وأخذ الحسن بن هارون خطّه بستمائة ألف دينار بعد أن أهانه وصفعه وضربه بالمقارع، فأدّى نحو خمسين ألف دينار إلى أن رحل ابن أبي الساج من واسط إلى الكوفة لمحاربة الهجري وحمله معه مقيّدا وشغل عنه بالحرب وأسر، فأفلت محمّد بن خلف.
ذكر وقعة ابن أبي الساج مع القرمطي وما استعمله من ترك الحزم واستهانته بالعدوّ حتى أسر وما اتفق عليه بعد الأسر حتى قتل
كتب يوسف بن ديوداذ من واسط إلى الوزير أبي الحسن عليّ بن عيسى يلتمس منه حمل مال إليه ليصرفه فيما يحتاج من إعداد الأنزال والعلوفات بين واسط والكوفة ويحتجّ بأنّ أموال المشرق متأخّره عنه وأنّ الأمر ليس يحتمل مع قرب موافاة الهجري بأن ينتظر ورود مال من الجبل ويقول إنّه لا يقنعه لذلك أقلّ من مائة ألف دينار. فعرض عليّ بن عيسى كتابه على المقتدر، فتقدّم بأن يحمل من بيت المال الخاصّة سبعون ألف دينار وينفذ إليه.
وورد الخبر بخروج أبي طاهر من هجر بنفسه يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، فنزل في الموضع المعروف بالحس وبينه وبين الاحساء مسيرة يومين وأقام به إلى يوم السبت ورحل من غد وكتب السلطان إلى ابن أبي الساج بما ورد من خبره ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة.
وكتب عليّ بن عيسى إلى عمّال الكوفة باعداد الميرة والعلوفات ليوسف.
وسار يوسف من واسط يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان نحو الكوفة وعاد سلامة الطولونى منصرفا من عنده وكان حمل إليه المال.
ولمّا قرب أبو طاهر الهجري من الكوفة أطلق جميع من كان معه من أسارى الحاجّ وهرب عمّال السلطان من الكوفة فأخذ أبو طاهر جميع ما أعدّ ليوسف من المير والعلوفات وهو مائة كرّ دقيقا وألف كرّ شعيرا وقد كان خفّ ما مع أبي طاهر من الميرة، ولحقه وأصحابه شدّة فقوى ومن معه بما صار إليهم. ووافى يوسف إلى ظاهر الكوفة يوم الجمعة لثمان خلون من شوّال وقد سبقه أبو طاهر إليها بيوم واحد فحال بينها وبينه.
وحكى عن أبي طاهر أنّه قال: إنّ عسكره قرب من عسكر يوسف في الطريق بين واسط والكوفة، وكان يوم ضباب، فلم ير أحدهما صاحبه وانّه أحسّ به ولو شاء لأوقع به.
ووجّه يوسف إلى أبي طاهر يدعوه إلى الطاعة، فإن أبي فإنّ الوعد للحرب يوم الأحد.
فحكى الرسول: انّه لمّا صار إليه حمل إلى موضع فيه جماعة متشاكلو الزيّ وقيل له:
« تكلّم فإنّ السيّد يسمع. » ولم يعرف من هو منهم. فأدّى الرسالة فأجيب بأنّه غير مستجيب لما دعاه إليه ولا لتأخير المناجرة. فكانت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة وثلاثمائة على باب الكوفة. فيقال إنّ ابن أبي الساج لمّا عاين عسكر أبي طاهر ووقف على عزّته أزرى عليه واحتقره وقال:
« من هؤلاء الكلاب؟ هؤلاء بعد ساعة في يدي. » وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء تهاونا به وزحف كلّ واحد منهما إلى صاحبه.
فلمّا سمع الهجري صوت البوقات والدّبادب والزّعقات عن عسكر ابن أبي الساج - وكانت عظيمة جدّا - التفت رجل منهم إلى رفيق له وهو يسايره فقال له:
« ما هذا الزجل؟ » فقال له رفيقه: « فشل. » فقال له: « أجل. » ما زاده لفظة.
ورسم عسكر أبي طاهر أن لا تكون فيه بوقات ولا دبادب ولا صياح.
وعبّأ ابن أبي الساج رجاله وانفرد هو مع غلمانه على عادة له في الحرب وكان ابتداء الحرب بينهما مذ ضحوة نهار يوم السبت إلى وقت غروب الشمس. وما قصّر ابن أبي الساج في الثبات وأثخن أصحاب أبي طاهر بالنشّاب وجرح منهم خلقا.
فلمّا رأى أبو طاهر ذلك وكان واقفا في عمّاريّة له مع من يثق به من أصحابه نحو مائتي فارس بالقرب من حيطان الحيز نزل من العمّاريّة فركب فرسا له وحمل بنفسه مع ثقاته وحمل يوسف بنفسه وغلمانه عليه واشتبكت الحرب بينهما فأسر ابن أبي الساج آخر النهار وبه ضربة على جبينه بعد أن اجتهد به غلمانه أن ينصرف فامتنع عليهم وحصل أسيرا في يد أبي طاهر مع جماعة من غلمانه بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون.
ولمّا أسر يوسف وقت المغرب حمل إلى معسكر أبي طاهر وضربت له خيمة وفرش له فيها ووكّل به وأحضر رجل معالج يعرف بابن السبيعي. فقال ابن السبيعي هذا: لمّا دخلت إليه إلى الخيمة التي حبس فيها وجدته جالسا وعليه درّاعة ديباج فضّى وجرّبانها ولبّتها من ديباج أحمر وقد تلوّنت بالدم الذي سال من الضربة التي في جبينه، ووجدت الدم قد جمد على وجهه، فالتمست ماء حارّا. فقال لي بعض أصحاب أبي طاهر:
« والله ما ذاك عندنا، ولا عندنا ما يسخن فيه. » وكانوا خلّفوا سوادهم بالقرب من القادسيّة وتجردوا للقتال، فغسلت وجهه بماء بارد وغسلت موضع الضربة وعالجته وسألنى عن اسمى وبأيّ شيء أعرف، فذكرت له ذلك فوجدته يعرف أهلى أيّام كان بالكوفة وهو صبيّ مع أخيه الأفشين وكان يتقلّد الكوفة، فعجبت من ذكره وفهمه وقلّة اكتراثه بما هو فيه.
وورد خبر الوقعة وأسر ابن أبي الساج على عليّ بن عيسى، فراح إلى دار السلطان واجتمع مع نصر الحاجب ومونس المظفّر على إنهاء الخبر إلى المقتدر بالله وانتشر الخبر، فدخلت الخاصّة والعامّة لأبي طاهر هيبة عظيمة ورهبة شديدة، وعملت الجماعة على الهرب إلى واسط ثم إلى الأهواز، وابتدأ المنهزمون بالدخول إلى بغداد، وأخرج مونس المظفّر مضربه إلى ميدان الأشنان وخرج على أن يمضى إلى الكوفة.
وورد كتاب العامل بقصر ابن هبيرة على عليّ بن عيسى بأنّ أبا طاهر وأصحابه رحلوا عن الكوفة يوم الثلاثاء لاثنى عشرة خلت من شوّال قاصدين عين التمر، وورد كتابه بعد ذلك بنزولهم عين التمر، فبادر عليّ بن عيسى باستئجار خمسمائة سميريّة وجعل فيها ألف رجل ومعها عدّة من شذاءات وطيّارات وحوّلها من دجلة إلى الفرات وفيها جماعة من الغلمان الحجريّة لمنع الهجري من عبور الفرات، وتقدّم إلى جماعة من القوّاد بالمسير على الظهر من بغداد إلى الأنبار لضبطها.
فلمّا كان يوم الجمعة رأى أهل الأنبار ومن بها من القوّاد خيل أبي طاهر مقبلة من الجانب الغربي فبادروا إلى قطع جسر الأنبار وأقام أبو طاهر إلى أن أمكنه العبور بالسفن فعبر يوم الثلاثاء نحو مائة رجل ولا يعلم بهم أصحاب السلطان إلى ان حصلوا بالأنبار ونشبت الحرب بينهم وبين جماعة من القوّاد.
فلمّا خلا البلد من أصحاب السلطان عقد أبو طاهر جسر الأنبار وعبر وخلّف سواده في الجانب الغربي وفيه ابن أبي الساج، ولمّا علم من في الشذاءات من أصحاب السلطان أنّ أبا طاهر قد عقد الجسر ساروا إليه بالليل فضربوه بالنار فبقى أبو طاهر في جماعة من أصحابه في الجانب الشرقي من الفرات وسواده في الجانب الغربي منه وحالت الشذاءات والطيّارات بينهم.
ولمّا ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار وقتله من بها من القوّاد خرج نصر الحاجب ومعه الحجريّة والرجّالة المصافيّة وجميع من كان بقي ببغداد من القوّاد وبين يديه علم الخلافة وهو شبيه باللواء أسود وعليه كتابة بياض:
« محمّد رسول الله. » وكان مونس قد صار بباب الأنبار واجتمع مع نصر وكان عدد من معهما من الفرسان والرجّالة وغيرهم يزيد على أربعين ألف رجل، وخرج أبو الهيجاء ومن إخوته أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السرايا في أصحابه وأعرابه وسار نصر وسبق مونسا على قنطرة النهر المعروف بزبارا بناحية عقرقوب على نحو فرسخين من بغداد ولحق به مونس واجتمعا على النهر وأشار أبو الهيجاء على نصر الحاجب بقطع قنطرة نهر زبارا وألحّ عليه في ذلك. فلمّا رآه يتثاقل عن قبول رأيه قال له:
« أيّها الأستاذ اقطعها واقطع لحيتي معها. » فقطعها حينئذ.
وسار أبو طاهر ومن حصل معه من أصحابه من الجانب الشرقي من الفرات قاصدين نهر زبارا. فلمّا صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذي القعدة بات بموضعه ليلته وباكر المسير إلى قنطرة نهر زبارا.
