و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد... و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر...
وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت... بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود... و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش...
عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة... حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.
لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك... و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل...
و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى...
أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج...
لكن.. و الله يشهد على قولي... كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا... و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج...
(زوجي) كلمة لم أعرف معناها... كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد
فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه... و قد بدأتْ بالظهور الآن...
هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب... و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !
اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى... كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك...
كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه... و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة... كالمعتاد
و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً !
كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة... و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة
بفضولٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية
فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين...
و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً...
الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي... لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟
لكن لحظة !
دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة... و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون.... !
دعوني وحدي رجاء ً !
أنا في حالة ذهول ... و لا أريد قول المزيد !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :
" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "
نطقتْ رغد أخيرا :
" وليد "
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "
قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
" الحمد لله "
كررتُ بامتنان :
" الحمدُ لله... الحمدُ لله "
و عقّبتْ الخالة :
" الحمد لله "
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :
" كم ستظلّ هذه ؟ "
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :
" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"
و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
" و الجامعة ؟ "
قلتُ :
" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
" و السفر ؟؟ "
فأجابتْ الخالة :
" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
" هل سأستطيع المشي؟ "
قلتُ بسرعة:
" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "
فقالتْ متشكّكة :
" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "
أجبتُ مؤكداً :
" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
" أنت أدرى "
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....
قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...
في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...
"و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "
سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...
أجبتُ :
" عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "
سألني سيف :
" و ماذا عن زوجتك ؟ "
تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :
" آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "
و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...
قلتُ :
" ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "
بعد صمت ٍ قصير سألني :
" كيف وقعتْ ؟ "
أجبتُ :
" لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "
و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :
" لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "
تنهدتُ و واصلتُ :
" أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"
قال سيف مباشرة:
" لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "
تنهدتُ مجددا و قلتُ :
" الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني...
اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "
وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير...
سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...
" أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "
و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد...
سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...
بعد ذلك سألني :
" هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "
فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :
" كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "
و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!
و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...
قال سيف:
" لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "
ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...
بعدها قال :
" بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "
الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.
نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :
" ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "
ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :
" إلى أين ستذهب ؟ "
أجبتُ بلطف :
" إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "
و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :
" هل ستتركني وحدي ؟ "
تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :
" لا ... ستبقى خالتي معك "
و إذا برغد تهتف :
" أخرجني من هنا "
وضعها ينذر بأنها على وشك الثوران... لم استطع قول شيء فقالتْ الخالة :
" يهديك الله يا بنيّتي كيف يُخرجكِ هكذا ؟ "
لكنّ رغد لم تكن تمزح... بل أبعدتْ اللحاف و أرادتْ النهوض فأسرعتُ باعتراضها و أنا أقول:
" أوه كلا... أرجوكِ لا تتحرّكي "
فصاحتْ مرتاعة:
" كيف تذهب و تتركني؟ ألا ترى ما أنا فيه يا وليد؟ ألا ترى هذا ؟؟ "
قلتُ بهلع:
" حسناً حسناً ... سوف لن أذهب لكن أرجوك لا تنفعلي مجدداً... ابقـَي مكانك "
و أنا أعيد إسنادها إلى الوسادة... و أتنهد ثم أمسح زخات العرق التي نبتتْ على جبيني و أضغط على صدغي لأخفـّف الصداع الذي تفاقم لحظتها... ثمّ أجلس على طرف السرير باستسلام...
لابد أن التوتر و الضيق كانا فاضحين جداً على وجهي... للدرجة التي صعقتني رغد عندها بقول :
" ماذا ؟ هل ضقتَ ذرعاً بي ؟ إذن ارم ِ بي من هذه النافذة و أرح نفسك "
لا ! ليس من جديد... توقــّـفي عن جنونك يا رغد أرجوكِ كفى... كفى...
زحفتُ نحوها و قلتُ بألم و ما بي من بقايا طاقة تحتمل المزيد:
" ما الذي تقولينه يا رغد؟؟ أرجوك هذا يكفي "
قالتْ صارخةً :
" ألا ترى حالتي هذه؟؟ كيف تفكّر في الذهاب و تركي؟ ألا تشعر بما أنا فيه ؟ "
إنّكِ أنتِ من لا يشعر بما أنا فيه يا رغد...
