وفي الليلة السابعة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان أمر الملكة إبريزة وجواريها أن ينزعن ما عليهن من الثياب وأن يلبسن لباس بنات الروم ففعلن ذلك، ثم إنه أرسل جماعة من أصحابه إلى بغداد ليعلم والده عمر النعمان بقدومه، ويخبره أن الملكة إبريزة بنت ملك الروم جاءت صحبته لأجل أن يرسل مركباً لملاقاتهم ثم إنهم نزلوا من وقتهم وساعتهم في المكان الذي وصلوا إليه وباتوا فيه إلى الصباح فلما أصبح ركب شركان هو ومن معه وركبت أيضاً الملكة إبريزة هي ومن معها واستقبلوا المدينة وإذا بالوزير دندان قد أقبل في ألف فارس من أجل ملاقاة الملكة إبريزة هي وشركان وكان خروجه بإشارة الملك عمر النعمان كما أرسل إليه ولده شركان فلما قربوا منهما توجهوا إليهما وقبلوا الأرض بين أيديهما، ثم ركبا وركبوا معهما وصاروا في خدمتهما حتى وصلا إلى المدينة وطلعا قصر الملك ودخل شركان على والده، فقام إليه واعتنقه وسأل عن الخبر فأخبره بما قالته الملكة إبريزة وما اتفق له معها، وكيف فارقت مملكتها وفارقت أباها، وقال لها إنها اختارت الرحيل معنا والقعود عندنا وأن ملك القسطنطينية أراد أن يعمل لنا حيلة من أجل صفية بنته لأن ملك الروم قد أخبره بحكايتها وبسبب إهدائها إليك وأن ملك الروم ما كان يعرف ذلك ما كان أهداها إليك بل كان يردها إلى والدها ثم قال شركان لوالده: وما يخلصنا من هذه الحيل والمكايد إلا إبريزة بنت ملك القسطنطينية وما رأينا أشجع منها ثم أنه شرع يحكي لأبيه ما وقع له معها من أوله إلى آخره من أمر المصارعة والمبارزة. فلما سمع الملك عمر النعمان من ولده شركان ذلك الكلام عظمت إبريزة عنده وصار يتمنى أن يراها، ثم إنه طلبها لأجل أن يسألها فعند ذلك ذهب شركان إليها وقال لها: إن الملك يدعوك فأجابت بالسمع والطاعة، فأخذها شركان وأتى بها إلى والده وكان والده قاعداً على كرسيه وأخرج من كان عنده ولم يبق عنده غير الخدم فلما دخلت الملكة إبريزة على الملك عمر النعمان وقبلت الأرض بين يديه وتكلمت بأحسن الكلام فتعجب الملك من فصاحتها وشكرها على ما فعلت مع ولده شركان وأمرها بالجلوس فجلست وكشفت عن وجهها فلما رآها الملك خبل بينه وبين عقله ثم إنه قربها إليه وأدناها منه وأفرد لها قصراً مختصاً بها وبجواريها ورتب ثم أخذ يسألها عن تلك الخرزات الثلاث التي تقدم ذكرها سابقاً فقالت له: إن تلك الخرزات معي يا ملك الزمان ثم إنها قامت ومضت إلى محلها وفتحت صندوقاً وأخرجت منه علبة وأخرجت من العلبة حقاً من الذهب وفتحته وأخرجت منه تلك الخرزات الثلاث ثم قبلته وناولتها للملك وانصرفت فأخذت قلبه معها وبعد انصرافها أرسل إلى ولده شركان فحضر فأعطاه خرزة من الثلاث خرزات فسأله عن الاثنتين الأخريين فقال: يا ولدي قد أعطيت منهما واحد لأخيك ضوء المكان والثانية لأختك نزهة الزمان.
