صفحة 9 من 19 الأولىالأولى ... 7891011 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 33 إلى 36 من 73

الموضوع: مقدمة ابن خلدون - الجزء الرابع


  1. #33
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه و المدافعة

    وذلك أن الحضري إذا عظم تموله و كثر للعقار و الضياع تأثله و أصبح أغنى أهل المصر و رمقته العيون بذلك و انفسحت أحواله في الترف و العوائد زاحم عليها الأمراء و الملوك و غصوا به. و لما في طباع البشر من العدوان تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده و ينافسونه فيه و يتحيلون على ذلك بكل ممكن حتى يحصلوه في ربقة حكمه سلطاني و سبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله و أكثر الأحكام السلطانية جائزة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية و هي قليلة اللبث قال صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم. تعود ملكاً عضوضاً. فلا بد حينئذ لصاحب المال و الثروة الشهيرة في العمران من حامية تذود عنه و جاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان فيستظل هو بظلها و يرتع في أمنها من طوارق التعدي. و أن لم يكن له ذلك أصبح نهباً بوجوه التخيلات و أسباب الحكام. و الله يحكم لا معقب لحكمه.


رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #34
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل ا لدول و أنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها

    و السبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه و تفاوت الأمم في القلة و الكثرة تفاوتاً غير منحصر و تقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها و أصنافها فتكون بمنزلة الصنائع و يحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه و المهرة فيه و بقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل. صناعتها و يتلون ذلك الجيل بها و متى اتصلت الأيام و تعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم و مهروا في معرفتها و الأعصار بطولها و انفساح أمدها و تكرير أمثالها تزيدها استحكاماً و رسوخاً و أكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستجار العمران و كثرة الرفه في أهلها. و ذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولة تجمع أموال الرعية و تنفقها في بطانتها و رجالها وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من أتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا و خرجها في أهل الدولة ثم في من تعلق بهم من أهل المصر و هم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم و تتزيد عوائد الترف و مذاهبه و تستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه و هذه هي الحضارة. و لهذا تجد الأمصار التي في القاصية و لو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة و تبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة و مقرها و ما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم و فيض أمواله فيهم كالماء يخضر ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد و قد قدمنا أن السلطان و الدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق و ما قرب منه و إذا أبعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة ثم أنه إذا اتصلت تلك الدولة و تعاقب ملوكها في ذلك المصر واحداً بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم و زادت رسوخاً و اعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف و أربعمائة سنين رسخت حضارتهم و حذقوا في أحوال المعا ش و عوائده و التفنن في صناعاته من المطاعم و الملابس و سائر أحوال المنزل حتى أنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. و رسخت الحضارة أيضاً و عوائدها في الشام منهم و من دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. و كذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان و الروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل. فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة و كذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة و التبابعة آلافاً من السنين و أعقبهم ملك مصر.
    و كذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط و الفرس بها من لدن الكلدانيين و الكيانية و الكسروية و العرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام و العراق و مصر.
    و كذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة و استحكمت بالأندلس لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية آلافاً من السنين و كلتا الدولتين عظيمة فاتصلت فيها عوائد الحضارة و استحكمت. و أما أفريقية و المغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم إنما قطع الإفرنجة إلى أفريقية البحر و ملكوا الساحل و كانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة فكانوا على قلعة و أوفاز و أهل المغرب لم تجاورهم دولة و إنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر ولما جاء الله بالإسلام و ملك العرب أفريقية و المغرب لم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام و كانوا لذلك العهد في طور البداوة و من استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفة إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على ميسرة المطفري أيام هشام بن عبد الملك و لم يراجعوا أمر العرب بعد و استقلوا بأمر أنفسهم و إن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البراير هم الذين تولوها و لم يكن من العرب فيها كثير عدد و بقيت أفريقية للأغالبة و من إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك و نعيمه و كثرة عمران القيروان و ورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم و ذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة و انصرمت دولتهم و استحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة و تغلب بدو العرب الهلاليين عليها و خربوها و بقي أثر خفي من حضارة العمران فيها و إلى هذا العهد يونس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من الحضارة في شؤن منزله و عوائد أحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها و كذا في أكثر أمصار أفريقية و ليس كذلك في المغرب و أمصاره لرسوخ الدولة بأفريقية أكثر أمداً منذ عند الأغالبة و الشيعة وصنهاجة و أما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة و استحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم مني الاستيلاء على بلاد الأندلس و انتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً و كرهاً و كانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة و استحكامها و معظمها من أهل الأندلس ثم انتقل أهل شرف الأندلس عند جالية النصارى إلى أفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً و معظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر و ما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب و أفريقية حظ صالح من الحضارة عفي عليه الخلاء و رجع إلى أعقابه و عاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة و الخشونة و على كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب و أمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب و لقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم. فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس. و اعلم أنها أمور متناسبة و هي حال الدولة في القوة و الضعف و كثرة الأمة أو الجيل و عظم المدينة أو المصر و كثرة النعمة و اليسار و ذلك أن الدولة و الملك صورة الخليفة و العمران وكلها مادة لها من الرعايا و الأمصار و سائر الأحوال و أموال الجباية عائدة عليهم ويسارهم في الغالب من أسواقهم و متاجرهم و إذا أفاض السلطان عطاءه و أمواله في أهلها انبثت فيهم و رجعت إليه ثم إليهم منه فهي ذاهبة عنهم في الجباية و الخراج عائدة عليهم في العطاء فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا و على يسار الرعايا و كثرتهم يكون مال الدولة و أصله كله العمران و كثرته فاعتبره و تأمله في الدول تجده و الله يحكم و لا معقب لحكمه.


