ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل إليه أمره
وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد - فيما قيل - ألف سوط.
ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك
وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلًا؛ شهاداتهم - فيما ذكر - مختلفة من هذا النحو؛ فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله.
فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أبقاك الله وحفظك، وأتّم نعمته عليك؛ وصل كتابك في الرجل المسمّى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق؛ وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ، وتثبّتك في أمر أؤلئك الشهود وما شهدوا به، وما صحّ عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك؛ فعرضت على أمير المؤمنين أعزّه الله ذلك؛ فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده أبقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنّته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدًا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فإن مات ألقى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيًا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين؛ وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى - والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا - وقد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم - لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمى به في دجلة.
وفي هذه السنة انقضّت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة.
وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدوابّ والبقر.
وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط؛ مع نسائهم وذراريّهم وجواميسهم وبقرهم.
خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنة
وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم.
ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله
ذكر أن تذورة صاحبة الروم أمّ ميخائيل، وجّهت رجلًا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفًا، فوجه المتوكل رجلًا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج؛ ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم؛ وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينًا. فذكر أن تذورة أمرت بعد خروج نصر بعرض من في إسارها من المسلمين على النصرانية؛ فمن تنصرّ منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن أبى قتله؛ فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفًا؛ ويقال إن قنقلة الخصي كان يقتلهم من غير أمرها. ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفًا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى انصرافهم إلى مأمنهم. فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب؛ وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة.
وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلًا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر؛ وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانًا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية؛ فسأل جعفر بن عبد الواحد - وهو قاضي القضاة - أن يؤذن له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلًا يقوم مقامه - فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفًا معونة وأرزاق ستين ألفًا؛ فاستخلف ابن أبي الشوارب - وهو يومئذ فتىً حدث السن - وخرج فلحق شنيفًا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين إنسانًا، ومن النساء مائة وخمسًا وعشرين امرأة.
وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرًا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، وأخرج لهم بذلك كتابًا.
ذكر غارة البجة على مصر
وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمّي.
ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم
ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا؛ وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان - فيما ذكر - البجة وأهل غاتة الغافر وبينور ورعوين والفروية ويكسوم ومكاره أكرم والنوبة والحبش وفي بلاد البجة معادن من ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى أعمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى. فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلًا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسى مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبين المسلمين وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر؛ وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة؛ فقتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل في المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها؛ وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين؛ فانصرفوا عنها خوفًا على أنفسهم وذرايتهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن؛ فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهى إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش؛ لأنها مفاوز وصحارى، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر؛ في أرض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن؛ وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام؛ فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم لا ترد على السلطان شيئًا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم؛ فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمى محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور - وهي فقط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان - وتقدم إليه في محاربة البجة؛ وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر. وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميه ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر.
فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة؛ فكانت عدة من معه نحوًا من عشرين ألف إنسان؛ بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قومًا من أصحابه أن يلجوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة؛ فلم يزل محمد بن عبد الله القمى يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم - واسمه على بابا واسم ابنه لعيسى - في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمى من الناس؛ وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرةٌ تشبه بالمهارى في النجابة، فجعلوا يلتقون أيامًا متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمى لكي تطول الأيام طمعًا في نفاذ الزاد والعلوفة التي معهم؛ فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلًا، فيأخذهم البجة بالأيدي.
فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمى إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على أصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة؛ فلما رأى ذلك على بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلًا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شئ؛ فلما رأى ذلك القمى جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، ففرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمى بأصحابه، فأخذهم قتلًا وأسرًا حتى أدركه الليل؛ وذلك في أول سنة إحدى وأربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم؛ فلما أصبح القمى وجدهم قد جمعوا جمعًا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا به فيه طلب القمى، فوافاهم القمى في الليل في خيله، فهرب ملكهم؛ فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب على بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها - وهي أربع سنين - لكل سنة أربعمائة مثقال، واستخلف على بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا على بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجًا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلامًا على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم؛ قتلهم القمي. فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمى يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين. وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدًا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمى، فخرج القمى بعلي بابا؛ وهو مقيم على دينه؛ فذكر بعضهم أنه رأى معه صنمًا من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة وحج بالناس في هذه السنة عبد الله محمد بن داود، وحج جعفربن دينار فيها، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر أحداث الزلازل بالبلاد
فما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان؛ فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشرٌ كثير؛ ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفًا وستة وتسعين نفسًا؛ وكان عظيم ذلك بالدامغان.
وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشأم في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضًا مثل ذلك مع خسف بها.
ذكر خروج الروم من ناحية شمشاط
وفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهوا عدة قرى، وأسروا نحوًا من عشرة آلاف إنسان؛ وكان دخولهم من ناحية أبريق؛ قرية قربياس؛ ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحدًا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيًا.
