بعض لياليه: كأنّ رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع عليه، ثم دفعه إليه وقال له:
« ها قد دفعت إليك كسرى برمّته. » فلمّا تتابعت هذه الأحلام، قصّها على عظماء الروم وذوي العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه. فاستعدّ هرقل، واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذي فيه شهريار صاحب كسرى، وسار حتى وغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين سنة، وقد كان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى قد استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأمّا شهربراز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه في الجثوم على الموضع الذي هو به [ وترك البراح منه ]. ثم بلغ كسرى تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين. فوجّه لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزاذ، في اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى - وهي التي تدعى الآن الموصل - على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزوها.
وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وأنّه مغذّ، وهو يومئذ مقيم بدسكرة الملك. فنفذ راهزاذ لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره. فقطع هرقل دجلة في موضع آخر، إلى الناحية التي كان فيها جند فارس. فأذكى راهزاذ العيون عليه، فانصرفوا إليه، فأخبروه أنّه في سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزاذ ومن معه من الجند، أنّهم عاجزون عن مناهضته. فكتب إلى كسرى غير مرّة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدّتهم. كل ذلك يجيبه كسرى بأنّه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته.
فلمّا تتابعت على راهزاذ جوابات كسرى بذلك، عبّى جنده وناهض الروم بهم. فقتلت الروم راهزاذ وستة آلاف رجل، وانهزمت بقيّتهم وهربوا على وجوههم. وبلغ كسرى قتل الروم راهزاذ وما نال هرقل من الظفر، فهدّه ذلك، وانحاز من دسكرة الملك إلى المدائن، وتحصّن بها لعجزه كان عن محاربة هرقل، وسار هرقل حتى كان قريبا من المدائن. فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعدّ لقتاله انصرف إلى أرض الروم. وكتب كسرى إلى قوّاد الجند الذين انهزموا، يأمرهم أن يدلّوه على كلّ رجل منهم ومن أصحابه، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فأمر بأن يعاقب بحسب ما استوجب. فأحوجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه. وكتب إلى شهربراز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف له ما نال هرقل منه ومن بلاده.
وقد حكى: أنّ كسرى عرف امرأة في فارس لا تلد إلّا الملوك الأبطال، فدعاها وقال:
« إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا، وأستعمل عليهم رجلا من بنيك، فأشيرى عليّ: أيّهم أستعمل؟ » فوصفت أولادها فقالت:
« هذا فرّخان أنفذ من سنان، وهذا شهربراز أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا. » فاستعمل شهربراز. فسار إلى الروم، فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلمّا ظهرت فارس على الروم، جلس فرّخان يشرب، فقال لأصحابه:
« لقد رأيت كأنى جالس على سرير كسرى. » فبلغت كسرى، وكتب إلى شهربراز:
« إذا أتاك كتابي هذا، فابعث إليّ برأس فرّخان. » فكتب إليه:
« أيّها الملك، إنّك لن تجد مثل فرّخان، فانّ له نكاية في العدوّ وصوتا، فلا تفعل. » فكتب إليه:
« إنّ في رجال فارس خلفا منه، فعجّل عليّ برأسه. » فراجعه، فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس:
« إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرّخان. » ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وقال:
« إذا ولى فرّخان الملك، وانقاد له أخوه، فأعطه. » فلما قرأ شهر براز الكتاب قال:
« سمعا وطاعة. » ونزل عن السرير، وجلس فرّخان، ودفع الصحيفة إليه، فقال:
« ايتوني بشهربراز. » فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
« لا تعجل، حتى أكتب وصيتي. » قال: « افعل! » فدعا بسفط وأعطاه ثلاث صحائف، وقال:
« كلّ هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! » فردّ الملك على أخيه.
فكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم:
« إنّ لي حاجة لا تحملها البرد ولا تبلّغها الصحف. فالقنى، ولا تلقني إلّا في خمسين روميا، فإني أيضا ألقاك في خمسين فارسيا. » فأقبل قيصر في خمسمائة روميّ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه: ليس معه إلّا خمسون رجلا. ثم بسط لهما، والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما، واجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا بينهما.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
فقال شهربراز:
« إنّ الذين خرّبوا مدينتك، وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخي بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا، فأراد أن أقتل أخي فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا، فنحن نقاتله معك. » قال: « قد أصبتما ووفّقتما. » ثم أشار أحدهما إلى صاحبه: أنّ السرّ إنّما يكون بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا.
قال صاحبه: « أجل! » فقاما جميعا إلى الترجمان بسكّينهما، فقتلاه! واتّفقا على قتال كسرى.
