نحوه, ولا وجهة لي. حتى الرسم توقفت عن ممارسته منذ سنتين.
أمدنياعترافه هذا بموجز عن نشرته العاطفية, ذلك أنني تذكرت قول بيكاسو " أن تعود إلىالرسم أي أن تعود إلى الحب" فقد ارتبطت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة فيحياته. وربما كانت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة في حياته. وربما كانتالكتابة عكس ذلك, فقد كانت حياة كلما سألتها خلال السنتين اللتين قضيناهما معاًلماذا لا تكتب؟ أجابت " الكتابة إعمال قطيعة مع الحب وعلاج كيماوي للشفاء منه.. سأكتب عندما نفترق".
قلت:
- مؤسف حقاً.. ألا تكون قد رسمت كل هذهالفترة.
أجاب:
- الرسم كما الكتابة, وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الأذىالمقبل. وأنا ما عدت أحتاجها لأنني استقويت بخساراتي. الأقوى هو الذي لا يملك شيئاليخسره. لا تنغش بهيئتي. أنا رجل سعيد. لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفةوالاستخفاف بما كان مهماً قبل اليوم.
عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كماتخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك الإصطناعية, أن تعلق خوفك على المشجب, وأنتقلع عن الأحلام. كل الذين أحببتهم ماتوا بقصاص أحلامهم!
أدركت فجأة سر جاذبيته. كانت تكمن في كونه أصبح حراً. عندما ما عاد لديه ما يخسره أو يخاف عليه.
وهويدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكماً لمزاجه, لا لحكم الآخرين, كما عاش من قبل. ولا تستطيع إلا أن تحسده, لأنه خفيف ومفلس. خفته اكتسبها مما أثق به الناس أنفسهممن نفاق. وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله منقبل.
كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحاً أعماله, والجار الذيكان يجامله اللحية عن خوف, والصديق الذي كان يسكت عن اختلاساته عن حياء, والعدوالمنافق الذي كان يدعي أمامه الغباء.
سألته:
- ألا تخشى ألا يبقى لك صديق بعدهذا؟
ضحك:
- ما كان لي صديق لأخسره. أصدقائي سقطوا من القطار. عندما تغادروطنك, تولي ظهرك لشجرة كانت صديقة, ولصديق كان عدواً. النجاح كما الفشل, اختبار جيدلمن حولك, للذي سيتقرب منك ليسرق ضوءك, والذي سيعاديك لأن ضوءك كشف عيوبه, والذيحين فشل في أن ينجح, نذر حياته لإثبات عدم شرعية نجاحك.
الناس تحسدك دائماً علىشيء لا يستحق الحسد, لأن متاعهم هو سقط متاعك. حتى على الغربة يحسدونك, كأنماالتشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً, وأنا رجل يحب أن يدفع ليخسرصديقاً. يعنيني كثيراً أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة نخاستهم العاطفية. البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل 500 فرنك يكسبها من مقاليشتمك فيه, وآخر يستدين منك مبلغاً لا يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك منه, وآخر أصبحعدوك لفرط ما أحسنت إليه " ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن الرد عليها بغيرنكران الجميل". ولذا لا بد أن تعذر من تنكر لك, ماذا تستطيع ضد النفس البشرية؟
- وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
- لا حاجة لي إليهم.. أصبح همي العثور على أعداء كبارأكبر بهم. تلك الضفادع الصغيرة التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها فيمستنقع, أصغر من أن تكون صالحة للعداوة. لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل.. وتعكرعليك حياتك. إنه زمن حقير, حتى قامات الأعداء تقزمت, وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبةلرجل مثلي حارب لثلاث سنوات جيوش فرنسا في الجبال.. كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلةيترفع سيفك عن منازلتها؟
- أنت إذن تعيش وحيداً؟
رد مبتسماً:
- أبداً.. أنا موجود دائماً لكل من يحتاجني, إني صديق الجميع ولكن لا صديق لي. آخر صديق فقدتهكان شاعراً فلسطينياً توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي. لم أجدأحداً بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملأها داخلي. معه مات شيء مني. ماوجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي.