وتقدّم من رجّالته راجل أسود يقال له: صبح، فكان أمام عسكره فما زال نشّاب أصحاب السلطان تأخذه وهو يتقدّم ولا يهوله وقد صار بالنشّاب كالقنفذ، فلمّا صعد القنطرة ورآها مقطوعة رجع، وما زال أصحاب أبي طاهر يمتحنون غور الماء في النهر، فلمّا علموا انّه ليس يخيض انصرفوا راجعين القهقرى من غير أن يولّوا ظهورهم وصاروا إلى الحسينية فوجدوا الماء قد أحاط به لأنّ نصرا ومونسا وجّها قبل ذلك بمن بثق هناك بثوقا كبارا فصار الماء المخر محيطا بعسكر أبي طاهر. فأقام هناك يوم الثلاثاء وسار هو وأصحابه إلى الأنبار ولم يجسر أحد من أصحاب السلطان أن يتبعه أو يصلح قنطرة زبارا أو يعبرها.
وكان ما أشار به أبو الهيجاء من قطع هذه القنطرة توفيقا من الله فانّها لو كانت صحيحة لعبر أصحاب القرمطي عليها وما هالهم وفور عسكر السلطان ولا نهزم أصحاب السلطان وملك القرمطي بغداد. وذاك انّ أكثر أصحاب السلطان كرّوا إلى بغداد منهزمين لمّا بلغهم وصول أبي طاهر إلى النهر من غير أن يروهم أو يقع عين عليهم لعظيم ما تداخل القلوب من الرعب بعد الحادث بابن أبي الساج. ولم يحدّث أحد نفسه بعد ذلك أن يجوز له أن يثبت في وجهه.
وكان مع أبي طاهر جماعة من الأولاد فعدلوا به عن المخر وسار نحو الأنبار ولمّا ولّى أبو طاهر وأصحابه عن موضع العسكر بزبارا ارتفع التكبير والتهليل من أصحاب السلطان ليذيع الخبر به وبادر أصحاب الأخبار إلى عليّ بن عيسى بالسلامة وبانصراف أبي طاهر ورجوعه إلى الأنبار وبأنّه لا طريق له ولا مخاضة ولا حيلة في الوصول إلى معسكر عسكره ولا إلى نواحي بغداد.
وطمع مونس في الظفر بسواده وباقى رجاله الذين خلّفهم في الجانب الغربي من الأنبار وفي تخليص ابن أبي الساج فأنفذ يلبق حاجبه وجماعة من القوّاد ومن غلمان ابن أبي الساج في ستّة آلاف رجل وظنّوا أنّه لا يتم لأبي طاهر العبور إلى خيله وسواده. وبلغ أبا طاهر ذلك فاحتال حتى انفرد عن رجاله ومشى مشيا طويلا حتى خرج عن الأنبار إلى الصحراء التي تتّصل بالفرات، ثم عبر في زورق صيّاد يقال: إنّه دفع إليه ألف دينار حتى عبر به إلى سواده. فلمّا حصل في سواده واجتمع مع أصحابه حارب يلبق ومن معه فلم يثبت له يلبق وانهزم ومن معه وقتل جماعة من أصحابه.
وبصر أبو طاهر في الوقت بابن أبي الساج وقد خرج من خيمته التي كان معتقلا فيها متطلّعا إلى الطريق لينظر ما يكون من حال الوقعة فوقع له انّه أراد أن يهرب فدعا به إلى حضرته وقال:
« أردت الهرب؟ »
ويقال: إنّ غلمانه كانوا نادوه فقال له القرمطي:
« طمعت أن يخلّصك غلمانك؟ » فأمر به فضربت عنقه بحضرته وضرب أعناق جماعة كانوا في الأسر.
واحتال بعد ذلك أبو طاهر حتى عبر جميع أصحابه الذين كانوا معه في الجانب الشرقي من الفرات بالأنبار فحصلوا معه في الجانب الغربي الذي يلي البرّيّة وعاد يلبق منهزما مفلولا إلى مونس المظفّر.
وحكى أبو القاسم ابن زنجي أنّه كان عدّة أصحاب أبي طاهر ألف وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وأنّه عرف ذلك من رجل أنباريّ كان يقيم له ولرجاله الخبر. وقد قيل: إنّهم كانوا ألفى وسبعمائة.
قال: وسمعت بعض مستأمنة أبي طاهر وقد سئل عن السبب في سرعة هزيمة أصحاب السلطان وثباتهم هم فقال:
« السبب في ذلك انّ أصحاب السلطان يقدّرون أنّ السلامة في الهرب فيقدّمونه ونحن نقدّر أنّ السلامة في الصبر فنثبت ولا نبرح. » ورتب عليّ بن عيسى بين بغداد ونهر زبارا المرتبين وسلم إليهم مائة طير إلى مائة رجل منهم يكتبون على أجنحتهم كتبا بخبر العدوّ في كلّ ساعة.
وكان السبب في سلامة بغداد وأهلها يوم قصد القرمطي زبارا مع كثرة العيارين والمتشبّهه بالجند وتشوّقهم إلى النهب أنّ عليّ بن عيسى تقدّم إلى نازوك بمواصلة الركوب والتطواف في جميع جيشه كلّ يوم غدوة وعشيّة في الجانبين ففعل ذلك. ثم تقدّم إليه في يوم موافاة أبي طاهر إلى نهر زبارا أن يبكّر إلى باب حرب بجميع جيشه ويقيم فيه إلى وقت العتمة وأن يواصل النداء في الجانبين بأنّه:
« من ظهر من العيّارين والمتشبّهه بالجند ومن وجد معه حديد ضرب عنقه. » فانجحر العيارون وأغلق أهل باب المحوّل ونهر طابق والقلائين وغيرهم دكاكينهم وتحرّز الناس فنقلوا أمتعتهم إلى منازلهم.
وأمّا وجوه الناس فأكثروا والزواريق وجعلوها في الشوارع في دجلة ونقلوا إليها أمتعتهم ومنهم من حدرها إلى واسط. ونقل قوم من المهجّرين أمتعتهم إلى حلوان لتحمل إلى خراسان مع الحاجّ ولم يكن عند أحد من الخواصّ والعوامّ شكّ في أنّ القرمطي يملك بغداد.
وأقام نازوك في ذلك اليوم كما رسم له عليّ بن عيسى، على ظهر دابّته من أوّل النهار إلى أن مضى صدر من الليل لا ينزل هو ولا أحد من أصحابه عن دوابّهم إلّا للصلاة وضربت له ولهم الخيم فنزلوها بالليل وكان ذلك سببا لسلامة البلد.
وقصد القرمطي إلى هيت وبادر هارون بن غريب وسعيد بن حمدان إلى هيت لدفعه عنها فسبقا القرمطي إلى هيت وصعدا إلى سورها وقويت بهما قلوب أهل هيت. فلمّا وصل القرمطي إليها قاتلوه بالمنجنيقات فقتل من القرامطة جماعة وانصرف أبو طاهر عنها.
وورد الخبر بذلك إلى بغداد فسكنت النفوس واطمأنّت القلوب وتصدّق المقتدر والسيّدة لمّا بلغهما خبر انصرافه بمائة ألف درهم.
وكان مونس ونصر أحضرا جرائد جميع الرجال الذين اجتمعوا على نهر زبارا ممّا يلي بغداد سوى الأعراب فوجدوهم اثنين وأربعين ألف رجل سوى غلمانهم وأسبابهم فانّهم كانوا أضعاف هذه العدّة.
وكان عليّ بن عيسى لمّا بلغه أسر ابن أبي الساج بادر في الوقت إلى المقتدر وقال له:
« إنّما جمع الخلفاء المتقدّمون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين ولم يلحق المسلمين منذ قبض النبي شيء أعظم من هذا الأمر، لأنّ هذا الرجل كافر وقد أوقع بالحاجّ في سنة اثنتي وثلاثمائة ما لم يعهد مثله وقد تمكّنت له هيبة في قلوب الأولياء والخاصّ والعامّ.
« وانّما جمع المعتضد والمكتفي في بيت مال الخاصّة ما جمعوا لمثل هذه الحوادث والآن فلم يبق في بيت مال الخاصّة كبير شيء، فاتّق الله يا أمير المؤمنين. » « وتخاطب السيّدة فانّها ديّنة فاضلة فإن كان عندها مال قد ذخرته لشدّة تلحقها أو تلحق الدولة فهذا وقت إخراجه، وإن تكن الأخرى فاخرج أنت وأصحابك إلى أقاصى خراسان فقد صدّقتك ونصحتك. » فدخل إلى والدته ثم عاد فأخبر أنّ السيّدة استرأته وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار من مالها إلى بيت مال العامّة لينفق في الرجال.
وسأل عليّ بن عيسى عن مقدار ما بقي في بيت مال الخاصّة من المال فعرّفه عليّ بن عيسى أنّ فيه خمسمائة ألف دينار.
وتجرّد عليّ بن عيسى لحفظ الأموال وتقدّم ألّا يضيّع منها درهم واحد في قضاء الذّمامات، وجمع أموال النواحي وأنفذ المستحثين إلى العمّال فاجتمعت له جملة أخرى.
وتنصّح إلى عليّ بن عيسى رجل من التجّار بأنّه وقف على خبر رجل شيرازي يتخبر للقرمطي ويكاتبه. فأنفذ معه جماعة فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وناظره عليّ بن عيسى بحضرة القاضي أبي عمر والقوّاد وقال:
« أنا صاحب أبي طاهر وما صحبته إلّا على انّه على حقّ وأنت وصاحبك ومن يتبعكم كفّار مبطلون ولا بدّ لله في أرضه من حجّة وإمام عدل وإمامنا المهديّ فلان بن فلان بن إسماعيل بن جعفر الصادق وليس نحن مثل الرافضة الحمقى الذين يدعون إلى غائب منتظر. » فقال له عليّ بن عيسى:
« اصدقنى عمّن يكاتب القرمطي من أهل بغداد والكوفة. » قال: « ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتى أسلّمهم إلى قوم كافرين فيقتلونهم؟ لا أفعل ذلك أبدا. » فأمر بصفعه بحضرته وضربه بالمقارع وقيّده وغلّه بغلّ ثقيل وجعل في فمه سلسلة وسلّمه إلى نازوك وحبسه في المطبق فمات بعد ثمانية أيّام لأنّه امتنع من أن يأكل ويشرب حتى مات وشغب الجند.
ودخلت سنة ستّ عشرة وثلاثمائة
ودخل مونس المظفّر بغداد من الأنبار ودخل بعد نصر وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم وكان الجند قد شغبوا بالأنبار لطلب الزيادة في أرزاقهم فأقاموا ببغداد على مطالبتهم، فزيد كلّ واحد منهم دينارا وأنفق فيهم على الزيادة.