فمما اتفق في أيام كسرى من الحوادث التي تستفاد منها تجربة ما كان من يوم ذي قار وحرب العرب والفرس
وكان سبب ذلك قتل النعمان بن المنذر اللخمي، قتله كسرى لأسباب نذكر جملها إن شاء الله:
كان عديّ بن زيد العباديّ وابنه زيد بن عديّ سبب ولاية النعمان وسبب هلاكه جميعا.
قتل النعمان بن المنذر وأسبابه
وذلك أنّ عديّا وأخويه - وهما: عمار، وعمرو، ويعرف عمار ب « أبيّ »، وعمرو ب « سميّ» - كانوا في خدمة الأكاسرة، ولهم من جهتهم قطائع. وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى أبرويز بعديّ بن زيد وأخويه، ليكونوا في كتّابه يترجمون له.
فلمّا مات المنذر بن المنذر ترك من أولاده اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى:
فبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوة كالسيوف
فجعل المنذر ابنه النعمان في حجر عديّ، وجعل ابنه الأسود في حجر رجل يقال له: عديّ بن أوس بن مرينا. وبنو مرينا قوم لهم شرف وهم من لخم، وبنو المنذر الباقون، وهم عشرة، مستقلّون بأنفسهم.
وكان المنذر جعل على أمره كلّه، إياس بن قبيصة الطائي، فكان في مكانه أشهرا يدبّر أمر العرب كلّه. وطلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عديّ بن زيد فقال له:
« من بقي من بنى المنذر، وما هم، وهل فيهم خير؟ » فقال: « بقيتهم من ولد هذا الميت - يعنى المنذر بن المنذر - وهم رجال نجباء. » فكتب إليهم، فقدموا عليه، فأنزلهم على عديّ بن زيد. فكان عديّ يفضّل اخوة النعمان عليه في النزل، ويريهم أنّه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلا رجلا، ويقول لهم:
« إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلّا النعمان. » وقال للنعمان:
« إن سألك الملك عن إخوتك، فقل: إن عجزت عنهم فإني عن غيره أعجز. » وكان عديّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا. فكان يوصى الأسود بن المنذر ويقول له:
« قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتي ورغبتي إليك أن تخالف عديّ بن زيد في ما يشير به عليك، فإنّه والله لا ينصح لك أبدا. » فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلمّا أمر كسرى عديّ بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلا فيكلّمه. فكان الملك كسرى يرى رجالا قلّ ما رأى مثلهم. فإذا سألهم:
« هل تكفوننى ما كنتم تلون؟ » قالوا: « نكفيك العرب إلّا النعمان. » فلمّا دخل النعمان عليه، رأى رجلا دميما قصيرا أحمر، فكلّمه، وقال:
« أتستطيع أن تكفيني العرب؟ » قال: « نعم. » قال: « وكيف تصنع بإخوتك؟ » قال: « أيّها الملك، إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز. » فملّكه، وكساه، وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم فيه اللؤلؤ، والذهب. فلمّا خرج وهو ملك على العرب، قال عديّ بن أوس بن مرينا للأسود:
« دونك، فإنّك خالفت الرأي. » ثم إنّ عديّ بن زيد صنع طعاما في بيعة، وأرسل إلى ابن مرينا أن: ائتنى مع من أحببت، فإنّ لي حاجة. فأتاه في ناس، فتغدّوا في البيعة غداءهم المعدّ، وشربوا. فقال عديّ بن زيد لعديّ بن أوس:
« يا عديّ! إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثم لم يلم عليه، من كان مثلك. إني عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك من أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد عليّ شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. » فقام عديّ بن زيد إلى البيعة، فحلف ألّا يهجوه، ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يزوى عنه خيرا. فلمّا فرغ عديّ بن زيد، قام ابن مرينا فحلف على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا، ويبغيه الغوائل ما بقي.
وخرج النعمان حتى نزل منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة كما ذكرت.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
حيلة لعدي بن أوس على عدي بن زيد
فقال عديّ بن مرينا للأسود:
« وإذا لم تظفر، فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّى الذي عمل بك ما عمل. فقد كنت أخبرك أنّ معدّا لا ينام مكرها، وأمرت أن تخالفه فعصيتني. » قال: « فما تريد؟ » قال: « أريد أن لا تأتيك فائدة من مائك وأرضك إلّا عرضتها عليّ. » ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال واسع الضيعة. فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه إلى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثر عند النعمان هدايا ابن مرينا صار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضى في ملكه شيئا إلّا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عديّ بن زيد عنده أحسن ابن مرينا الثناء عليه، وذكر فضله وقال:
« إنّه لا يصلح المعديّ إلّا أن يكون فيه مكر وخديعة. » فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده، لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه:
« إذا رأيتمونى أذكر عديّ بن زيد عند الملك بخير، فقولوا: إنّه لكما يقول، ولكنّه لا يسلم عليه أحد، وإنّه يقول: إنّ الملك - يعنى النعمان - إنّما هو عامله، وإنّه هو الذي ولّاه ما ولّاه. » ولم يزالوا بهذا وأشباهه، حتى أضغنوه عليه. ثم إنّهم كتبوا كتابا عن عديّ إلى قهرمان كان له، ودسّوا له حتى أخذ الكتاب، وأتى به النعمان، فقرأه وأغضبه.