سكت قليلاً ثم أضاف:
- تدري؟ هذه أول مرةأتحدث فيها هكذا لأحد. لكأنك تذكرني به. لقد كان في عمرك تقريباً ووسيم هكذا مثلك, وكان شاعراً غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات. عندما أغادر المستشفى, سأطلعك على بعض قصائده.. ما زالت في حوزتي.
قال فجأة كمن يعتذر:
- قد أكونتحدثت كثيراً.. عادة أنا ضنين في الكلام, فالرسامون حسب أحدهم " أبناءالصمت".
قلت وأنا أمازحه:
- لا تهتم.. فالمصورون أبناء الصبر..!
قال وقدأضاءت وجهه ابتسامة:
- جميل هذا.. يا إلهي.. أنت تتكلم مثله!
كدت أقول له " طبعاً.. لأن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون" لكنني لم أقل شيئاً. وقفت لأودعه. ضمني بحرارة إليه, وسألني:
- متى ستنشر هذه المقابلة؟
أجبته بمحبة:
- لمتنته بعد لتنشر.. لقاءاتنا ستتكرر إن شئت, فأنا أريد عملاً عميقاً يحيط بكلشخصيتك.
قال مازحاً:
- لا تقل لي إنك ستعد كتاباً عني.. ما التقيت بكاتب إلاوأغريته بأن يلملم أشلاء ذاكرتي في كتاب!
استنتجت أنه يعنيها. قلت:
- لا , أنا لست كاتباً. الكتابة تكفين الوقت بالورق الأبيض.. أنا مصور, مهنتي الاحتفاظبجثة الوقت, تثبيت اللحظة.. كما تثبت فراشة على لوحة.
قال وهو يرافقني نحوالباب:
- في الحالتين.. أنت لا تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك.
ثم واصل كمن تذكرشيئاً:
- لا تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة. لقد أخبرتني فرانسواز أنك مصور كبير.
كأنني بدأت أشبهه, لم أعلق على صفة "كبير" سوى بابتسامة نصفها تهكم.
تركته للبياض. وغادرت المستشفى مليئاً بذلك الكمالمذهل من الألوان.
عندما عادت فرانسواز إلى البيت, وجدتني أعيد الاستماعإلى تسجيل حوارنا.
سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال. أجبتها أننيأفرغه لأمتلأ به. فلم يكن في الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال. ولا توقعت يومها أنني , كمن سبقني إلى ذلك الرجل, سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!
***
█║S│█│Y║▌║R│║█
دفع واحدة, قررت الحياة أن تغدق عليك بتلكالمصادفات المفجعة في سخائها, حد إرعابك من سعادة لم تحسب لها حساباً. لم أكن أصدقلقائي بزيان حتى كنت في اليوم التالي أتعرف على ناصر.
أكان في الأمر وما سيليهمن مصادفات أخرى.. مصادفة حقاً؟
" المصادفة هي الإمضاء الذي يوقع به اللهمشيئته". ومشيئته هي ما نسميه قدراً.
وكان في تقاطع أقدارنا في تلك النقطة منالعالم أمر مذهل في تزامنه. لن أعرف يوماً إن كان هبة من الحياة أو مقلباً منمقالبها.
كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ولا المصور الذيكنته. أصبحت بطلاً في رواية, أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزاً لأمرما.. لفرح طارئ أو لفاجعة مرتقبة.
نحن من بعثرتهم قسنطينة, ها نحن نتواعد فيعواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي.
حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر, منأجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفاً في ضواحي التاريخ, لأن أباه لم يورثه شيئاً عدااسمه, ولأن البعض صنع من الوطن ملكاً عقارياً لأولاده, وأدار البلاد كما يدير مزرعةعائلية تربي في خرائبها القتلة, بينما يتشرد شرفاء الوطن في المنافي.
جميل ناصر. كما تصورته كان. وجميلاً كان لقائي به, وضمة منه احتضنت فيها التاريخ والحب معاً, فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة.
