وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالميل إلى أرض فارس وكَرْمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحية الكوفة وماهاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري. وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنة ثمان عشرة. وهو قول سيف بن عمر.
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة -أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجنديْن اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بن أبي وقاص وبين عمل عمار بن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان -وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي-وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد الله بن عبد الله، وبُعث في وجه آخر من الوجوه، وولى زياد بن حنظلة -وكان من المهاجرين- فعمل قليلا وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولى عمار بن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح الله على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خُراسان. وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله وعقد لهما على أذْرَبيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرنها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتساير هذا عن صاحبه. وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بن سراقة على البصرة.
وكان من حديث عبد الله بن عبد الله أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يؤذن في الانسياح فكتب إليه: أن سِر من الكوفة حتى تنزل الدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان فانتدب له فيمن انتدب عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعبد الله بن الحارث بن ورقاء الأسدي. والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب إلى جده، وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي.
ولما أتى عمرَ انبعاثُ عبد الله، بعث زياد بن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول الله عز وجل: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }. وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد الله بن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرّن، فاستعفيا وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة. فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن أسيد الغفاري وجابر بن عمرو المُزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، حذيفة على ما سقت دِجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليهم عمار بن ياسر أميرا، وجعلت عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى.
ذكر الخبر عن إصبهان
قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد الله بن ورقاء الأسدي وعصمة بن عبد الله -وهو عصمة بن عبد الله بن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد الله في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأُسْتَنْدار، وكان على مقدّمته شَهْربراز جاذَوْيه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برُستاق عن رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم. ودعا عبد الله بن عبد الله من يليه، فسال الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان. ثم سار عبد الله من رستاق الشيخ نحو جَيّ حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء الله من زحف؛ فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد الله: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نُشّابة. فبرز له عبد الله وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمِل عليك، فوقف له عبد الله، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قَرَبُوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد الله على الفرس، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن أرجعُ معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تُجري من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه. قال: لكم ذلك.
وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد الله فخرج القوم من جي، ودخلوا الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد الله وأبو موسى جي -وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص. فقدم كتاب عمر على عبد الله أن سر حتى تقدم على سُهيل بن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلّف في جي من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بن الأقرع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن نفر من أصحاب الحسن منهم المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدَها مددا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: كتاب صلح إصبهان:
بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها؛ إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم عن الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة ئؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلةٍ، لا تسلّطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بُلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله.
فلما قدم الكتاب من عمر على عبد الله، وأمر فيه باللحاق بسهيل بن عدي بكرمان، خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.
وقد روي عن معقل بن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بن مقرن.
ذكر الرواية بذلك
حدثنا يعقوب بن إبراهيم وعمرو بن علي، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمى، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن عبد الله المدني، عن معقل بن يسار، أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى: أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس. فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. فدخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيًا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز. فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم الظهر، وأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم، وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السلاطين عليهم القِرَطة وأسورة الذهب وثياب الديباج. ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلين، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم ال بلادكم. فتكلم المغيرة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن الله عز وجل ابتعث منا نبيا أوسطنا حسبا وأصدقنا حديثا -فذكر النبي بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا. وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها.
قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفلة، فوثبت، فإذا أنا منه على سريره. قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم. قال: قلت: هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا. فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئنا قطعنا إليكم. قال: فقلت: بل نقطع إليكم. قال: وقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة. قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك الله، إنه قد أسرِع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر.
قال: ثم قال: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شِسعه فأصلحه، وأما الثالئة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان فلا يلو عليه أحد، فإني أدعو الله عز وحل بدعوة، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها! اللهم أعط اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم؛ وهز لواءه أول مرة، ثم هز الثانية، ثم هزه الثالثة، ثم شَلّ درعه، ثم حمل فكان أول صريع، فقال معقل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته فجعلت عليه علما، ثم ذهبت -وكنا إذا قتلنا رجلا شُغل عنا أصحابه- ووقع ذو الحاجبين عن بغلته فانشق بطنه، فهزمهم الله، ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب، ففال: من أنت؟ قلت: معقل بن يسار، قال: ما فعل الناس؟ فقك: فتح الله عليهم، قال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إل عمر، وفاضت نفسه.
واجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس، وفيهم ابن عمر وابن الزبير وعمرو بن معديكرب وحذيفة، فبعثوا إلى أم ولده، فقالوا: أما عهد إليك عهدا؟ فقالت: ها هنا سَفَط فيه كتاب، فأخذوه، فكان فيه: إن قتل النعمان ففلان، وإن قتل فلان ففلان.
أخبار متفرقة
وقال الواقدي: في هذه السنة -يعني سنة إحدى وعشرين- مات خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب.
قال: وفيها غزا عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمرو وأبو سروعة، فقدموا مصر، فشرب عبد الرحمن وأبو سروعة الخمر، وكان من أمرهما ما كان.
فال: وفيها سار عمرو بن العاص إل أنطابُلُس -وهي برقة- فافتتحها وصالح أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم ما أحبوا في جزيتهم.
قال: وفيها ولى عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فأصاب جبير بن مطعم خاليا فولاه الكوفة، فقال: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير بن مطعم، فرجع إل امرأته، فقال: اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم، فاعرضي عليها طعام السفر، فأتتها فعرضت عليها، فاستعجمت عليها، ثم قالت: نعم، فجيئني به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن وليت! قال: فمن وليت؟ فأخبره أنه ولى جبير بن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع! وولى المغيرة بن شعبة الكوفة؛ فلم يزل عليها حتى مات عمر.
قال: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري، فافتتح زَويلة بصلح وما بين برقة وزويلة سِلم للمسلمين.
وحدثا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان بالشأم في سنة إحدى وعشرين غزوة الأمير معاوية بن أبي سفيان، وعمير بن سعد الأنصاري على دمشق والبثنية وحوران وحِمص وقنَّسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسواحل وأنطاكيَة ومَعَرّة مَصْرين وقِلِقيّة. وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين.
وقيل: وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي.
قال الواقدي: وحج بأناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وخلف على المدينة زيد بن ثابت؛ وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين والشام ومصر والبصرة من كان عليها في سنة عشرين، وأما الكوفة فإن عامله عليها كان عمار بن ياسر، وكان إليه الأحداث، وإلى عبد الله بن مسعود بيت المال، وإلى عثمان بن حنيف الخراج، وإلى شريح فيما قيل القضاء.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين
ذكر فتح همذان
قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بن شعبة. وكذلك قال الواقدي.
وأما سيف بن عمر، فإنه قال فيما كتب إلي به السري عن شعيب عنه، قال: كان فتح أذربيجان سنة ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والرّي وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين. قال: وكلّ ذلك كان في سنة ثمان عشرة.
قال: فكان سبب فتح همذان - فيما زعم - أنّ محمدًا والمهلب وطلحة وعمرًا وسعيدًا أخبروه أنّ النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة؛ ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعة في مرج فيها مسلحة، فاستزلوهم، وكان أوّل الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلًا يمسكون بالقلعة، فسمّوا معسكرهم بالمرج؛ مرج القلعة؛ ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند؛ حتى إذا انتهوا إلى قلعة فيها قوم خلّفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة؛ فنسبت إليه؛ وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي - أقاموا مع النسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعًا؛ لأنّ بعضهم قوّى بعضًا. ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مرّوا به قبل ذلك فيما استقرّوا من المرج إليها بصفاتها، وازدحمت الركاب في ثنيّة من ثنايا ماه، فسمّيت بالركاب، فقيل: ثنيّة الركاب. وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسمّوها ملويّة، فدرست أسماؤها الأولى، وسمّيت بصفاتها، ومرّوا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سنّ سميرة - وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبيّة لها سنّ مشرفة على أسنانها، فسمّي ذلك الجبل بسنّها - وقد كان حذيفة أتبع الفالّة - فالّة نهاوند - نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو؛ فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعد. فلمّا قدم عهده في العهود من عند عمر ودّع حذيفة وودّعه حذيفة؛ هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعًا. واستخلف على الماهين عمرو بن بلال بن الحارث.
وكان كتاب عمر إلى نعيم بن مقرّن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدّمتك سويد بن مقرّن، وعلى مجنّبتيك ربعي بن عامر ومهلهل ابن زيد؛ هذا طائي، وذاك تميمي. فخرج نعيم بن مقرّن في تعبيته حتى نزل ثنيّة العسل - وإنما سمّيت ثنيّة العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غبّ وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالّة تعالى فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصّة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك؛ فحبست الفيرزان حتى نزل؛ فتوقّل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب. ولما نزلوا كنكور سرقت دوابّ من دوابّ المسلمين، فسمّى قصر اللصوص.