وورد الخبر بدخول أبي طاهر القرمطي الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئا وقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرحبة فدخلها بعد أن حارب أهلها ووضع السيف فيهم بعد أن ملكهم وندب مونس المظفّر للخروج إليهم بالرقّة، وكان أهل قرقيسيا وجّهوا إلى القرمطي يطلبون الأمان منهم ووعدهم بجميل. ثم أنفذ إليهم من نادى بقرقيسيا ألّا يظهر بها أحد بالنهار فلم يجسر أحد بها أن يظهر فعبرت سريّة له إلى الأعراب على جسر عقده بالرحبة فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ جمالهم وأغنامهم فرهبه الأعراب رهبة شديدة، وصاروا لا يسمعون بذكره إلّا تطايروا، وجعل عليهم أتاوة إلى هذه الأيام وهي من كلّ بيت دينار في السنة. ثم أصعد من الرحبة إلى الرقّة.
وسار مونس المظفّر إلى الموصل ومنها إلى الرقّة فانصرف أبو طاهر عن الرقّة على طريق الفرات ووصل إلى الرحبة فحمل ما معه من الزاد وغيره في زواريق وانحدر في الماء وعلى الظهر ليعاود هيتا. وكان أهلها قد نصبوا على سورها عرّادات ومنجنيقات، فحاربوه وقتلوا من أصحابه، فانصرف عنها إلى ناحية الكوفة، وورد الخبر بذلك فأخرج بنيّ بن نفيس وهارون بن غريب على مقدّمة نصر.
وجاءت خيل القرمطي ومعها ابن سنبر إلى قصر ابن هبيرة وعبروا الفرات بمخاضة فقتلوا جماعة من أهل القصر. فخرج نصر الحاجب ومعه القوّاد والرجّالة المصافيّة يريدون مواقعة أبي طاهر وحمّ نصر حمّى حادّة فلم يمنعه ذلك من المسير إلى سورا. ووافى أبو طاهر إلى شاطئ سورا وقت المغرب، فلم يكن في نصر نهوض للركوب لشدّة علّته، فاستخلف أحمد بن كيغلغ وأنفذ معه الجيش فانصرف القرمطي قبل أن يلقاه أحمد بن كيغلغ.
واشتدّت علّة نصر وجفّ لسانه من شدّة الحمّى فردّ إلى بغداد في عمارية ومات في الطريق. فخرج شفيع المقتدري برسالة المقتدر إلى الجيش الذي كان مع نصر بأنّه قد جعل الرئيس
عليهم مكان نصر هارون ابن غريب فدخل هارون بن غريب مع الجيش بغداد. ذكر الحال التي أدت إلى صرف علي بن عيسى وتقليد أبي علي ابن مقلة
لمّا رأى عليّ بن عيسى اختلال النواحي في أيّام وزارة الخاقاني والخصيبي ونقصان الارتفاع وزيادة النفقات وما لحق من زيادة الرجّالة بعد انصرافهم من الأنبار من حرب القرمطي وأنّ زيادتهم بلغت مائتي وأربعين ألف دينار في السنة مضافة إلى النفقات المفرطة هاله ذلك واستعظمه ووجد رجال السلطان قد ضعفوا عن القرمطي وتبيّن انحراف نصر الحاجب عنه، وذلك لميل مونس إليه، استعفى المقتدر من الوزارة فأمره بالصبر وقال له:
« أنت عندي بمنزلة المعتضد بالله ولى عليك حقوق. » فواصل الاستعفاء فشاور المقتدر مونسا المظفّر وأعلمه أنّه قد سمّى له ثلاثة: الفضل بن جعفر ابن حنزابة فلم يشر به لأجل من قتل من آل الفرات، وأبو عليّ ابن مقلة فلم يشر به لحداثته وقال:
« لا يصلح للوزارة إلّا شيخ له ذكر وفيه فضل. »، ومحمّد بن خلف النيرمانى فلم يشر به، وعرّفه أنّه جاهل لا يحسن أن يتهجّى اسمه وأنّه متهوّر، وأشار بمداراة عليّ بن عيسى.
ثم لقي مونس عليّ بن عيسى ورفق به وداراه فقال له عليّ بن عيسى:
« لو كنت مقيما بالحضرة لاستعنت بك وعملت ولكنّك خارج إلى الرقّة. » وبلغ أبا عليّ ابن مقلة ذلك فجدّ في السعى، وشاور المقتدر نصر الحاجب في أمر الثلاثة فقال:
« أمّا الفضل بن جعفر فلا يدفع عن صناعة ومحلّ ولكنّك بالأمس قتلت عمّه وبنو الفرات يدينون بالرفض، وأمّا ابن مقلة فلا هيبة له. » وأشار بمحمّد بن خلف لما كان بينهما ممّا ذكرناه فيما تقدّم. فنفر المقتدر منه لما عرفه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة مداراة نصر الحاجب فأشار على المقتدر به وقال:
« يقلّد، فإن قام بالأمر كما يجب وإلّا فالصرف العاجل بين يديه. » واضطرّ المقتدر إلى أن استوزر أبا عليّ بن مقلة.
وكان ما مال به المقتدر إلى أبي عليّ أنّ أبا طاهر القرمطي لمّا قرب من الأنبار تشوّف إلى علم خبره ولم يكن يكاتب بشيء من خبره غير الحسن بن إسماعيل الإسكافي عامل الأنبار. فلمّا عرف أبو عليّ ابن مقلة الصورة طلب أطيارا وأنفذها إلى الأنبار وكوتب عليها أخبار القرمطي وقتا بعد وقت فكان ينفذها إلى نصر لوقته ويعرضها نصر على المقتدر ووجد بذلك نصر السبيل إلى تقريظ ابن مقلة وقال للمقتدر:
« إن كان هذه مراعاته لأمورك ولا تعلّق له بخدمتك فكيف يكون إذا اصطنعته؟ »
ذكر القبض على علي بن عيسى وتقليد ابن مقلة
فلمّا كان يوم الثلاثاء للنصف من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ عشرة وثلاثمائة أنفذ هارون ابن غريب للقبض على عليّ بن عيسى فصار هارون إلى دار عليّ بن عيسى ومعه أبو جعفر بن شيرزاد وكان أبو جعفر متعطّلا في الوقت فوجّه بأبي جعفر إليه لأنّه استحيا منه وعرّفه ما أمر فيه. فلمّا أدّى إليه الرسالة قال له:
« أنا جالس متوقّع له. » وكان قد لبس عليّ بن عيسى خفّا وعمامة وطيلسانا وفي كمّه مصحف ومقراض وسأل هارون أن يصون حرمه وولده ففعل، وحمله مع أخيه أبي عليّ عبد الرحمن إلى دار السلطان فسلّم عليّ بن عيسى إلى زيدان القهرمانة واعتقل عبد الرحمن عند نصر فكانت وزارته هذه سنة واحدة وأربعة أشهر ويومين.
فلمّا كان في آخر نهار يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر أحدر أبو عليّ ابن مقلة الحاجب في دار السلطان ولم يصل إلى المقتدر وأقام عند نصر الحاجب في دار السلطان. وجدّ محمّد بن خلف في طلب الوزارة وضمن ثلاثمائة ألف دينار معجّلة غير أموال النواحي. فقلق أبو عليّ ابن مقلة لذلك وحضر من غد دار السلطان ولم يصل أيضا.
واجتمعت الألسن على المقتدر بإمضاء أمره وبالذمّ لمحمّد بن خلف، فأمضاه وحضر يوم الخمسين للنصف من الشهر ووصل وخلع عليه وحمل إليه من دار السلطان طعام على رسم الوزراء إذا تقلّدوا.
وكان أبو الحسن عليّ بن عيسى قبل صرفه عن الوزارة بعشرين يوما كتب إلى أبي عبد الله البريدي يأمره باستخراج ما كتب به ابن ما بنداذ أنّه قد اجتمع في بيت مال الأهواز من مال الأهواز وهو ألف ألف وخمسون ألف درهم وانضاف إلى ذلك ما حمله القاسم بن دينار من مال فارس وكرمان على الظهر وهو سبعمائة ألف درهم سوى ما حمله أبو على ابن رستم من مال إصبهان وهو أربعمائة وخمسون ألف درهم فيصير الجميع ألفي ألف ومائتي ألف درهم.
وكان في أبي عبد الله البريدي حركة ورجلة يحتاج إليهما في ذلك الوقت.
فكتب إلى ابن مابنداذ يطالبه بالمال فكتب بأنّ المال حاصل. وكان ابن مابنداذ بتستر، فوجّه إليه يستعجله ولم ينتظره واستحضر كاتبه فحمل في الشذاءات ألفي ألف ومائتي ألف درهم، وكتب أنّه إن عادت الشذاءات حمل فيها باقى المال، فصرف عليّ بن عيسى قبل موافاة بقية المال.
وقد كنّا ذكرنا انحراف نصر الحاجب عن عليّ بن عيسى لميل مونس المظفّر إليه، فلمّا نكب عليّ بن عيسى ادّعى نصر الحاجب أنّه وجد رجلا يعرف بالجوهرى أقرّ أنّه صاحب القرمطي وأنّه جعل سفيرا بينه وبين عليّ بن عيسى.
وحكى عنه أنّ عليّ بن عيسى كان يكاتب القرمطي على يده وجمع بينه وبين عليّ بن عيسى حتى واجهه بذلك فقال له عليّ بن عيسى:
« بهتني وما خلق الله لما يقوله أصلا. » وعاون أبو عليّ ابن مقلة نصرا الحاجب في هذه القصّة إلى أن كاد يتمّ المكروه على عليّ بن عيسى وهمّ المقتدر أن يضربه بالسوط على باب العامّة بحضرة الفقهاء والقضاة وأصحاب الدواوين، فاحتالت السيّدة واستكشفت الحال فيما ادّعى عليه فوقفت على بطلانه وقررت ذلك في نفس ابنها وأزالت ما كان أمره به فيه.
وأخذ أبو عليّ ابن مقلة خطوط العمّال والضمناء بنحو مائة ألف دينار وبلغ أبا عبد الله البريدي وهو بالأهواز تقلّد أبي على ابن مقلة الوزارة وكان بينهما مودّة فأنفذ إليه من وقته سفاتج بثلاثمائة ألف دينار من حمله الباقي بالأهواز بعد ما كان حمله.
