قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هدا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد. فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة. فلم تزل الحرب ببن ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا. وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف.
وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخُبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء، كما ذكر محمد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه. ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم يجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقلت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمت لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا شهرا، ويقال: خمسة أيام.
قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والغفر فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها. فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير: جئت مودعا إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشُد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة، ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكرْ
فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب.
حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه أهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمرن منه، فما أنسى أرجوزة له:
إني إذا أعرف يومي أصبِرْ ** وإنما يعرف يومَيهِ الحرّْ
إذا بعضُهم يَعرِف ثم يُنكِرْ
فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال: رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية. فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال. فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** وأنما يعرف يومَيْه الحر
ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال!
لو كان قِرني واحدا كفيتهْ
قال ابن صفوان: إي والله وألف.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن أبي المنذر. وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطُلِمنا في الله لم تصبنا زبّاءُ بتّة. أما بعد يا آل الزبير، فلا يرُعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطئا قط إلا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهر كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قِرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير، ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول:
أبى لابن سلمى أنه غيرُ خالد ** ملاقي المنايا أيَّ صَرْفٍ تيمَّما
فلستُ بمُبتاع الحياة بسُبّةٍ ** ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سُلَّما
احملوا على بركة الله.
ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحَجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودُمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتغاوَوا عليه.
قالا: وصاحت مولاة لنا مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خَزّ. وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكرَ من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
حدثنا عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى ابن الزبير وقد قتل غلاما أسود ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا ابن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان.
أخبار متفرقة
قال أبو جعفر: وفى هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر.
وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال كانت وفاته في سنة أربع وسبعين.
وفيها أيضا وجّه -فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها. ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه. وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن الغيرة ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة. فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقره. ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم فيما ذكر نحوا من ستة آلاف، وأسر ثمانمائة، وأصابوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه. فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث.
وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة. فهزم الروم.
وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية، وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا. فهزمهم وكثر القتل فيهم.
وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة. وعلى الكوفة والبصرة -في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسعد وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث. وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وعلى خراسان بكير بن وشاح.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين
ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة
قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاح بن يوسف. فقدمها فيما ذكر فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا.
وفيها كان فيما ذكر نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه.
واستخف فيها بأصحاب رسول الله ، فختم في أعناقهم، فذكر محمد بن عمران بن أبي ذئب حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده.
وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك.
قال ابن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني فيما ذكر الواقدي.
وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها.
ذكر الخبر عن حرب المهلب الأزارقة
وفي هذه السنة وُلِّيَ المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك.
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها
ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه:
أما بعد: فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين. وأبعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم. والسلام عليك.
فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قببصة بن سراق الأزدي -وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة.
قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: إنك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك. انظر هذا الكذا كذا -يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به.
قال: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمتي كأني من السفهاء أو ممن يستصبى ويستجهل، ما رأيت شيخا في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق.
قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: ما لك؟ قلت: أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا. قال: فودعته وخرجت من عنده.
وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رامَ مَهُرْمُز فلقي بها الخوارج، فخندق عليهم، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن محمد بن الأشعث، وعلى ربع مَذحج وأسد زَحْر بن قيس. فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف. حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفضَّ ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين ثم أخذ عليهما ألا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطُلبا فلم يلحقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له:
بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن عبد الله، إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإن الله كنب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الامر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوّام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان. أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم، إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة.
عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهرن. أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
وأخذ كلما قرا عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع. أشهد لا يعيج بشيء مما في هذا الكتاب. فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا.
فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر واسحاق بن محمد ومحمد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكرفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير وإلى مصرنا، وأحببنا ألا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه.
فكتب إليهم:
أما بعد. فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فلن يكون لكم عندنا إذن ولا أمان.
فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف.
عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله عليها
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بُكَير بن وِشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية
وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين.
وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا -فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي. فقال: ألا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده -ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق. اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. فقبل مشورته. وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألا يقاتله. وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى عبد الملك بن مروان: إن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فهلك الثغر ومن فيه. وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له وطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت من انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري -قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار: صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس. فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول نتيجتي أي لِدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان. فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بُكير بن وشاح:
أتتك العيس تنفخ في بُراها ** تشف عن مناكبها القُطوعُ
كأن مواقع الأكوار منها ** حمام كنائسٍ بُقعٌ وُقوع
بأبيضَ من أمية مضرحي ** كأن جبينه سيفٌ صنيع
وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه أنه قد قارب أبرشهر قال لرجل من عجم أهل مرو يقال له رُزَين -أو زرير-: دلني على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سَرَخْسَ في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع عن بكير أموالا أصابها، وحذره غدره.
قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تُحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة!
وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال: طُخارستان، قال: هي لك. قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده.
