وأما من حلف على يمين ثم نسيها وقولهم: يلزمه جميع ما يحلف به فقول شاذ جدا وليس عن مالك إنما قاله بعض أصحابه وسائر أهل العلم على خلافه وأنه لا يلزمه شيء حتى يتيقن كما لو شك: هل حلف أو لا
فإن قيل فينبغي أن يلزمه كفارة يمين لأنها الأقل
قيل: موجب الأيمان مختلف فما من يمين إلا وهي مشكوك فيها هل حلف بها أم لا
وعلى قول شيخنا: يلزمه كفارة يمين حسب لأن ذلك موجب الأيمان كلها عنده
فصل
وأما من حلف ليفعلن كذا ولم يعين وقتا فعند الجمهور هو على التراخي إلى آخر عمره إلا أن يعين بنيته وقتا فيتقيد به فإن عزم على الترك بالكلية حنث حال ه زمه نص عليه أحمد وقال مالك: هو على حنث حتى يفعل فيحال بينه وبين امرأته إلى أن يأتي بالمحلوف عليه وهذا صحيح على أصله في سد الذرائع فإنه إذا كان على التراخي إلى وقت الموت لم يكن لليمين فائدة وصار لا فرق بين الحلف وعدمه والحمل في ذلك على القرينة والعرف إن لم تكن نية ولا يكاد اليمين يتجرد عن هذه الثلاثة
فصل
وأما تعليق الطلاق بوقت يجىء لا محالة كرأس الشهر والسنة وآخر النهار ونحوه فللفقهاء في ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنها لا تطلق بحال وهذا مذهب ابن حزم واختيار أبي عبد الرحمن الشافعي وهو من أجل أصحاب الوجوه
وحجتهم: أن الطلاق لا يقبل التعليق بالشرط كما لا يقبله النكاح والبيع والإجارة والإبراء
قالوا: والطلاق لا يقع في الحال ولا عند مجىء الوقت أما في الحال فلأنه لم يوقعه منجزا وأما عند مجىء الوقت فلأنه لم يصدر منه طلاق حينئذ ولم يتجدد سوى مجىء الزمان ومجى الزمان لا يكون طلاقا
وقابل هذا القول آخرون وقالوا: يقع الطلاق في الحال وهذا مذهب مالك وجماعة من التابعين
وحجتهم: أن قالوا: لو لم يقع في الحال لحصل منه استباحة وطء مؤقت وذلك غير جائز في الشرع لأن استباحة الوطء فيه لا تكون إلا مطلقا غير مؤقت ولهذا حرم نكاح المتعة لدخول الأجل فيه وكذلك وطء المكاتبة ألا ترى أنه لوعرى من الأجل بأن يقول: إن جئتني بألف درهم فأنت حرة لم يمنع ذلك الوطء
قال الموقعون عند الأجل: لا يجوز أن يؤخذ حكم الدوام من حكم الابتداء فإن الشريعة فرقت بينهما في مواضع كثيرة فإن ابتداء عقد النكاح في الإحرام فاسد دون دوامه وابتداء عقده على المعتدة فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الأمة مع الطول وعدم خوف العنت فاسد دون دوامه وابتداء عقده على الزانية فاسد عند أحمد ومن وافقه دون دوامه ونظائر ذلك كثيرة جدا
قالوا: والمعنى الذي حرم لأجله نكاح المتعة: كون العقد مؤقتا من أصله وهذا العقد مطلق وإنما عرض له ما يبطله ويقطعه فلا يبطل كما لو علق الطلاق بشرط وهو يعلم أنها تفعله أو يفعله هو ولا بد ولكن يجوز تخلفه
والقول الثالث: أنه إن كان الطلاق المعلق بمجيء الوقت المعلوم ثلاثا وقع في الحال وإن كان رجعيا لم يقع قبل مجيئه وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد نص عليه في رواية مهنا: إذا قال: أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر: هي طالق الساعة كان سعيد ابن المسيب والزهري لا يوقتون في الطلاق قال مهنا: فقلت له: أفتتزوج هذه التي قال لها: أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر قال لا: ولكن يمسك عن الوطء أبدا حتى يموت هذا لفظه
وهو في غاية الإشكال فإنه قد أوقع عليها الطلاق منجزا فكيف يمنعها من التزويح
وقوله: يمسك عن الوطء أبدا يدل على أنها زوجته إلا أنه لا يطؤها وهذا لا يكون مع وقوع الطلاق فإن الطلاق إذا وقع زالت أحكام الزوجية كلها فقد يقال: أخذ بالاحتياط فأوقع الطلاق ومنعها من التزويج للخلاف في ذلك فحرم وطأها وهو أثر الطلاق ومنعها من التزويج لأن النكاح لم ينقطع بإجماع ولا نص
ووجه هذا: أنه إذا كان الطلاق ثلاثا لم يحل وطؤها بعد الأجل فيصير حال الوطء مؤقتا وإن كان رجعيا جاز له وطؤها بعد الأجل فلا يصير الحال مؤقتا وهذا أفقه من القول الأول
والقول الرابع: أنها لا تطلق إلا عند مجىء الأجل وهو قول الجمهور وإنما تنازعوا هل هو مطلق في الحال ومجىء الوقت شرط لنفوذ الطلاق كما لو وكله في الحال وقال: لاتتصرف إلى رأس الشهر فمجىء رأس الشهر شرط لنفوذ تصرفه لا لحصول الوكالة بخلاف ما إذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك ولهذا يفرق الشافعي بينهما فيصحح الأولى ويبطل الثانية أو يقال: ليس مطلقا في الحال وإنما هو مطلق عند مجىء الأجل فيقدر حينئذ أنه قال: أنت طالق فيكون حصول الشرط وتقدير حصول: أنت طالق معا فعلى التقدير الأول: السبب تقدم وتأخر شرط تأثيره وعلى التقدير الثاني: نفس السبب تأخر تقديرا إلى مجىء الوقت وكأنه قال: إذا جاء رأس الشهر فحينئذ أنا قائل لك: أنت طالق فإذا جأء رأس الشهر قدر قائلا لذلك اللفظ المتقدم
فمذهب الحنفية: أن الشرط يمتنع به وجود العلة فإذا وجد الشرط وجدت العلة فيصير وجودها مضافا إلى الشرط وقبل تحققه لم يكن المعلق عليه علة بخلاف الوجوب فإنه ثابت قبل مجىء الشرط فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فالعلة للوقوع: التلفظ بالطلاق والشرط الدخول وتأثيره في امتناع وجود العلة قبله فإذا وجد وجدت
وأصحاب الشافعي يقولون: أثر الشرط في تراخي الحكم والعلة قد وجدت وإنما تراخي تأثيرها إلى وقت مجيء الشرط فالمتقدم علة قد تأخر تأثيرها إلى مجىء الشرط
فصل
وأما ما أفتى به الحسن وإبراهيم النخعي ومالك في إحدى الروايتين عنه: أن من شك هل انتقض وضوءه أم لا وجب عليه أن يتوضأ احتياطا ولا يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها
فهذه مسألة نزاع بين الفقهاء