بدا مراد أسعدنا. كان يحب لم شمل الأصدقاء. وكان دائم البحث عن مناسبة يحتفي فيها بالحياة.
كانت شقته على بساطتها مؤثثةبدفء من استعاض بالأثاث الجميل عن خسارة ما, ومن استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطيعلى نواح داخلي لا يتوقف.
سألته متعجباً:
- متى استطعت أن تفعل كل هذا؟
ردمازحاً:
- أثناء انشغالك بالمعارض التشكيلية!
فهمت ما يقصد.
- والأغانيالقسنطينية, من أين أحضرتها؟
- اشتريتها من هنا. تجد في الأسواق كل الأغاني منالشيخ ريمون وسيمون تمار حتى الفرقاني. يهود قسنطينة ينتجون في فرنسا معظم هذهالأشرطة.
رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيهمشقة.
رد مازحاً:
- كانت الأسئلة أطول من المسافة! ثم أضاف: أقصد الإهاناتالمهذبة التي تقدم إليك من المطارات على شكل أسئلة.
قال مراد مازحاً:
- واشتدير يا خويا.. " وجه الخروف معروف!"
رد ناصر:
- معروف بماذا؟بأنهالذئب؟
أجاب مراد:
- إن لم تكن الذئب, فالذئاب كثيرة هذه الأيام. ولا أدريسبباً لغضبك. هنا على الأقل لا خوف عليك ما دمت بريئاً. ولا تشكل خطراً علىالآخرين. أما عندنا فحتى البريء لا يضمن سلامته!
رد ناصر متذمراً:
- نحننفاضل بين موت وآخر, وذا وآخر, لا غير. في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك جسدياً. عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة. في أوربا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عرياً كللحظة, ويطيل من عذابك أن العري لا يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة. تشعرأنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم, أنت عار ومكشوف بين الناس بسبباسمك, وسحنتك ودينك. لا خصوصية لك برغم أنك في بلد حر. أنت تحب وتعمل وتسافر وتنفقبشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الاستخبارات.
قال مراد:
- وهذا يحدثلك أيضاً في بلادك.
وكما لينهي الجدل وقف ليسألنا:
- واش تحبوا تاكلوا ياجماعة؟
سعدت بالسؤال. لا لجوعي, وإنما رغبة في تغيير نقاش لا يصلح بدايةلجلسة.
ضحكت في أعماقي لما ينتظر ناصر المسكين من مجادلات ومشاكسات يومية معمراد الذي أقصى تضحية قد يقوم بها إكراماً لضيفه: امتناعه عن تناول الكحول فيحضرته. وقبل أن نجيبه قصد مراد المطبخ وعاد بصحن من الصومون وآخر من الأجبانوالمخللات. قال وهو يضعها على الطاولة:
- هزوا قلبكم.. قبل العشاء.
اقترحت أننطلب بيتزا إلى البيت حتى لا نتحول إلى فئران بيضاء في مختبر مراد للطبخ.
قالناصر ممنياً نفسه بوليمة:
- عندما تأتي امّا ستعد لنا أطباق قسنطينية تغير مذاقالهمبرغر الأماني في فمي.. كم اشتقت لأكلنا..
رد عليه مراد مازحاً:
- دعك يارجل من الطبخ الجزائري وإلا أصبحت حقاً إرهابياً.
مواصلاً بمزاح:
- أتدري أنهقد صدر كتاب مؤخراً في أمريكا يثبت علاقة بعض أنواع الأكل بالنزعات الإجرامية.. لواطلع عليه مسؤولونا لوجدوا أنه من واجب الحكومة أن تتدخل بعد الآن في ما يأكلهالجزائريون بذريعة أن الإرهاب عندنا يتغذى أولاً من المطبخ الجزائري.