فأرسل إلى عديّ بن زيد:
« عزمت عليك إلّا زرتنى، فإني قد اشتقت إليك. » وهو عند كسرى.
فاستأذن كسرى، فأذن له. فلمّا أتاه، لم ينظر إليه، حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. فجعل عديّ بن زيد يقول الشعر، ويبلغه النعمان، وكان أوّل ما قاله في السجن:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ** ك بخبر الأنباء عطف السّؤال
وقال أشعارا كثيرة، وكان كلما قال عديّ من الشعر شيئا بلغ النعمان وسمعه، فندم على حبسه إيّاه، وعلم أنّه كيد فيه. فكان يرسل إليه، ويعده ويمنّيه، ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل. فلمّا طال سجن عديّ وأعياه التضرّع إلى النعمان بالأشعار التي يستعطفه فيها مرّة ويخبره فيها بما كيد به مرّة، ومرّة يذكّره بالموت، ويخبره بهلاك من هلك قبله، كتب إلى أخيه أبيّ وهو مع كسرى:
أبلّغ أبيّا على نأيه ** فهل ينفع المرء ما قد علم
بأنّ أخاك شقيق الفؤا ** د كنت به واثقا ما سلم
لدى ملك موثق في الحدي ** د إمّا بحقّ وإمّا ظلم
فلا أعرفنك كذات الغلا ** م ما لم تجد عارما تعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ** تنم نومة ليس فيها حلم
فكتب إليه أخوه:
إن يكن خانك الزّمان فلا عا ** جز قوم ولا ألفّ ضعيف
ويمين الإله لو أنّ جأوا ** ء طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رزّ مجتابة غمرة المو ** ت صحيح سربالها مكفوف
كنت في حميها لجئتك أسعى ** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
إن تفتني والله ألف جزوعا ** لا يعفّيك ما يصوت الخريف
فلعمري لئن جزعت عليه ** لجزوع على الصّديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائى ** لقليل شرواك في ما أطوف
كسرى يكتب في إرسال عدي وعدي يقتل
ويقال: إنّ عديّا لما كاتب أبيّا، قام أبيّ، فدخل على كسرى، فكلّمه، فكتب له وبعث معه رجلا، وأذن له في المسير لاستنقاذ أخيه. فكتب خليفة النعمان المقيم بباب الملك إليه أنّه: قد كتب إليك في أمر عديّ. فأتاه أعداء عديّ من غسّان، فأشاروا على النعمان بقتل عديّ.
وقالوا: « افرغ منه الساعة. » فأبى عليهم، وجاء الرجل، وكان تقدّم أخو عديّ إليه فرشاه، وأمره أن يبدأ بعديّ. فدخل عليه وهو محبوس وكان قال له:
« ابدأ بالدخول إليه في الحبس فانظر ما يأمرك به. » فلمّا دخل الرسول على عديّ قال له:
« إني قد جئتك بإرسالك فما عندك؟ » قال: « عندي الذي تحبّ. » ووعده، وسأله ألّا يخرج من عنده، وقال:
« أعطنى الكتاب حتى أرسل به أنا، فإنّك إن خرجت من عندي، قتلت. » فقال الرسول: « لا أستطيع إلّا أن آتى النعمان بالكتاب فأوصله بنفسي إليه. »
فانطلق مخبر، فأتى النعمان، فقال:
« إنّ رسول كسرى قد دخل على عديّ وهو ذاهب به، وإن فعل لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك. » فبعث إليه النعمان بأعدائه، فغمّوه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب.