وقد قال الجمهور منهم الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابهم ومالك في الرواية الأخرى عنه إنه لا يجب عليه الوضوء وله أن يصلي بذلك الوضوء الذي تيقنه وشك في انتقاضه واحتجوا بما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهذا يعم المصلي وغيره
وأصحاب القول الأول يقولون: الصلاة ثابتة في ذمته بيقين وهو يشك في براءة الذمة منها بهذا الوضوء فإنه على تقدير بقائه هي صحيحة وعلى تقدير انتقاضه باطلة فلم يتيقن براءة ذمته ولأنه شك في شرط الصلاة: هل هو باق أم لا فلا يدخل فيها بالشك
والآخرون يجيبون عن هذا بأنها صلاة مستندة إلى طهارة معلومة قد شك في بطلانها فلا يلتفت إلى الشك ولا يزيل اليقين به كما لو شك: هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة فإنه لا يجب عليه غسله وقد دخل في الصلاة بالشك
ففرقوا بينهما بفرقين:
أحدهما: أن اجتناب النجاسة ليس بشرط ولهذا لا يجب نيته وإنما هو مانع والأصل عدمه بخلاف الوضوء فإنه شرط وقد شك في ثبوته فأين هذا من هذا
الثاني: أنه قد كان قبل الوضوء محدثا وهو الأصل فيه فإذا شك في بقائه كان ذلك رجوعا إلى الأصل وليس الأصل فيه النجاسة حتى نقول: إذا شك في حصوله رجعنا إلى الأصل النجاسة فهنا يرجع إلى أصل الطهارة وهناك يرجع إلى أصل الحدث
قال الآخرون: أصل الحدث قد زال بيقين الطهارة فصارت هي الأصل فإذا شككنا في الحدث رجعنا إليه فأين هذا من الوسواس المذموم شرعا وعقلا وعرفا
فصل
وأما قولكم: إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله: فليس هذا من باب الوسواس وإنما ذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه
فصل
وأما مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس فهذه مسألة نزاع فذهب مالك في رواية عنه وأحمد: إلى أنه يصلي في ثوب بعد ثوب حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر
وقال الجمهور ومنهم أبو حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى إنه يتحرى فيصلي في واحد منها صلاة واحدة كما يتحرى في القبلة
وقال المزني وأبو ثور: بل يصلي عريانا ولا يصلي في شيء منها لأن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم والصلاة فيه حرام وقد عجز عن السترة بثوب طاهر فسقط فرض السترة وهذا أضعف الأقوال
والقول بالتحري هو الراجح الظاهر سواء كثر عدد الثياب الطاهرة أو قل وهو اختيار شيخنا وابن عقيل يفصل فيقول: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعا للمشقة وإن قل عمل باليقين
قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله
وقول أبي ثور في غاية الفساد فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيرا وأحب إلى الله من صلاته متجردا بادى السوءة للناظرين وبكل حال فليس هذا من الوسواس المذموم
فصل
وأما مسألة اشتباه الأواني فكذلك ليست من باب الوسواس وقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا متباينا
فقال أحمد: يتيمم ويتركها وقال مرة يريقها ويتيمم ليكون عادما للماء الطهور بيقين
وقال أبو حنيفة: إن كان عدد الأواني الطاهرة أكثر تحرى وإن تساوت أو كثرت النجسة لم يتحر وهذا اختيار أبي بكر وابن شاقلا والنجاد من أصحاب أحمد وقال الشافعي وبعض المالكية: يتحرى بكل حال وقال عبد الله بن الماجشون: يتوضأ بكل واحد منها وضوءا ويصلي وقال محمد بن مسلمة من المالكية: يتوضأ من أحدها ويصلي ثم يغسل ما أصابه منه ثم يتوضأ من الآخر ويصلي
وقالت طائفة منهم شيخنا يتوضأ من أيها شاء بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فتستحيل المسألة وليس هذا موضع ذكر حجج هذه الأقوال وترجيح راجحها
فصل
وأما إذا اشتبهت عليه القبلة فالذي عليه أهل العلم كلهم: أنه يجتهد ويصلي صلاة واحدة
وشذ بعض الناس فقال: يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات وهذا قول شاذ مخالف للسنة وإنما التزمه قائله في مسألة اشتباه الثياب وهذا ونحوه من وجوه الالتزامات عند المضايق طردا لدليل المستدل: مما لا يلتفت إليها ولا يعول عليها
ونظيره: التزام من التزم اشتراط النية لإزالة النجاسة لما ألزمهم أصحاب أبي حنيفة بذلك قال بعضهم: نقول به
ونظيره: إدراك الجمعة بإدراك تكبيرة مع الإمام لما ألزمت الحنفية من نازعها في ذلك بالتسوية بين الجمعة والجماعة التزمه بعضهم وقال: نقول به
فصل
وأما من ترك صلاة من يوم لا يعلم عينها فاختلف الفقهاء في هذه المسئلة على أقوال:
أحدها: أنه يلزمه خمس صلوات نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وإسحق لأنه لا سبيل له إلى العلم ببراءة ذمته يقينا إلا بذلك
القول الثاني: أنه يصلي رباعية ينوي بها ما عليه ويجلس عقيب الثانية والثالثة والرابعة وهذا قول الأوزاعي وزفر بن الهذيل ومحمد بن مقاتل من الحنفية بناء على أنه يخرج من الصلاة بدون الصلاة على النبي وبدون السلام وأن نية الفرضية تكفي من غير تعيين كما في الزكاة ولا يضر جلوسه عقيب الثالثة إن كانت المنسية رباعية لأنه زيادة من جنس الصلاة لا على وجه العمد
القول الثالث: أنه يجزيه أن يصلي فجرا ومغربا ورباعية ينوي ما عليه وهذا قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن ويخرج على المذهب إذا قلنا بأن نية المكتوبة تكفي من غير تعيين