وكان القاسم بن دينار وأحمد بن محمّد بن رستم قد حملا إلى عليّ بن عيسى سفاتج بستمائة ألف درهم، فوصلت بعد صرفه فقبضها ابن مقلة فمشى أمر أبي عليّ ابن مقلة بهذه الاتفاقات. وكتب أبو عليّ ابن مقلة كتابا برفع كلّ الجبايات والمصادرات وسكّن من الناس لينبسطوا في أعمالهم.
وفي هذه السنة وقعت حرب بين نازوك وهارون بن غريب خال
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ سوّاس هارون بن غريب وسوّاس نازوك تغايروا على غلام أمرد ووقع الشّر بينهم وأخذ نازوك سوّاس هارون بن غريب وأودعهم حبس الجرائم بعد أن ضربهم، فصار أصحاب هارون بن غريب إلى مجلس الشرطة ووثبوا على أبي الجود خليفة نازوك وانتزعوا أصحابهم من يده.
وركب نازوك إلى المقتدر وشكا إليه هذه الحال فلم يكن من المقتدر إنكار رضيه نازوك فانصرف محفظا وجميع رجاله وجمع هارون ابن غريب رجاله وباتا جميعا مستعدين.
فلمّا أصبحوا زحف أصحاب نازوك إلى دار هارون بن غريب وأغلق هارون بابه دونهم وخارج الباب جماعة من غلمان هارون وأصحابه فقتل منهم قوم وفتح باب هارون حينئذ وخرج أصحابه واستحكمت الحرب بينهم واشتدّت. فوجّه نازوك إلى أصحابه بمن صرفهم، ثم ركب الوزير أبو عليّ ومعه مفلح الأسود لتوسط القصّة، فبدأ بابن الخال وأدّى إليه رسالة المقتدر بالكفّ. ثم صار الى نازوك فأدّى إليه مثل ذلك فسكنت القصّة.
واستوحش نازوك وأقام في داره وفيها غلمانه وأصحابه ورجاله وظهر في ساقه توتة وقلعها وجعلها سببا في ترك الركوب وبعد ثلاثة أيّام صار إليه هارون بن غريب بدرّاعة فاصطلحا وأقام نازوك في داره وصار هارون بن غريب إلى البستان النجمى فأقام فيه ليبعد عن نازوك وكثر الناس عليه وأرجفوا له بإمرة الأمراء فاشتدّ ذلك على أسباب مونس المظفّر وكتبوا به إليه وهو بالرقّة فأسرع الشخوص منها على طريق الموصل إلى بغداد ووصل إليها ولم ينحدر إلى المقتدر ولا لقيه وصاعد إليه الأمير أبو العبّاس والوزير أبو عليّ فسلّما عليه وانحدر نازوك.
ظهور الوحشة بين مونس والمقتدر
وأقام هارون بن غريب في دار السلطان منابذا لمونس المظفّر ودخل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان من الجبل وصار إلى مونس المظفّر وما زالت المراسلات تتردد بين مونس والمقتدر.
ودخلت سنة سبع عشرة وثلاثمائة
ذكر فتنة نازوك وأبي الهيجاء التي أدّت إلى خلع المقتدر وذكر قتلهما ورجوع المقتدر بالله إلى الخلافة
لمّا كان يوم السبت لثمان خلون من المحرّم خرج مونس المظفّر إلى الشمّاسيّة وخرج الجيش معه وركب نازوك من داره في غلمانه وأصحابه في السلاح. فلمّا وصل إلى الجسر وجده مقطوعا فأقام بمكانه إلى أن أصلح وعبر هو وأصحابه عليه وصاروا إلى مونس وخرج أبو الهيجاء ابن حمدان إليه وسائر القوّاد، ثم انتقلوا من باب الشمّاسيّة إلى المصلّى وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والحجريّة والرجّالة المصافيّة. فلمّا كان آخر النهار انفضّ أكثر من كان في دار السلطان وصاروا إلى مونس وصرف مونس نحرير الصغير عن الدينور وردّها إلى أبي الهيجاء مضافة إلى أعماله.
وراسل مونس المقتدر بأنّ الجيش عاتب منكر للسرف فيما يصير إلى الخدم والحرم من الأموال والضياع ولدخولهم في الرأي والتدبير ويطالبون بإخراجهم من الدار وإبعادهم وأخذ ما في أيديهم.
فكتب المقتدر إلى مونس رقعة نسختها:
« بسم الله الرحمن الرحيم، أمتعنى الله بك ولا أخلانى منك ولا أرانى سوء فيك. تأمّلت الحال التي خرج أولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسّكوا بها وأقاموا عليها، فوجدتهم لم يريدوا إلّا صيانة نفسي وولدي وإعزاز أمري وملكي واجتلاب الخير والمنفعة من كلّ جهة وتطلبها بكلّ سبيل، بارك الله عليهم وأحسن إليهم وأعاننى على صالح ما أنويه فيهم.
« وأمّا أنت يا أبا الحسن المظفّر - لا خلوت منك - فشيخى وكبيرى ومن لا أزول ولا أحول عن الميل إليه والتوفّر عليه والتحقق به والإيجاب له اعترض ما بيننا هذا الحادث أم لم يعترض. وانتقض الأمر الذي يجمعنا أم لم ينتقض، وأرجو ألّا تشكّ في ذلك إذا صدقت نفسك وحاسبتها وأزلت الظنون السيّئة عنها أدام الله حراستها والقوّة بالله والذي خاض لأصحابنا فيه من أمر الخدم والحرم الذين يخرجون من الدار ويباعدون عنها وتسقط رسومهم في الخدمة ويمنعون منها ويبرّءون من نعمهم ويحال بينهم وبينها إلى أن يفرجوا عمّا في أيديهم من المال والضياع ويردّوها إلى حقوقها قول إذا تبيّنوه حقّ تبيّنه وتصفّحوه كنه تصفّحه علموا أنّه قول جاف والبغي عليّ فيه غير مستتر ولا خاف.
« ولإيثارى موافقتهم واتّباعى مسرّتهم ما أجبتهم إلى المتيسّر في أمر هذه الطبقة خاصّة، فأتقدم بقبض بعض إقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم وبسط إيغاراتهم وإخراج من يجوز إخراجه من دارى ولا أطلق للباقين الدخول في تدبيري ورأيي وأوعز بمكاتبة العمّال في استيفاء حقّ بيت المال في ضياعهم الصحيحة الملك دون ما يقال إنّه قد لابسه الريب والشكّ.
« وأنظر بنفسي في أمر الخاصّة والعامّة وأبلغ في إنصافها والإحسان إليها الغاية، ولا أعتمد في ذلك على وزير ولا سفير البتّة وانتصب لإثارة الأموال وجمعها ووضعها في مواضعها وأحميها من كلّ ما يثلمها وينتقصها وأشمّر في ذلك وأبلغ في مناهضة الأعداء قربا وبعدا وهذا إنّما قعدت عنه اعتمادا عليكم وتفويضا إليكم وثقة بأنّكم شركائى وسهمائى والمخصوصون بخير أيّامى شرّها وحلوها ومرّها ولو علمت انّه يجعل ذلك ذنبا لي وجرما يتجنّى به عليّ لكنت أوّل شاخص إلى كلّ تعب وأوّل مبادر نحوه من غير إبطاء عنه ولا ريث.
« فأمّا أنتم فمعظم نعمكم مني وما كنت لأغور عليكم في شيء سمحت به لكم ورأيته في وقته وأراه الآن زهيدا في جنب استحقاقكم وأنا بتثميره أولى وبتوفيره أحرى والله المطّلع على جميل معتقدي للجماعة فيها والشاهد على محبّتى لإيصالها إلى أقصى أمانيها.
« ونازوك، فلست أدرى من أيّ شيء عتب ولا لأيّة حال استوحش واضطرب لأنّى لم ألمه على محاربة هارون بن غريب الخال ولم أمنعه من الإنتصار منه والأخذ بثأره عنده ولا أمرت بمعاونة هارون عليه ولا قبضت يده عمّا كانت طويلة إليه منبسطة فيه متمكّنة منه ولا غيّرت له حالا ولا حزت له مالا ولا سمع مني ولا بلغه عني ما يسوء موقعه وينفر منه والله يغفر لنا وله.
« وعبد الله بن حمدان فالذي أحفظه صرفه عن الدينور وقد كان يتهيّأ إعادته إليها إن كان راغبا فيها فيسعف بمسألته وأن يستدعى تعويضه من الأعمال ما هو أعظم خطرا من الدينور فلا نقصر عن إرادته وما عندي له ولنازوك وللعصاة كلّها إلّا التجاوز والإبقاء والإغضاء وقبل هذا وبعده، فلي في أعناقكم بيعة قد وكّدتموها على أنفسكم دفعة بعد دفعة، ومن بايعنى فإنّما بايع الله ومن نكث إنّما نكث عهد الله.
« ولى أيضا عليكم نعم وأياد وعندكم صنائع وعوارف آمل أن تعترفوا بها وتلتزموها ولا تكفروها وتشكروها وإن راجعتم الجميل وتلافيتم هذا الخطب الجليل وفرّقتم جموعكم ومزّقتموها وعدتم إلى منازلكم واستوطنتموها وأقبلتم على شئونكم وتشاغلتم بها وأجريتم في الخدمة على عادتكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزلة من لم يبرح من موضعه ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه وكنت الذي تعرفونه في الثقة بكم والإيثار لكم والسكون إليكم والاشتمال عليكم لكم بذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا.
« وإن أبيتم إلّا مكاشفة ومخالفة وإثارة فتنة وتجديد محنة فقد ولّيتكم ما تولّيتم وأغمدت سيفي منكم وتبرّأت إلى الله أن أمدّ باعى إلى أحد منكم ولجأت في نصرى ومعونتى وكفايتي إلى الله عز وجل ولم أخرج من منزلي ولم أسلّم الحقّ الذي جعله الله لي إلّا كما خرج عثمان بن عفّان عن داره وكما سلّم حقّه لمّا خذله عامّة ثقاته وأنصاره وكان ذلك حجّة فيما بين الله عز وجل وبيني ومعذرة وسببا بإذن الله لما أؤمّله من الفوز في الدنيا والآخرة والله بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد وحسبي الله ونعم الوكيل. » ولمّا وصلت هذه الرقعة إلى مونس ووقف نازوك وأبو الهيجاء على ما تضمّنت عدلوا إلى مكاتبته بإخراج هارون بن غريب عن بغداد، فأجابهم إلى ذلك وقلّد هارون الثغور الشاميّة والجزريّة من يومه ومضى إلى قطربّل فأقام بها.