أخبار متفرقة
وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مَخرَمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذُكر ذلك عن محمد بن عمر.
وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسعد، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبَيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مَرْعش.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خُراسان وسِجِسْتان.
ولاية الحجاج على الكوفة وخطبته في أهلها
وفيها قدم الحجاج الكوفة.
فحدثني أبو زيد، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءةً، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خَزّ حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجةً، فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جَلَا وطَلّاع الثنايا ** متى أضَعِ العِمامة تَعرفوني
أما والله إني لأحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمئله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قِطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللِّحى.
قد شمَّرتْ عن ساقها تشميرا
هذا أوان الشَّد فاشتدّي زِيَمْ ** قد لّفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ
ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجزارٍ على ظهر وَضَم
قد لفها الليل بعصلَبي ** أروَعَ خَرّاجٍ من الدوّيِّ
مُهاجرٍ ليس بأعرابيِّ
ليس أوان يكره الخِلاطُ ** جاءت به والقُلُص الأعلاطُ
تَهوي هُويَّ سابقِ الغَطاطِ
وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقَعقَعُ لي بالشِّنان، ولقد فُرِرتُ عن ذكاء، وجَرَيت إلى الغاية القصوى. إن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته ثم عَجَم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعم في الفتن، وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت. فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك! والله لتستقيمن على سبل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله.
ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول محمد بن عُمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمّه! والله إني لأحسب خبره كرُوائه. فلا تكلم الحجاج جعل الحص ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته:
شاهت الوجوه! إن الله ضرب { مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }، وأنتم أولئك وأشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا. فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تَدِرّوا، ولأعصبَّنكم عَصْب السَّلَمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتَدَعُنّ الإرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبْر وما الهبر! أو لأهْبُرنكم بالسيف هبْرا يدَع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهى، وتقلعوا عن ها وها. إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده. ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزو طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه.
ثم دعا العُرَفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وائتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير الخطبة:
قوله: " أنا ابن جلا " فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة. والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ. أوينع الثمر: بلغ إدراكه. وقوله: " فاشتد زيم " فهى اسم للحرب. والحطم: الذي يحطم كل شئ يمر به. والوضم: ما وقى به اللحم من الأرض. والعصلبي: الشديد. والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها. أنشد أبو زيد الأصمعي:
واعرورت العلط العرضي تركضه ** أم الفوارس بالديداء والربعة
والشنان، جمع شنة: القرية البالية اليابسة، قال الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشن
وقوله: " فعجم عيدانها " أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم وقوله: " أمرها عودًا " أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل. وقوله: " لأعصبنكم عصب السلمة " فالعصب القطع، والسلمة؛ شجرة من العضاه. وقوله: " لا أخلق إلا فريت " فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: " من مضغة مخلقة وغير مخلقة " أي مقدرة وغير مقدرة. يعني ما يتم وما يكون سقطًا، قال الكميت يصف قربة:
لم تجثم الخالقات فريتها ** ولم يفض من نطاقها السرب
وإنما وصف حواصل الطير، يقول: لبست كهذه. وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:
وبهو هواء فوق مور كأنه ** من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب
ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته. والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:
وذاب للشمس لعاب فنزل ** وقام ميزان الزمان فاعتدل
والزرقات: الجماعات. تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرًا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامي، ألا يرجع رجل منكم على ظلعه. ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكونون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها. قوله: " تحتها قصف "، فهو شدة الريح. واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء. والظلع: الضعف والوهن من شدة السير. وقوله: " تهوي هوي سابق الغطاط "، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وأنشد لحسان ابن ثابت:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ** لايسألون عن الغطاط المقبل
بقتح الغين. قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز:
قام إلى أدماء في الغطاط ** يمشي بمثل قائم الفسطاط
تم التفسير.
قال: فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني، وهو أشب مني؛ قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابىء التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: أوليس يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه؛ فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان؛ فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلًا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديًا فنادى: ألا إن عمير بن ضابىء أتى بعد ثالثة؛ وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برا مهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذجح؛ فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر.
قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليه كتاب عبد الملك قال القارىء: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله. فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: " أما بعد سلام عليكم "، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمى، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابىء البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني - وكذب عليه. فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابىء، فأتي به شيخًا كبيرًا، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلًا فهو أجلد مني جلدًا، وأحدث مني سنًا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقًا وإلا فعاقبني. قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلًا؛ فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه. قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزًا مضريًا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابىء فضرب عنقه.
ولما قتل الحجاج عمير بن ضابىء لقى إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر. فقال ابن الزبير:
أقول لإبراهيم لما لقيته ** أرى الأمر أمسى منصبًا متشعبًا
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ** سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابىء ** عميرًا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ** ركوبك حوليًا من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا
فكائن ترى من مكره العدو ممسن ** تحمم حنو السرج حتى تحنبا
وكان قدوم الحجاج الكوفة - فيما قيل - في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أبي الشقفي على البصرة أميرًا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدًا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة. وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف. وعلى خراسان أمية بن عبد الله. وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى.
وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ.
ذكر الخبر عن ثورة الناس بالحجاج بالبصرة
وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابىء في فوره ذلك حتى قدم البصرة. فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتى برجل من بني يشكر فقيل: هذا عاص، فقال: إن بي فتقًا. وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب: جاء الناس رجل ذكر. وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسًا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة. وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبًا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخًا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها. فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا. فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه وبرءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج؛ والسلام.
نفي المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز
في هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز.
ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهم في هذه السنة
ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهروز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل؛ وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا. وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلًا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم:
لمن العسكر المكلل بالصر ** عى فهم بين ميت وقتيل
فتراهم تسفى الرياح عليهم ** حاصب الرمل بعد جر الذيول
وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف؛ أن ناهضًا الخوارج حين يأتيكما كتابي. فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالًا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقى المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله. فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجئ من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدًا. ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقى في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتشته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلط العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنىً، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدًا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شئ. فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالًا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيره، فأغراهم بعتاب. قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب بسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالًا فيه غلظة وتحبهم، قال: فقال له المهلب: وإنك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك، قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له. فإنه لذلك منك أهل، ففعل، وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقى أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب. وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ** فلقد تشد وتقتل الأبطالا
أو يثكلونا سيدا لمسود ** سمح الخليقة ماجدًا مفضالا
فلمثل قتلك هد قومك كلهم ** من كان يحمل عنهم الأثقالا
من كان يكشف غرمهم وقتالهم ** يومًا إذا كان القتال نزالا!
أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ** حتى تدرع من دم سربالا
وتناجز الأبطال تحت لوائه ** بالمشرفية في الأكف نصالًا
يومًا طويلًا ثم آخر ليلهم ** حين استبانوا في السماء هلالا
وتكشفت عنه الصفوف وخيله ** فهناك نالته الرماح فمالا
وقال سراقة بن مرداس البارقي:
أعيني جودا بالدموع السواكب ** وكونا كواهي شنة مع راكب
على الأزد لما أن أصيب سراتهم ** فنوحا لعيش بعد ذلك خائب
نرحي الخلود بعدهم وتعوقنا ** عوائق موت أو قراع الكتائب
وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ** وكل امرئ يومًا لبعض المذاهب
أمار دموع الشيب من أهل مصره ** وعجل في الشبان شيب الذوائب
وقاتل حتى مات أكرم ميتة ** وخر على خد كريم وحاجب
وضارب عنه المارقين عصابة ** من الأزد تمشي بالسيوف القواضب
فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ** إلى أهله إن كان ليس بآيب
فيا عين بكى مخنفًا وابن مخنف ** وفرسان قومي قصرةً وأقاربي
وقال سراقة أيضًا يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ** وأزد عمان رهن رمس بكازر
وضارب حتى مات أكرم ميتة ** بأبيض صاف كالعقيقة باتر
وصرع حول التل تحت لوائه ** كرام المساعي من كرام المعاشر
قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ** وأدبر عنه كل ألوث داثر
أمد فلم يمدد فراح مشمرًا ** إلى الله لم يذهب بأثواب غادر
وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوًا من سنة. وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأى الصفرية، وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية.
ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة
ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم. وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها.
ثم دخلت سنة ست وسبعين
ذكر الكائن من الأحداث فيها
فمن ذلك خروج صالح بن مسرح.
ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه
وكان سبب خروجه - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي - أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكًا مخبتًا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن وفقههم وقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل. وكان قصصه: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ". اللهم إنا لا نعدل بك. ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير. ونشهد أن محمدًا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين. وجاهد المشركين، حتى توفاه الله . أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين. ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولى الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله - رحمه الله - واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولى المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفئ، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين؛ وولى أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم. ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجوار قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدًا عن الحق، وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبيناهم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوعتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدًا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر مني المنية ولما أجاهد الظالمين، فياله غبنًا، وياله فضلا متروكًا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك، قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح: أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطآ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأً من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا. وقد قدم على رسولك بكتابك، فكل ما فيه فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا إنتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغني عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. والسلام عليك، فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه؛ منهم أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير بن بني محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارًا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسًا، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانًا، فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين، فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعًا عنده في تلك الليلة لميعاده. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أتقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك؛ أما أن فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا فريبًا كان أو بعيدًا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان. فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم. قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. وقال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا. قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس غلا أن يكونوا قومًا يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبًا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حفها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرسانًا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين - وقيل في مائة وعشرة - قال: وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدى بن عدى بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل، قال له: فإني أزيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في ألف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة؛ يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعشي إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدًا آخر فتقاتل أهله؛ فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فإن شئنا بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك، فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدي بن عدي بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيبًا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبية، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبًا فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتى عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح بن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه؛ فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فيخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبًا إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء السلمي.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)