ونظراًلنبرته الجادة سألته:
- أحقاً ما تقول؟
أجاب:
- طبعاً.. أرأيتم شعباًمهووساً بأكل الرؤوس " المشوشطة" مثل الشعب الجزائري؟ حتى في فرنسا ما تكاد تسألجزائرياً ماذا تريد أن تأكل حتى يطالبك " ببزلوف". ترى الجميع وقوفاً لدى جزاراللحم الحلال ليفوز برأس مشوي لخروف.. أو رأسين يعود بهما إلى البيت, وإن لم يجدهأصبح طبقه المفضل لوبيا " بالكراوع". والله لو أن غاندي نفسه اتبع لشهر واحد ريجيمالمطبخ الجزائري المعاصر وتغذى " بوزلوف" وتعشى " كراوع" لباع عصاه ومعزاه واشترىكلاشينكوف!
ضحكنا كثيراً لكلام مراد. قاتله الله. يا لجمال روحه المرحة. إنهنموذج لشعب أنقذته سخريته من الموت.
قلت مواصلاً جدله المازح:
- ربما بسبباستهلاكنا الزائد للكراوع لا نفكر سوى بالهروب ومغادرة الجزائر نحو أيةوجهة.
قاطعني مستشهداً بمثل قسنطيني:
- وبسبب إقبالنا على "بوزلوف" أصبحنا " مثل الراس المشوشط.. ما فينا فير اللسان"!
حين جاء ( ساعي البيتزا) يوصل ماطلبناه بالهاتف, بذريعة علاقة الأكل الجزائري
█║S│█│Y║▌║R│║█
بالنزعات الإجرامية. خاصة أن البيتزاولدت في بلد المافيا, وهي بحكم جيناتها الإيطالية ليست بريئة إلى هذا الحد!
ذلكالفرح الجميل النادر الذي جمعنا, لم ينسني الموضوع الذي كان وحده يعنيني, فاستدرجتناصر إلى مزيد من الأخبار قائلاً:
- آن للحاجة أن تحضر, صعب على الذي تربى علىولائم الأمومة أن يرضى بشريحة بيتزا. وإن كان يعز على نفسي ما ستتحمله المسكينة فيهذا العمر من عذاب السفر.
ثم واصلت سائلا:
- هل ستقيم هنا معك ؟
- لا.. ستسكن مع أختي في الفندق. لكنها ستزورني هنا حتماً.. لا أدري بعد كيف ستتمالأمور.
قال الشيء الوحيد الذي كنت أريد معرفته. والباقي كان مجردتفاصيل.
هي ستأتي إذن! وكيف لهذه المصادفات العنيفة في سخائها, أن تكتملبدون مجيئها وبدون شيء على ذلك القدر من صاعقة المفاجأة.
دخلت في حالة شرود. رحتبعيداً أفكر في مصادفة قد تجمعني بها أو ذريعة تعطيها علماً بوجودي هنا.
كيف ليأن أعرف في أي فندق ستقيم؟ وإذا كان زوجها سيرافقها أم لا؟
كنت لا أزال أبحث عنطريقة أستدرج بها ناصر للحديث عن زوجها عساه يبوح ببعض أخبارها, عندما لم يقاوممراد شهوة شتمه وقال موجهاً الحديث إلى ناصر:
- واش جاي معاها هذاكالرخيص؟
سألته بتغابٍ:
- عمن تتحدث؟
قال:
- زوج أخته.. إن النجوم لاترفع وضيعاً!
أجاب ناصر:
- لا أظنه سيأتي.. يخاف إذا زار فرنسا أن يطالبأقارب بعض الضحايا السلطات الفرنسية بمنعه من العودة إلى الجزائر, ومحاكمته كمجرمحرب نظراً لجلسات التعذيب التي أشرف عليها, وبعض الاغتيالات التي تمت بأمر منه. وحدهم أولاده يسافرون لمتابعة أعماله في الخارج.
أشعل مراد سيجارة عصبية وقالبتذمر:
- الحرب استثمار جيد, كيف لا يثرون لو لم يكن لهم مدخول من الجثث ومصلحةفي إبقاء الآخرين مشغولين عنهم بمواراة موتاهم. فعندما لا تدور آلة الموت بأمرهمكانت تدور لصالحهم. فمن بربك الأكثر إرهاباً والأكثر تدميراً لهذا الوطن.. هم أمالقتلة!