ولمّا كان يوم الاثنين لعشر خلون من المحرّم دخل مونس المظفّر والجيش بغداد وعدلوا عن دار السلطان كراهية لمعرّة الجند وظهر عند الناس ظهورا بيّنا وأرجفوا إرجافا قويّا أنّ نازوك وأبا الهيجاء واقفا مونسا المظفّر على الاستبدال به ونصب غيره في الخلافة.
فلمّا كان يوم الأربعاء لاثنى عشرة ليلة خلت من المحرّم خرج مونس إلى باب الشمّاسيّة دفعة ثانية وخرج معه أبو الهيجاء ونازوك وبنيّ بن نفيس وجميع القوّاد والجيش وزحفوا إلى دار السلطان.
ذكر الخبر عن خلع المقتدر بالله وتقليد القاهر بالله الخلافة
لمّا زحف القوم بأسرهم إلى دار السلطان هرب المظفّر بن ياقوت وسائر الحجّاب والحشم والخدم والوزير أبو عليّ ابن مقلة منها ودخل مونس من باب الزاوية وحصل الجيش كلّه في دار السلطان. فلمّا كان بعد عتمة بساعة أخرج المقتدر ووالدته وخالته وخواصّ جواريه من الدار وأصعد بهم إلى دار مونس المظفّر ودخل هارون بن غريب من قطربّل سرّا إلى بغداد واستتر بها.
ومضى أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى دار ابن طاهر ليحدر منها محمّد بن المعتضد بالله فلم يفتح له كافور الموكّل بحفظ الدار وطالبه بعلامة من مونس، فلم تكن معه فانصرف، وأصعد ونازوك بعد أن أخذ العلامة وطرح في طريقه النار في دار هارون بن غريب وأحدر محمّد بن المعتضد ووصل إلى دار السلطان في الثلث الأخير من ليلة السبت للنصف من المحرّم وسلّم عليه بالخلافة وبايعه مونس والقوّاد ولقّب القاهر بالله.
وزارة علي بن مقلة
وأخرج مونس عليّ بن عيسى من الحبس في دار السلطان وأطلقه إلى منزله وأحضر أبا عليّ ابن مقلة وقلّده وزارة القاهر بالله وقلّد نازوك الحجبة مضافة إلى ما إليه من الشرطة بمدينة السلام وأضاف إلى ما كان إلى أبي الهيجاء من أعمال طريق خراسان وحلوان والدينور وطريق سرّ من رأى وبزرج سابور والراذانين ودقوقاء وخانيجان والموصل أعمال المعاون بهمذان ونهاوند والصيمرة والسيروان وماسبذان ومهرجانقذق وأرزن.
ووقع النهب في دار السلطان ومضى بنيّ بن نفيس إلى تربة السيدة بالرصافة فوجد لها هناك ستّمائة ألف دينار فحملها إلى دار السلطان. وخلع المقتدر بالله من الخلافة يوم السبت النصف من المحرّم وأشهد على نفسه بذلك القضاة وسلّم الكتاب بذلك إلى القاضي أبي عمر محمّد بن يوسف.
ذكر حزم استعمل وانتفع به
فحدّث أبو الحسين ابن أبي عمر أنّ أباه سلّم الكتاب إليه بالخلع وقال له:
« يا بنيّ احفظه واستره ولا يراه أحد من خلق الله عندك. » قال: فقلت له:
« وما الفائدة في كتمانه وقد علم به الخلق؟ » قال: فقال لي:
« وما الفائدة في إظهاره ومن أين تعلم ما يكون؟ » قال: فامتثلت أمره. فلمّا أعيد المقتدر بالله إلى الخلافة بعد يومين أخذ القاضي أبو عمر ذلك الكتاب فسلّمه إلى المقتدر بالله من يده إلى يده وحلف له على أنّه ما رآه أحد من خلق الله عنده غيره. فحسن موقع ذلك من المقتدر جدّا وشكره له وقلّده بعد مديدة قضاء القضاة.
قال: فقال لي:
« يا بنيّ ما ضرّنا كتمان الكتاب وستره شيئا»
وانصرف الناس من دار السلطان يوم السبت ولمّا كان من غد وهو يوم الأحد جلس القاهر بالله وحضر الوزير أبو عليّ ابن مقلة ووصل إليه وأمره بالجلوس بين يديه وسكن النهب وكتب أبو عليّ ابن مقلة بخبر تقليد القاهر بالله الخلافة كتابا أنشأه إلى الولاة في النواحي. وأمر نازوك الرجّالة المصافيّة بقلع خيمهم من دار السلطان وأقام رجّالته مكانهم فاضطربوا من ذلك ثم تقدّم إلى خلفاء الحجّاب والبوّابين ألّا يدخل الدار إلّا من كانت له مرتبة فاضطربت الحجريّة من ذلك وتكلّموا وصار ذلك سببا لردّ المقتدر إلى الخلافة.
ذكر السبب في رد المقتدر إلى الخلافة
فلمّا كان يوم الاثنين السابع عشر من المحرّم بكرّ الناس إلى دار السلطان لأنّه يوم موكب ودولة جديدة، فامتلأت الدهاليز والممرّات والرحاب وشاطئ دجلة منهم وحضر الرجّالة المصافيّة بالسلاح يطالبون بالبيعة ورزق سنة ولم ينحدر مونس إلى دار السلطان ذلك اليوم وأقام في منزله.
وارتفعت زعقات الرجّالة وسمعها نازوك وأشفق أن يجرى بين أصحابه وبينهم قتال، فتقدّم إلى غلمانه وأصحابه ألّا يعرضوا لهم. وزاد شغب الرجّالة وهجموا يريدون الصحن التسعينى فلم يمنعهم أحد لما كان نازوك تقدّم به إلى أصحابه ودخل منهم من كان على الشطّ من الروشن بالسلاح المشهور وقربت زعقاتهم من مجلس القاهر بالله وكان جالسا في رواق التسعينى وبين يديه أبو عليّ ابن مقلة ونازوك وأبو الهيجاء، فوجّه نازوك ليخاطبهم وكان نازوك مخمورا كالسكران قد شرب طول ليلته، فلمّا برز إلى الروشن ونظر إليه الرجّالة أسرعوا نحوه فخافهم لأنّهم شهروا السلاح عليه، فولّى منهم وعدا وأطمعهم في نفسه وعدوا خلفه وانتهى به الهرب منهم إلى باب كان هو سدّه أمس ذلك اليوم بالآجر والجصّ ولم يمكنه النفوذ ووصلوا إليه وقتلوه وقد كانوا قتلوا قبله عجيبا وصاحوا:
« مقتدر يا منصور. » فتهارب كلّ من في الدار من الوزير والحجّاب والحشم وسائر الطبقات حتى بقيت الدار خالية.
وصلب الرجّالة نازوك وعجيبا على خشب الستارة التي على شاطئ دجلة [ ثمّ صار الرجّالة إلى ] دار مونس يطالبون بالمقتدر بالله، وبادر الخدم في دار السلطان فغلقوا أبوابا وكان جميعهم خدم المقتدر وحاشيته وصنائعه، وأراد أبو الهيجاء أن يخرج من الدار فتعلّق به القاهر وقال:
« يا أبا الهيجاء تسلّمنى؟ » فدخلت أبا الهيجاء الحميّة والأنفة، فرجع معه وقال:
« والله لا أسلمتك. » وعاد فوجد الأبواب مغلقة فدخلا دار السلام وارتفعت ضجّة وتكبير.
فقال فائق وجه القصعة، لبعض الخدم الصغار الرسائليّة:
« أنظر ما هذه الضجّة؟ » فمضى وعاد وقال:
« قتل أبو الهيجاء. »
فقال له:
« أنظر ويلك ما تقول. » فأعاد ذلك ثلاثا فقال أبو الهيجاء:
« هو ذا أنا ويلك. » فقال الخادم:
« غلطت، قتل نازوك. » فقال القاهر لوجه القصعة:
« افتح لي الباب لأخرج إلى الشطّ. » فقال: « إنّ وراءه أبوابا كثيرة يتعذّر منها الوصول إلى الشطّ، ولكن نفتحه على كلّ حال. » ففتح فأفضى بالقاهر المشي إلى درجة الدواليب المنصوبة على دجلة فوق موضع التاج فصعدها ويده في يد أبي الهيجاء ابن حمدان، وأشرفا على دجلة، فرأيا الرجّالة في السلاح من نهر المعلّى منتظمين متراصّين إلى التاج وإلى باب الخاصّة لا يحصيهم العدد فنزل مبادرا فقال له أبو الهيجاء:
« امض يا مولاي فو تربة حمدان لا فارقتك أو أقتل دونك. » ومضيا حتى دخلا الفردوس وخرجا من باب الفردوس إلى الرحبة، فلقيا غلاما لمقبل الخادم راكبا فلمّا رآهما ترجّل وقالا له:
« من أين جئت؟ » قال: « من باب النوبى. » فنزع أبو الهيجاء سواده ومنطقته ودفعها إلى الغلام وقال له:
« أعطنى جبّتك. »
وكانت عليه جبّة صوف مصري فأعطاه إيّاها فلبسها وركب دابّة الغلام وترك القاهر مع الخدم وقال:
« يا مولاي قف بمكانك حتى أعود إليك. » فلم يطل أبو الهيجاء حتى عاد فقال له القاهر:
« ما وراءك؟ » فقال: « صرت إلى باب النوبى فلقيني جعفر البوّاب فقلت له:
« افتح الباب. » فقال: « لا يمكنني لأنّ وراءه من الرجّالة والجيش من لا يحصى لأنّه قد جيء برأس نازوك إلى ها هنا. » ثم قال للقاهر:
« هذا أمر من السماء فعد بنا. » ودخلا الفردوس فجالا فيه ثم خرجا إلى القرب من القلّاية ثم دخلا الصحن الحسني الصغير ثم دخلا إلى دار الأترجّة وخفّ من معهما من الخدم وتأخّر هناك فائق وجه القصعة وقال لمن وقف بوقوفه من الخدم:
« ادخلوا إليهما فافرغوا من عدوّ مولاكم. » فدخل نحو عشرة منهم بعضهم بقسيّ وبعضهم بدبابيس. فلمّا رآهم أبو الهيجاء صاح بهم وجرّد سيفه ونزع الجبّة الصوف التي كانت عليه، فلفّها على يده وأسرع نحوهم فانجفلوا من بين يديه ودهشوا وسقط بعضهم في البركة وغشيهم فرموه ضرورة، فرجع ودخل بيت ساج في بستان دار الأترجّة. فلمّا حصل في البيت خرج من كان في البركة من الخدم وصاروا إلى قرب البيت وأحسّ بهم فخرج إليهم بسيفه فولّوا بين يديه إلى جانب من الصحن وفتحوا بابا من زاوية هذا الصحن فدخل منه خمارجويه أحد أكابر الغلمان بسيفين ودرقتين وأقبل على الخدم وقال لهم:
« أين هو يا أصحابنا؟ » فقالوا:
« هو في البيت الساج. » فقال لهم:
« تحرّشوا به حتى يخرج. » فشتموه فخرج كالجمل الهائج وقال:
« يا آل تغلب أأقتل بين الحيطان، أين الكميت أين الدهماء؟ » فرماه خمارجويه بسهم أصابه تحت ثديه وأتبعه بسهم آخر فأصاب ترقوته ورماه بسهم ثالث وقد اضطرب فشكّ فخذيه.
