أقول: قد سرّح عمر من المدينة إلى العراق نصر بن حجاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال وكان بالمدينة كثير من النساء يغيب أزواجهن في الجهاد وقد ذكرت إحداهن نصرًا في شعر لها، وجلد عمر صبيغ بن عسل ونفاه إلى العراق وكتب أن لا يجالسه أحد، لأمر واحد وهو أنه يكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام؛ ونصر سلمي وصبيغ تميمي لم يكن لهما عرق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميري حديث العهد باليهودية لا منعة له ولا حاجة بالمسلمين إليه، فهل يعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا يحذره ولا يحذر الناس منه؟ أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد من طرق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القسملي] عن عبيد بن آدم قال (سمعت عمر يقول لكعب: «أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله »).
عبيد هذا لم يذكر له راو إلا أبو سنان، وأبو سنان ضعفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة: (مخلط ضعيف الحديث)، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في الثقات لما عرف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي: (لا بأس به) فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفت ذلك بالاستقراء. ومع هذا فليس في القصة ما يشعر بسوء دخيلة، عرف كعب فضيلة بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أولًا فظن أنه الأفضل للمصلي هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة، ورأى عمر أن في هذا مضارعة -أي: مشابهة لليهودية – فيما علم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبي . هذا على فرض صحة الرواية. وذكر أبو رية (ص126-127) رواية أخرى عن تاريخ الطبري. وهي في التاريخ منقطعة الأول والآخر، إنما قال: (وعن رجاء بن حيوة عمن شهد) والسند إلى رجاء مجهول، وشيخ رجاء مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء.
قال أبو رية: (فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فطنة عمر وسلامة نيته) كذا رجع أبو رية فسلب عمر ما ذكره أولًا بقوله: (بحزمه وحكمته وينفذ… بنور بصيرته)، وهذا شأن من يتظنى الباطل. [24]
76قال: (فظل يعمل بكيده في السر والعلن).
أقول: كلمة (العلن) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقًا وتبين أن مقصوده بقوله: (سلامة نيته) الغفلة. قال: (حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدهي).
ذكر بعد هذا ما حكي عن المسور بن مخرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن الأثير، والثاني مستمد من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار (سنة 23) قال: (حدثني سلمة (الصواب: سلم) ابن جنادة قال حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران] بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المسور بن مخرمة… قال: «خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة... قال [أبو لؤلؤة]: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفًا. قال ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان من الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين! اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك… فلما كان من الغد جاء كعب فقال: … بقي يومان. قال: ثم جاء من غد الغد فقال: … بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها…) وقال فيه: فضرب عمر ست ضربات وفي آخرها: ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة».
أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد من عبد كافر ثم لا يحترس منه ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيونًا تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقل من هذا، وكان له عيون على عماله في البلدان البعيدة، أوليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: «أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله». هب أن عمر لم يبال نفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطرًا عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال: يمكن أن تكون وضعت عليه عيون راقبته مدة فلم ير منه ما ينكر، فترك. لكن77هذه الحكاية تجعل التوعد يوم الجمعة (22) ذي الحجة سنة (23) والقتل بعد ذلك بأربعة أيام.
أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أن عمر قال في خطبته في تلك الجمعة: «رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي» وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلًا من الأعاجم يعتدي عليه. راجع فتح الباري (7: 50) هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟
وفوق هذا تزعم الحكاية أن كعبًا جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟
أمر آخر: تقدم (ص46) تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبر عن النبي ، فهل يعقل أن عمر هذا الذي شدد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم الإسلام لا يشدد على كعب حديث العهد باليهودية ولا صحبة ولا هجرة، مع أن خبره أولى وأحق بأن يستنكر؟
أمر ثالت: عهدنا بهذا الحميري داهيًا فهل يعقل أن يكون واقفًا على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوًى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدي كلامه إلى حبوط المؤامرة بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه؛ وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يد عند عمر والمسلمين ينال بها جاهًا ومكانة. وكلا هذين الغرضين أهم وأعظم من حبه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أن هذا قد كان حاصلًا في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك.