خفت أن يتعكر جو سهرتنا بخلافات في وجهات نظر لا أظنها جديدة علىالرجلين, ولكن ما كان الوقت مناسباً لها.
استفدت من فتح الموضوع لأطرح على ناصرالسؤال الذي كان يعنيني ويشغلني دائماً.. قلت:
- اعذرني.. ولكن لا أفهم كيفاستطاعت أختك العيش مع هذا الرجل وكيف لم تطلب الطلاق منه حتى الآن؟
رد ناصر بعدشيء من الصمت:
- لأن مثله لا يطلق بل يقتل.
عبرتني قشعريرة. راح ذهني للحظاتيستعرض كل سيناريوهات الموت المبيت. يا إلهي.. أيمكن لشيء كهذا أن يحدث؟
أوصلتنيأفكاري السوداوية إلى تذكر ضرورة عودتي إلى باريس. نظرت إلى الساعة, فوجئت بأنهاالثانية عشرة إلا ربعاً. وقفت مستعجلاً الذهاب. كنت أخاف قاطرات الضواحي وما تحملهلك ليلاً من مفاجآت. لكن مراد نصحني بالبقاء لقضاء الليلة عنده. وأغراني بسهرة قدلا تتكرر.
ترددت في قبول عرضه. فكرت في فرانسواز التي لم أخبرها بعدم عودتي إلىالبيت. ثم فكرت في أنني لم أحضر لوازمي معي... وأنه قد لا يكون من مكان لنومناجميعاً.
لكن مراد حسم ترددي قائلاً:
- كل شيء كاين يا سيدي غير ماتخممش!
وجدت في قضائي ليلة مع ناصر, حدثاً قد لا يتكرر فأنا لم أنس لحظة أنه أخالمرأة التي أحب.
استأذنت مراد في إجراء مكالمة هاتفية, بدون أن أخبره أننيسأطلب فرانسواز. لكنه بعد ذلك, باغتني بخبث السؤال.
- واش.. قلتلها ماكشجاي؟
سألت بتغاب:
- شكون؟
رد:
- " اللبة" متاعك!
لا أدري كيف وجد فيفرانسواز شيئاً من اللبؤة.. ربما بسبب شعرها الأحمر أو ربما بسبب ما رآه فيها منشراسة مثيرة.
قلت مغيراً الموضوع بطريقة مازحة:
- أنا هارب يا خويا من أدغالالوطن.. يرحم باباك إبعد عني " اللبات" والأسود!
- واش بيك وليت خواف.. راناهنا.. نوريولهم الزنباع وين ينباع.
لا أدري لمن كان يريد أن يري "أين يباعالزنباع": للإرهابيين.. للعسكر.. أم لفرانسواز..
أجبته مازحاً لأحسم الجدل:
- وري زنباعك للي تحب.. أنا يا خويا راجل خواف!
انضم إلينا ناصر مرتديا عباءةالبيت, بعد أن انتهى من أداء صلاة العشاء. بدا كأنه أكبر من عمره. أحببت فيه طهارةتشع منه لا علاقة لها بعباءته البيضاء.
مازال نقياً, لم تستطع الغربة أن تجعلهيتعفن ويتلوث. ولا أصابته تشوهات المغتربين. كان معذباً بذنب وجوده خارج الجزائر. يبدو مبعثراً على أرض الحرية. لكنه لم يفقد رصانته ولا كان له كلام ناري. كان يدافععن قناعاته بصوت منخفض. وأحياناً بصمته. سأل:
- عم تتحدثان؟
قلت:
- كنتأقول له إنني خواف. هل عيب في أن يخاف المرء؟
صمت ولم يرد. شعرت أنني خيبت ظنه. قلت كما لأبرز له خوفي:
- صدقني لفرط ما عشت مع عدو لا يرى, ما عاد الخوفيغادرني. خاصة في الليل. كلما غادرت بيتي لأرمي بكيس الزبالة, توقعت أن أحداً يتربصبي وأنا أنزل الطوابق المعتمة للبناية.. أو أن أحداً ينتظرني في ركن من الشارعلينقض علي. ذلك أنني كل مرة أتذكر سينمائياً كان يدعى علي التنكي, لم أكن أعرفه, لكنه أغتيل في الحي الذي أسكنه بينما كان ذاهباً ليلاً ليلقي بكيس الزبالة. تصور أنترتبط ذكرى شخص في ذهنك بالقمامة, بأعمار موضوعة في أكياس الزبالة على الساعةالعاشرة, كما ليجمعها زبال القدر, كان قد انتهى لتوه من تصوير فيلم عنوانه " الفراشة لن تطير بعد الآن".