قال بشرى وهو الحاكي لهذه الصورة عن مشاهدة: فقد رأيت أبا الهيجاء وقد ضرب السهم الذي شكّ فخذيه فقطعه وجذب السهم الذي أصابه تحت ثديه فانتزعه ورمى به ومضى نحو البيت فسقط قبل أن يصل إليه على وجهه فأسرع إليه أحد الأسودين فضرب يده اليمنى فقطعها وفيها السيف وأخذ السيف وغشيه الأسود الآخر فحزّ رأسه فأسرع بعض الخدم فأنتزع الرأس من يد الأسود ومضى مبادرا به.
وكان الرجّالة لما انتهوا إلى دار مونس وسمع زعقاتهم قال:
« ما الذي يريدون؟ » فقيل له:
« يريدون المقتدر بالله. »
فقال: « سلّموه إليهم. » فلمّا قيل للمقتدر:
« امض معهم إلى الدار حتى تعود إلى أمرك. » خاف أن يكون حيلة عليه فامتنع فحمل حملا على رقاب الرجال من دار مونس إلى الطيّار ومن الطيّار إلى درجة الصحن التسعينى فحين وضع رجله في الدار صار إلى دار زيدان القهرمانة وقال:
« ما فعل أبو الهيجاء؟ » فقيل: « هو في دار الأترجّة. » فدعا بدواة فأبطأ بها الغلمان ولم يزل يطلبها حتى جاءوه بها فكتب له أمانا بخطّه ودفعها إلى بعض الخدم وقال:
« ويلك بادر به لئلّا يحدث عليه حادثة. » فلقى الخادم الخادم الذي معه الرأس فعاد معه فلمّا رآه قال له:
« ويحك ما وراءك؟ » قال: « عمر الله أمير المؤمنين. » فقال: « ويلك من قتله؟ » فغمزه مفلح الأسود فقال:
« لا أدري من قتله ولا يعرف قاتله فإنّ أخلاط الرجّالة قاتلوه. » قال: « فإنّا لله. » وأقبل يكرّرها وقال:
« ما كان يدخل إليّ في هذه الأيام وأنا في دار مونس من يسلّينى ويظهر لي الغمّ حتى كأنّه بعض أهلى سواه. هذا إلى ما له ولأهله من الحقوق. » وظهر فيه من الكآبة أمر عظيم.
فبينا هو كذلك إذ ارتفعت ضجّة فشغل عن أمر أبي الهيجاء وقال:
« ما هذا؟ » فجاءه خادم يعدو وقال:
« محمّد» - يعنى القاهر بالله.
وقد أخذ وجيء به.
فأحضر القاهر بالله فأجلسه بين يديه واستدناه ثم جذبه إليه وقبّل جبينه وقال له:
« يا أخي أنت لا ذنب لك وقد علمت أنّك قهرت. » والقاهر بارك يقول: « نفسي نفسي الله الله يا أمير المؤمنين. » فلمّا كرّر ذلك قال له:
« وحقّ رسول الله لا جرى عليك سوء مني أبدا ولا وصل أحد إلى مكروهك وأنا حيّ، ولأحرصنّ على انصرافك إلى منزلك من دار ابن طاهر في هذه الليلة، فطب نفسا ولا تجزع. » وأخرج رأس نازوك ورأس أبي الهيجاء وشهرا في الشوارع ونودى عليهما:
« هذا جزاء من عصى مولاه وكفر نعمته. »
سكون الهيج ورجوع الخلافة إلى المقتدر
وسكن الهيج وعاد أبو عليّ ابن مقلة إلى وزارته وكتب عن المقتدر بالله برجوع الخلافة إليه وتجديد البيعة له إلى الولاة في النواحي.
ولمّا تمكّن المقتدر من دار الخلافة وأقرّ أبا عليّ ابن مقلة على وزارته أطلق للجند البيعة. أمّا للرجّالة فستّ نوائب وزيادة دينار لكلّ راجل، وأمّا الفرسان فثلث رزق وزيادة ثلاثة دنانير لكلّ فارس. ولمّا نفذت الأموال في ذلك أخرج ما في الخزائن من الكسوة وغيرها فباع ذلك ثم أطلق لهم بها العهد بالأشرية على وكيل نصبه المقتدر وهو عليّ بن العبّاس النوبختي وأشهد على نفسه بتوكيله إيّاه في البيع، وشرط للمبتاعين في كتب الأشرية أن يحملوا في حقّ بيت المال فيما اشتروه على معاملة القطائع المعشورة، ثم بيع منهم بالصلة فضل ما بين المعاملتين في أملاك الرعيّة وهو فضل ما بين الأستان والقطيعة ووقعت لهم الشهادة بذلك على عليّ بن العبّاس وحسبت عليهم الضياع والأملاك بأرخص الأثمان.
فحكى ثابت بن سنان أنّه حضر مجلس الوزير أبي عليّ ابن مقلة ولم يكن له شغل غير التوقيع للجند ببيع الضياع وفضل ما بين المعاملتين بالصلة ولا كان لأصحاب الدواوين عمل غير إخراج العبر لما يباع. وكان الناس مجتمعين عليه وهو يوقّع إذ استؤذن لعليّ بن عيسى عليه فأذن له، فلمّا رآه قام له قياما تامّا وأجلسه معه على دسته وأقبل عليه وترك ما كان فيه، فلمّا سأله عن خبره رأى الناس منكبّين عليه فقال له:
« يشتغل الوزير أيّده الله بشغله. » وأقبل أبو على ابن مقلة على الناس يوقّع لهم، فلمح عليّ بن عيسى خرجا قد أخرج بعبرة ضياع جبريل والد بختيشوع فوجد الثمن بالإضافة إلى ما اشترى نزرا يسيرا فقال:
« لا إله إلّا الله، بلغ الأمر إلى هذا؟ » فترك ابن مقلة ما كان في يده وأقبل عليه فقال:
« حدّثني شيخنا أبو القاسم رحمه الله - يعنى عيسى بن داود - أنّ المتوكّل على الله لمّا غضب على بختيشوع المتطبّب أنفذ إلى داره لإحصاء ما في خزائنه فوجد في خزانة كسوته رقعة فيها ثبت ما اشتراه من الضياع وهو ببضعة عشر آلاف ألف درهم فقد آل أمرها إلى أن تباع بهذا القدر النزر، فعجبا جميعا من ذلك وعاد ابن مقلة إلى شغله وقام عليّ بن عيسى لينصرف فقام له الوزير أبو عليّ كما قام لدخوله.
وفي هذه السنة خلع على أبي على ابن مقلة وكنّى وكتب إلى جميع النواحي.
وفيها قلّد أبو عمر قضاء القضاة وكتب عهده.
وفيها أوقع القرمطي بالحاجّ في البيت الحرام بمكّة وقتل أميرها.
ذكر الخبر عن إيقاع القرمطي بالحاج وتخريبه مكة
كان منصور الديلمي بذرق بالحاجّ في هذه السنة فسلموا في طريقهم فلمّا وصلوا إلى مكّة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكّة يوم التروية فقتل الحاجّ في المسجد الحرام وفي فجاج مكّة وفي البيت قتلا ذريعا، وقلع الحجر الأسود، وقتل ابن محلب أمير مكّة وعرّى البيت وقلع الباب وأصعد رجلا من أصحابه ليقلع المرزاب فتردّى الرجل على رأسه ومات، وأخذ أموال الناس وطرح القتلى في بئر زمزم ودفن باقيهم في مصارعهم في المسجد الحرام وغيره من غير أن يصلّى عليهم، وأخذ أسلاب أهل مكّة وانصرف إلى بلده وحمل معه الحجر الأسود.
وفيها قلّد ابنا رائق شرطة بغداد مكان نازوك.
ودخلت سنة ثماني عشرة وثلاثمائة
وشغّب الفرسان وتهدّدوا بأمور عظيمة، فأحضر المقتدر قوّادهم وخاطبهم بجميل ووعدهم بإطلاق أرزاقهم في الشهر الجديد، فانصرفوا وسكنوا، وشغّب الرجّالة فأطلقت أرزاقهم.
وفي شوّال منها خلع المقتدر على الأمير هارون ابنه وركب معه الوزير والجيش وكانت ولاية فارس وكرمان وسجستان ومكران إليه.
وفي ذي القعدة منها خلع المقتدر على ابنه الأمير أبي العبّاس وركب معه الوزير، مونس المظفّر وجميع الجند وكان مرسوما بولاية المغرب ومونس يخلفه عليه.
وفيها صرف ابنا رائق عن الشرطة وقلّدها أبو بكر محمّد بن ياقوت.
وفي هذه السنة كان هلاك الرجّالة المصافيّة.