  • #35
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران و نهاية لعمره و أنها مؤذنة بفساده

    قد بينا لك فيما سلف أن الملك و الدولة غاية للعصبية و أن الحضارة غاية للبداوة و أن العمران كله من بداوة و حضارة و ملك و سوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً و تبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه و نموها و أنه إذا بلغ سن الأربعين و قفت الطبيعة عن أثر النشوء و النمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها و ذلك أن الترف و النعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة و التخلق بعوائدها و الحضارة كما علمت هي التفنن في الترف و استجاده أحواله و الكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه و سائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية و لسائر أحوال المنزل. و للتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة و عدم التأنق فيها. و إذا بلغ أن التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها و لا دنياها أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها و أما دنياها فلكثرة الحاجات و المؤنات ائتي تطالب بها العوائد و يعجز و ينكب عن الوفاء بها. و بيانه أن، المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله و الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. و قد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه و أشعار حاجته. ثم تزيدها المكوس غلاة لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها و هو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم. و المكوس تعود إلى البياعات بالغلاء لأن السوقة و التجار كلهم يحتسبون على سلعهم و بضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤنة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات و أثمانها. فتعظم نفقات أهل الحضارة و تخرج عن القصد إلى الإسراف. و لا يجدون و ليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد و طاعتها و تذهب مكاسبهم كلها في النفقات و يتتابعون في الإملاق و الخاصة و يغلب عليهم الفقر و يقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق و يفسد حال المدينة و داعية ذلك كله إفراط الحضارة و الترف. و هذه مفسدات في المدينة على العموم في الأسواق و العمران. و أما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد و التعب في حاجات العوائد و التلون بألوان الشر في تحصيلها و ما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها.
    فلذلك يكثر منهم الفسق و الشر و السفسفة و التحيل على تحصيل المعاش من وجهه و من غير وجهه. و تنصرف النفس إلى الفكر في ذلك و الغوص عليه و استجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب و المقامرة و الغش و الخلابة و السرقة و الفجور في الأيمان و الربا في البياعات ثم تجدهم لكثرة الشهوات و الملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق و مذاهبه و المجاهرة به و بداوعيه و اطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب و ذوي الأرحام و المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. و تجدهم أيضاً أبصر بالمكر و الخديعة يدفعون بذلك ما عساه أن ينالهم من القهر و ما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة و خلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله. و يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة و يجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب و أهملته الدولة من عدادها و غلب عليه خلق الجوار و إن كانوا أهل أنساب و بيوتات و ذلك أن الناس بشر متماثلون و إنما تفاضلوا و تميزوا بالخلق و اكتساب الفضائل و اجتناب الرذائل.
    فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان، و فسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه و لا طيب منبته. و لهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت و ذوي الأحساب و الأصالة و أهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنيئة في معاشهم بما فسد من أخلاقهم و ما تلونوا به من صبغة الشر و السفسفة و إذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها و انقراضها و هو معنى قوله تعالى: و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً. و وجهه حينئذ إن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد و مطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم. و إذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة و خربت وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواص أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى أن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به. و ليس المراد ذلك و لا أنه خاصية في النارنج و إنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة.
    ثم أن النارنج و اللية و السرو و أمثال ذلك مما لا طعم فيه و لا منفعة هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف. و هذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر و خرابه كما قلناه. و لقد قيل مثل ذلك في الدفلى و هو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض و هو من مذاهب الترف. و من مفاسد الحضارة الإنهماك في الشهوات و الاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل و الملاذ و المشارب وطيبها. و يتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا و اللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع.
    إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه، إذ هو لغير رشدة، لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين و القيام عليهم فيهلكون، و يؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً و هو أشد في فساد النوع. و الزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه. و لذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره، و دل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح. فافهم ذلك و اعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة و الترف و أنه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد و أخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة و الترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه و دفع مضاره و استقامة خلقه للسعي في ذلك.
    و الحضري لا يقدر على مباشرته حاجاته أما عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفاً لما حصل من المربي في النعيم و الترف و كلا الأمرين ذميم. و كذلك لا يقدر على دفع المضار و استقامة خلقه للسعي في ذلك. و الحضري بما قد فقد من خلق الإنسان بالترف و النعيم في قهر التأديب و التعلم فهو بذلك عيال على الحامية التي تدافع عنه. ثم هو فاسد أيضاً غالباً بما فسدت منه العوائد و طاعتها في ما تلونت به النفس من مكانتها كما قررناه إلا في الأقل النادر. و إذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه و دينه فقد فسدت إنسانيته و صار مسخاً على الحقيقة. و بهذا الاعتبار كان الذين يتقربون من جند السلطان إلى البداوة و الخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة و خلقها. موجودون في كل دولة. فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران و الدولة و الله سبحانه و تعالى كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن.