فلما سمع شركان أن له أخاً يسمى ضوء المكان وما كان يعرف إلا أخته نزهة الزمان التفت إلى والده الملك النعمان وقال له: يا والدي ألك ولد غيري؟ قال: نعم وعمره الآن ست سنين ثم أعلمه أن اسمه ضوء المكان وأخته نزهة الزمان وأنهما ولدا في بطن واحد فصعب عليه ذلك ولكنه كتم سره وقال لوالده: على بركة الله تعالى ثم رمى الخرزة من يده ونفض أثوابه فقال له الملك: مالي أراك قد تغيرت لما سمعت هذا الخبر مع أنك صاحب المملكة من بعدي وقد عاهدت امرأة الدولة على ذلك، وهذه خرزة لك من الثلاث خرزات؟ فأطرق شركان برأسه إلى الأرض واستحى أن يكافح والده ثم قام هو لا يعلم كيف يصنع من شدة الغيظ وما زال ماشياً حتى دخل قصر الملكة إبريزة فلما أقبل عليها نهضت إليه قائمة وشكرته على أفعاله ودعت له ولوالده وجلست وأجلسته في جانبها فلما استقر به الجلوس رأت في وجهه الغيظ فسألته عن حاله، وما سبب غيظه فأخبرها أن والده الملك عمر النعمان رزق من صفية ولدين ذكراً وأنثى، وسمى الولد ضوء المكان والأنثى نزهة الزمان وقال لها: إنه أعطاهما خرزتين وأعطاني واحدة فتركتها وأنا إلى الآن لم أعلم بذلك إلا في هذا الوقت فخنقني الغيظ، وقد أخبرتك بسبب غيظي ولم أخف عنك شيئاً وأخشى عليك أن يتزوجك فإني رأيت منه علامة الطمع في أنه يتزوج بك فيما تقولين أنت في ذلك؟ فقالت: اعلم يا شركان أن أباك ما له حكم علي ولا يقدر أن يأخذني بغي بغير رضاي وإن كان يأخذني غصباً قتلت روحي وأما الثلاث خرزات فما كان على بالي أنه ينعم علي أحد من أولاده بشيء منها وما ظننت إلا أنه يجعلها في خزائنه مع ذخائره ولكن أشتهي من إحسانك أن تهب لي الخرزة التي أعطاها لك والدك إن قبلتها منه فقال سمعاً وطاعة، ثم قالت له: لا تخف وتحدثت معه ساعة وقالت له: إني أخاف أن يسمع أبي أني عندكم فيسعى في طلبي ويتفق هو والملك أفريدون من أجل ابنته صفية فيأتيان إليكم بعساكر وتكون ضجة عظيمة. فلما سمع شركان ذلك قال لها: يا مولاتي إذا كنت راضية بالإقامة عندنا لا تفكري فيهم فلو اجتمع علينا كل من في البر والبحر لغلبناهم فقالت: ما يكون إلا الخير وها أنتم إن أحسنتم إلي إن قعدت عندكم وإن أسأتموني رحلت من عندكم ثم إنها امرت الجواري بإحضار شيء من الأكل فقدمن المائدة فأكر شركان شيئاً يسيراً ومضى إلى داره مهموماً مغموماً، هذا ما كان من أمر شركان. وأما ما كان من أمر أبيه عمر النعمان فإنه بعد انصراف ولده شركان من عنده قام ودخل على جاريته صفية ومعه تلك الخرزات فلما رأته نهضت قائمة على قدميها إلى أن جلس فأقبل عليه ولداه ضوء المكان ونزهة الزمان فلما رآهما قبلهما وعلق على كل واحد منهما خرزة ففرحا بالخرزتين وقبلا يديه وأقبلا على أمهما ففرحت بهما ودعت للملك بطول الدوام فقال لها الملك: يا صفية حيث أنك ابنة الملك أفريدون ملك القسطنطينية لأي شيء لم تعلميني لأجل أن أزيد في إكرامك ورفع منزلتك؟ فلما سمعت صفية ذلك قالت: أيها الملك وماذا أريد أكثر من هذا زيادة على هذه المنزلة التي أنا فيها، فها أنا مغمورة بأنعامك وخيرك وقد رزقني الله منك بولدين ذكر وأنثى، فأعجب الملك عمر النعمان كلامها واستظرف عذوبة ألفاظها ودقة فهمها وظرف أدبها ومعرفتها ثم إنه مضى من عنده من عندها وأفرج لها ولأولادها قصراً عجيباً ورتب لهم الخدم والحشم والفقهاء والحكماء والفلكية والأطباء والجرائحية وأوصاهم بهم وزاد في رواتبهم وأحسن إليهم غاية الإحسان، ثم رجع إلى قصر المملكة والمحاكمة بين الناس هذا ما كان من أمره مع صفية وأولادها.