قاطعني مراد:
- يرحم باباك.. خلينا من هاذالحكايات.. على بالك وشحال في الساعة؟
نظرنا جميعنا إلى الساعة.
واصل:
█║S│█│Y║▌║R│║█
راهي الوحدة.. حبس يا راجل من " لي زافيرات متاع السريكات ولي زافيرات متاعالكتيلاتت" هاذي اللي كالوا فيها " جبت كط يوانسني ولى يبرك في عينيه!" قلنالك اقعديا راجل توانسنا.. وليت تخوف فينا!
انفجرنا ضاحكين أنا وناصر كما لم نضحك منزمان.
لفظ مراد كلامه على طريقو ( المفتش الطاهر) وهو شخصية كوميدية شعبية توفيفي السبعينات, اشتهر على طريقة كولمبو بمعطفه المضاد للمطر وبدور رجل التحري المختصفي قضايا " السريكات " و " الكتيلات" أي السرقات.. والجرائم. وصنعت شهرته لهجتهالمميزة في تحويل القاف "كافاً" على طريقة أهل مدينة جيجل. لافظاً القلب "كلباً" وقال لي " كالليً.
وكان مراد يستشهد بمثل شعبي معناه " جئت بالقط ليؤنسنيفأخافني بعينيه اللتين تبرقان في العتمة" بعد أن استبقاني لأؤنسه فرحت حسب قولهأخيفه بأخبار القتلى الذين اغتيلوا ليلاً وهم يلقون كيس الزبالة!
وكأنما أصابهذعر العجائز من عواقب الفرح, قال ناصر وهو يستعيد جديته:
- الله يجعلها خير.. عندي بالزاف ما ضحكتش هكذا!
رد مراد متهكماً:
- ياوالله مهابل.. واحد خايفيموت وواحد خايف يضحك..
إضحك يا راجل آخرتها موت!
كان هذا شعارنا أيام " مازفران" . يوم كان يحاضر لإقناعنا بالفرح كفعل مقاومة. فبالنسبة إليه مشكلتنا فيالجزائر أن الناس لا وقت لديهم للحياة. وهم مستغرقون في الاستشهاد. حتى أنهم فيانشغالهم بالبحث عن ذريعة لموت جميل, نسوا لماذا هم يموتون. بينما أثناء انشغالنانحن بالبقاء أحياء نسينا أن نحيا. فلا هؤلاء هنئوا بموتهم ولا نحن نعمنابحياتنا.
حتماً كان على حق. كانت تنقصنا البهجة حتى صار ضرورياً حسب قوله أنيؤسس المرء خلية سرية لتعاطي الفرح سراً في بيته بصفته نشاطاً محظوراً لسنوات فيالجزائر. أذكر ذلك الأستاذ الذي روى لي كيف كان مرة جالساً في مقهى على رصيفالجامعة مع صديقين يتجازبون أطراف الحديث ويضحكون, عندما توقف أمامهم رجلان في زيأفغاني وسألاهم بنبرة عدائية: " ماذا يضحككم؟". ولم يشفع لهم إلا أن تعرف أحدهماعلى أحد الجالسين. ولم يذهبا حتى أخذا منهم عهداً بأنهم " ما يزيدوش يعاودوايضحكوا"!
عندما رويت تلك الحادثة الغريبة لمراد, وجد فيها ما يؤكد نظريته بأنالطغاة يجدون دائماً في فرح الرعية خرقاً لقوانين القهر وتعدياً على مؤسسة العسف. ولذا إن أكبر معارضة لأي ديكتاتور في العالم هي أن تقرر أن تبتهج. فأي دكتاتور يعزعليه أن يفرح الناس إن لم يرتبط فرحهم بعيد ميلاده أو ذكرى وصوله إلىالحكم.
