قلت:
- ولكن لا يمكن أنتكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..
قاطعتني..
- مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزارقباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس فيابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيسمتناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخربالمجد إذن؟
كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب منالحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:
- هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟
ضحكت.. وقلت:
- عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العددمن القتلى. ولم يرفع أيّ مرةقارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتبقصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر مندليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضيةنهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكموناجميعاً!
ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:
- في انتظار أنيحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجلبحياتك حقاً؟
قلت وأنت تعبثين بأعصابي:
- المهم أنه مات بعد هذاالكتاب..
- آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟
قلتوأنت تواصلين مراوغتك:
- أيّ ماضٍ؟.. نحن قد نكتب أيضاً لنصنع أضرحةلأحلامنا لا غير..
كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلكالرجل قد مرّ بحياتك.. وربما بجسدك أيضاً.
كنت أكاد أشمّ بين السطور رائحةتبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلّ فقرة شيء منه.. من سمرته.. من مذاق قبلته.. من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له..
تراه أبدعفي حبّك حقاً.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتكرجولة وأحلاماً، صنعت لها بعد ذلك ضريحاً جميلاً.. على مقاسه. وأنا، بأيّ منطق رحتأطالع ذلك الكتاب، في زيّ عاشق متنكر ببدلة شرطي أخلاق. وإذا بي أنقّب بين الكلماتوأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف الأحرف الأولى مناسمه هناك.
ذهب تفكيري بعيداً.. تذكّرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنكتقطنين عند عمك منذ عُيّن في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك فيكلّ الفترة التي كنت فيها بمفردك؟
أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعاً ومتعباًمثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن علاقتي بك قد تغيّرت منذ قرأتك وأنني أشكّ في أنأكون قادراً على الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأً لسلاح الكلمات.
قلتِفقط وكأنَّ الأمر لا يعنيك تماماً:
- كان عليك ألا تقرأني إذن!
أجبتكبحماقة:
- ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا لا أملك طريقة أخرىلفهمك..
أجبت:
- مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاً هكذا.. الكاتب إنسان يعيشعلى حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرّخين لا غير.. إنهفي الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاً من الكذب المهذّب. والروائي الناجح هو رجليكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيّة.
ثمّ أضفتِ بعد شيء منالتفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألماً كذلك. قررت يومها ألا أنقّب بعد ذلكفي ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما لأنك أنثى تحترف المراوغة. وربما لأنه ليسهناك من شي يستحقّ الاعتراف.
كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلكالطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإلا ما سرّتعلّقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي بالأسئلة، وتسدرجينها للحديث عن كلّ شيء؟لماذا كلّ تلك الشراهة للمعرفة، كلّ تلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكلّ ما أحببتوما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة عقدتك؟
***
لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟
كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟
كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.
كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.
لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.
كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.
فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.
تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.
وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.
لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.
في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقلام ومشاريع أحلام تجاوزتها الأحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من الزمن.
حملتها تحت إبطي، وكأنني أميّزها عن الأخريات. كنت فجأة على عجل. أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محملاً بفرشاة وألوان أخرى، لأنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراً حجارة "قنطرة الحبال" حجراً.. حجراً. ولكن كان في ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على كلّ شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد الآن... وأين؟
انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباً. وها نحن محاصران بكل مستحيلات الزمان والمكان. ملاحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك الذين لا نعرفهم.. ويعرفوننا. أيّ جنون.. وأيّ قدر كان قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك الارتباك الذي سيفضحني لا محالة.
اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياً، وأن نتفق على برنامج جديد.
كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناً أ، أزورك في
█║S│█│Y║▌║R│║█
حيّكالجامعي. فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها معك في الجامعة نفسها.
أكان يمكنلنا أن نجد ظروفاً أكثر تعقيداً من هذه؟.
***
أطول نهاية أسبوع على الإطلاق، كانت تلك التي قضيتها في انتظار هاتفك صباحالاثنين.
يوم الأحد دقّ الهاتف.