ومن قابل هذه الحكاية بالروايات الصحيحة وجد مخالفة: منها عدد الطعنات، اتفقت الروايات الصحيحة على أنها ثلاث فقط، ووقع في هذه الحكاية أنها ست.
فأنت ترى أن النظر في متن هذه الحكاية يبين أنها مدخولة لا يمكن الاعتماد عليها في شيء، ويؤكد ذلك سقوط سندها، فإن سليمان مجهول لم نجد له ترجمة، وأبوه ساقط الحديث كما بينه جمع من الأئمة، وعبد الله بن جعفر لا بأس به، فأما أبو جعفر بن المسور فلا يعرف برواية أصلًا، ولا يدرى أدرك أباه أم لا؟
78وقال (ص 117): (ووقع في رواية أبي إسحاق عند ابن سعد: وأتى كعب عمر فقال: «ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيدًا، وإنك تقول: من أين؟ وإني في جزيرة العرب».
أقول: هي عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون وأبو إسحاق مشهور بالتدليس ولم يذكر سماعا وروى غيره القصة عن عمرو بن ميمون كما في صحيح البخاري وغيره بدون هذه الزيادة. ومع هذا فأي شيء فيها؟ أما الشهادة فقد كان عمر مبشرًا بها يقينًا، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس: «أن النبي صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» وصح معناه من حديث عثمان وبريدة وأبي هريرة وسهل بن سعد. راجع فتح الباري (7: 32).
وفي الصحيحين وغيرهما سؤال عمر لحذيفة عن الفتنة، وقول حذيفة: «لا بأس عليك يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها بابا مغلقًا قال عمر: يفتح الباب أو يكسر؟ قال حذيفة: لا. بل يكسر. قيل لحذيفة: علم عمر بالباب؟ قال: نعم. كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط» ثم بين حذيفة أن الباب هو عمر نفسه. فالمراد بقوله: «يفتح أو يكسر»: يموت أو يقتل.
وثم أخبار أخرى كرؤيا عوف بن مالك في عهد أبي بكر، وفيها في ذكر عمر (شهيد مستشهد). وفي صحيح البخاري أن عمر قال: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتًا في بلد رسولك» وراجع فتح الباري (4: 86) و (6: 44)، ولا ريب أن كعبًا كان عارفًا بصحف أهل الكتاب وأن فيها أخبارًا عن المستقبل، وأنه كان يوجد في صحفهم في صدر الإسلام ما لا يوجد عندهم الآن. راجع ما تقدم (ص72). وشأن عمر من أعظم الشئون في العالم وأحقها أن يبشر به الأنبياء السابقون عند تبشيرهم بالنبي ، ومع هذا فليس في رواية أبي إسحاق ذكر التوراة، فقد يكون استند إلى تلك الأخبار الصحيحة عن النبي .
قال أبو رية: (وإليك خبرًا عجيبًا من أخبار ذلك الكاهن لعله يمتلخ منك عرق الشك في اشتراكه في هذه المؤامرة، فقد أخرج الخطيب عن مالك «أن عمر دخل على أم كلثوم بنت علي وهي زوجته فوجدها تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: هذا اليهودي -أي كعب الأحبار - يقول إنك من أبواب جهنم. فقال عمر: ما شاء الله ثم خرج فأرسل إلى كعب، فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين! والذي نفسي بيده لا ينسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة، فقال عمر: ما هذا؟ مرة في الجنة ومرة في النار! قال كعب: إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبوب جهنم تمنع الناس أن يقتحموا فيها، فإذا مت اقتحموا وقد صدقت يمينه... فقد قتل عمر في ذي الحجة سنة (23)هـ».