كان مراد أثناء ذلك قد توجه إلى آلة التسجيل ووضع شريطاً لأغنيةقسنطينية. وقبل أن نستجمع أفكارنا علا صوت تلك الأغنية الراقصة التي كأنني مانسيتها يوماً, مع أنني لم أستمع إليها منذ زمن بعيد. أغنية من تلك الأغاني التيتكاد تكون لها رائحة, ويكاد يكون لها جسد. جسد نساء شاهدتهن في طفولتك بشعرهنالمنفلت يرقصن منخطفات حتى الإغماء في أثوابهن الجميلة المطرزة بخيوط الذهب.
وقفمراد, والسيجارة في طرف فمه, يرقص كأنه يراقص نفسه على موسيقى الزندالي. رقصة لاتخلو من رصانة الرجولة وإغرائها, يتحرك نصفه الأعلى بكتفين يهتزان كأنهما مع كلحركة يضبطان إيقاع التحدي الذي يسكنه, بينما يتماوج وسطه يمنة ويسرة ببطء يفضح مزاجشهواته والإيقاع السري لجسده.
بدا لي فجأة أجمل مما هو. أجمل مما كان يوماً. وفهمت لماذا تشتهيه النساء.
لا أدري كيف أعادني رقصه إلى زوجها الذي شاهدتهمرة على التلفزيون أثناء نقل حفل مباشر.
كان بهيئة من يدعي الوقار يرتدي مهابتهالعسكرية, جالساً في الصفوف الأمامية مع أولئك الذين هم أهم من أن يطربوا, مكتفينعندما تلتهب القاعة بصوت الفرقاني مردداً " أليف يا سلطاني والهجران كواني" بجهدمتواضع والتكرم على المغني بتصفيق رصين خشية أن تتناثر من على أكتافهم نجومهمالمثبتة بغراء هيبتهم الزائفة!
أشفقت عليه. إن رجلاً لا يتنتفض منتصباً في حضرةالطرب, هو حتماً فاقد للقدرة على الارتعاش في حضرة النشوة!
شكرت يومها حضورهالبارد في سريرها.
كان مراد أثناء ذلك يزداد وسامة كلما ازداد وقع الدفوف. كأنما كانت الموسيقى تدق احتفاء برجولته. وكأن جسده في انتشائه يبتهل لشيء وحدهيعرفه.
باسم الله نبدى كلامي...............قسمطينة هي غرامي
نتفكرك فيمنامـي...............إنتـي والوالديـــن
كانت الأصوات والدفوف ترد على المغنيمع نهاية كل بيت ( الله) وتمضي الأغنية في ذكر أحياء قسنطينة وأسواقها اسماًاسماً:
على السويقة نبكي وانّوح .................رحبة الصوف قلبي مجروح
بابالـواد والقـنـطرة.................. رحـتِ يا الزيـن خسـارة
لكأنها تحيك لكمؤامرة, هذه الأغنية التي مازلت جاهلاً ما سيكون قدرك معها. تهديك شجىً يفضي بك إلىشجن, طرباً يفضي بك إلى حزن. تضعك أمام الانطفاء الفجائي لمباهج صباك, لأنها تذكركبوزر خساراتك.
أأراد مراد حقاً إبهاجنا بأغنية, برغم إيقاعها الفرح, هي فيوضعنا ذاك دعوة معلنة للبكاء؟ أو ربما نحن من فقدنا عادة الفرح, ولم نعد نصلحللانخراط في حزب البهجة الذي يدعونا إليه عنوة!
عبثاً حاول مراد استدراجنالمراقصته احتفاءً بمباهجنا المؤجلة. انتهت سهرتنا كما بدأت, بأحاسيس متناقضة تخفيخسارات لم ندر كيف نتدبر أمرها.