أسرعت إليه وأنا أراهن أنّك أنت. فربما نجحت في سرقة لحظات تحدّثينني فيها.. ولو قليلاً. كانت كاترين على الخطّ. أخفيت عنها خيبتي. ورحت أستمع لها وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرهاالقادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض وقالت وهي تنتقل من موضوع إلىآخر:
- لقد قرأت مقالاً جيداً عن معرضك في مجلة أسبوعية.. من المؤكد أنكاطلعت عليه.. إنه بقلم روجيه نقَّاش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتكجيداً.
لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب:
- نعم، إنهصديق قديم..
تخلّصت منها بلباقة.
لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائهاذلك اليوم. ربما كانت حاجتي للرسم يومها، تفوق حاجاتي الجسدية الأخرى.. وربما كنتفقط ممتلئاً بكِ.
عدت إلى مرسمي مثقل الخطى.
كنت شرعت في إعدادتشكيلة من الألوان، لأبدأ في وضع لمسات على تلك اللوحة.
ولكنني ارتبكت. تحولتأمامها إلى ذلك الرسام المبتدئ الذي كنته منذ خمس وعشرين سنة.
ترى قرابتهاالجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه الصبغة المربكة؟
أم تراني كنت مرتبكاًلأنني كنت أجلس أمام الماضي لا غير.. لأضفي على الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض "الرتوشات"؟
كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة. وأدري_رغم رغبتي المضادةللمنطق_ أنه لا ينبغي أبداً العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله، ليست سوىمحاولة لتشويهه.
كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقني فجأة هكذا.. كان كلّ شيء فيها مبسّطاً حدّ السذاجة، فلماذا لا أواصل رسمها اليوم، ولماذا لاأعاملها بمنطق فنّي لا أكثر؟
ألم يقضِ ( شاغال) خمس عشرة سنة في رسم إحدىلوحاته؟ كان يعود إليها دائماً بين لوحة وأخرى ليضيف شيئاً أو وجهاً جديداً عليها،بعدما أصرَّ على أن يجمع فيها كلّ الوجوه والأشياء التي أحبها منذطفولته؟
أليس من حقي أيضاً أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع على هذا الجسربعض خطى العابرين، وأرشّ على جانبيه بعض البيوت المعلّقة فوق الصخور، وأسفله شيئاًمن ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيلاً أحياناً، ورقراقاً زبديّاً أحياناً أخرى.. ألم يعد ضرورياً أن أضع عليها بصمات ذاكرتي الأولى، التي كنت عاجزاً عن نقلها فيالسابق، يوم كنت رساماً مبتدئاً وهاوياً لا غير؟
لا أدري كيف تذكّرت لحظتهاروجيه نقّاش، صديق طفولتي.. وصديق غربتي.
ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقهبذكراها، هو الذي لم يعد إليها أبداً منذ غادرها سنة 1959 مع أهله، ومع فوج منالجالية اليهودية التي كانت تريد أن تبني لها مستقبلاً آمناً في بلد آخر.
لكيحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصرّ على أن يسمعني شريطاً جديداً للمطربةاليهودية "سيمون تمّار" وهي تغني المالوف والموشَّحات القسنطينية بأداء وبصوت مدهش،مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر، الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك.. والذييزيّن غلاف شريطها.
منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يدزوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحبّ رجل عربي.
سألته إن كان ذلكحقاً.. أجابني.. "لا أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحبقسنطينة".
وروجيه أيضاً كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرةواحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذةغرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال..
وكنت أشعر بمزيج من السعادةوالإحراج معاً وأنا أستمع إليه، يقصّ عليّ بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمسربع قرن من البعد أيّ نبرة فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة!
وكان يزيدإحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس لأستقر فيها. فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أن يسهّل عليّ_دون أن أطلب منه_ كثيراًمن المعاملات والمشكلات التي تواجه رجلاً في وضعي.
ذات مرة سألته "لماذا لمتعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس مازالوا يعرفون أهلكفي ذلك الحيّ ويذكرونها بالخير.." أذكر وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس ألا يعرفنيالناس هناك، بل ألا أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك الأزقّة.. وذلك البيت الذي لم يعدبيتي منذ عشرات السنين..".
ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالتهناك.. وأنها تعطي تيناً كل سنة، وأن ذلك الشباك مازال يطلّ على ناس كنت أحبهم.. وذلك الزقاق الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب شيء علىالإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها.."
كان في عينيه يومها لمعة دموعمكابرة، فأضاف بشيء من المزاح "لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخافأن أواجه ذاكرتي وحدي..".
اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كلامه فجأة_ هو الذيلم يطرح معي ذلك الموضوع بعد ذلك أبداً_
تراه نجح حقاً في التحايل علىذاكرته؟
وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتهاالأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم بعدها كل شيء داخلناكواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة.
أقنعني ذلك المنطق،وشعرت أن هاتف كاترين أنقذني بطريقة غير مباشرة من حماقة كنت على وشكارتكابها.
لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا أضفت إليهاشيئاً هنا، أو طمست فيها شيئاً هناك.. ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزوّرة.. وهل يهمعندئذٍ أن نكون أجمل؟
نظرت إلى خشبة الألوان التي كانت بيدي. فكّرت أنه رغمذلك لا بد أن أفعل شيئاً بهذه الألوان.. وبهذه الفرشاة العصبية التي كانت تترقّبمثلي لحظة الخلق الحاسمة.
وفجأة وجدت الحلّ في فكرة بسيطة ومنطقيّة لم تخطرببالي.
رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها لوحة بيضاء جديدة،ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة أخرى، بسماء أخرى، بوادٍ آخر وبيوت وعابرين.
رحتهذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ بها، وكأن أمر الجسر لم يعد يعنيني فيالنهاية، بقدر ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف عليها. وتلك النباتات التيتبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة (أو عفونة) الأعماق. وتلك الممرات السرية التيحفرتها خطى الإنسان وسط المسالك الصخرية. منذ أيام (ماسينيسا) وحتى اليوم، في غفلةمن الجسر العجوز الذي لا يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما يحدث على علو 700 مترمن أقدامه!
أليس التحايل على الجسور هو الهدف الأزلي الأول للإنسان الذييولد بين المنحدرات.. والقمم؟
أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛وأدهشني أكثر، كون هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذربع قرن، يوم رسمت هذا الجسر نفسه لأول مرة.
ترى لأنني كنت في بدايتيالأولى، محكوماً بالخطوط العريضة للأشياء كأيّ مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم يكنيتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك الدكتور_ أو إدهاش نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيدٍواحدة؟
وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت شيئاً لأحد. أريدفقط أن أعيش أحلامي السرية، وأن أنفق ما بقي لي من وقت في طرح أسئلة.. كان الجوابعليها في الماضي ترفاً.. ليس في متناول الشباب. ولا في متناول.. ذلك المناضل أوالمجاهد المعطوب الذي كُنتُه..
ربما لأن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بلكانت وقتاً جماعياً نعيشه بالجملة، وننفقه بالجملة.
كان وقتاً للقضاياالكبرى.. والشعارات الكبرى.. والتضحيات الكبرى. ولم يكن لأحد الرغبة في مناقشةالهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة.
تراها حماقة الشباب.. أم حماقةالثورات!
█║S│█│Y║▌║R│║█
أخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية الأحد، وقسماً كبيراً من الليل. ولكنني كنت سعيداً وأنا أرسم، وكأنني كنت أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي" يعود ليقوللي بعد ذلك العمر "ارسم أحبّ شيء إلى نفسك".
وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها،بالارتباك نفسه.
ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمريناً في الرسم. كانتمريناً في الحبّ.
كنت أشعر أنني أرسمك أنتِ لا غير. أنت بكل تناقضك. أرسمنسخة أخرى عنك أكثر نضجاً.. أكثر تعاريج. نسخة أخرى من لوحة كبرت معك.
كنتأرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل وربَّما بشهوة ورغبة سرية ما..
فهل بدأتشهوتك تتسلّل يومها إلى فرشاتي، دون أن أدري؟!
***
في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعة تماماً.
جاء شلال فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها على وسادتي.
كنت أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد ليلة مرهقة من العمل. شعرت أنه يشرع نوافذ غرفتي، ويقبّلني قبلة صباحية.