79أقول: ذكر ابن حجر في فتح الباري هذه الحكاية في شرح حديث حذيفة الذي فيه وصف عمر بأنه باب مغلق دون الفتنة، وقد تقدم قريبًا. وفي الفتح أيضًا (2: 446) حديث فيه أن النبي أشار إلى عمر وقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش، وأن أبا ذر قال لعمر: «يا غلق الفتنة» فغير منكر أن يكون في صحف أهل الكتاب إشارة إلى هذا المعنى بنحو ما في الحكاية -إن صحت- وإنما الذي يستنكر أن يكون فيها بيان وقت موت عمر على التحديد. وقد كان عمر في شهر ذي الحجة سنة (23) حاجًا واتفق هناك علامات تؤذن بقرب موته، منها أن رجلًا ناداه يا خليفة! فقال آخر من حزاة العرب: إنا لله، ناداه باسم ميت. ثم لما كان يرمي الجمرات أصابت حصاة جبهة عمر فأدمته، فقال ذاك الحازي: إنا لله، أشعر أمير المؤمنين. والإشعار تدمية البعير الذي يهدى لينحر. وجاء عن عائشة أنها سمعت عقب ذاك الحج منشدًا ينشد:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ** له الأرض تهتز العضاة بأسوق
عليك سلام من إمام وباركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق
.. الأبيات
ولما انصرف عمر من الحج دعا الله تعالى فقال: «اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط» فلما قدم المدينة خطب الناس وقال في خطبته: «رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي». فمن الجائز إن صحت تلك الحكاية أن يكون كعب استند إلى بعض هذه العلامات أو شبهها، وقد يكون مع ذلك وجد في صحفه إشارة فهم منها بطريق الرمز -مع النظر إلى القرائن والعلامات السابقة- أن عمر لا يعيش في تلك السنة.
وبعد، فسند الحكاية غير صحيح، تفرد بها عن مالك رجل يقال له: عبد الوهاب بن موسى لا يكاد يعرف وليس من رجال شيء من كتب الحديث المشهورة، ولا ذكر في تاريخ البخاري ولا كتاب ابن أبي حاتم، بل قال الذهبي في الميزان: (لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب) وفي مقدمة صحيح مسلم: (الذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شار ك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه قبل منه…) وهذا الرجل لم يمعن في المشاركة فضلًا عن أن يكون ذلك على80الموافقة. لكن هذا الشرط لا يتقيد به بعض المتأخرين كابن حبان والدارقطني، ومن ثم -والله أعلم- وثق الدارقطني عبد الوهاب هذا وزعم أن الخبر صحيح عن مالك. أما بقية سنده عن مالك فهو عن عبد الله بن دينار عن سعد الجاري، وسعد الجاري غير مشهور ولا موثق، ولا يدرى أدركه عبد الله بن دينار أم لا؟
ومقطع الحق أن ليس بيد من يتهم كعبًا بالمؤامرة غير كلمات يروى أن كعبًا قالها لعمر. وقد كان عمر والصحابة أعلم بالله ورسوله وكتبه منا، وأعلم بعد أن طعن عمر بالمؤامرة وقد انكشفت وهو حي، وأعلم بحال كعب؛ لأنه صحبهم وجالسهم. والمعقول أنه لو كان في ما خطب به عمر ما يوجب اتهامه لاتهموه، وقد علمنا أنهم لم يتهموه لا قبل انكشاف المؤامرة ولا بعده، فوجب الجزم بأنه لم يقع منه ما يقتضي اتهامه.
قال أبو رية (ص118) (حديث الاستسقاء…).
حُكي أن كعبًا في عام الرمادة قال لعمر: «إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء».
أقول: لم يعز إلى كتاب لينظر في سنده… ولا أراه إلا ساقطًا.
قال: ومما لا مراء فيه أن هذا اليهودي قد أراد بقوله هذا أن يخدع عمر عن أول أساس جاء عليه الدين الإسلامي وهو التوحيد الخالص، ليزلقه إلى هوة التوسل الذي هو الشرك بعينه).