ذكر السبب في هلاكهم
كان قد عظم الأمر في تسحّب الرجّالة المصافيّة وأدلوا بأنّهم كانوا السبب في ردّ المقتدر إلى الخلافة بعد ما خلع وثقل مالهم واحتدّت مطالبتهم وكثر شغبهم وزاد تعدّيهم وبلغ ما لهم في كلّ شهر من شهور الأهلّة مائة وثلاثين ألف دينار. فاتّفق أن شغّب الفرسان وطالبوا بأرزاقهم وناوشهم الرجّالة فقتل منهم جماعة واحتجّ السلطان على الفرسان بأنّ المال منصرف إلى الرجّالة، فحاربوهم حتى طردوهم من دار السلطان، وركب محمّد بن ياقوت فنادى فيهم ألّا يقيموا ببغداد وكان من وجد منهم بعد النداء قبض عليه وأودع حبس الجرائم.
وهدمت دور عرفاء الرجّالة وركب في ذلك ابن ياقوت وجدّد النداء فيهم ثم ظفر بنفر منهم فضربوا وشهّروا وقبضت أملاك الرجّالة المصافيّة وهدمت دورهم.
ثم هاج السودان بباب عمّار فركب محمّد بن ياقوت والقوّاد الحجريّة فأوقعوا بهم وضربوا الصقع بالنار. وكانت لأبي سعيد بن حمدان فيهم نكاية مشهورة وهربوا متفرّقين ثم اجتمع منهم جماعة من البيضان من رجّالة المصافيّة وغيرهم فكثر عددهم وانحدروا إلى واسط ورأّسوا على أنفسهم رجلا من الفرسان يعرف بنصر الساجي وطردوا عمّال السلطان بواسط، فانحدر إليهم مونس وأوقع بهم بواسط وقتلهم فلم يرتفع لهم راية بعد ذلك.
وفيها قبض على الوزير أبي عليّ ابن مقلة
ذكر السبب في القبض عليه
كان المقتدر متّهما لابن مقلة لممايلة مونس المظفّر وكان مستوحشا من مونس يظهر له الجميل، وانحرف عنه ياقوت لميل مونس إليه. واتفق أن خرج مونس المظفّر إلى أوانا متنزّها وانحدر أبو عليّ ابن مقلة إلى دار السلطان فتغنّم المقتدر بالله فيه غيبة مونس فقبض عليه. وكان محمّد بن ياقوت معاديا له، فلمّا قبض عليه أنفذ إلى داره بالليل من أحرقها.
وكان المقتدر قد عمل على أن يستوزر الحسين بن القاسم بن عبيد الله فرحل مونس من أوانا ودخل بغداد وراسل المقتدر بالله بكراهته للحسين ابن القاسم وسأله ردّ أبي عليّ ابن مقلة، فاغتاظ المقتدر وعزم على قتل ابن مقلة. وكان السفير عليّ بن عيسى. فكان يداريه إلى ان سكّنه وقال:
« ما ذنب وزيرك في شفاعة مونس له؟ » ولم يزل به حتى انصرف عن رأيه.
وكان المقتدر من محبته لأن يستوزر الحسين بن القاسم، استحضره وبيّته عنده وخلع عليه ووعده أن يصل في غد تلك الليلة بحضرة الناس ويخلع عليه الوزارة. فلمّا اتصل ذلك بمونس غلظ عليه أن يتفرّد المقتدر بهذا التدبير ولا يشاوره فيه وقد كان طعن عليه قديما وقال:
« لا يصلح للوزارة. » فترددت الرسائل بينه وبين المقتدر على لسان عليّ بن عيسى، فاستشار المقتدر عليّ بن عيسى. فأشار بردّ أبي عليّ ابن مقلة موافقة لمونس وذلك بعد أن سأله أن يتقلّدها هو فامتنع فقال المقتدر:
« هذا غير ممكن، فاذكر سواه. » فذكر سليمان بن الحسن وأشار به أو عبد الرحمن بن عيسى. فمال المقتدر إلى سليمان لما كان قدّمه من الطعن على ابن مقلة وما ظهر من عداوته له، فأمره بإحضاره وانصرف الحسين بن القاسم من دار السلطان واستتر.
وكانت مدّة وزارة أبي عليّ محمّد ابن عليّ ابن مقلة سنتين وأربعة أشهر.
ذكر ما جرى في أمر الوزارة بعد أبي علي وتقلد سليمان بن الحسن لها
أحضر سليمان بن الحسن يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى دار السلطان ولم يوصله المقتدر بالله إليه في ذلك اليوم وعاد من غد وهو يوم الخميس فوصل وخلع عليه. وتقدّم المقتدر إلى عليّ بن عيسى بالإشراف على سائر الأمور من الأعمال والدواوين وبمعاضدة سليمان وألّا يتراخى في ذلك فصار يصل مع سليمان إلى المقتدر ولا يقلّد سليمان أحدا ولا يصرفه ولا يعمل شيئا إلّا بموافقة عليّ بن عيسى.
وفيها قبض على البريديين وصودروا
ذكر الخبر عن ذلك
حكى أبو الفرج ابن أبي هشام قال: كان أبي يكتب لأحمد بن نصر القشوري وكان أحمد يطمع أن يجعل مكان أبيه نصر ويستحجب. قال:
فبينا نحن بين يدي أحمد بن نصر بالأهواز - وكان يتولّى أعمال المعاون بها - إذ ورد عليه توقيع من المقتدر بالله بخطّه مع ركابيّ يعرفه سرّا يقول فيه:
« يا أحمد قد عرفت ذنبك الذي جنيته وحرمت به نفسك رأيي، وقد تيسّر لك تلافيه بامتثال أمري فيما أضمّنه توقيعى هذا، اقبض على البريديين الثلاثة وحصّلهم في دارك، وإيّاك أن تفرج عنهم إلّا بتوقيع يرد عليك بخطّ كهذا الخطّ الذي في هذا التوقيع وثق مني بالعود لك إذا فعلت ذلك إلى ما يرفع منك ويصلح حالك ويعيد منزلتك. » قال: فأقرأنى أحمد بن نصر هذا التوقيع وسجد شكرا لله على ثقة المقتدر به وعبر في الوقت إلى دار أبي عبد الله وأنفذ حاجبه أبا يعقوب إلى دار أبي يوسف وأنفذ أحمد بن مقبل إلى دار أبي الحسين فوجدوهم قد خرجوا قبل ركوبه بلحظة وركبوا طيّاراتهم. وكان الخبر قد سبق إليهم فأظهروا أنّهم يريدون مسجد الرضا المتصل بالشاذروان بالأهواز فاتبعهم وعرف أنّهم ساروا إلى البصرة، فقامت قيامته من ذلك.
وأنفذ أبا يعقوب والغلمان وراءهم، فاتّفق أن عصفت الريح على البريديين فمنعتهم عن السير ولحقهم الطلب فأخذوا.
وبذل أبو عبد الله لأبي يعقوب خمسين ألف دينار على أن يفرج عنهم فما أجابه، ثم سأله أن يفرج عن أحد أخويه ويقبل منه عشرين ألف دينار فأبى، وردّهم وحصلوا في دار أحمد بن نصر ولم تمض خمسة أيّام حتى ارتفعت ضجّة. فقال لي أحمد بن نصر:
« اخرج فاعرف ما سبب هذه الضجّة. » قال: وكان سلّم إليهم داره الشطيّة واعتزل في حجرة، فخرجت مبادرا فرءانى أبو عبد اله فقال:
« قل له وبشّره أنّ الفرج قد أتى وأنّ هذا كتاب الوزير بالإطلاق وإقراري وأن أنظر في الأعمال. » وأعطاني الكتاب وبادرت به إلى أحمد بن نصر فقرأه وخرج إليه وإلى أخويه وقال:
« هذه نعمة يلزمني فيها الشرك والصدقة والوفاء بالنذر ولكن هذا خطّ أمير المؤمنين إليّ بما رسمه وأريد خطّا مثله بما ينقضه. » فتغيّرت وجوه الأخوة من ذلك واضطربوا حتى ظهر على وجوههم ما في قلوبهم ثم أخذوا في مداراته ومسألته الرفق. فلمّا كان من الغد شغّب الرجّالة بالأهواز تعصّبا لهم وقالوا:
« لا بدّ من إطلاقهم. » وحملوا السلاح وكان مع أحمد بن نصر طوائف من البصريّة وعدّة كثيرة من السودان والغلمان والحجريّة فجمعهم ثم حلف بالطلاق أنّه إن هجم على داره أحد منهم قتلهم وأخذ رؤوس الثلاثة وحملها إلى الخليفة. وقال:
« هذا كتاب مزوّر وإلّا فلم لا يقع تثبّت وإنّما ضرّبتم عليّ الرجّالة وراسلتموهم في حمل السلاح وأخذكم من منزلي لئلّا يظهر ما زوّرتموه وتتعجّلون الخروج والهرب. » فلمّا رأوا المصدوقة اعتذروا ووضعوا جنوبهم له وأرسلوا الرجّالة في الانصراف بعد أن حلفوا أنّهم تبرّعوا بالتعصّب لهم وأقاموا بمكانهم.
ووافى بعد عشرة أيّام ابن موسى دانجو بتوقيع مثل ذلك التوقيع وذلك الخطّ فتسلّمهم وحملهم وعلم أنّهم كانوا زوّروا واحتالوا وتأكّدت الوحشة بينهم وبين أحمد بن نصر القشوري ولم يزالوا عليها حتى فرّق بينهم الدهر.