قلتُ :
" لا لم أفكّر في ترككِ ، و لكن نظام المستشفى لا يسمح ببقاء رجل برفقةِ مريضة في قسم السيدات. حتّى لو كان أباها. لذلك طلبتُ من الخالة مرافقتك"
لكن رغد لم يعجبها هذا و أصرّتْ على أن أبقى معها تلك الليلة، و لم تكن حالتها تسمح بأن أتجاهل إصرارها...
و رغم الحرج الشديد الذي واجهته و أنا أطلب من المسؤولين السماح لي بالبقاء هذه الليلة مع المريضة و المرافقة... تعاطفا ً مع حالتها النفسية، رضختُ لرغبة رغد و تكبّلتُ العناء و قضيتُ الليلة الثانية ساهراً إلى جوار صغيرتي... تاركاً أروى تبات وحيدة في المنزل الكبير...
لم تكن ليلتي ليلة ً و لم يكن حالي حالاً... لا أنا و لا صغيرتي عرفنا للراحة طعماً... كنتُ أجلس على مقعد تحجبه عن سريرها الستارة... و لكنّي كنتُ أسمع كل حركاتها و تقلباتها و تأوّهاتها طوال الليل... كانتْ نوبات الألم تكرّ و تفرّ على عظام الصغيرة المكسورة و أنسجتها الممزقة... و الممرضة تأتي بين فترة وأخرى لإعطائها المسكّن...
في صباح اليوم التالي سمحتْ لي رغد بالخروج على أن أعود عصرا ... و ما كادتْ تفعل.
كان الإرهاق قد أخذ منّي ما أخذ و لم أكن قد نمتُ البارحة أبدا... غير غفوة قصيرة تملكتني بعد شروق الشمس. و يبدو أن الخالة قد نجحتْ في إقناعها بتركي أذهب أثناء غفوتي القصيرة أول الصباح.
وقفتُ قرب رغد أسألها عن أي شيء أخير تريده قبل مغادرتي...
" سآوي إلى فراشي مباشرةً ... و سأترك هاتفي عند وسادتي... اتصلا إن احتجتما أي شيء في أي وقت و بدون تردد"
قلتُ و أنا أنقل بصري بين رغد و الخالة... رغد أومأتْ موافِقة، و الخالة قالتْ مطمئِنة:
" لا تقلق يا بني. سنتصل عند الضرورة. اذهب و نم مطمئنا مسترخيا "
التفتُ إلى رغد و أطلتُ النظر... لم يكن قلبي بقادر على المغادرة لكن و لم أثق في موافقتها هذه... لكنّي كنت في غاية الإرهاق و بحاجة ماسة للنوم...
مددتُ يدي إليها و ربتُ على يدها و قلت ُ بصوت هادئ و حنون :
" حسنا صغيرتي... أتركك ِ في رعاية الله... ابقي هادئة رجاءً ... سوف لن أطيل الغياب "
الصغيرة شدّتْ على يدي و حملقتْ بي و ربما كان لسان حالها يقول (لا تذهب) لكنها أجبرتْ فمها على التقوس في شبه ابتسامة مترددة...
و ما كان منّي إلا أن شددتُ على يدها و قلتُ أخيرا بأحن صوت:
" أراكِ على خير و عافية... يا صغيرتي "
و هكذا تركتها أخيرا و عدتُ إلى البيت مثقلا بالتعب و الهموم...
في المنزل سرتُ ببطءٍ شديد حتى بلغتُ أسفل الدرج... و تذكرتُ صراخ رغد ليلة الحادثة فقرصني الألم في قلبي... صعدتُه خطوةً خطوة... و أنا مستمر في إنعاش صدى صرخاتها...
و انعكاس صورة وجهها المتألم...
و قادتني قدماي بشعور أو بغير شعور... ليس إلى غرفتي... بل إلى غرفتها...
دخلتُ الغرفة متجاوزاً كل اعتبار... و أخذتُ أحلّق بأنظاري في أرجائها... و أعانق بيدي جدرانها...
على الجدار الكائن خلف سرير رغد... كانتْ الورقة القديمة... للصورة التي رسمتها رغد لي... بشاربي الطويل... لا تزال تقف و منذ سنين... بكل بشموخ...
لم تحتمل عيناي رؤيتها... وسرعان ما خرّتْ دموعي صريعة الأسى...