وأما ما كان من أمره مع الملكة إبريزة فإنه اشتغل بحبها وصار ليلاً ونهاراً مشغوفاً بها وفي كل ليلة يدخل إليها ويتحدث عندها ويلوح لها بالكلام فلم ترد له جواباً بل تقول: يا ملك الزمان أنا في هذا الوقت مالي غرض في الرجال فما رأى تمنعها منه اشتد به الغرام وزاد عليه الوجد والهيام، فلما أعياه ذلك أحضر وزيره دندان وأطلعه على ما في قلبه من محبة الملكة إبريزة ابنة الملك حردوب وأخبره أنها لا تدخل في طاعته وقد قتله حبها ولم ينل منها شيئاً فلما سمع الوزير دندان ذلك قال للملك: إذا جن الليل فخذ معك قطعة بنج مقدار مثقال وادخل عليها واشرب معها شيئاً من الخمر فإذا كان وقت الفراغ من الشرب فأعطها القدح الأخير واجعل فيه ذلك البنج واسقها إياه فإنها ما تصل إلى مرقدها، إلا وقد تحكم عليها البنج فتبلغ غرضك منها وهذا ما عندي من الرأي، فقال له الملك: نعم ما أشرت به علي ثم إنه عمد إلى غزائنه وأخرج منها قطعة بنج مكرر لو شمه الفيل لرقد من السنة إلى السنة ثم إنه وضعها في جيبه وصبر إلى أن مضى قليل من الليل ودخل على الملكة إبريزة في قصرها، فلما رأته نهضت إليه قائمة فأذن لها بالجلوس وجلس عندها وصار يتحدث معها في أمر الشراب فقدمت سفرة الشراب وصفت له الأواني وصار يشرب معها وينادمها إلى أن دب السكر في رأس الملكة إبريزة. فلما علم الملك عمر النعمان ذلك أخرج قطعة البنج من يده وجعلها بين أصابعه وملأ كأساً بيده وشربه وملأ ثانياً وأسقط قطعة البنج من جيبه فيه وهي لا تشعر بذلك، ثم قال لها: خذي اشربي فأخذته الملكة إبريزة وشربته فما كان إلا دون ساعة حتى تحكم البنج عليها وسلب إدراكها فقام إليها ملقاة على ظهرها وقد كانت قلعت السراويل من رجليها ورفع الهواء ذيل قميصها عنها فلما دخل عليها الملك ورآها على تلك الحالة ووجد عند رأسها شمعة وعند رجليها شمعة تضيء على ما بين فخذيها خيل بينه وبين عقله ووسوس له الشيطان، فما تمالك نفسه حتى قلع يراويله ووقع عليها وأزال بكارتها وقام من فوقها ودخل إلى جارية من جواريها يقال لها مرجانة وقال لها: ادخلي على سيدتك وكلميها فدخلت الجارية على سيدتها، فوجدت دمها يجري على سيقانها وهي ملقاة على ظهرها فمدت يدها إلى منديل من مناديلها وأصلحت به شأن سيدتها ومسحت عنها ذلك الدم. فلما أصبح الصباح تقدمت الجارية مرجانة وغسلت وجه سيدتها ويديها ورجليها ثم جاءت بماء الورد وغسلت وجهها وفمها فعند ذلك عطست الملكة إبريزة وتقيأت ذلك البنج لنزلت قطعة البنج من باطنها كالقرص، ثم إنها غسلت فمها ويدها وقالت: أعلميني بما كان من أمري فأخبرتها أنها رأتها ملقاة على ظهرها ودمها سائل على فخذيها فعرفت أن الملك عمر النعمان قد وقع بها وواصلها وتحت حيلته عليها فاغتمت لذلك غماً شديداً وحجبت نفسها وقالت لجواريها: امنعوا كل من أراد أن يدخل علي وقولوا له: إنها ضعيفة حتى أنظر ماذا يفعل الله بي. فعند ذلك وصل الخبر إلى الملك عمر النعمان بأن الملكة إبريزة ضعيفة فصار يرسل إليها الأشربة والسكر والمعاجين وأقامت على ذلك شهوراً وهي محجوبة، ثم إن الملك قد بردت ناره وانطفأ شوقه إليها وصبر عنها وكانت قد علقت به، فلما مرت عليها أشهر وظهر الحمل وكبر بطنها ضاقت بها الدنيا فقالت لجاريتها مرجانة: اعلمي أن القوم ما ظلموني وإنما أنا الجانية على نفسي حيث أبي وأمي ومملكتي وأنا قد كرهت الحياة وضعفت همتي ولم يبق عندي من الهمة ولا من القوة شيء، وكنت إذا ركبت جوادي أقدر عليه وأنا الآن لا أقدر الركوب ومتى ولدت عندهم صرت معيرة عند الجواري وكل من في القصر يعلم أنه أزال بكارتي سفاحاً وإذا رجعت لأبي بأي وجه ألقاه وبأي وجه أرجع إليه وما أحسن قول الشاعر:
بم التغلل من أهلي ولا وطني ولا نديم ولا كأس ولا سكن
فقالت لها مرجانة: الأمر أمرك وأنا في طوعك فقالت: وأنا اليوم أريد أن أخرج سراً بحيث لا يعلم بي أحد غيرك وأسافر إلى أبي وأمي فإن اللحم إذا أنتن ما له إلا أهله والله يفعل بي ما يريد، فقالت لها: ما تفعلين أيتها الملكة؟ ثم إنها جهزت أحوالها وكتمت سرها وصبرت أياماً حتى خرج الملك للصيد والقنص وخرج ولده شركان إلى القلاع ليقيم بها مدة من الزمان فأقبلت إبريزة على جاريتها مرجانة وقالت لها: أريد أن أسافر في هذه الليلة ولكن كيف أصنع في المقادير وقد قرب؟ وإن قعدت خمسة أيام أو أربعة وضعت هنا ولم أقدر أن أروح بلادي وهذا ما كان مكتوباً على جبيني ومقدراً علي في الغيب. ثم تفكرت برهة وبعد ذلك قالت لمرجانة: انظري لنا رجلاً يسافر معنا ويخدمنا في الطريق فإنه ليس لي قوة على حمل السلاح، فقالت مرجانة: والله يا سيدتي ما أعرف غير عبد أسود اسمه الغضبان وهو من عبيد الملك عمر النعمان وهو شجاع ملازم لباب قصرنا فإن الملك أمره أن يخدمنا وقد غمرناه بإحساننا فها أنا أخرج إليه وأكلمه في شأن هذا الأمر وأعده بشيء من المال وأقول له: إذا أردت المقام عندنا أزوجك بمن تشاء، وكان قد ذكر لي قبل اليوم أنه كان يقطع الطريق فإن هو وافقنا بلغنا مرادنا ووصلنا إلى بلادنا. فقالت لها: هاتيه عندي حتى أحدثه، فخرجت له مرجانة وقالت له: يا غضبان قد أسعدك الله إن قبلت من سيدتك ما تقوله لك من الكلام ثم أخذت بيده واقبلت على سيدتها فلما رآها قبل الأرض بين يديها فحين رأته نفر قلبها منه لكنها قالت في نفسها: إن الضرورة لها أحكام وأقبلت عليه تحدثه وقلبها نافر منه وقالت له: يا غضبان هل فيك مساعدة لنا على غدرات الزمان وإذا أظهرتك على أمري تكون كاتماً له. فلما نظر العبد إليها ورأى حسنها ملكت قلبه وعشقها لوقته وقال لها: يا سيدتي إن أمرتيني بشيء لا أخرج عنه فقالت له: أريد منك في هذه الساعة أن تأخذني وتأخذ جاريتي هذه وتشد لنا راحلتين وفرسين من خيل الملك وتضع على كل فرس خرجاً من المال وشيئاً من الزاد وترحل معنا إلى بلادنا وإن أقمت عندنا زوجناك من تختارها من جواري وإن طلبت الرجوع إلى بلادك أعطيناك ما تحب ثم ترجع إلى بلادك بعد أن تأخذ ما يكفيك من المال. فلما سمع الغضبان ذلك الكلام فرح فرحاً شديداً وقال: يا سيدتي إني أخدمكما بعيوني وأمضي معكما وأشد لكما الخيل. ثم مضى وهو فرحان وقال في نفسه: قد بلغت ما أريد منهما، وإن لم يطاوعني قتلتهما وأخذت ما معهما من المال وأضمر ذلك في سره، ثم مضى وعاد ومعه راحلتان وثلاث من الخيل وهو راكب إحداهن وأقبل على الملكة إبريزة وقدم إليها فرساً فركبتها وهي متوجعة من الطلق فما قدرت أن تمسك نفسها على الفرس، فقالت للغضبان: أنزلني فقد لحقني الطلق وقالت لمرجانة: انزلي واقعدي تحتي وولديني، فعند ذلك نزلت مرجانة من فوق رأسها ونزل الغضبان من فوق فرسه وشد لجام الفرسين ونزلت الملكة إبريزة من فوق فرسها وهي غائبة عن الدنيا من شدة الطلق، وحين رآها الغضبان نزلت على الأرض وقف الشيطان في وجهه فشهر حسامه في وجها وقال: يا سيدتي ارحميني بوصلك، فلما سمعت مقالته التفتت إليه وقالت له: ما بقي إلا العبيد السود بعد ما كنت لا أرضى بالملوك الصناديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن لملكة إبريزة لما قالت للعبد، العبد هو الغضبان: ما بقي إلا العبيد السود ثم صارت تبكته وأظهرت له الغيظ وقالت له: ويلك ما هذا الكلام الذي تقوله لي؟ فلا تتكلم بشيء من هذا في حضرتي واعلم أنني لا أرضى بشيء مما قلته ولو سقيت كأن الردى ولكن اصبر حتى أصلح الجنين وأصلح شأني وأرمي الخلاص ثم بعد ذلك إن قدرت علي فافعل بي ما تريد وإن لم تترك فاحش الكلام في هذا الوقت فإني أقتل نفسي بيدي وأرتاح من هذا كله، ثم أنشدت هذه الأبيات: أيا غضبان دعني قد كفانـي مكايدة الحوادث والـزمـان عن الفحشاء ري قد نهـانـي وقال النار مثوى من عصاني وإني لا أميل بفـعـل سـوء بعين النقص دعني لا تراني ولم تترك الفحشـاء عـنـي وترعى حرمتي فيمن رعاني