ثم انحدر نعيم من الثنيّة حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصّنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها. فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرىً واحدًا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المتعة، وفرّق دستبي بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الضبّيبّ ومهلهل بن زيد الطائي وسماك بن عبيد العيسي وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن خرشة الأنصاري؛ فكان هؤلاء أوّل من ولي مسالح دستبي وقاتل الديّلم.
وأما الواقدي فإنه قال: كان فتح همذان والرّي في سنة ثلاث وعشرين. قال: ويقال افتتح الري قرظة بن كعب.
وحدثني ربيعة بن عثمان أنّ فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب؛ وكان أميرها المغيرة بن شعبة.
قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها.
رجع الحديث إلى حديث سيف. قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفًا من الجند تكاتب الديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، ثم خرج موتًا في الديلم حتى ينزل بواج روذ؛ وأقبل الزيني أبو الفرّخان في أهل الري حتى انضمّ إليه، وتحصّن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا؛ وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند؛ ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار؛ وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتمّ بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلّا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة؛ فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير؛ فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر؛ وأخبره الخبر؛ فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرىء على الناس؛ فحمدوا الله. ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عبيد وسماك بن خرشة في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك، فقال: بارك الله فيكم؛ اللهمّ اسمك بهم الإسلام وأيّدهم بالإسلام. فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرسول إلى نعيم بن مقرّن بجواب عمر بن الخطّاب: أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الري، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد. فأقرّ نعيم يزيد بن قيس الهمداني على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الري.
وقال نعيم في واج الروذ:
لمّا أتاني أن موتًا ورهطه ** بني باسل جرّوا جنود الأعاجم
نهضت إليهم بالجنود مساميًا ** لأمنع منهم ذمّتي بالقواصم
فجئنا إليهم بالحديد كأننا ** جبال تراءى من فروع القلاسم
فلما لقيناهم بها مستفيضة ** وقد جعلوا يسمون فعل المساهم
صدمناهم في واج روذ بجمعنا ** غداة رميناهم بإحدى العظائم
فما صبروا في حومة الموت ساعة ** لحدّ الرماح والسيوف الصوارم
كأنهم عند انبثاث جموعهم ** جدار تشظّى لبنه للهوادم
تبعناهم حتى أووا في شعابهم ** نقتّلهم قتل الكلاب الجواحم
كأنهم في واج روذ وجوّه ** ضئين أصابها فروج المخارم
وسماك بن مخرمة هو صاحب مسجد سماك.
وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلّف عليها يزيد بن قيس الهمذاني، وسار بالجنود حتى لحق بالرّي، وكان أوّل نسل الديلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم.
فتح الري
قالوا: وخرج نعيم بن مقرّن من واج روذ في الناس - وقد أخربها - إلى دستبي، ففصل منها إلى الري، وقد جمعوا له، وخرج الزينبي أبو الفرّخان، فلقيه الزينبي بمكان يقال له قها مسالمًا ومخالفًا لملك الري، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالري سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين، فاستمدّ أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان. وقال: قد علمتم أنّ هؤلاء قد حلّوا بالرّي، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبي قال لنعيم: إنّ القوم كثير، وأنت في قلّة؛ فابعث معي خيلًا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلًا من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة، ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتًا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثمّ إنهم انهزموا فقتلوا مقتلةً عدّوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالرّي نحوًا من فيء المدائن، وصالحه الزيبنبي على أهل الري ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي الأكبر، ومنهم شهرام وفرّخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم ميدنتهم، وهي التي يقال لها العتيقة - يعني مدينة الري - وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح الله عليه مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس مع عتيبة بن النهاس وأبي مفزّر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة الأنصاري بعد ما فتح الري، فسار سماك إلى أذربيجان مددًا لبكير، وكتب نعيم لأهل الري كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بن مقرّن الزينبي بن قوله، أعطاه الأمان على أهل الري ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كلّ حالم في كلّ سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلّوا ولا يغلّوا ولا يسلّوا، وعلى أن يقروا المسلمين يومًا وليلة، وعلى أن يفخّموا المسلم، فمن سبّ مسلمًا أو استخفّ به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدّل منهم فلم يستلم برمّته فقد غيّر جماعتكم. وكتب وشهد.
وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتابًا على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من نعيم بن مقرّن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشّرّز. إنك آمن ومن دخل معك على الكفّ، أن تكفّ أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كلّ سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلّا بإذن؛ ما أقمت على ذلك حتى تغيّر، ومن غيّر فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه. وكتب وشهد.
فتح قومس
قالوا: ولما كتب نعيم بفتح الري مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدّم سويد بن مقرّن إلى قومس، وابعث على مقدّمته سماك بن مخرمة وعلى مجنّبتيه عتيبة بن النهاس وهند بن عمرو الجملي، ففصل سويد بن مقرّن في تعبيته من الري نحو قومس؛ فلم يقم له أحد، فأخذها سلمًا، وعسكر بها، فلمّات شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر؛ فقال لهم سويد: غيّروا ماءكم حتى تعودوا كأهله؛ ففعلوا، واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سويد بن مقرّن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدّوا الجزية عن يد؛ عن كلّ حالم بقدر طاقته؛ وعلى أن ينصحوا ولا يغشّوا، وعلى أن يدلّوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يومًا وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدّلوا واستخفّوا بعهدهم فالذمّة منهم بريئة. وكتب وشهد.
فتح جرجان
قالوا: وعسكر سويد بن مقرّن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصّلح على أن يؤدّي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه. فقبل ذلك منه، وتلقّاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان؛ فدخل معه وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدّها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمّن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها؛ وكتب بينهم وبينه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إنّ لكم الذمة، وعلينا المنعة؛ على أنّ عليكم من الجزاء في كلّ سنة على قدر طاقتكم؛ على كلّ حالم؛ ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه؛ ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدّوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سلّ ولا غلّ، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه؛ وعلى أنّ من سبّ مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمرو، وسماك بن مخرمة، وعتيبة بن النهاس. وكتب في سنة ثمان عشرة.
وأما المدائني، فإنه قال - فيما حدثنا أبو زيد، عنه: فنحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين.
فتح طبرستان
قالوا: وأرسل الإصبهبذ سويدًا في الصلح، على أن يتوادعا؛ ويجعل له شيئًا على غير نصر ولا معونة على أحد؛ فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن للفرّخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدوّ؛ إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تكفّ لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتنّقي من ولي فرج أرضك بخمشمائة ألف درهم من دراهم أرضك فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرّق أرضك، ولا يدخل عليك إلّا بإذنك؛ سبيلنا عليكم بالإذن آمنة؛ وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلّون لنا إلى عدوّ، ولا تغلّون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم. شهد سواد بن قطبة التميمي، وهند بن عمرو المرادي، وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسي، وعتيبة بن النهّاس البكري. وكتب سنة ثمان عشرة.
فتح أذربيجان
قال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الري من واج روذ، كتب إليه عمر: أنّ يبعث سماك بن خرشة الأنصاري ممدًّا لبكير بن عبد الله بأذربيجان؛ فأخّر ذلك حتى افتتح الري، ثم سرّحه من الري، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان؛ وكان سماك بن خرشة وعتبة بن فرقد من أغنياء العرب؛ وقدما الكوفة بالغنى؛ وقد كان بكير سار حين بعث إليها؛ حتى إذا طلع بحيال جرميذان - طلع عليهم إسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزومًا من واج روذ، فكان أوّل قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جنده؛ وأخذ بكير إسفندياذ أسيرًا، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء لم يقيسوا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصّن تحصّن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممدًّا وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضينّ قدما ولأخلّفنّكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عند فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلّا تارككما وطالبًا وجهًا هو أكره من هذا. فاستعفى عمر؛ فكتب إليه بالإذن على أن يتقدّم نحو الباب؛ وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمّه عتبة إليه، وأمّر عتبة سماك بن خرشة - وليس بأبي دجانة - على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد.
قالوا: وقد كان بهرام بن الفرّخزاذ أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام. فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلمًا، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمّسوا مما أفاء الله عليهم، ووفّدوا الوفود بذلك؛ وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. وكتب عتبة بينه وبين أهل أذربيجان كتابًا حيث جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان - سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها - كلّهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم؛ على أن يؤدّوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن لي في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبّد متخلّ ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم؛ وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه. وكتب جندب، وشهد بكير بن عبد الله الليثي وسماك بن خرشة الأنصاري. وكتب في سنة ثمان عشرة.
قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أنّ عمر كان يأخذ عمّاله بموافاة الموسم في كلّ سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه.