جلستُ على حافة السرير... و مسّدتُ على الوسادة كما لو كانت هي صغيرتي... بكل عطف و حنان... فإذا بي أشعر بحبيبات رمل تعلق بكفي... و ألقي عليها نظرة فإذا بها ذرات السكر...
جذبتها إليّ و ضممتها إلى صدري... و هو أمر لم استطع أن أقدّمه لفتاتي المرعوبة... عوضا عن وسادتها... و كلّما تذكّرتُ كيف كانت مرحة و سعيدة جدا و نحنُ في النزهة أوّل الليل... ثم كيف صارتْ كومة من البؤس و الألم و الصراخ... ملقاة على السرير الأبيض التعيس آخره... عصرتها أكثر بين ذراعي...
انتابني شعور بنيران تحرق معدتي... و كأنها تنعصر قهراً مع الوسادة و تأوهتُ بألم...
" آه يا رغد... "
رفعتُ يدي من على الوسادة إلى السماء و زفرتُ الآهة مصحوبة باستغاثة يا رب...
" يا رب... يا رب... أنت تعرف أنني لا أعزّ شيئا في هذه الدنيا مثل رغد... يا رب... أنا أتحمّل أيّ بلا ٍ ... إلا فيها... أتوسّل إليك يا رب... ألطـُف بحالي و حالها... أتوسّل إليك... اشفِها و أخرجها سالمةً... و أعدها كما كانتً... يا رب... خـُذ من صحّـتي و أعطِها... و خـُذ من عمري و هبها... خـُذ منّي أي شيء... كل شيء... و احفظها لي سالمة... هي فقط... أنا لا أتحمّل أن يصيبها أيّ شيء... يا رب... أيّ شيء.... إلاّ رغد يا رب... أرجوك... لا تفجعني فيها... أنا أختنق يا رب... إلهي... أرجوك... اجعل لي من لطفكِ فرجاً عاجلاً... عاجلاً يا رب... عاجلاً يا رب... يا رب... "
و لو بقيتُ ها هنا لزهقتْ روحي من فرط المرارة ...
غادرتُ غرفة رغد و أنا شاعرٌ بها تملأ رئتي... أزفرها و أستنشقها مع كل أنفاسي و أناتي...
ذهبتُ إلى غرفتي و قضيتُ زمنا أناجي الله و أدعوه و أصلّي له... حتى سكنتْ نفسي و اطمأنّ قلبي و ارتاح بالي... و فوّضتُ أمري إلى الله اللطيف الرحيم...
أخيرا ... رميتُ برأسي المثقل على الوسادة... و نشرتُ أطرافي على فراشي بعشوائية... أخيرا سأستسلم للنوم...
أغمضتُ عينيّ بسلام... فإذا بي أتخيّل رغد من جديد... فتحتهما فرأيتها أمامي... لففتُ رأسي ذات اليمين ثم ذات الشمال... وكانت هي هناك... في كل مكان...
رفعتُ وسادتي و وضعتها على وجهي لأحول دون صورة رغد التي لم ترحم بحالتي تلك الساعة...
أرجوك ِ كفى! لماذا عدت ِ؟ دعيني أنام و لو لساعة! أرجوكِ يا رغد... رأفة ً بي...
لكنني رأيتها تحت الوسادة و لو قلبتُ وجهي على السرير لرأيتها فوقه أيضا تحاصرني كالهواء من كل الجهات
فجأة... تذكرتُ شيئا... لم يكن ينقصني تذكّره في تلك الساعة التعيسة...
رفعتُ الوسادة عن رأسي و جلستُ و بحثتُ بعيني تحت موضعها... قلبتُ بقية الوسائد... أزحتُ البطانية و فتـّشتُ هنا و هناك و لم أعثر على رغد !
" ربّاه ! أين اختفيت ِ فجأة ؟؟ "
ذهبتُ فورا إلى محفظتي و شرّحتها تشريحا دون جدوى !
فتشتُ أسفل السرير... و المنضدتين الجانبيتين و الأدراج... و كل مكان لم أكن لأترك فيه (رغد) ... ورغم أنها كانت موجودة في كلّ مكان، لم أجدها في أي مكان!
" أروى ! لابد أنها هي ! "
استنتجتُ فجأة...
فخرجتُ من غرفتي و توجهتُ إلى غرفة أروى... و التي لم أكن قد رأيتها مذ تشاحنتُ معها صباحاً و نحن في المستشفى...