لأسرح طاقتي لرجال قومي وأجلب كل قاصيها ودانـي ولو قطعت بالسيف اليمانـي لما خليت فحـاشـاً يرانـي من الأحرار والكبراء طـرا فكيف العبد من نسل الزواني فلما سمع الغضبان ذلك الشعر غضب عضباً شديداً واحمرت مقلته واغبرت سحنته وانتفخت ناخره وامتدت مشافره وزادت به النفرات وأنشد هذه الأبيات: أيا إبريزة لا تـتـركـينـي قتيل هواك باللحظ اليمانـي فقلبي قد تقطع من جـفـاك وجسمي ناحل والصبر فاني ولفظك قد سبى الألباب سحراً فعقلي نازح والشوق دانـي ولو أجلبت ملء الأرض جيشاً لأبلغ مأربي في ذا الرمـان فلما سمعت إبريزة كلامه بكت بكاء شديداً وقالت: ويلك يا غضبان وهل بلغ من قدرك أن تخاطبني بهذا الخطاب يا ولد الزنا وتربية الخنا، أتحسب أن الناس كلهم سواء؟ فلما سمع ذلك العبد النحس هذا الكلام غضب منها غضباً شديداً وتقدم إليها وضربها بالسيف فقتلها وساق جوادها بعد أن أخذ المال وفر بنفسه هارباً في الجبال. هذا ما كان من أمر الغضبان، وأما ما كان من أمر الملكة إبريزة فإنها صارت طريحة على الأرضوكان الولد الذي ولدته ذكراً فحملته مرجانة في حجرها وصرخت صرخة عظيمة وشقت أثوابها وصارت تحثو التراب على رأسها وتلطم على خدها حتى طلع الدم من وجهها وقالت: واحسرتاه كيف قتل سيدتي عبد أسود لا قيمة له بعد فروسيتها؟ فبينما هي تبكي وإذا بغبار قد ثار حتى سد الأقطار ولما انكشف ذلك الغبار بان من تحته عسكر جرار وكانت العساكرعساكر ملك الروم والد الملكة إبريزة، وسبب ذلك أنه لما سمع أن ابنته هربت هي وجواريها إلى بغداد وأنها عند الملك عمر النعمان خرج بمن معه ليسأل المسافرين من أين أتوا لعله يعلم بخبر ابنته وكان على بعد هؤلاء الثلاثة ابنته والعبد الغضبان وجاريتها مرجانة فقصدهم ليسألهم، فلما قصدهم خاف العبد على نفسه بسبب قتلها فنجا بنفسه فلما أقبلوا عليها رآها أبوها مرمية على الأرض وجاريتها تبكي عليها، فرمى نفسه من فوق جواده ووقع على الأرض مغشياً عليه فترجل كل من كان معه من الفرسان والأرماء والوزراء وضربوا الخيام ونصبوا قبة الملك حردوب ووقف أرباب الدولة خارج تلك القبة، فلما رأت مرجانة سيدها عرفته وزادت في البكاء والنحيبز فلما أفاق الملك من غشيته سألها عن الخبر فأخبرته بالقصة وقالت له: إن الذي قتل ابنتك عبد أسود من عبيد الملك عمر النعمان وأخبرته بما فعله الملك عمر النعمان بابنته. فلما سمع الملك حردوب ذكلك الكلام اسودت الدنيا في وجهه وبكى بكاء شديداً، ثم أمر بإحضار محفة وحمل ابنته فيها ومضى إلى قيسارية وأدخلوها القصر ثم إن الملك حردوب دخل على أمه ذات الدواهي وقال لها: أهكذا يفعلون المسلمون ببنتي؟ فإن الملك عمر النعمان أزال بكارتها قهراً، وبعد ذلك قتلها عبد أسود من عبيده فواحق المسيح لا بد من أخذ ثأر ابنتي أو كشف العار عن عرضي وإلا قتلت نفسي بيدي، ثم بكى بكاء شديداً، فقالت له أمه ذات الدواهي: ما قتل ابنتك إلا مرجانة لأنها كانت تكرهها في الباطن ثم قالت لولدها: لا تحزن من أخذ ثأرها فواحق المسيح، لا أرجع عن الملك النعمان حتى أقتله وأقتل أولاده ولأعملن معه عملاً تعجز عنه الدهاة والأبطال ويتحدث عنه المتحدثون في جميع الأقطار ولكن ينبغي لك أن تمتثل أمري في كل ما أقوله وأنت تبلغ ما تريد فقال: وحق المسيح لا أخالفك أبداً فيما تقولينه.