أقول: أما المسلمون الذي يعرفون الإسلام فالذي لا مراء فيه عندهم أن أبا رية مجازف، وأنه على فرض صحة هذه الحكاية ليس فيها ما يدل على سوء طوية كعب. وإن استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما لا علاقة له بالشرك البتة، بل هو أمر يقره الشرع إجماعًا، ويؤيده الكتاب والسنة، قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقال سبحانه: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } وقال تعالى في يعقوب وبنيه: { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }. وتواتر في السنة طلب الصحابة من النبي أن يدعو لهم بالسقيا وغيرها، وأمرنا النبي أن نسلم عليه في التشهد، وبالصلاة عليه والدعاء له عقب الأذان، وغير ذلك مما صورته طلب الدعاء.
ثم ذكر خبر أنس الذي في صحيح البخاري أن عمر قال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا81فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» وزعم أنه لا يصح، وعارضه بروايات منها عن خوّات قال: «خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، فما برح من مكانه حتى مطروا».
أقول: لا أدري ما سنده، ولو صح فلا يعارض خبر أنس، فقد تكون واقعة أخرى، فإن عمر لبث خليفة عشر سنين، وقد تكون واقعة واحدة اختصر خوات في ذكرها.
قال: (وعن الشعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار).
أقول: الشعبي لم يدرك عمر، وعمر لبث خليفة عشر سنين، فلم يكن استسقاؤه مرة واحدة.
قال: وقال الجاحظ: ولما صعد (عمر) على المنبر قابضًا على يد العباس… فذكر نحو خبر الشعبي، وذكر أبو رية أن الطبري أخرجه في تفسيره، وأن ابن قتيبة ذكره في الشعر والشعراء.
أقول: نعم، ولكن لم يقل أحد: (قابضًا على يد العباس) إلا الجاحظ، فأراه زادها توهما.
قال: قال معاوية لكعب…) عزا هذا إلى تفسير ابن كثير (3: 101) وإنما هو فيه (5: 323) قال في سنده: (ابن لهيعة حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية…إلخ). وابن لهيعة ضعيف، وسعيد بن أبي هلال ولد بعد موت كعب بنحو أربعين سنة.
قال: (وذكر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معدان عن كعب…).
أقول: قال القرطبي: (قال ثور بن زيد عن خالد…. ) ولا أدري كيف السند إلى ثور، وخالد لم يدرك كعبًا.
قال: (وفي التفسير أن عبد الله بن قلابة… إلخ).
أقول: عبد الله بن قلابة مجهول لا ذكر له إلا في هذه الحكاية، وفي السند إليه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف كثير التخليط.
قال: (ص121): (وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب…).
أقول: كتاب العظمة تكثر فيه الرواية عن الكذابين والساقطين والمجاهيل.
قال: (وعن وهب بن منبه: أربعة أملاك يحملون العرش…).
أقول: وهذا أيضًا من كتاب العظمة.
82قال: (وقرأ معاوية…. إلخ).
أقول: في سنده سعيد بن مسلمة بن هشام، قال فيه البخاري: (منكر الحديث فيه نظر)، وهذا من أشد الجرح في اصطلاح البخاري، وفي سياق القصة ما يشعر بانقطاع آخرها.
قال (ص122): (وذكر الحافظ ابن حجر أن كعب الأحبار روى أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، فأخذ منه بعض العلماء أن الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج ليحصل العروج مستويًا…) قال أبو رية: (وهكذا تنفذ الإسرائيليات إلى معتقداتنا).
أقول: الحكاية عن كعب لا ندري ما سندها، وذاك الأخذ إنما هو احتمال لا تثبت به عقيدة ولا تنتفي.
قال: (وقال ابن حجر بعد أن أورد تلك الخرافة…).
أقول: من أين لك أنها خرافة؟
قال: (وروى كعب أن في الجنة ملكًا… إلخ).
أقول: ذكر بنحو ما هنا ابن القيم في حادي الأرواح المطبوع مع إعلام الموقعين (1/314) وهو من رواية شمر بن عطية عن كعب، وشمر لم يدرك كعبًا وليس في الحكاية ما يستنكره المسلم.
قال: (ومما يدلك على أن الصحابة كانوا يرجعون إليه [25] حتى فيما هو من علمهم، وبخاصة عند ما قال: ما من شيء إلا وهو مكتوب في التوراة. أن أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري ذكر أن عمر قال لكعب -وذكر الشعر-: يا كعب! هل تجد للشعر ذكرًا في التوراة…).