فتح الباب
وفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا - يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: ردّ عمر أبا موسى إلى البصرة، وردّ سراقة بن عمرو - وكان يدعى ذا النور - إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة - وكان أيضًا يدعى ذا النور - وجعل على إحدى المجنّبتين حذيفة بن أسيد الغفاري، وسمّى للأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به - وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة. فقدّم سراقة عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدفّ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عبّاه عمر. وأمدّه عمر بحبيب بن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بن حنظلة مكانه على الجزيرة. ولما أطلّ عبد الرحمن بن ربيعة على الملك بالباب - والملك بها يومئذ شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال: إنّي بإزاء عدوّ كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء؛ ولا من الأرمن؛ وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوى معكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم. فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوّزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزاء ممّن يقيم ولا ينهض. فقبل ذلك، وصار سنّة فيمن كان يحارب العدوّ من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلّا أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب بذلك، فأجازه وحسّنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلّا على أوفاز؛ وإنما هم سكان ممّن حولها ومن الطرّاء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم؛ واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابًا:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملّتهم ألّا يضارّوا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية والأبواب؛ الطرّاء منهم والتّنّاء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكلّ غارة، وينفذوا لكلّ أمر ناب أولم ينب رآه الوالي صلاحًا؛ على أن توضع الجزاء عمّن أجاب إلى ذلك إلّا الحشر، والحشر عوضٌ من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنّزل يومًا كاملًا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله. وكتب مرضي بن مقرّن وشهد.
ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرًا إلى موقان، ووجه حبيبًا إلى تفليس، وحذيفة بن أسيد إلى من بجبال اللآن، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجّه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتمّ له على ما خرج عليه في سريح بغير مؤونة. وكان فرجًا عظيمًا به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.
فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القوّاد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجّه له إلّا بكير فإنه فضّ موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى بكير بن عبد الله أهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كلّ حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقرّوا ونصحوا، وعلينا الوفاء؛ والله المستعان. فإن تركوا ذلك واستبان منهم غشّ فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمّتهم؛ وإلّا فهم متمالئون. شهد الشمّاخ بن ضرار والرسارس بن جنادب، وحملة بن جويّة. وكتب سنة إحدى وعشرين.
قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقرّ عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر؛ قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال: لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم؛ وتالله إنّ معنا لأقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم لارّدم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائمًا لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيّرهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم؛ ثمّ غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتدّ اصتصلاحًا لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فسادًا أن سادهم من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى جعل يتمثل:
وكنت وعمرًا كالمسمّن كلبه ** فخدّشه أنيابه وأظافره
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعه الملائكة تمنعه من الموت؛ فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظّفر، وذلك في إمارة عمر؛ ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدّل ألهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتدّ فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض؛ فرمى رجلٌ منهم رجلًا من المسلمين على غرّة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتدّ قتالهم، ونادى مناد من الجوّ: صبرًا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنّة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجوّ: صبرًا آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أوترى جزعًا! ثمّ خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدوسي على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن.
وحدث عمرو بن معد يكرب عن مطر بن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهر براز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة؛ حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطرقباء برود يمينيّة، أرضه حمراء، ووشيه أسود - أو وشيه أحمر - وأرضه سوداء، فتساءلا.
ثمّ إنّ شهربراز، قال: أيّها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السدّ لينظر ما حاله ومن دونه، وزوّدته مالًا عظيمًا، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزوّدته لكلّ ملك هدّية؛ ففعل ذلك بكلّ ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السدّ في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكّر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سدّ مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشدّ سوادًا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرّست فيه، ثم ذهبت لانصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلّا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به في هذا اللهب، فشرّح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضّت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء؛ وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء؛ فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها؛ وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها؛ وها هي هذه. فتناولها شهر براز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردّها إلى شهر براز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد - يعني الباب - وايم الله لأنتم أحبّ إلي ملكة من آل كسرى؛ ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني؛ وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر.
فأقبل عبد الرحمن على الرسول، وقال: ما حال هذا الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بن ثلج لعبد الرحمن بن ربيعة: صدق والله الرجل؛ لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: " آتوني زبر الحديد.. " إلى آخر الآية.
وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديّتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان.
وزعم الواقدي أنّ معاوية غزا الصائفة في هذه السنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين.
وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بن الوليد.
وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)