قالت له: إئتني بجوار نهد أبكار وائتني بحكماء الزمان وأجزل لهم العطايا وامرهم أن يعلموا الجواري الحكمة والأدب وخطاب الملوك ومنادمتهم والأشعار وأن يتعلموا بالحكمة والمواعظ، ويكون الحكماء مسلمين لأجل أن يعلموهن أخبار العرب وتواريخ الخلفاء وأخبار من سلف من ملوك الإسلام ولو أقمنا على ذلك عشرة أعوام وطول روحك واصبر فإن بعض الأعراب يقول: أن أخذ الثأر بعد أربعين عاماً مدته قليلة، ونحن إذا علمنا تلك الجواري بلغنا من عدونا ما نختار لأنه ممن يحب الجواري وعنده ثلثمائة وست وستون جارية وازددن مائة جارية من خواص جواريك اللاتي كن مع المرحومة فإذاتعلم الجواري ما أخبرتك من العلوم فإني آخذهن بعد ذلك وأسافر بهن فلما سمع الملك حردوب كلام أمه ذات الدواهي فرح فرحاً شديداً وقبل رأسها، ثم أرسل من وقته وساعته المسافرين والقصاد إلى أطراف البلاد، ليأتوا إليه بالحكماء من المسلمين فامتثلوا أمره وسافروا إلى بلاد بعيدة، وأتوا بما طلبه من الحكماء والعلماء فلما حضروا بين يديه أكرمهم غاية الإكرام وخلع عليهم الخلع ورتب لهم الرواتب والجرايات ووعدهم بالمال الجزيل إذا فعلوا ما أمرهم به، ثم أحضر لهم الجواري، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والستين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العلماء والحكماء لما حضروا عند الملك حردوب أكرمهم إكراماً زائداً وأحضروا الجواري بين أيديهم وأوصاهم أن يعلموهن الحكمة والأدب فامتثلوا أمره. هذا ما كان من أمر الملك حردوب وأما ما كان من أمر الملك عمر النعمان فإنه لما عاد من الصيد والقنص وطلع القصر طلب الملكة إبريزة فلم يجدها ولم يخبره أحد عنها فعظم عليه ذلك، وقال: كيف تخرج هذه الجارية من القصر ولم يعلم بها أحد، فإن كانت مملكتي على هذا الأمر فإنها ضائعة المصلحة ولا ضابط بها فما بقيت أخرج إلى الصيد والقنص حتى ارسل إلى الأبواب من يتوكل بها واشتد حزنه وضاق صدره، لفراق الملكة إبريزة فبينما هو كذلك وإذا بولده شركان قد أتى من سفره، فأعلمه والده بذلك وأخبره أنها هربت وهو في الصيد والقنص فاغتم شركان ذلك غماً شديداً ثم إن الملك صار يتفقد أولاده كل يوم ويكرمهم وكان قد أحضر العلماء والحكماء ليعلموهم العلم، ورتب لهم الرواتب فلما رأى شركان ذلك الأمر غضب غضباً شديداً وحسد أخوته على ذلك إلى أن ظهر أثر الغيظ في وجهه ولم يزل متمرضاً حتى هذا الأمر. فقال له والده يوماً من الأيام: مالي أراك تزداد ضعفاً في جسمك واصفرار في لونك؟ فقال له شركان: يا والدي كلما رأيتك تقرب أخواتي وتحسن إليهم يحصل عندي حسد وأخاف أن يزيد بي الحسد فأقتلهم وتقتلني أنت بسببهم إذا أنا قتلتهم فمرض جسمي وتغير لوني بسبب ذلك، ولكن أنا أشتهي من أحسانك أن تعطيني قلعة من القلاع حتى أقيم بها بقية عمري، فإن صاحب المثل يقول: بعدي عن حبيبي أجمل وأحسن عين لا تنظر وقلب لا يحزن. ثم أطرق برأسه إلى الأرض. فلما سمع الملك عمر النعمان كلامه عرف سبب ما هو فيه من التغير فأخذ بخاطره وقال له: يا ولد إني