فقال: « نعم وكرامة وسمعا وطاعة. » وبعث إلى الرسول بأربعة آلاف مثقال ذهبا، وجارية، وقال له:
« إذا أصبحت فادخل عليه وأخرجه أنت بنفسك. » فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس:
« إنّه قد مات منذ أيام، فلم نجترئ على أن نخبر الملك النعمان فرقا منه، لعلمنا بكراهيته لذلك. » فرجع الرسول إلى النعمان فقال:
« إني كنت بدأت به، فدخلت إليه وهو حيّ. » فقال النعمان: « يبعثك الملك إليّ فتدخل إليه قبلي! كذبت ولكنّك أردت الرشوة والخبث. » وتهدّده. ثم إنه استدعاه بعد ذلك، وزاده جائزة وكسوة، وأكرمه واستوثق منه أن لا يخبر الملك، إلّا أنّه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، فقال:
« إنه مات قبل أن أدخل عليه. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
زيد بن عدي يخلف أباه عند كسرى
وندم النعمان على قتل عديّ ندامة شديدة، واجترأ أعداء عديّ على النعمان، وهابهم النعمان هيبة شديدة، فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم، فلقى ابنا لعديّ يقال له: زيد. فلمّا رآه عرف شبهه، فقال:
« من أنت؟ » فقال: « أنا زيد بن عديّ بن زيد. » فكلّمه، فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا، وقرّبه، واعتذر إليه من أمر أبيه، ثم جهّزه وكتب إلى كسرى:
« إنّ عديّا كان ممّن أعين به الملك في نصحه ولبّه، فأصابه ما لا بدّ منه وانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، وأمّا الملك فلم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه وقد سرّحته إلى الملك. فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. » فكان هو الذي يلي ما يكتب إلى أرض العرب وخاصّة الملك، وكانت له من العرب وظيفة في كلّ سنة من الأفراس المهارة، ومن الكمأة الرطبة واليابسة، والأقط، والأدم، وسائر تجارات العرب. وكذلك كان عديّ بن زيد له هذه الرسوم.
فلمّا وقع عند الملك هذا الموقع سأل عن النعمان، فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات بمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى وكان يكثر الدخول إليه.
فرصة انتهزها زيد
فلمّا كان بعض دخلاته على كسرى جرى حديث النساء، وطلب الملك امرأة لها صفات ونعوت مكتوبة عند الملوك. وكان من رسم الملوك أن يطلب لهم جارية تجمع تلك النعوت في ممالكهم، فكتبت تلك الصفة. فدخل زيد على كسرى فكلّمه في ما دخل فيه، ثم قال:
« إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وأنا خبير بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. » قال: « فكتب فيهنّ. » فقال: « أيّها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرّمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم. فأنا أكره أن يغيّبهنّ، وإن قدمت أنا عليه على معرفتي، لم يقدر على تغييبهنّ، فابعثني وابعث معي رجلا يفقه العربية. » فبعث معه رجلا جلدا حصيفا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة. فلمّا دخل عليه، أعظم الملك وقال:
« إنّه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك وبعث إليك.
فقال: « وما هؤلاء النسوة؟ » فقال: « هذه صفتهنّ قد جئنا بها. »
صفة جارية أهداها المنذر الأكبر إلى أنوشروان
وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسانيّ ابن أبي شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له:
« هي معتدلة الخلق، نقيّة اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، دعجاء حوراء، عيناء، قنواء، شمّاء، زجّاء، برجاء، أسيلة الخدّ [ شهيّة المقبّل ] جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طيّ البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، مفعمة الساق، لفّاء الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرّد، شموع للسيّد، ليست بخنساء ولا سعفاء ذليلة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حييّة، وزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب في الأدب، فرأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها وتبادرك الوثبة ».
فقبلها أنوشروان، وأمر بإثبات هذه الصفة في ديوانه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز.
فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشقّ عليه، فقال لزيد وللرسول:
« أما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم! » فقال الرسول لزيد: « ما العين؟ » فقال: « البقر. » فقال زيد للنعمان: « إنّما أراد كرامتك، ولو علم أنّه يشقّ عليك لم يكتب به إليك. » فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى:
« إنّ الذي طلب الملك ليس عندي. » وقال لزيد:
« اعذرنى عنده. » فلما رجعا إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه:
- أصدق الملك، الذي سمعت منه، فإني سأحدّثه بحديثك، ولا أخالفك فيه. » فلمّا دخلا على كسرى قال زيد: « هذا كتابه. » فقرأه عليه.
فقال كسرى: « فأين ما كنت خبّرتنى به؟ » فقال: « قد كنت أخبرتك بضنّهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم:
اختيارهم الجوع والعرى على الشبع والرياش، واختيارهم السّموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنّهم ليسمّونها السجن، فسل هذا الرسول معي عن الذي قال، فإني أكره أن أحكى للملك قوله أو أردّ عليه ألفاظه. » فقال للرسول: « ما قال؟ » قال: « انّه قال - أيّها الملك -: أما في بقر السواد ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ » فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنّه قال:
« ربّ عبد قد قال هذا، فصار أمره إلى التباب. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)