حنقًا على سبطين حلا يثربًا ** أولى لهم بعقاب يوم مفسد
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وقد كان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنًا، فأقام عنده، فلما أراد توديعه قال تبع: ما بقي من علمك؟ قال: بقى خبر ناطق، وعلم صادق، قال: فهل تجد لقومٌ ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا إلا لملك غسان نجل، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: نعم، قال: ولمن؟ قال أجده لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجيء، أحد بن لؤي، ثم أحد بني قصي. فبعث تبع إلى الزبور فنظر فيها، فإذا هو يجد صفة للنبي .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن حدثه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وغيره من علماء أهل اليمن، ممن يروى الأحاديث، فحدث بعضهم بعض الحديث، وكل ذلك قد اجتمع في هذا الحديث: أن ملكًا من لخم، كان باليمن فيما بين التبابعة من حمير، يقال له: ربيعة بن نصر، وقد كان قبل ملكه باليمن ملك تبع الأول، وهو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي ابن سبأ الأصغر بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية ابن جشم بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن هميسع ابن العرنجج حمير بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان. وكان اسم سبأ عبد شمس؛ وإنما سمى سبأ - فيما يزعمون - لأنه كان أول من سبى في العرب.
فهذا بيت مملكة حمير الذي فيه كانت التبابعة، ثم كان بعد تبع الأول زيد بن عمرو، وشمر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار، ابن عمه. وشمر يرعش الذي غزا الصين وبنى سمرقند وحير الحيرة، وهو الذي يقول:
أناشمرٌأبو كرب اليماني ** جلبت الخيل من يمنٍ وشامٍ
لآتي أعبدًا مردوا علينا ** وراء الصين في عثم ويام
فنحكم في بلادهم بحكمٍ ** سواء لا يجاوزه غلامٌ
القصيدة كلها.
قال: ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه، وقال ما قال من الشعر فكل هؤلاء ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي؛ فلما هلك ربيعة بن نصر؛ رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته، وفظع بها، فلما رآها بعث في أهل مملكته، فلم يدع كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا إلا جمعه إليه، ثم قال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا لنخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من يعرفها قبل أن أخبره بها. فلما قال لهم ذلك قال رجل من القوم الذين جمعوا لذلك: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فإنه ليس أحدٌ أعلم منهما، فهما يخبرانك بما سألت - واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، وكان يقال لسطيح: الذئبي، لنسبته إلى ذئب بن عدي. وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار. فلما قالوا له ذلك بعث إليهما، فقدم عليه قبل شق سطيح، ولم يكن في زمانهما مثلهما من الكهان، فلما قدم عليه سطيح دعاه فقال له: يا سطيح، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال - أفعل، رأيت جمجمة - قال أبو جعفر: وقد وجدته في مواضع أخر، رأيت حممة - خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض ثهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال له الملك: وأبيك يا سطيح؛ إن هذا لغائظ موجع، فمتى هو كائن يا سطيح؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين. قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين، يمضين من السنين، ثم يقتلون بها أجمعون، ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن ذا الذي يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدًا باليمن. قال أفيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر يا سطيح من آخر؟ قال: نعم. يوم يجمع فيه الأولون والآخرون. ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحقٌ ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