أجيبك إلى ما تريد، وليس في ملكي أكبر من قلعة دمشق فقد ملكتها من هذا الوقت، ثم أحضر الموقعين في الوقت والساعة وأمرهم بكتابة تقليد ولده شركان ولاية دمشق الشام فكتبوا له ذلك وجهزوه وأخذ الوزير دندان معه وأوصاه بالمملكة والسياسة وقلده أموره، ثم ودعه والده وودعته الأمراء وأكابر الدولة وسار بالعسكر حتى وصل إلى دمشق فلما وصل إليها دق له أهلنا الكاسات، وصاحوا بالبوقات وزينوا المدينة، وقابلوه بموكب عظيم سار فيه أهل الميمنة ميمنة وأهل الميسرة ميسرة فهذا ما كان من أمر شركان.
وأما ما كان من أمر والده عمر النعمان فإنه بعد سفر ولده شركان أقبل عليه الحكماء وقالوا له: يا مولانا إن أولادك تعلموا الحكمة والأدب فعند ذلك فرح عمر النعمان فرحاً شديداً وأنعم على جميع الحكماء حيث رأى ضوء المكان كبر وترعرع وركب الخيل وصار له من العمر أربع عشر سنة وطلع مشتغلاً بالدين والعبادة محباً للفقراء وأهل العلم والقرآن، وصار أهل بغداد بحبونه نساء ورجالاً إلى أن طاف بغداد محمل العراق من أهل الحج، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ضوء المكان مركب المحمل اشتاق إلى الحج فدخل على والده وقال له: إني أتيت إليك لأستأذنك في أن أحج، فمنعه من ذلك، وقال له: اصبر إلى العام القابل وأنا أتوجه إلى الحج وآخذك معي. فلما رأى الأمر يطول عليه دخل على أخته نزهة الزمان، فوجدها قائمة تصلي فلما قضت الصلاة قال لها: إني قد قتلني الشوق إلى حج بين الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام واستأذنت والدي فمنعني من ذلك، فالمقصود أن آخذ شيئاً من المال وأخرج إلى الحج سراً ولا أعلم أبي بذلك، فقالت له أخته: بالله عليك أن تأخذني معك ولا تحرمني من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: إذا جن الظلام فاخرجي من هذا المكان ولا تعلمي أحداً بذلك. فلما كان نصف الليل قامت نزهة الزمان وأخذت شيئاً من المال ولبست لباس الرجال وكانت قد بلغت من العمر مثل عمر ضوء المكان ومشت متوجهة إلى باب القصر فوجدت أخاها ضوء المكان قد جهز الجمال فركب وأركبها وسارا ليلاً واختلطا بالحجيج ومشيا إلى أن صارا في وسط الحجاج العراقيين وما زالا سائرين وكتب الله لهما السلامة، حتى دخلا مكة المشرفة ووقفا بعرفات وقضيا مناسك الحج ثم توجها إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فزاراه، وبعد ذلك أرادا الرجوع مع الحجاج إلى بلادهما فقال ضوء المكان لأخته: يا أختي أريد أن أزور بيت المقدس والخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقالت له: وأنا كذلك واتفقا على ذلك ثم خرجا واكترى له ولها مع المقادسة وجهزا حالهما وتوجها مع الركب فحصل لأخته في تلك الليلة حمى باردة فتشوشت ثم شفيت وتشوش الآخر فصارت تلاطفه في ضعفه ولم يزالا سائرين إلى أن أدخلا بيت المقدس واشتد المرض على ضوء المكان ثم إنهما نزلا في خان هناك واكتريا لهما فيه حجرة واستقرا فيها ولم يزل المرض يتزايد على ضوء المكان حتى أنحله وغاب عن الدنيا.