وقد قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يسأل: ما تقول في رجل ذكر أن عليه صلاة لم يعينها فصلى ركعتين وجلس وتشهد ونوى بها الغداة ولم يسلم ثم قام فأتى بركعة وجلس فتشهد ونوى بها المغرب وقام ولم يسلم وأتى برابعة ثم جلس فتشهد ونوى بها ظهرا أو عصرا أو عشاء الآخرة ثم سلم فقال له أبي: هذا يجزيه ويقضي عنه على مذهب العراقيين لأنهم اعتمدوا في التشهد على خبر ابن مسعود: إذا قلت هذا فقد تمت صلاتك وأما على مذهب صاحبنا أبي عبد الله الشافعي ومذهبنا لا يجزىء عنه لأنا نذهب إلى قوله: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ونذهب إلى الصلاة على رسول الله فيها هذا لفظه
قال أبو البركات: هذا من أحمد: يبين أن قضاء الواحدة لا يجزيه لتعذر التحليل المعتبر لا لفوات نية التعيين فإذا قضى ثلاثا كما قال الثوري اندفع المفسد وبكل حال فليس في هذا راحة للموسوسين
فصل
وأما من شك في صلاته فإنه يبني على اليقين لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك
وأما تحريم أكل الصيد إذا شك صاحبه: هل مات بالجرح أو بالماء وتحريم أكله إذا خالط كلابه كلبا من غيره فهو الذي أمر به رسول الله لأنه قد شك في سبب الحل والأصل في الحيوان التحريم فلا يستباح بالشك في شرط حله بخلاف ما إذا كان الأصل فيه الحل فإنه لا يحرم بالشك في سبب تحريمه كما لو اشترى ماء أو طعاما أو ثوبا لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه وإن شك: هل تنجس أم لا فإن الشرط متى شق اعتباره أو كان الأصل عدم المانع لم يلتفت إلى ذلك
فالأول: كما إذا أتى بلحم لا يعلم: هل سمى عليه ذابحه أم لا وهل ذكاه في الحلق واللبة واستوفى شروط الذكاة أم لا لم يحرم أكله لمشقة التفتيش عن ذلك وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن ناسا من الأعراب يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا فقال: سموا أنتم وكلوا مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى
والثاني كما ذكرنا من الماء والطعام واللباس فإن الأصل فيها الطهارة وقد شك في وجود المنجس فلا يلتفت إليه
فصل
وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما فشيء تفردا به دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إن بي وسواسا فلا تقتدوا بي
وظاهر مذهب الشافعي وأحمد: أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يستحب وإن أمن الضرر لأنه لم ينقل عن رسول الله أنه فعله قط ولا أمر به وقد نقل وضوءه جماعة كعثمان وعلي وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وغيرهم فلم يقل أحد منهم: إنه غسل داخل عينيه وفي وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد أصحهما أنه لا يجب وهو قول الجمهور وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة وأولى لأن المضرة به أغلب لزيادة التكرار والمعالجة
وقالت الشافعية والحنفية: يجب لأن إصابة النجاسة لهما تندر فلا يشق غسلهما منها وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد فأوجب غسلهما في الوضوء وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة
وأما فعل أبي هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله وخالفه فيه غيره وكانوا ينكرونه عليه وهذه المسئلة تلقب بمسئلة إطالة الغرة وإن كانت الغرة في الوجه خاصة
وقد اختلف الفقهاء في ذلك وفيها روايتان عن الإمام أحمد
إحداهما: يستحب إطالتها وبها قال أبو حنيفة والشافعي واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره
والثانية: لا يستحب وهي مذهب مالك وهي اختيار شيخنا أبي العباس
فالمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء
قال النافون للاستحباب: قال رسول الله ص: إن الله حد حدودا فلا تعتدوها والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين فلا ينبغي تعديهما ولأن رسول الله ص لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداها ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة والعبادات مبناها على الاتباع ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ وإلى الكتف وهذا مما يعلم أن النبي ص وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة وحدة ولأن هذا من الغلو وقد قال ص إياكم والغلو في الدين ولأنه تعمق وهو منهي عنه ولأنه عضو من أعضاء الطهارة فكره مجاوزته كالوجه
وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نعيم المجمر وقد قال: لا أدري قوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل من قول رسول الله ص أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه روي ذلك عنه الإمام أحمد في المسند
وأما حديث الحلية فالحلية المزينة ما كان في محله فإذا جاوز محله لم يكن زينة
فصل
وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال وتمشية الأمر كيف اتفق إلى آخره
فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط وغلو وتقصير وزيادة ونقصان وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع كقوله: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ الإسراء: 29 ] وقوله: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ الروم: 38 ] وقوله: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ الفرقان: 67 ] وقوله: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأعراف: 31 ]
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين والعدل هو الوسط بين طرفى الجور والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فصل
ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم واتخذت أوثانا وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله تعالى
وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه حيث يقول: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا [ نوح: 21 ]
قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء فيما بلغنا: ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصورهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: كانت آلهة يعبدها قوم نوح ثم عبدتها العرب بعد ذلك فكان ود لكلب بدومة الجندل وكان سواع لهذيل وكان يغوث لبني غطيف من مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لذي الكلاع من حمير وقال الوالبي عن ابن عباس: هذه أصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى
وفي لفظ آخر في الصحيحين: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها
فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور وهذا كان سبب عبادة اللات
فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: أفرأيتم اللات والعزى [ النجم: 19 ] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان يلت السويق للحاج
فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها كما أشار إليه النبي
قال شيخنا: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي ص مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون سدا للذريعة
قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ص أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي ص بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله ص لعن فاعله والنهي عنه ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله ص قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: لما نزل برسول الله ص طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ص قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي رواية مسلم: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ص في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا متفق عليه
وقولها: خشى هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ص قال: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد
وعن زيد بن ثابت أن رسول الله ص قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله ص زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأهل السنن
وفي صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور وفعل أنس رضي الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه فإنه لعله لم يره أو لم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر رضي الله تعالى عنه تنبه وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله ص الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة وصححه أبو حاتم بن حبان
وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة
فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله أن رسول الله ص قال: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها
وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول ص وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة
ومنها: أنه ص لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع وليس للنجاسة عليها طريق ألبتة فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور
ومنها: أن موضع مسجده ص كان مقبرة للمشركين فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدا ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: لما قدم النبي ص المدينة فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف فأقام النبي ص فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف وكأني أنظر إلى النبي ص على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي ص بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون وذكر الحديث
ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ومما يدل على أن النبي ص قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر فتزول اللعنة وهو باطل قطعا
ومنها: أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة صنوان فإن كل ما لعن رسول الله ص فهو من الكبائر ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها ولهذا قرن بينهما فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا حكى الله سبحانه وتعالى عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا: لنتخذن عليهم مسجدا [ الكهف: 21 ]
ومنها: أنه ص قال: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فذكره ذلك عقيب قوله: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد
وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول ص مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي ص صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لها تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد
ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم
فأما المشركون فعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم قال الشافعي: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس
وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى: الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه فقال بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: أن النبي ص قال: جعلت لي الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام وحديث زيد بن جبير عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر: أن النبي ص نهى عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها المقبرة قال الأثرم: إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد
فصل
ومن ذلك اتخاذها عيدا والعيد: ما يعتاد مجيئه وقصده: من مكان وزمان
فأما الزمان فكقوله ص يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى: عيدنا أهل الإسلام رواه أبو داود وغيره
وأما المكان فكما روي أبو داود في سننه أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال: أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قالا: لا قال: فأوف بنذرك وكقوله: لا تجعلوا قبري عيدا
والعيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام التعبد فيها عيدا
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر
فاتخاذ القبور عيدا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام وقد نهى عنه رسول الله ص في سيد القبور منبها به على غيره
فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ص لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وهذا إسناد حسن رواته كلهم ثقات مشاهير
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي ابن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال: لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته
وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: مالي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي ص فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله ص قال: لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله ص أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان ثم إنه قرن ذلك بقوله: ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا بقوله: وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف فقال: هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهي أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول وقلب للحقائق ونسبة الرسول إلى التدليس والتلبيس بعد التناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوه عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصا فليس للتنقيص حقيقة فينا كمن يرمى أنصار الرسول وحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه بريء ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته وهكذا غيرت ديانات الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الدابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله
ولو أراد رسول الله ص ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول: لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره ص واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علىرضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا
قال شيخنا: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله ص قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط
فصل
ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك
ولكن ما لجرح بميت إيلام
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرءوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتبا كوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلامن الميت ورضوانا وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولى العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفدالبيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول: لا ولو بحجك كل عام
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم: إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور
وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهي عنه لما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته
ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءبمن عبد اللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد وعلى أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى
ومن جمع بين سنة رسول الله ص في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأي أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا
فنهى رسول الله ص عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها
ونهى أن تتخذ عيداوهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ص أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ص يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: نهى رسول الله ص عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء
ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ص نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا: أن رسول الله ص نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص
ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره
وأوصى الأسود بن يزيد: أن لا تجعلوا على قبري آجرا
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: أن لا تضربوا علي فسطاطا
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط
والمقصود: أن هؤلاء المعظعمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله ص محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبي ص من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي ص قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله ص لئلا يتخذ مسجدا لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)