فلما فرغ قدم عليه شق، فدعاه، فقال له: يا شق، إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبرني عنها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها - كما قال لسطيح؛ وقد كتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان - قال: نعم، رأيت جمجمة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما رأى ذلك الملك من قولهما شيئًا واحدًا، قال له: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعدك بزمان، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان. قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج من بيت ذي يزن، قال: فهل يدوم سلطانه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل؛ يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال: أحق ما تقول يا شق؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض؛ إن ما نبأتك لحق ما فيه أمض. فلما فرغ من مسألتهما، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان ابن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ولما قال سطيح وشق لربيعة بن نصر ذلك، وصنع ربيعة بولده وأهل بيته ما صنع، ذهب ذكر ذلك في العرب، وتحدثوا حتى فشا ذكره وعلمه فيهم، فلما نزلت الحبشة اليمن، ووقع الأمر الذي كانوا يتحدثون به من أمر الكاهنين، قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، في بعض ما يقول، وهو يذكر ما وقع من أمر ذينك الكاهنين: سطيح وشق:
ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ** حقًا كما نطق الذئبي إذ سجعا
وكان سطيح إنما يدعوه العرب الذئبي، لأنه من ولد ذئب بن عدي. فلما هلك ربيعة بن نصر، واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب ابن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، كان مما هاج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير وانقطاع مدة سلطانهم - ولكل أمر سبب - أن حسان ابن تبان أسعد أبي كرب، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل؛ حتى إذا كان ببعض أرض العراق، كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم؛ فكلموا أخًا له كان معه في جيشه، يقال له عمرو، فقالوا له: اقتل أخاك حسان نملكك علينا مكانه، وترجع بنا إلى بلادنا. فتابعهم على ذلك، فأجمع أخوه ومن معه من حمير وقبائل اليمن على قتل حسان، إلا ما كان من ذي رعين الحميري، فإنه نهاه عن ذلك، وقال له: إنكم أهل بيت مملكتنا، لا تقتل أخاك ولا تشتت أمر أهل بيتك - أو كما قال له - فلما لم يقبل منه قوله - وكان ذو رعين شريفًا من حمير - عمد إلى صحيفة فكتب فيها:
ألا من يشتري سهرًا بنومٍ ** سعيدٌ من يبيت قرير عين
فإما حميرٌ غدرت وخانت ** فمعذرة الإله لذي رعين
ثم ختم عليها. ثم أتى بها عمرًا، فقال له: ضع لي عندك هذا الكتاب، فإن لي فيه بغيةً وحاجة، ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه عمرو وحمير وقبائل اليمن من قتله، قال لعمرو:
يا عمرو لا تعجل علي منيتي ** فالملك تأخذه بغير حشود
فأبى إلا قتله، فقتله ثم رجع بمن معه من جنده إلى اليمن. فقال قائل من حمير:
إن لله من رأى مثل حسا ** ن قتيلا في سالف الأحقاب
قتلته الأقيال من خشية الجي ** ش وقالوا له لباب لباب
ميتكم خيرنا وحيكم ** ربٌ علينا وكلكم أربابي
فلما نزل عمرو بن تبان أسعد أبي كرب اليمن منع منه النوم، وسلط عليه السهر - فيما يزعمون - فجعل لا ينام، فلما جهده ذلك جعل يسأل الأطباء والحزاة من الكهان والعرافين عما به، ويقول: منع مني النوم فلا أقدر عليه، وقد جهدني السهر، فقال له قائل منهم: والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيًا على مثل ما قتلت عليه أخاك إلا ذهب نومه، وسلط عليه السهر، فلما قيل له ذلك، جعل يقتل كل من كان أمره بقتل أخيه حسان من أشراف حمير وقبائل اليمن، حتى خلص إلى ذي رعين، فلما أراد قتله قال: إن لي عندك براءة مما تريد أن تصنع بي، قال له: وما براءتك عندي؟ قال: أخرج الكتاب الذي كنت استودعتكه ووضعته عندك، فأخرج له الكتاب، فإذا فيه ذانك البيتين من الشعر:
ألا من يشتري سهرًا بنومٍ ** سعيدٌ من يبيت قرير عين
فإما حميرٌ غدرت وخانت ** فمعذرة الإله لذي رعين
فلما قرأهما عمرو قال له ذو رعين: قد كنت نهيتك عن قتل أخيك فعصيتني، فلما أبيت علي وضعت هذا الكتاب عندك حجة لي عليك، وعذرًا لي عندك، وتخوفت أن يصيبك إن أنت قتلته الذي أصابك، فإن أردت بي ما أراك تصنع بمن كان أمرك بقتل أخيك، كان هذا الكتاب نجاةً لي عندك، فتركه عمرو بن تبان أسعد فلم يقتله من بين أشراف حمير، ورأى أن قد نصحه لو قبل منه نصيحته. وقال عمرو بن تبان أسعد حين قتل من قتل من حمير وأهل اليمن ممن كان أمره بقتل أخيه حسان، فقال:
شرينا النوم إذ عصبت علاب ** بتسهيدٍ وعقدٍ غير مين
تنادوا عند غدرهم: لباب ** وقد برزت معاذر ذي رعين
قتلنا من تولى المكر منهم ** بواءً بابن رهمٍ غير دين
قتلناهم بحسان بن رهمٍ ** وحسان قتيل الثائرين
قتلناهم فلا بقيا عليهم ** وقرت عند ذاكم كل عين
عيون نوادبٍ يبكين شجوًا ** حرائر من نساء الفيلقين
أوانس بالعشاء وهن حور ** إذا طلعت فروع الشعريين
فنعرف بالوفاء إذا انتمينا ** ومن يغدر نباينه ببين
فضلنا الناس كلهم جميعًا ** كفضل الإبرزي على اللجين
ملكنا الناس كلهم جميعًا ** لنا الأسباب بعد التبعين
ملكنا بعد داودٍ زمانًا ** وعبدنا ملوك المشرقين
زبرنا في ظفار زبور مجدٍ ** ليقرأه قروم القريتين
فنحن الطالبون لكل وترٍ ** إذا قال المقاول أين أين!