ولمّا ورد البريدون الحضرة نوظروا على المصادرة فقال أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي وكان في الوقت عدوّا لهم:
« بكرت إلى أبي جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وقلت له: الأهواز
خطّة القاسم أبيك وهي دارك ودار أخيك وأنتم تتصرّفون فيها منذ ستين سنة فلم تركتموها لهؤلاء الفعلة الصنعة وهلّا سعيت على سحقهم وسحبهم حتى لا يبقى لهم جناح يطيرون به؟ » فقال: « يا أبا زكريا ما الذي تقدّره في مصادرتهم التي تؤدّيهم إلى هذه الحال؟ » فقلت معظما: « ثلاثمائة ألف دينار يزهق الله به نفوسهم. » فقال لي:
« يا أخ قم بنا حتى نعبر إلى دار الوزير. » وكان يومئذ أبو القاسم سليمان بن الحسن. فخرجت معه فنزلنا الطيّار فلمّا وصلنا وتوسّطنا الدار وجدنا أبا القاسم الكلوذانى في جانب منها والبريديّين بين يديه والكتّاب. فقال لي أبو جعفر:
« ترى أن نقضي حقّه ونعرّج عليه ونعرف الصورة من أمرهم فنبنى ما نخاطب الوزير به بحسبه؟ » فقلت: « صواب. » فعدلنا إلى أبي القاسم وجلسنا عنده فقال لأبي جعفر:
« قد فصلنا أمر أصحابنا وأنت وجه الحضرة وتاجها وحرّها وهم إخوتك وما أحقّك بمعونتهم؟ » فقال: « إنّ أيسر ما يكون لهم أيّدهم الله مشاركتهم في المحنة فأمّا المعونة فما أقنع من نفسي بها فعلام انفصل أمرهم؟ » فقال: « على تسعة آلاف ألف درهم. »
قال أبو زكريا: فنظر إليّ أبو جعفر وقد بهت. ونهضنا فقال: « يا أبا زكريا هذا خلاف ما كان عندك. » فقلت: « هذا الأمر يراد والله ما يملكون هذا المال فإني أعرف بمكاسبهم ولكن لأبي عبد الله نفس أبيّة وهمة عليّة فعرفت نفسه على سلطانه فأعطاه أكثر ممّا أطمع فيه وممّا سعى به أعداؤه متربّصا بالأيّام والأوقات ومتوقّعا الدوائر وإن يسمع الخليفة التزامه هذا المال الجليل فيستكثر قدره ويرغب في تجديد الصنيعة عنده وما كلّ أحد يغرّر هذا التغرير وما هذا آخر أمره وسيكون له شأن عظيم كفافا الله شرّه. » قال أبو زكريا: وعدلت مذ ذلك اليوم إلى مداراته وخدمته واستصلاحه.
مناظرة أبي علي بن مقلة
وتقدّم المقتدر بالله إلى سليمان بن الحسن وأبي الحسن عليّ بن عيسى بمناظرة أبي عليّ ابن مقلة فاختارا لذلك أحمد بن محمّد بن صالح العكبري وأنفذه إلى دار السلطان فناظره ولم يزد على توبيخه ومواقفته على قبيح آثاره.
فالتمس أبو عليّ ابن مقلة أن يكون المناظر له عليّ بن عيسى. فاجتمع الوزير سليمان وعليّ بن عيسى على مناظرته في دار الحجبة بحضرة ياقوت الحاجب، فاغلظ له سليمان في الخطاب والتخطئة والاحتقار ونسبه إلى التضريب بين السلطان وأوليائه إلى أن قرّر عليّ بن عيسى أمره على مائتي ألف دينار على جمل، يعجّل منه النصف ويؤدّى الباقي في نجوم المصادرات، وكانت تلك النجوم إنّما هي رسم لا يطالب من يؤخذ خطّه بها.
فكتب مونس المظفّر إلى المقتدر يشفع لابن مقلة ويسأله أن يعفيه من المصادرة وأن يكون معتقلا في يد مرشد الخادم فأجابه إلى ذلك.
ودخلت سنة تسع عشرة وثلاثمائة
وفي هذه السنة استوحش مونس المظفّر زيادة استيحاش.
ذكر السبب في استيحاش مونس وخروجه
كان محمّد بن ياقوت منحرفا عن سليمان ومائلا إلى الحسين بن القاسم ومونس المظفّر، وأسبابه يميلون إلى سليمان لمكان عليّ بن عيسى وثقتهم به وينحرفون عن الحسين بن القاسم. وقوى أمر محمد بن ياقوت وقلّد مع الشرطة الحسبة [ ببغداد ] واستضمّ رجالا وقويت بهم شوكته فشقّ ذلك على مونس وسأل المقتدر صرفه عن الحسبة وتقليد ابن بطحاء ففعل ذلك.
وتقدّم مونس إلى أصحابه بالاجتماع إليه، فلمّا فعل ذلك جمع ياقوت وابنه الرجال في دار السلطان وفي دار محمّد بن ياقوت. وقيل لمونس إنّ محمّد بن ياقوت قد عمل على كبس داره بالليل وما فارقه أصحابه حتى أخرجوه إلى باب الشمّاسيّة وخرجوا معه وصار إليه عليّ بن عيسى فعرّفه خطأ هذا الرأي وأشار عليه بأن يعود إلى داره فلم يقبل منه وأقام على أمره.
وطالب بصرف محمّد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة وياقوت عن الحجبة وإبعادهما عن الحضرة، فوجّه المقتدر قاضى القضاة أبا عمر وابنه الحسن وابن أبي الشوارب وجماعة من شيوخ الهاشميين أصحاب المراتب إلى مونس برسالة يرفق فيها ويسأله الرجوع إلى داره، فقال قاضى القضاة:
« الوجه أن يكتب رقعة بما حمّلناه من الرسالة نرجع إليها ونثنى الكلام على معانيها، فإنّا جماعة والقول يختلف والنسيان غير مأمون. » فقال الوزير:
« وما معنى هذا؟ » فقال عليّ بن عيسى:
« هذا هو الصواب. » وكتب بذلك رقعة.
وقعد الوزير وعليّ بن عيسى في دار السلطان ينتظران عود الجماعة، فعادوا وذكروا أنّهم لم يصلوا إلى مونس وأنّهم أجلسوا في الحديدى وراسلهم مونس في إعلامه بما وردوا فيه فذكروه له فصار إليهم كتّابه يخاطبونهم خطابا جميلا عنه.
فبينا هم كذلك إذا هجم الجيش على الحديدى فكادوا يغرقونه وقالوا:
« لا نرضى إلّا بإخراج ياقوت وابنيه. » وتكلّموا بكلام قبيح فراح في آخر النهار الوزير سليمان بن الحسن وعليّ بن عيسى ومن معهما من الخدم الخاصّة إلى باب الشمّاسيّة فشافهوا مونسا بالرسالة فلم يبعد عليهم وخرجوا من عنده فقبض عليهم عند مغيب الشمس وحبسهم في الحديدى.
فخرج ياقوت في تلك الليلة ونزل المدائن ومعه ابناه فلمّا كان من غد ذلك اليوم وعرفت المونسيّة انّ ياقوتا وابنيه قد خرجوا عن الحضرة أفرجوا عن الوزير والجماعة وانصرفوا إلى منازلهم.
وقلّد المقتدر ياقوتا أعمال الخراج والمعاون بفارس وكرمان وكتب إلى أبي طاهر محمّد بن عبد الصمد بالانضمام إليه وانضمّ إليه وخاطبه بالأستاذيّة، وقلّد المظفّر بن ياقوت إصبهان وتقلّد ابنا رائق: إبراهيم ومحمّد، مكان ياقوت وأقام ياقوت بشيراز مدّة وكان عليّ بن خلف بن طيّاب متضمنا أموال الضياع والخراج بها فتظافروا وتعاقدوا فقطعا الحمل عن السلطان إلى أن ملك عليّ بن بويه الديلمي فارس يوم السبت سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وفيها دخلت قوافل الحاجّ من مكّة سالمين مع مونس الورقائى فاستبشر الناس بتمام الحجّ وانفتاح الطريق وضربت له القباب ببغداد.
وفيها قبض على الوزير سليمان بن الحسن
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ سليمان أضاق إضافة شديدة وكثرت عليه المطالبات وبلّح واتصلت الرقاع ممّن يلتمس الوزارة بالسعاية فقبض على سليمان بن الحسن وأبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى فشقّ من ذلك وجزع جزعا عظيما وحملا إلى دار السلطان.
وكان المقتدر شديد الشهوة لتقليد الحسين بن القاسم الوزارة فامتنع عليه مونس وأشار بتقليد الكلوذانى فاضطرّ المقتدر إلى تقليده. وكانت مدّة وزارة سليمان سنة واحدة وشهرين وأيّاما.
استحضار الكلوذانى لتقليده الوزارة
واستحضر المقتدر أبا القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى من دار مونس يوم السبت لخمس بقين من رجب وخرج إليه مفلح برسالة المقتدر بأنّه قد قلّده وزارته ودواوينه ولم يوصله إليه وتقدّم إليه بأن ينحدر إليه يوم الاثنين ليخلع عليه. فخاف الكلوذانى من حيلة تتمّ للحسين بن القاسم في تقلّده الوزارة لأنّه بلغه أنّ الحسين قد جدّ بعد القبض على سليمان وراسل مونسا المظفّر وقال:
« لا يؤمن أن يحتجّ الخليفة في تأخّر الخلع على الكلوذانى بأنّه لم تعدّ له الخلع. » وأشار بأن يوجّه مونس بخلع من عنده إلى دار السلطان ليخلعها عليه، ففعل مونس ذلك وخلع المقتدر على أبي القاسم عبيد الله بن محمّد الكلوذانى يوم الاثنين وخاطبه بتقليده الوزارة والدواوين وتقدّم إليه بأن يقلّد الحسين بن القاسم ديوانا جليلا ليظهر ويزول عنه الأراجيف بالوزارة.
ووصل عليّ بن عيسى بوصول الكلوذانى فأمره المقتدر بحضرة الكلوذانى بأن يجرى على عادته في الإشراف على الأمور والحضور معه وعرّفه أنّه قد أفرده بالنظر في المظالم دون الكلوذانى فركب الكلوذانى في الخلع من دار السلطان إلى داره فأخذ خطّ سليمان بن الحسن بمائتي ألف دينار.
وقدم أبو الفتح الفضل بن جعفر من الشام وأبو جعفر محمّد بن القاسم بن عبيد الله من نواحي جند قنّسرين والعواصم وكان أبو الفتح منصرفا إلى ناحية قومس فأشار مونس بتقليده ديوان السواد فقلّده الكلوذانى مكرها وانقطعت بتقليده موادّ كانت تصل إلى الكلوذانى وأبي الفياض من أرزاق قوم لا يحصرون وتسبيبات بأسماء قوم لم يخلقوا وما كان يسبّب للغلمان والوكلاء في الدار والحاشية برسم الفقهاء والكتّاب وما كان يستطلق لهم من الورق والقراطيس ويبتاع ببعضه ما يحتاج إليه وأشياء تشبه هذه ولم تنبسط يد الكلوذانى على قوم لعناية مونس المظفّر بهم.
وكان أبو بكر ابن قرابة متحققا بمفلح الأسود فأوصله مفلح إلى المقتدر وجعله واسطة للمرافق التي أخلق بها الخلافة. وكان ابن قرابة ذكر له أنّ الوزراء كانوا يرتفقون بها وأنّ الضمناء قد بذلوا أن يرفقوا به الخليفة ليصرفه في مهمّ نفقاته لشدّة الإضافة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)