أقول: عزاه إلى كتاب العمدة لابن رشيق، وابن رشيق لم يلق النيسابوري، والنيسابوري ضعيف جدًا حتى اتهم بالوضع، تجد ترجمته في لسان الميزان (5: 140) وبينه وبين عمر أكثر من ثلاثمائة سنة. وهبّ أن القصة صحت فأي شيء فيها يدل على تلك الدعوى الفاجرة؟ وما نسبه إلى كعب من قوله: (ما من شيء… إلخ) لم يعزه.
قال: (وروى البيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن ابن عباس [قال]… في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى).
أقول: أما هذا فليس سنده بصحيح؛ لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى83عن ابن عباس، وشريك يخطئ كثيرًا ويدلس، وعطاء بن السائب اختلط قبل موته بمدة وسماع شريك منه بعد الاختلاط. لكن أخرج البيهقي عقب هذا بسند آخر من طريق آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله عز وجل: { خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } قال: (في كل أرض نحو إبراهيم) ثم قال البيهقي: (إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًاَ). وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة فذكره بنحوه، وزاد: (ونحو ما على الأرض من الخلق). وعلى هذا فالمعنى والله أعلم أن في كل أرض خلقًا كنحو بني آدم، وفيهم من يعرف الله تعالى بالنظر في آياته كما عرف إبراهيم عليه السلام، وهذا القول قد يتوصل إليه بالنظر في الآية المذكورة وسياقها وقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } وقوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } وغيرها على أن بعضهم قد فسر ماجاء في الرواية الأخرى التي تقدمت أنها لا تصح، ففي روح المعاني: (لا مانع عقلا ولا شرعًا من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقًا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا) أما ما في البداية: (محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات) فغير مرضي، فابن عباس -كما مر ويأتي- كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب، فإن كان مع ذلك قد يسمع من بعض من أسلم منهم أو يسأله فإنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجة لعله يجد فيه ما ينبهه ويلفت نظره إلى حجة، وسيأتي تمام هذا إن شاء الله.
وقال: (ص123): (وفي تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعبًا عن سدرة المنتهى. فقال: إنها على رءوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وليس لأحد وراءها علم، ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها).
أقول: هو من طريق الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال سأل ابن عباس كعبًا وأنا حاضر) كذا قال، والأعمش مشهور بالتدليس، وهلال بن يساف لم يدرك كعبًا.
قال أبو رية: (هذا ما قاله لتلميذه الثاني، أما تلميذه الأول فهو أبو هريرة…).
أقول: لم يتعلما من كعب شيئًا، وإنما سمعا منه شيئًا محتملًا فحكياه، أو سألاه سؤال خبير ناقد لينظرا ما يقول، ولا يضرهما تهكم أبي رية كما لم يضر النبي قول المشركين: { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ }.
84قال: (ففي حديث له أنها شجرة تخرج من أصلها أنهار… إلخ).
أقول: هذا رواه أبو جعفر الرازي، وشك فيه فقال: (عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره) وأبو جعفر والربيع فيهما كلام، وقال ابن حبان في الربيع: (الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا).
قال: (وفي حديث المعراج: أنه لما فرض الله خمسين صلاة على العباد في النهار وفي الليل ولم يستطع أحد من الرسل جميعًا غير موسى أن يفقه استحالة أدائها على البشر، فهو وحده الذي فطن ذلك… وكأن الله سبحانه…كان لا يعلم مبلغ قوة احتمال عباده… وكذلك لا يعلم محمد… حتى بصره موسى. وهكذا ترى الإسرائيليات تنفذ إلى ديننا… ولا تجد أحدًا إلا قليلًا يزيفها…).