لم أتردّد غير برهةٍ واحدةٍ بعدها طرقتُ الباب و ناديتُ :
" أروى... هل أنتِ نائمة ؟؟ "
الوقت كان مبكراً و خشيتُ أن تكون نائمةً، لكنني أعلم أنّ من عادتها النهوض باكراً كل صباح... أعدتُ الطرق فرأيتُ الباب يُـفتح بعد ثوان و تطلّ منه أروى بوجه قلِق.
اللحظة الأولى مرّتْ صامتة ساكنة حتى عن الأنفاس... و باردة كليلة شتاء...
" هل... كنتِ نائمة ؟ "
سألتها بعد ذلك البرود فأجابتْ :
" نعم..."
و سألتْ بقلق :
" ماذا هناك؟؟ "
رددتُ :
" آسف لأنني أيقظتكِ "
قالتْ :
" كنتُ سأصحو قريبا على أية حال... لكن ماذا هناك ؟ متى عدتما؟ "
قاصدة إياي و الخالة، قلتُ :
" خالتي ظلّتْ مع رغد"
و كأنّ ذكر (رغد) أثار في وجه أروى بعض التعبيرات المنزعجة... و سرعان ما نقلتْ بصرها بعيدا عنّي...
قلتُ :
" كنتُ سأسألك ِ سؤالا "
التفتتْ إليّ و قالتْ مباشرة :
" و أنا أيضا أود أن نتحدّث يا وليد... "
و هي تفتح الباب أكثر... فرددتُ :
" كلا ليس هذا وقته. أنا متعب جدا و لا يحتمل رأسي أي شيء... و لا شيء "
و كأن إجابتي أصابتها بإحباطٍ مما بدا على وجهها...
تابعتُ :
" فقط أخبريني... ألستِ من قام بترتيب غرفة نومي؟ "
و كانتْ عادتها أن تفعل ذلك. لم تجب أروى مباشرة... بل أخذتْ لحظة تفكّر... ثم قالتْ :
" بلى "
قلتُ :
" و... هل رأيتِ شيئا قرب وسائد سريري؟ أعني... هل أخذتِ شيئا من هناك ؟ "
ربما لمعتْ عينا أروى بشكل لم أفهمه... رمقتني بنظرة حادّة لا تتناسب و برودة اللحظة... ثم قالتْ :
" شيء مثل ماذا ؟؟ "
و فهمتُ من ذلك أنها رأتْ الصورة الممزقة... فعضضتُ على أسناني ثم قلتُ :
" أين وضعتِها ؟ "
أروى رفعتْ حاجبيها و قالت ْ :
" القصاصات الممزقة ؟"
تشبثتْ عيناي بعينيها أكثر، إجابة على السؤال.. فتابعتْ هي :
" لقد... ألقيتُ بها في سلّة المهملات "
ماذا تقولين ؟؟ لم أسمع جيدا ؟؟ سلّة ماذا ؟؟
قلتُ بدهشة ممزوجة بعدم التصديق :
" ماذا؟؟ رميت ِ بها ؟؟ "
لم تعقـّبْ أروى... فكرّرتُ و قد اشتدّ صوتي و بدأتْ ألهبة النار تتراقص في عيني :
" تقولين رميت ِ بها ؟؟ "
و من البرود الذي صافحني به وجهها اشتعلتْ النيران في رأسي كليا...
" أروى !! رميتِ بها ؟؟ بهذه البساطة؟؟ و من أعطاك الحق بهذا التصرف؟ أوه... أروى ويحك !! في المرة السابقة رميتِ بالصندوق و الآن بالصورة.... كيف تسمحين لنفسك ِ بهذا؟؟ "
و لم يتجاوز ردّ أروى حدّ النظرات الصامتة !
" أخبريني في أي سلّة رميتِ بها ؟ "
دارتْ عين أروى قليلا و كأنّها تحاول التذكّر ثم قالتْ:
" أظن ... أن الخادمة قد أخرجتْ جميع أكياس المهملات إلى سلــّـة الشارع"
حينها لم أتمالك نفسي!
صرختُ بوجه أروى بعنف... و أحرقته بنار الغضب ...
أطبقتُ على ذراعيها و هززتـُها بقوّة و ركلتُ الباب ركلة عنيفة أوشكتْ على كسر عظام قدمي الحافية...
