الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
إعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس فمنها الضروري و هي الأقوات من الحنطة و ما معناها كالباقلاء و البصل و الثوم و أشباهه و منها الحاجي والكمالي مثل الأدم و الفواكه و الملابس و الماعون و المراكب و سائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر و كثر ساكنة رخصت أسعار الضروري من القوت و ما في معناه و غلت أ سعار الكمالي من الأديم و الفواكه و ما يتبعها و إذا قل ساكن المصر و ضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. و السبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل أحد لا يهمل قوت نفسه و لا قوت منزله لشهر أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك. و كل متخذ لقوته فتفضل عنه و عن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل القتوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية و لولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن و لا عوض لكثرتها بكثرة العمران. و أما سائر المرافق من الأدم و الفواكه و ما إليها لا تعم بها البلوى و لا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين و لا الكثير منهم ثم أن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق و الاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصوراً بالغاً و يكثر المستامون لها و هي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض و يبذل أهل الرفه و الترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. و أما الصنائع و الأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه، و الثاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، و الثالث كثرة المترفين و كثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم و إلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة و منافسة في الاستئثار بها فيغتر العمال و الصناع و أهل الحرف و تغلو أعمالهم و تكثر نفقات أهل المصر في ذلك. و أما الأمصار الصغيرة و القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها و ما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه في فيعز وجوده لديهم و يغلو ثمنه على مستامه. و أما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة بقلة الساكن و ضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره. و قد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض عليها من المكوس و المغارم للسلطان في الأسواق و باب الحفر و الحياة في منافع وصولها عن البيوعات لما يمسهم. و بذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس و المغارم و الفرائض قليلة لديهم أو معدومة. و كثرتها قي الأمصار لا سيما في آخر الدولة و قد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح و يحافظ على ذلك في أسعارها كما و قع بالأندلس لهذا العهد.
و ذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر و بلاده المتوعرة الخبيثة الزارعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية و البلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع و الفدن لإصلاح نباتها و فلحها و كان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم و مواد من الزبل و غيره لها مؤنة و صارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. و اختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. و يحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات و الحبوب في أرضهم و ليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه و أقومهم عليه و قل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليلاً من أهل الصناعات و المهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. و لهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة و أقواتهم و علوفاتهم من الزرع. و إنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. و لما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم و طيب أرضهم ارتفعت عنهم الهون جملة في الفلح مع كثرته و عمومته فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم و الله مقدر الليل والنهار و هو الواحد القهار لا رب سواه.
الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفه كما قدمناه و تكثر حاجات ساكنه من أجل الترف. و تعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات و تصير فيه الأعمال كلها مع ذلك عزيزة و المرافق غالية بازدحام الأعراض عليها من أجل الترف و بالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات و تعتبر في قيم المبيعات و يعظهم فيها الغلاء في المرافق و أن أوقات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه. و يعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه و عياله في ضرورات عيشهم و سائر مؤونتهم. والبدوي لم يكن دخله كثيراً ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأهل كسباً و لا مالاً فيتعذر عليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه و عزة حاجاته. و هو في بدوه يسد حاجته بأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه و سائر مؤونته فلا يضطر إلى المال و كل من يتشوف إلى المصر و سكناه من البادية فسريعاً ما يظهر عجزه و يفتضح في استيطانه إلا من يقدم منهم تأثل المال و يحصل له منه فوق الحاجة و يجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة و الترف فحينئذ ينتقل إلى المصر و ينتظم حالة مع أحوال أهله في عوائدهم و ترفهم. و هكذا شأن بداءة عمران الأمصار. و الله بكل شيء محيط.
الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه و الفقر مثل الأمصار
إعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار و تعددت الأمم في جهاته و كثر ساكنه اتسعت أحوال أهله و كثرت أموالهم و أمصارهم و عظمت دولهم و ممالكهم. و السبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال و ما سيأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفصل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران و كثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونة حسبما نذكر ذلك في فصل المعا ش و بيان الرزق و الكسب فيتزيد الرفه لذلك و تتسع الأحوال و يجيء الترف والغنى و تكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها و يشمخ سلطانها و تتفنن في اتخاذ المعاقل و الحصون و اختطاط المدن و تشييد الأمصار. و اعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر و الشام و عراق العجم و الهند و الصين و ناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي وعظمت لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم و عظمت دولتهم و تعددت مدنهم و حواضرهم و عظمت متاجرهم و أحوالهم. فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم و اتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف. و كذا تجار أهل المشرق و ما يبلغنا عن أحوالهم و أبلغ منها أهل المشرق الأقصى من عراق العجم و الهند و الصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى و الرفه غرائب تسير الركبان بحديثها و ربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر. و يحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزيادة في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية و الفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم و ليس كذلك فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو من بلاد السودان و هي إلى المغرب أقرب. وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة. فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأموال و لا استغنوا عن أموال الناس بالجملة. و لقد ذهب المنجمون لمما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال و اتساعها و وفور أموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب و السهام في مواليد المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب و ذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية و الأحوال الأرضية كما قلناه و هم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي و بقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي و هو ما ذكرناه من كثرة العمران و اختصاصه بأرض المشرق وأقطاره و كثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة قي الأعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الأفاق لا إن ذلك لمجرد الأثر النجومي. فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك و أن المطابقة بين حكمه و عمران الأرض و طبيعتها أمر لا بد منه. و اعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر أفريقية و برقة لما خف سكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصه. و ضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة و صنهاجة بها على ما بلغك من الرفه و كثرة الجبايات و اتساع الأحوال في نفقاتهم و أعطياتهم. حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته و مهماته و كانت أموال الدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفر إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعد بها لأرزاق الجنود و أعطياتهم ونفقات الغزاة. و قطر المغرب و أن كان في القديم دون أفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك و كانت أحواله في دول الموحدين متسعة و جباياته موفورة و هو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه و تناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره و نقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوسا، و كاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال أفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بين السوس الأقصى و برقة. و هي اليوم كلها أو أكثرها قفار و خلاء و صحارى إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول و الله وارث الأرض ومن عليها و هو خير الوارثين.
الفصل الخامس عشر في تأثل ا لعقار و الضياع في الأمصار و حال فوائدها و مستغلاتها
اعلم أن تأثل العقار و الضياع الكثيرة لأهل الأمصار و المدن لا يكون دفعة واحدة و لا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمتها عن الحد و لو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ. وإنما يكون ملكهم و تأثلهم لها تدريجاً أما بالوراثة من آبائه و ذوي رحمه حتى تتأدى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد و أكثر لذلك أو أن يكون بحوالة الأسواق فإن العقار في آخر الدولة و أول الأخرى عند فناء الحامية و خرق السياج وتداعى المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمتها و تتملك بالأثمان اليسيرة و تتخلى بالميراث إلى ملك آخر و قد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية و انتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها و يكون لها خطر لم يكن في الأول. و هذا معنى الحوالة فيها و يصبح مالكها من أغنى أهل المصر و ليس ذلك بسعيه و اكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك. و أما فوائد العقار و الضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بموائد الترف و أسبابه و إنما هي في الغالب لسد الخلة و ضرورة المعاش. و الذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع إنما هو الخشية على من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهم به و رزقه فيه و نشؤهم بفائدته ما داموا عاجزين عن الاكتساب فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم و ربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله. هذا قصد المترفين في اقتنائه. و أما التمول منه وإجراء أحوال المترفين فلا. و قد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق و حصول الكثرة البالغة منه و العالي في جنسه و قيمته في المصر إلا أن ذلك إذا حصل ربما امتدت إليه أعين الأمراء و الولاة و اغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم و نالت أصحابه منه مضار و معاطب و الله غالب على أمره و هو رب العرش العظيم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)