سأشفي من ولاة المكر نفسي ** وكان المكر حينهم وحيني
أطعتهم فلم أرشد وكانوا ** غواةً أهلكوا حسبي وزيني
قال: ثم لم يلبث عمرو بن تبان أسعد أن هلك قال هشام بن محمد: عمرو بن تبع هذا يدعى موثبان؛ لأنه وثب على أخيه حسان بفرضة نعم فقتله - قال: وفرضة نعم رحبة طوق بن مالك، وكانت نعم سرية تبع حسان بن أسعد.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: فمرج أمر حمير عند ذلك، وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال: له لخنيعة ينوف ذو شناتر، فملكهم فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير، يذكر ما ضيعت حمير من أمرها، وفرقت جماعتها، ونفت من خيارها:
تقتل ابناها وتنفي سراتها ** وتبني بأيديهم لها الذل حمير
تدمر دنياها بطيش حلومها ** وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ** وإسرافها تأتي الشرور فتخسر
وكان لخنيعة ينوف ذو شناتر يصنع ذلك بهم - وكان امرأ فاسقًا يزعمون أنه كان يعمل عمل لوط، ثم كان - مع الذي بلغ منهم من القتل والبغي - إذا سمع بالغلام من أبناء الملوك قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك، لئلا يملك بعد ذلك أبدًا، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، وهم اسفل منه، قد أخذ سواكًا، فجعله في فيه - أي ليعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله، فيخرج على حرسه وعلى الناس وقد فضحه؛ حتى إذا كان آخر أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار أخو حسان - وزرعة كان صبيًا صغيرًا حين أصيب أخوه، فشب غلامًا جميلًا وسيمًا ذا هيئة وعقل - فبعث إليه لخنيعة ينوف ذو شناتر؛ ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما أتاه رسوله عرف الذي يريد به، فأخذ سكينًا حديدًا لطيفًا، فجعله بين نعله وقدمه، ثم انطلق إليه مع رسوله، فلما خلا به في مشربته تلك أغلقها عليه وعليه، ثم وثب عليه وواثبه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فجعله في كوة مشربته تلك التي يطلع منها إلى حرسه وجنده، ثم أخذ سواكه ذلك، فجعله في فيه ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذو نواس، أرطب أم يباس؟ فقال: سل نخماس استرطبان ذو نواس، استرطبان ذو نواس؛ لاباس. فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال، فإذا رأس لخيعة ينوف ذي شناتر في الكوة مقطوع في فيه سواكه، قد وضعه ذو نواس فيها. فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث. فملكوه واستجمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير. وتهود وتهودت معه حمير، وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زمانًا. وبنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة، لهم من أهل دينهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر؛ وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها. ثم إن رجلًا من بقايا أهل ذلك الدين وقع بين أظهرهم يقال له فيميون، فحملهم عليه فدانوا به.
قال هشام: زرعة ذو نواس؛ فلما تهود سمى يوسف، وهو الذي خد الأخدود بنجران وقتل النصارى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأخنس، عن وهب بن منبه اليماني، أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلًا من بقايا أهل دين عيسى بن مريم يقال له فيميون، وكان رجلًا صالحًا مجتهدًا زاهدًا في الدنيا، مجاب الدعوة، وكان سائحًا ينزل القرى، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد؛ فإذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئًا، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلى بها حتى يمسى، وكان في قرية من قرى الشأم يعمل عمله ذلك مستخفيًا؛ إذ فطن لشأنه رجل من أهلها، يقال له صالح، فأحبه صالح حبًا لم يحبه شيئًا كان قبله، فكان يتبعه حيث ذهب، ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد اتبعه صالح، وفيميون لا يدري، فجلس صالح منه منظر العين، مستخفيًا منه لا يحب أن يعلم مكانه، وقام فيميون يصلى، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين - الحية ذات الرءوس السبعة - فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح، ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه فعيل عوله، فصرخ: يا فيميون، التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه، وأقبل على صلاته حتى فرغ وأمسى، وانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فكلمه، فقال: يا فيميون، يعلم الله ما أحببت شيئًا حبك قط، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت. قال: ما شئت، أمرى كما ترى؛ فإن ظننت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية أن يفطنوا لشأنه، وكان إذا فاجأه العبد به ضر، دعا له فشفى، وإذا دعى إلى أحد به الضر لم يأته. وكان لرجل من أهل القرية ابنٌ ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا ياتي أحدًا إذا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته، وألقى عليه ثوبًا، ثم جاءه فقال له: يا فيميون؛ إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملًا، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه، فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال: ما تريد أن تعمل في بيتك؟ قال: كذا وكذا. ثم انتشط الرجل الثوب عن الصبي، ثم قال: يا فيميون، عبد من عباد الله أصابه ما ترى، فادع الله له، فقال فيميون حين رأى الصبي: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك في نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه، وامنعه منه، فقام الصبي ليس به بأس.
وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشأم مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل، فقال: أفيميون! قال: نعم، قال: ما زلت أنتظرك وأقول: متى هوجاء؟ حتى سمعت صوتك، فعرفت أنك هو، لاتبرح حتى نقوم على، فإنى ميت الآن. قال: فمات، وقام عليه حتى واراه م انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدى عليهما فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران - وأهل نجران يومئذ على دين العرب، تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم، لهم عيد كل سنة؛ إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلى النساء. ثم خرجوا، فعكفو عليها يومًا - فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل آخر صالحًا، فكان فيميون إذا قام من الليل - في بيت له أسكنه إياه سيده الذي ابتاعه - يصلى، استسرج له البيت نورًا، حتى يصبح من غير مصباح؛ فرأى ذلك سيده فأعجبه ما رأى، فسأله عن دينه فأخبره به، فقال له فيميون: إنما أنتم في باطل؛ وإن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع؛ لو دعوت عليها الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له. قال: فقال له سيده: فافعل؛ فإنك إن فعلت دخلنا في دينك، وتركنا ما كنا عليه، قال: فقام فيميون، فتطهر ثم صلى ركعتين، ثم دعا الله عليهما، فأرسل الله يحًا فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم. ثم دخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.
فهذا حديث وهب بن منبه في خبر أهل نجران.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، مولى لبني هاشم، عن محمد بن كعب القرظي. قال: وحدثني محمد بن إسحاق أيضًا عن بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران - ونجران القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما أن نزلها فيميون - قال: ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه، قالوا: رجل نزلها - ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله ابن الثامر، مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم - وكان يعلمه - فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحتمله؛ أخشى ضعفك عنه. فلما أبى عليه - والثامرأبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان - فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسمًا يعلمه إلا كتبه في قدح؛ لكل اسم قدح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها نارًا، ثم جعل يقذفها فيها قدحًا قدحًا؛ حتى إذا مر بالأسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها، لم يضره شيء؛ فقام إليه فأخذه، ثم أتى صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال له: ما هو؟ قال؛ كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره كيف صنع، قال: فقال: يا بن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل. فجعل عبد الله بن الثامر إذا أتى نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق أحدٌ بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفى، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت على أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سلطت على قتلتني، فوحد الله ذلك الملك، وشهد بشهادة عبد الله ابن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله؛ فهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن ذلك. والله أعلم.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف؛ ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفًا، وأفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان، على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم.
قال: وقد سمعت بعض أهل اليمن يقول: إن الذي أفلت منهم رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض.
قال: وأثبت الحديثين عندي الذي حدثني أنه دوس ذو ثعلبان.
ثم رجع ذو نواس بمن معه من جنوده إلى صنعاء من أرض اليمن.
ففي ذي نواس وجنوده تلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: أنزل الله على رسوله: " قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود " إلى قوله: " بالله العزيز الحميد ".
يقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله ابن الثامر رئيسهم وإمامهم.
ويقال: عبد الله ابن الثامر قُتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين؛ وإنما قتل ذو نواس من كان بعده من أهل دينه.
وأما هشام بن محمد فإنه قال: لم يزل ملك اليمن متصلًا لا يطمع فيه طامع، حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنوشروان. قال: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان، وكان يهوديًا، فقدم عليه يهودي، يقال له دوس من أهل نجران، فأخبره أن أهل نجران قتلوا ابنين له ظلمًا، واستنصره عليهم - وأهل نجران نصارى - فحمي ذو نواس لليهودية، فغزا أهل نجران، فأكثر فيهم القتل، فخرج رجل من أهل نجران، حتى قدم على ملك الحبشة، فأعلمه ما ركبوا به، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إلي بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك، وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ أنه حدث أن رجلًا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدًا واضعًا يده على ضربة في رأسه ممسكًا عليها بيده؛ فإذا أخرت يده عنها انثبعت دمًا، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: " ربي الله ". فكتب فيه إلى عمر يخبره بأمره، فكتب إليهم عمر: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان عليه. ففعلوا.