  • #36
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها

    قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت و انتقصت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه و ربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب و لا يكاد ذلك يتخلف. و السبب فيه أمور: الأول أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس و البعد عن التحذلق. و يدغو ذلك إلى تخفيف الجباية و المغارم.
    التي منها مادة الدولة فتقل النفقات و يقل الترف فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة و نقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع الدولة فيرجعون إلى خلق الدولة أما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال و قلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر و يذهب معه كثير من عوائد الترف. و هو معنى ما نقول في خراب المصر. الأمر الثاني أن الدولة إنما يحصل لها الملك و الاستيلاء بالغلب، و إنما يكون بعد العداوة و الحروب. و العداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين و تكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال. و غلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الآخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة و مستبشعة و قبيحة. و خصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة.
    و فيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصها و هو معنى اختلال العمران في المصر. الأمر الثالث أن كل أمة لا بد لهم من وطن و هو منشآهم و منه أولية ملكهم. و إذا ملكوا ملكاً آخر صار تبعاً للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول. و أتسع نطاق الملك عليهم. و لا بد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول و تهوي أفئدة الناس من أجل الدولة و السلطان فينتقل إليه العمران و يخف من مصر الكرسي الأول.
    و الحضارة إنما هي توفر العمران كما قدمناه فتنقص حضارته و تمدنه. و هو معنى اختلاله. و هذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان و للعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة و البصرة، و لبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد و لبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس. و بالجملة فاتخاذ الدولة الكرسي في مصر يخل بعمران الكرسي الأول. الأمر الرابع أن الدولة الثانية لا بد فيها من أهل الدولة السابقة و أشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر هو من فيه غائلتهم على الدولة و أكثر أهل المصر الكرسي أتباع الدولة. أما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم و تنوع أصنافهم. بل أكثرهم ناشئ في الدولة فهم شيعة لها. و إن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل و المحبة و العقيدة. و طبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فينقلهم من مصر الكرسي إلى و طنها المتمكن في ملكتها. فبعضهم على نوع التغريب و الحبس و بعضهم على نوع الكرامة و التلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة و الهمل من أهل الفلح و العيارة و سواد العامة و ينزل مكانهم حاميتها و أشياعها من يشتد به المصر وإذا ذهب من المصر أعيانهم على طبقاتهم نقص ساكنه و هو معنى اختلال عمرانه.
    ثم لا بد من أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة و تحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة. و إنما ذلك بمثابة من له بيت على أوصاف مخصوصة فاظهر من قدرته على تغيير تلك الأوصاف و إعادة بنائها على ما يختاره و يقترحه فيخري ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً. و قد و قع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي للملك و شاهدناه. و عرفناه و الله يقدر الليل و النهار. و السبب الطبيعي الأول في ذ لك على الجملة أن الدولة و الملك للعمران بمثابة الصورة للمادة و هو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها. و قد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور و العمران دون الدولة و الملك متعذر لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك أما الشريعة أو الملكية و هو معنى الدولة و إذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما في مؤثر في اختلال الآخر كما أن عدمه مؤثر في عدمه و الخلل العظيم إنما يكون من خلال الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك.
    و أما الدولة الشخصية مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده و بقائه و قريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية و الشوكة و هي مستمرة على أشخاص الدولة فإذا ذهبت تلك العصبية و دفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران ذهبت أهل الشوكة بأجمعهم و عظم الخلل كما قررناه أولاً و الله سبحانه و تعالى أعلم.

  • صفحة 9 من 19 الأولىالأولى ... 7891011 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:47 AM
    2. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:24 AM
    3. الشام شامك لو الزمن ضامك .. الجزء الرابع
      بواسطة شوالأخبار في المنتدى ملتقى صـــور ســــوريا الغالية Syria photographs
      مشاركات: 3
      آخر مشاركة: 07-31-2010, 05:24 PM
    4. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM
    5. نون المنديل الوردي الجزء الرابع
      بواسطة ابوشادي في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 24
      آخر مشاركة: 07-22-2010, 04:56 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1