وفيها قتل المتوكل عطاردًا - رجلًا كان نصرانيًا فأسلم - فمكث مسلمًا سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة.
وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب.
وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي؛ وهو والي مكة.
وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي العقدة، فضحى ببلد؛ فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج:
أظن الشام تشمت بالعراق ** إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تدع العراق وساكنيها ** فقد تبلى المليحة بالطلاق
وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولى ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن ينجور في ذي الحجة.
وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر؛ وكان من لدن شخص من سامرا إلى أن دخلها سبعة وتسعون يومًا - وقيل سبعة وسبعون يومًا - وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به. ثم استوبأ البلد؛ وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر؛ فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل؛ وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة.
وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة، فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأيامًا، ثم رجع إلى سامرا، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة.
وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار - فيما زعم بعضهم - والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
وفيها أتى المتوكل - فيما ذكر - بحربة كانت للنبي تسمى العنزة؛ ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله ؛ فكانت عند المؤذنين، وكان يمشي بها بين يدي رسول الله في العيدين؛ وكانت تركز بين يديه في الفناء فيصلى إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه؛ فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة.
وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي:
يا سخطةً جاءت على مقدار ** ثار له الليث على اقتدار
منه وبختيشوع في اغترار ** لما سعى بالسادة الأقمار
بالأمراء القادة الأبرار ** ولاة عهد السيد المختار
وبالموالي وبني الأحرار ** رمى به في موحش القفار
" بساحل البحرين للصغار " وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود.
وحجّ بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر بناء الماحوزة
ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجدّ في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها - فيما قيل - أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم؛ وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصرًا سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمي يكون شربًا لما حولها من فوهة النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدّر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه؛ فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب؛ حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر.
وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر؛ فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن.
وبعث ملك الروم فيها بأسى من المسلمين؛ وبعث يسأل المفاداة بمن عنده؛ وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولًا إلى المتوكل شيخًا يدعى أطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلًا من أسرى المسلمين، أهداهم ميخائيل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم. ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.
وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلفًا كثيرًا، وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجًا، وسمعوا أصواتًا هائلة لا يحسنون وصفها من كوى المنازل، وهرب ألها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر؛ فهاج البحر في ذلك اليوم؛ وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب.
وسمع فيها - فيما قيل - أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير.
وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشأم. ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.
وفيها غارت مشاش - عين مكة - حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهمًا، فبعثت أم المتوكل فأنفقت عليها.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازي.
ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمة
وفيها هلك نجاح بن سلمة.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه
حدثني الحارث بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره؛ أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري؛ وكان على الضياع؛ فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه؛ ولا يقدرون على منعه من شيء يريده؛ وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل؛ وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج؛ فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرّا فيما هما بسبيله؛ وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم؛ فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح؛ خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غدًا حتى أدفعهما إليك؛ فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى؛ فغذا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل؛ فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر؛ وأنا أشير عليك بأمرٍ لك فيه صلاح؛ قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما؛ وتكتب رقعة تذكر فيها أنك شاربًا، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين؛ فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قال البارحة؛ وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا؛ فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريبًا مما ضمن لك عنهما.
فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما؛ فانصرفا به؛ وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاّ، فوجد البرد، فقال: ويحك يا حسن! قد وجدت البرد؛ فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب - وكان انقطاعه إلى نجاح - فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بفبض ذلك كله، وضرب مرارًا بالمقارع في غير موضع الضرب نحوًا من مائتي مقرعة، وغُمز وخُنق، خنقه موسى الفران والمعلوف.
فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات؛ فأصبح ميتًا يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلًا؛ وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحوًا من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقرّ عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار - وقيل عشرين ألف دينار.
وكان ابنه أحمد ابن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد؛ وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار. وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا.
وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وكان عبيد الله متمكنًا من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله؛ وإلى نجاح توقيع العامة - فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح - وكان في الندماء - يا أمير المؤمنين؛ أسمى لك قومًا تدفعهم إلي حتى أستخرج لك منهم أموالًا تبني بها مدينتك هذه؛ إنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره. فقال له: سمّهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرّخانشاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء، وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى؛ وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفرًا المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحوًا من عشرين رجلًا؛ فوقع ذلك من المتوكل موقعًا أعجبه، وقال له: اغد غدوةً، فلما أصبح لم يشك في ذلك. وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتبًا ولا قائدًا إلا أوقع بهم؛ فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح؛ فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إ دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان؛ ولكن اكتبانّ إلى أمير المؤمنين رقعة تقبّلان به فيها بألفي دينار؛ فكتبا رقعة بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله بن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والسحن بن مخلد؛ فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن؛ ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك؛ وخرج معهما فدفعه إليهما جميعًا؛ والناس جميعًا الخواص والعوام؛ وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح؛ للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه دررًا وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد - وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد - أن يغرم واحدًا وخمسين ألف دينار، وحلّف على ذلك، وقال: إنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين دينارًا؛ حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفًا وزيادة ألف فضلًا كما أخذ فضلًا. فحبس ونجّم عليه في ثلاثة أنجم؛ ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار. ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل - وكان أحد حجاب المتوكل - وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وُصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك؛ فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت. وأمر موسى بن عبد الملك جعفرًا المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات. وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج - وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد - وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه؛ فكان المتوكل كثيرًا ما يقول لهما كلما شرب: ردّوا علي كاتبي؛ وإلا فهاتوا المال؛ وضمّ توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح؛ فما أتى على ذلك إلا يسيرًا حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري. وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق؛ فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعًا؛ فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه: خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجًا، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصيّر على ديوان الخراج أيضًا عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز؛ وكان أيضًا خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي:
ما كان يخشى نجاحٌ صولة الزمن ** حتى أديل لموسى منه والحسن
غدا على نعم الأحرار يسلبها ** فراح وهو سليب المال والبدن
وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب.