وخرج دوس ذو ثعلبان، حين أعجز القوم على وجهه ذلك؛ حتى قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا، ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود؛ ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة؛ فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك، واستحل منك ومن أهل دينك ما استحل. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره، وطلب ثأره ممن بغى عليه على أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي صاحب الحبشة بعث معه سبعين ألفًا من الحبشة وأمر عليهم رجلًا منهم من أهل الحبشة، يقال له أرياط؛ وعهد إليه: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان، حتى نزلوا بساحل اليمن، وسمع بهم ذو نواس فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق، لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم يكن له حرب غير أنه ناوش ذو نواس شيئًا من قتال، ثم انهزموا، ودخلها أرياط بمجموعه، فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأقحمه فيه، فكان آخر العهد به. ووطئ أرياط اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ثم أقام بها، قد ضبطها وأذلها، فقال قائل من أهل اليمن، وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة؛ فقال: " لا كدوس ولا كأعلاق رحله ". وهو يذكر ما ساق إليهم دوس ذو ثعلبان من أمر الحبشة فقال: " لا كدوس ولا كأعلاق رحله ". يعني ما ساق إليهم من الحبشة، فهي مثل باليمن إلى اليوم.
وقال ذو جدنٍ الحميري وهو يذكر حمير، وما دخل عليها من الذل بعد العز الذي كانوا فيه، وما هدم من حصون اليمن، وكان أرياط قد أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان؛ حصونًا لم يكن في الناس مثلها، فقال:
هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ** لا تهلكي أسفًا في ذكر من ماتا
أبعد بينون لا عينٌ ولا أثرٌ ** وبعد سلحين يبنى الناس أبياتًا!
وقال ذو جدن الحميري في ذلك:
دعيني لا أبا لك لن تطيقي ** لحاك الله قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذ انتشينا ** وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس علي عارًا ** إذا لم يشكني فيها رفيقي
فإن الموت لا ينهاه ناهٍ ** ولو شرب الشفاء من النشوق
ولا مترهبٌ في أسطوانٍ ** يناطح جدره بيض الأنوق
وغمدان الذي حدثت عنه ** بنوه ممسكًا في رأس نيق
بمنهمةٍ وأسفله جروبٌ ** وحر الموحل اللثق الزليق
مصابيح السليط تلوح فيه ** إذا يمسى كتوماض البروق
ونخلته التي غرست إليه ** يكاد البسر يهصر بالعذوق
فأصبح بعد جدته رمادًا ** وغيَّر حسنه لهب الحريق
وأسلم ذو نواسٍ مستميتًا ** وحذر قومه ضنك المضيق
وقال ابن الذئبة الثقفي، وهو يذكر حمير حين نزل بها السودان وما أصابوا منهم:
لعمرك ما للفتى من مفر ** مع الموت يلحقه والكبر
لعمرك ما للفتى صحرةٌ ** لعمرك ما إن له من وزر
أبعد قبائل من حميرٍ ** أتوا ذا صباحٍ بذات العبر
بألب ألوبٍ وحرابةٍ ** كمثل السماء قبيل المطر
يصم صياحهم المقربات ** وينفون من قاتلوا بالزمر
سعالى كمثل عديد الترا ** ب ييبس منهم رطاب الشجر
وأما هشام بن محمد، فإنه زعم أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. قال: فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدًا، فأبوا وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم، فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها، فلكم المال والأرض، واستبقوا الرجال والذرية. فقال عظيمهم: اكتب بذلك إلى الملك، فكتب إلى النجاشي، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك منهم، فسار بهم ذو نواس حتى إذا دخل بهم صنعاء، قال لعظيمهم: وجه ثقات أصحابك في قبض هذه الخزائن. ففرق أصحابه في قبضها ودفع إليهم المفاتيح، وسبقت كتب ذي نواس إلى كل ناحية: أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم؛ فقتلت الحبشة، فلم يبق منهم إلا الشريد. وبلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، فجهز إليه سبعين ألفًا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة الأشرم؛ فلما صاروا إلى صنعاء ورأى ذو نواس ألا طاقة له بهم ركب فرسه، واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)