فاغتمت لذلك أخته نزهة الزمان وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله هذا حكم الله ثم إنها قعدت هي وأخوها في ذلك المكان وقد زاد به الضعف وهي تخدمه وتتفق عليه وعلى نفسها حتى فرغ ما معها من المال وافتقرت ولم يبق معها دينار ولا درهم فأرسلت صبي الخان إلى السوق بشيء من قماشها فباعه وأنفقته على أخيها ثم باعت شيئاً آخر ولم تزل تبيع من متاعها شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لها غير حصير مقطعة فبكت، وقالت: لله الأمر من قبل ومن بعد ثم قال لها أخوها: يا أختي إني قد أحسست بالعافية وفي خاطري شيء من اللحم المشوي فقالت له أخته: إني ما لي وجه للسؤال، ولكن غداً أدخل بيت أحد الأكابر وأخدم وأعمل بشيء نقتات به أنا وأنت ثم تفكرت ساعة وقالت: إني لا يهون علي فراقك وأنت في هذه الحالة ولكن لا بد من طلب المعاش قهراً عني فقال لها أخوها: بعد العز تصبحين ذليلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم بكى وبكت وقالت له: يا أخي نحن غرباء وقد أقمنا هنا سنة كاملة ما دق علينا الباب أحد فهل نموت من الجوع؟ فليس عندي من الرأي غلا أني أخرج وأخدم وآتيك بشيء تقتات به إلى أن تبرأ منمرضك ثم نسافر إلى بلادنا ومكثت تبكي ساعة، ثم بعد ذلك قامت نزهة الزمان وغطت رأسها بقطعة عباءة من ثياب الجمالين كان صاحبها نسيها عندهما وقبلت راس أخيها وغطته وخرجت من عنده وهي تبكي ولم أين تمضي وما زال أخوها ينتظرها إلى أن قرب وقت العشاء، ولم تأت فمكث بعد ذلك هو ينتظرها إلى أن طلع النهار فلم تعد إليه ولم يزل على هذه الحالة يومين فعظم ذلك عنده وارتجف قلبه عليهاواشتد به الجوع، فخرج من الحجرة وصاح على صبي الخان وقال له: أريد أن تحملني إلى السوق فحمله والقاه في السوق فاجتمع عليه أهل القدس وبكوا عليه لما رأوه على تلك الحالة وأشار إليهم بطلب شيء يأكله فجاؤوا له من التجار الذين في السوق ببعض دراهم واشتروا له شيئاً وأطعموه إياه، ثم حملوه ووضعوه على دكان وفرشوا له قطعة برش ووضعوا عند رأسه إبريقاً. فلما أقبل الليل انصرف عنه الناس وهم حاملون همه، فلما كان نصف الليل تذكر أخته فازداد به الضعف وامتنع من الأكل والشرب وغاب عن الوجود فقام أهل السوق وأخذوا له من التجار ثلاثين درهماً، واكتروا له له جملاً وقالوا للجمال: احمل هذا وأوصله إلى دمشق وأدخله المارستان لعله أن يبرأ فقال لهم: على الرأس ثم قال في نفسه: كيف أمضي بهذا المريض وهو مشرف على الموت؟ ثم خرج به إلى مكان واختفى به إلى الليل ثم ألقاه على مزبلة مستوقد حمام ثم مضى إلى حال سبيله. فلما أصبح الصباح طلع وقاد الحمام إلى شغله فوجده ملقى على ظهره فقال في نفسه: لأي شيء ما يرمون هذا الميت إلا هنا؟ ورفسه برجله فتحرك فقال الوقاد الواحد منكم يأكل قطعة حشيش ويرمي نفسه في أي موضع كان ثم نظر إلى وجهه فرآه لا نبات بعارضيه، وهو ذو بهاء وجمال فأخذته الرأفة عليه وعرف أنه مريض وغريب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إني دخلت في خطيئة هذا الصبي وقد أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الغريب لا سيما إذا كان الغريب مريضاً ثم حمله وأتى به إلى منزله ودخل به على زوجته وأمرها أن تخدمه وتفرش له بساطاً ففرشت له وجعلت تحت رأسه وسادة وسخنت له ماء وغسلت له يديه ورجليه ووجهه وخرج الوقاد إلى السوق وأتى له بشيء من ماء الورد والسكر، ورش على وجهه وسقاه السكر وأخرج له قميصاً نظيفاً وألبسه إياه فشم نسيم الصحة وتوجهت إليه العافية واتكأ على المخدة ففرح الوقاد بذلك وقال: الحمد لله على عافية هذا الصبي اللهم إني أسألك بسرك المكنون أن تجعل سلامة هذا الشاب على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)