غارة الروم على سميساط
وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوًا من خمسمائة.
وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يومًا، فبعث ملك الروم إليهم بطريقًا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلوة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة؛ وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور. وقيل إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم؛ وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزيني؛ وهو والي مكة.
وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي:
إن يوم النيروز عاد إلى العه ** د الذي كان سنه أردشير
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فم ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس. وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحرًا في عشرين مركبًا؛ فافتتح حصن أنطاكية. وغزوة بلكاجور فغنم وسبى. وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحوًا من عشرة آلاف.
وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزة، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنة.
ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنة
وفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، بألفين وثلثمائة وسبعة وستين نفسًا. وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى.
وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي - وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء - أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة - وهو القيّم بشأن الملك - وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت: انصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثيابٌ حريرٌ وزعفران كثير وطرائف؛ وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحّملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه؛ فإذا هو على سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون؛ فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت: لا تزيدون على ما أقول لكم شيئًا؛ فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلًا بقربه؛ فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين.
قال: فتغافل عني نحوًا من أربعة أشهر؛ حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها؛ فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء؛ على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي؛ وكانوا أكثر من ألف قليلًا؛ وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين؛ منهم عشرون امرأة؛ معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة؛ فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك؛ فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم، ولم أسمعه يتكلم بكلمة مذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال؛ حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة؛ وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلًا؛ وكان قوم تنصروا؛ فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء؛ وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه؛ وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية؛ وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى؛ فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتى بهم من سلقية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم سلقية، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة، فتركتهما، " و " قلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية.
ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحدًا وعشرين يومًا في شعبان ورمضان؛ حتى نبت العشب فوق الأجاجير.
وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد.
وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دمًا عبيطًا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فولى أعمال الموسم.
وضحى أهل سامرا فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن مقتل المتوكل
فما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل.
ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل
قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعهما الفتح بن خاقان؛ فكتبت الكتب بذلك، وصارت إلى الخاتم على أن تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان فبلغ ذلك وصيفًا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره؛ وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه؛ وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلي في آخر جمعة من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب. فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس قد اجتمعوا وكثروا؛ من أهل بيتك وغيرهم؛ وبعض متظلم وبعض طالب حاجة؛ وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعًا فليفعل. فقال: قد رأيت ما رأيتما؛ فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين؛ قد رأينا رأيًا؛ وأمير المؤمنين أعلى عينًا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف؛ فقد اجتمع أهل بيته؛ والناس جميعًا فقد بلغ الله به.
قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم؛ فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله - وكان بالجعفرية - وكان ذلك مما زاد في إغرائه؛ فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه؛ ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه؛ حتى دخل على أبيه وهما معه؛ ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، والله يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت الأمين والمأمون ورأيت المعتصم صلوات الله عليهم، ورأيت الواثق بالله؛ فوالله ما رأيت رجلًا على منبر أحسن قوامًا، ولا أحسن بديهًا، ولا أجهر صوتًا، ولا أعذب لسانًا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرًا، وأمتعنا بك؛ فلما كان يوم الأحد؛ وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال: مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين؛ قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين؛ ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل. فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه؛ فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
وذكر أنه ركب يوم الفطر؛ وقد ضربت له المصاف نحوًا من أربعة أميال، وترجل بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنةً من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل؛ فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه؛ فلما كان يوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال - أصبح نشيطًا فرحًا مسرورًا، فقال: كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش - وهما طبيباه: يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير؛ افعل، ففعل؛ واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده.
وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان أحدٌ ممن يأكل " بين يديه " حاضرًا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ؛ فإنه جاء مع المتنصر. قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معًا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم؛ لم يدع بأحد منهم بعد. قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال: كل أنت وعثعث بين يدي. ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ؛ قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي؛ فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه. قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتةً، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: مالكم لا تأكلون؟ قلت: يا سيدي، قد نفذ ما بين أيدينا؛ فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه.
قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم. قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر؛ لم ير الناس مثله حسنًا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بأن يقول: أنا والله مفارفكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله بن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال؛ على أن يفتك بالمنتصر؛ ويقتل وصيفًا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم؛ فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم - فيما ذكر ابن الحفصي - بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرةً يتهدده بالقتل.
فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه - يعني المنتصر - فقام الفتح ولطمه مرتين؛ يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر: اشهدوا جميعًا أني قد خلعت المستعجل - المنتصر - ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وأمر بنانًا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران.
وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي؛ إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال: إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء؛ وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي، فإن أوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة، نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك. وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه. قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعًا إلى حجرته. قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته.
فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد أملكت ابن زرافة من ابنة أوتامش وابن أوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدًا إن شاء الله؛ فإن الليل قد مضى. قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي يه، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ؛ فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة؛ إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا أمير المؤمنين! كان عبدًا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر؛ وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وذكر عن عثعث أنّ المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائمًا عند الستر؛ وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار؛ وكان خليفته في الدار ابنه مسعود - وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط - فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدًا، وقد شرب أربعة عشر رطلًا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا جميعًا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة؛ منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد المحرزي. قال: ووضع الطباخ المائدة بيت يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلفم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضًا بعد ذلك.
فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه - كان معهم في المجلس فقال إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذي عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلو التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي؛ فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم ورائهم عند كلام المتوكل لبغا؛ ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد. قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم: يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كرامًا؛ فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربةً على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلًا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح: ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه. وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون. قال: وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحًا، وأحمد، وعبد الله، ونصرًا، وعبيد الله؛ حتى صاروا إلى ما أرادوا.
وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال المتوكل: قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف؛ وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد؛ فلما ذكر عثعث السيوف، قال له: ويلك! أي شئ تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب؛ وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه. وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين؛ فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زراقة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه. وأرسل المنتصر إلى وصيف: إن الفتح قتل أبي، فقتله، فاحضر في وجوه أصحابك. فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا. قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور.
وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم. فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها؛ وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره؛ فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه؛ وهان عليهم أمر القوم، وثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر.
فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذا طلع عليه بعض الخدم، فقال: يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرًا بالخروج، فخرج وعاد؛ فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضًا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأباء والعجم والأرمن والزواقيل والأعراب والصعاليك وغيرهم " وقد اختلف في عدتهم " فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف؛ فقالوا له إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة؛ نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. فأبى ذلك وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم - يعني المعتز.
وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابًا من كتب الملاحم، فوقفت على موضع من الكتاب فيه: إن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقف عن قراءته وقطعته، فقال لي: ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء؛ فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكن رأيت في المام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل، فقال لي: إلي كم تؤذينا! إنما بقى من أجلك تمام خمسة عشر سنة غير أيام. قال: فكان بعدد أيام خلافته.
وذكر عن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلًا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة وهو ينشد:
يا عين ويلك فاهملي ** بالدمع سحا واسبلي
دلت على قرب القيا ** مة قتلة المتوكل
وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين.
وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيت في النوم آتيًا أتاني، وهو يقول:
يا نائم العين في جثمان يقظان ** ما بال عينك لا تبكي بتهتان!
أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ** بالهاشمي وبالفتح بن خاقان!
وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ** حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني
فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعًا.
قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال - وقيل: بل قتل ليلة الخميس - فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام. وقتل يوم قتل وهو - فيما قيل - ابن أربعين سنة؛ وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين.
وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفًا.
ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته
ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرًا، وذكرت الرافضة فيه، فقعد لي على البحرين واليمامة، وخلع على أربع خلع في دار العامة، وخلع على المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدًا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئًا؛ فجمعاها، فانصرفت بها.
قال: والشعر الذي قال فيه:
ملك الخليفة جعفر ** للدين والدنيا سلامة
لكم تراث محمدٍ ** وبعدلكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنا ** ت وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بوارث ** والبنت لا ترث الإمامة
ما للذين تنحلوا ** ميراثكم إلا الندامه
أخذ الوارثة أهلها ** فغلام لومكم علامه!
لو كان حقكم لما ** قامت على الناس القيامة
ليس التراث لغيركم ** لا والإله ولا كرامه
أصبحت بين محبكم ** والمبغضين لكم علامه
ثم نشر على رأسي - بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى - عشرة آلاف درهم وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة - مدحت فيها ابن أبي داود - إلى ابن أبي داود، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:
وقيل لي الزيات لاقى حمامه ** فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ** فألقى فيها بالخيانة والغدر
قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن داود ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هما باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين. قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)