أقول: إن كانت الإسرائيليات تشمل عند أبي رية كل خبر فيه فضيلة لموسى عليه السلام، ففي القرآن كثير منها، بل في عدة آيات منها ذكر تفضيل بني إسرائيل على العالمين وغير ذلك. وإن كانت خاصة بما ألصق بالإسلام وليس منه من مقولات أهل الكتاب فلم يزل أهل العلم يتتبعونها ويزيفونها. أما سكوتهم عن محاولة تزييف ما ثبت في أحاديث الإسراء فعذرهم واضح، وهو أنه لم يبلغ أحد منهم في العلم والعقل والحياء مبلغ أبي رية ودونك الجواب:
كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين كما ثبت في الصحيح، فخمسون صلاة مائة ركعة، وليس أداء مائة ركعة في اليوم والليلة بمستحيل، وفي الناس الآن من يصلي في اليوم والليلة نحو مائة ركعة، ومنهم من يزيد، وفي تراجم كثير من كبار المسلمين أن منهم من كان يصلي أكثر من ذلك بكثير، بل إن أداء مائة ركعة في اليوم والليلة ليس بعظيم المشقة في جانب ما لله عز وجل من الحق وما عنده من عظيم الجزاء في الدنيا والآخرة؛ نعم قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }. وما وقع في كلام موسى: «إن أمتك لا تطيق» وفي رواية: «لا تستطيع» ليس معناه أن ذلك مستحيل، وإنما معناه أن ذلك يشق عليها، ولهذا أطلق هذه العبارة بعد بيان رجوع الصلاة إلى خمس، قال موسى: «إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم». وراجع85مفردات الراغب: (طوع) و(طوف).
فأما الله تعالى فالفرض في علمه خمس صلوات فقط. ولكنه سبحانه إذا أراد أن يرفع بعض عباده إلى مرتبة هيأ له ما يستحق به المرتبة، ومن ذلك أن يهيئ ما يفهم منه العبد أنه مكلف بعمل معين شاق فيقبل التكليف ويستعد لمحاولة الأداء فحينئذ يعفيه الله تعالى من ذلك العمل ويكتب له جزاء قبوله ومحاولة الوفاء به أو الاستعداد لذلك ثواب من عمله، ومن هذا القبيل قصة إبراهيم في ذبح ابنه.
وأما محمد فكان يعلم أن الأداء ممكن كما مر، وكان في ذلك المقام الكريم مستغرقًا في الخضوع والتسليم ووفقه الله عز وجل لقبول ما فهمه في فرض خمسين والاستعداد لأدائها ليكون هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاق ما أراد الله عز وجل أن يعطيه وأمته من ثواب خمسين صلاة، وقبوله واستعداده عنه وعن أمته في حكم قبول الأمة؛ فإنها تبع له وكان هو النائب عنها، على أنه ما من مؤمن من أمته يطلع على الحديث ويراجع نفسه إلا رأى أنه لو كان المفروض خمسين صلاة لبذل وسعه في أدائها والوفاء بها، فأما المراجعة للتخفيف بعد مشورة موسى فإنما كانت بعد أن استقر القبول والعزم على الأداء وعلى وجه الرجاء إن خفف فذاك وإلا فالقبول والاستعداد بحاله.
ولم يذكر في الحديث أن أحدًا من الرسل اطلع على فرض الصلاة وإنما فيه أنه لما مر بموسى عليهما السلام سأله موسى فأخبره فقال موسى: «إن أمتك لا تستيطع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» واختص موسى بالعناية؛ لأنه أقرب الرسل حالًا إلى محمد؛ لأن كلًاً منهما رسول منزل عليه كتاب تشريعي سائس لأمة أريد لها البقاء لا أن تصطلم بالعذاب، وقضى لمحمد أن تطول معالجته لأمته كما طالت معالجة موسى لأمته، ووجوه الشبه كثيرة، ولهذا أتى القرآن بذكر موسى في مواضع كثيرة منها: عقب آية الإسراء، قال الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا }. هذا وحديث الإسراء ثابت مستفيض عن رواية جماعة من الصحابة وعليه إجماع الأمة، ولايضره أن يجهل بعض الناس حكمة عالم الغيب والشهادة في بعض ما اشتمل عليه، ولا أن يكفر به من يكفر. والله الموفق.
86قال أبو رية (ص124): (هل يجوز رواية الإسرائيليات؟).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)