" ما الذي فعلتِه يا أروى ؟؟ لا تدركين ما فعلتِه ... كيف ستعيدينها الآن ؟؟ تباً لك ِ! ألا يكفي كل ما أحدثتِه لحد الآن؟ لن يتـّسع عمري لتصفية حساباتي معك... و الآن اذهبي و استخرجيها لي و لو من قعر الجحيم ! "
رأيتُ نهرين من الدموع يتفجران فجأة من عيني أروى و يسيلان على وجنتيها... و رأيتُ الاشتعال في وجهها إثر صفـْعِ صراخي القوي...
كنتُ غاضبا جدا...
ألم يكفها ما فعلتْ بالصغيرة ؟ و أيضا تحرمني من البقايا الممزّقة من ذكراها التي لم تفارقني لحظةً واحدة...منذ سنين ؟؟
صرختُ بخشونةٍ بالغةٍ :
" لا أريد دموعاً... أريد الصورة الآن و بأيّ طريقة... هيّا تحرّكي... في الحال... قبل أن تمزقكِ شياطين غضبي إربا... أتسمعين؟؟ "
و أفلتها من بين يدي بدفعةٍ قاسيةٍ...
أروى استندتْ إلى الجدار... ثم مسحتْ دموعها... ثم سارتْ ببطء نحو الداخل... ثم عادتْ إليّ تحمل شيئا في يدها و مدّته نحوي...
و سرعان ما اكتشفتُ أنها قصاصات صورة رغد الممزقة...
تجمّدتُ فجأة و لم أقو َ على الحراك... و تحوّلتْ نيراني إلى كتل ٍ من الجليد... رفعتُ بصري إلى عينيها فرأيتهما حمراوين و المزيد من الدموع تتجمع فيهما... و منهما تنبعثُ نظرات تعيسة...
" خـُـذ "
تكلــّمتْ بصوت ٍ هزيلٍ ضعيفٍ... و هي تحرّك يدها ...
تحرّكتْ يدي بلهفةٍ و تناولتْ القصاصات من يدها... و أخذتْ عيني تتفحّصها بشوقٍ و تتأكد من اكتمالها... ثمّ انتقلتْ أنظاري من القصاصات إلى أروى...
شعرتُ بالانهيار... و حرتُ في أمري...
و أخيرا... قلتُ بصوت ٍ تحطـّم فجأة و تحوّل من الصراخ الناري إلى الهمس البارد:
" لكن... إه... لماذا ادّعيت ِ أنك رميت ِ بها ؟ "
أروى ردّتْ وسط بحر الدموع :
" كنتُ... أريد اختبار ردّة فعلكَ... لأتأكّد "
و عصرتْ الدمع المتجمّع في عينيها بمرارة... ثم تابعتْ :
" و أنا الآن... متأكّدة... من كلّ شيء "
و أضافت ْ أخيرا :
" ستمزقني... حتّى من أجل... صورتها ! "
و بسرعة استدارتْ و هرولتْ نحو سريرها و أخفتْ وجهها بين الوسائد و بكتْ بانفعال...
واقفٌ كعمود الإنارة المحروق... لا يملك قدماً تخطو للأمام و لا للخلف... و مهما ثار يبقى منطفئا عاجزاً عن إنارة المنبت الذي يرتكز عليه... و رؤية أين يقف... تسمّرتُ أنا بين الذهول و الفزع... و بين الإدراك و الغفلة... و التصديق و الرفض... أنظر إلى أروى و أسمع دوي كلماتها الأخيرة يزلزل جمجمتي... دون أن يكون لي من القوّة أو الجرأة ما يكفي لفعل أي شيء !
أخيرا تمكّن لساني من النطق ...
" أروى ... "
لم ترد عليّ، ربما كان صوتي جدا ممزقاً... لممتُ شيئا منه و ناديتها ثانية :
" أروى ... "
و هذه المرّة ردّتْ فجاء صوتها مكتوماً عبر الوسائد :
" اتركني وحدي "
و على هذا... عدتُ أدراجي إلى غرفتي أحمل أشلاء صورة محبوبتي الصغيرة بين أصابعي... و أضمّها إلى صدري...
و مرة أخرى هويتُ برأسي المشحون بشتّى الأفكار على الوسادة... و لكنني لم أرَ إلا سواداً أودى بوعيي إلى قعر الغياب...
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)