احترمت حزن ناصر المترفع عن الإفشاء. وعندما كانعلي بعد ذلك أن أتقاسم معه غرفة أصبحت للنوم, تركت له الأريكة التي تحولت إلى سريرلشخصين ونمت على فراش أرضي. كان له مقام التاريخ وسطوته. وكنت رجل الشهوات الأرضيةوالحزن المنخفض الذي نام دوماً عند أقدام قسنطينة.
***
صباح الضواحي الباردة, وأنت عابر سرير حيث نمت, وقلبك الذي استيقظ مقلوباًرأساً على عقب, كمزاج الكراسي المقلوبة فجراً على طاولات المقاهي الباريسية, ينتظرمن يمسح أرضه من خطى الذين مشوا بوحل أحذيتهم على أحلامك.
من يكنس رصيف حزنك منأوراق خريف العشاق؟
أكان لمزاجي علاقة بليلة قضيتها على فراشٍ أرضي أتقلب بحثاًعن جانب يغفو عليه أرقي؟
أنا الذي كنت أختبر أغرب المصادفات, أن أتقاسم غرفة نوممع أخ امرأة حلمت أن أقضي معها ليلة!
أيمكن أن تأخذ قسطاً من النسيان عندما تنامأرضاً على فراش الحرمان, تماماً عند أقدام ذاكرتك؟
أين أنجو من امرأة تطاردنيحيث كنت؟ وماذا أتسلق للهروب منها ولا جدران لسجنها؟
قبل النوم, واصلتالثرثرة قليلاً مع ناصر, كما تتحدث النساء عندنا مع بعضهن البعض بين طابقين.
فيعتمة ما قبل النعاس, وبعد أن توقعته غفا, استدار ناصر صوب جهتي وسألني فجأة:
- كيف تركت قسنطينة؟
شعرت أنه أجّل السؤال الأهم. خشية أن ينفضح به, أو كأنه أرادأن يغفو على ذكراها كما يغفو غيره على ذكرى حبيبة!
أردت أن أدثره بشيء جميل. لكنوجدتني أقول:
- هي بخير. لقد خلعت أخيراً حداد صالح باي. لا ملاءة في قسنطينة. كلما ماتت عجوز كفنت بملايتها وولد حجاب جديد مع صبية.
لم يقل شيئاً. ولا أناأضفت لحزننا مزيداً من الكلام. أظنه غفا وهو يضم إلى صدره ملاءة أمه المضمخةبرائحتها.
كنت أفكر وقتها في امرأة هي الوريثة الوحيدة لذلك الحداد الجميل, وأنزلق تحت فراش غيابها.
سريري لم يخل منها, تلك التي بعد كل زيارة يتجدد عبقها, أخفي ثوبها كما نخفي, ليلة العيد, ثيابنا تحت الوسادة. أزور رائحتها.. ويعودني فيالوحدة قميص نومها.
عامان من الوفاء, لقميص نوم سرق كل عبق الأنوثة المعتقة فيقارورة الجسد.
كنت أواظب على اشتهائها كل ليلة. وأستيقظ, كل صباح, وعلى سريريآثار أحلام مخضبة بها.
أستأتي إذن تلك التي تجيء بها مصادفة وتذهب بهاأخرى؟
وأنا الذي لم يحدث أن التفت إلى الخلف, ولا عدت إلى سلة المهملات بحثاً عنشيء سبق أن ألقيته فيها.
عشت أجمع بعضها في الآخرين, أرمم ما تهشم منيبانكسارها.
وهأنذا أعثر على آخر حيلة لاستدراجها إلى فخ المصادفة, بعد أن زودتناصر ببطاقة عن معرض زيان, واثقاً تماماً أنه سيحدثها عنه, خاصة بعدما أخبرته بمرضهوبيعه في هذا المعرض آخر لوحاته.
قال ناصر متأثراً بالخبر:
- كم يحزننيمرضه.. مم يعاني؟
- من السرطان.. لكنه لا يدري.
قال متهكماً:
- مثله لايدري؟! أنت حتماُ لا تعرفه جيداً. لقد علم بأكثر مما كان يجب عليه أن يعرف.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)