- هل أيقظتك.؟
- لا أنت لم توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم لا أكثر!
قلتِ بلهجة جزائرية بين المزاح والجدّ:
- علاش.. إن شاء الله خير..
قلت:
- لأنني رسمت حتى ساعة متأخرة من الليل..
- وما ذنبي أنا؟
- لا ذنب لك سوى ذنب الملهم.. يا ملهمتي!
صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين السيطرة على أعصابك:
- ah.. non!
ثم أضفتِ:
- أتمنى أنك لم ترسمني.. يا لها من كارثة معك!
- وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟
واصلت بصوت عصبي:
- أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها القاعات من مدينة إلى أخرى، يتفرّج عليها كل من يعرفني؟!
كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما من فرط سعادتي، وربما لأنني مجنون حقاً، ولا أعرف كيف أكون سعيداً مثل الآخرين.
قلت لك:
- أما قلتِ مرّة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر، وأنهم ليسوا سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك لا يعني شياً، سوى أنني صادفتك يوماً في طريقي لا غير!
صحت:
- أأنتَ أحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع الآخرين أنك رسمتني بعدما صادفتني مرة على رصيف، واقفة مثلاً أمام ضوء أحمر.. إننا لا نرسم سوى ما يثيرنا.. أو ما نحبه.. هذا معروف!
تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك الاعتراف، وتدورين حوله، أم كنت من الحماقة لتصدّقي زعمي بأنني لا أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة الصباحية، وفي ذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقرّبني منك في آن واحد.. مناسبة لمصارحتك.
قلت:
- لنفترض إذن أنني أحبّك.!
كنت أنتظر وقع الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة لكلامي. ولكنك قلت بعد لحظة صمت:
- ولنفترض إذن.. أنني لم أسمع!
أدهشتني..
لم أفهم تماماً إذا كنت تجيدين ذلك "التصريح" أقل أو أكثر
مما توقعت، أم أنك كعادتك تتلاعبين بالكلمات بمتعة مدهشة، وأنت تدرين أنك تلعبين بأعصابي لا غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل آخر.
- أين نلتقي؟
كان هذا هو السؤال الأهم الذي قررنا أن نجيب عليه بجدية.
تناقشنا طويلاً في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب فيه قهوة، أو نتناول فيه وجبة الغداء معاً.
ولكن باريس ضاقت بنا.
كنت لا تعرفين غير الأماكن التي يرتادها الطلبة. وكنت لا أرتاد غير المقاهي القريبة من حييّ. قررنا أن نلتقي في أحد المقاهي المجاورة لبيتي والتي تقدم وجبات غداء.
وكنت أقترف إحدى حماقاتي الكبرى.
لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.
لم أعد أذكر الآن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا. وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا، بعدما تعوّد أن يختار لنا زاوية جديدة كلّ مرة، تتلاءم مع مزاجنا المتقلّب، خلال شهرين من السعادة المسروقة..
كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار، وحسب ساعات دراستك وبرنامج أعمالي.
تعودت أن تطلبيني هاتفياً كل صباح في الساعة التاسعة، وأنت في طريقك إلى الجامعة. ونتّفق كل صباح على برنامج لك اليوم الذي لم بعد لنا فيه في النهاية من برنامج سوانا.
كنت أتدحرج يوماً بعد آخر نحو هاوية حبّك، أصطدم بالحجارة والصخور، وكل ما في طرقي من مستحيلات. ولكنني كنت أحبك. ولا أنتبه إلى آثار الجراح على قدمي، ولا إلى آثار الخدوش على ضميري الذي كان قبلك إناء بلّور لا يقبل الخدش. وكنت أواصل نزولي معك بسرعة مذهلة نحو أبعد نقطة في العشق الجنوني.
وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبّك. على الأقل حتى تلك الفترة التي كنت مكتفياً فيها بحبك، بعدما أقنعت نفسي أنني لا أسيء إلى أحد بهذا الحب.
وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت تكفيني تلك العاطفة الجارفة التي تعبرني لأول مرة، بسعادتها المتطرفة أحياناً, وحزناه المتطرف أحياناً أخرى..
كان يكفيني الحب.
متى بدأ جنوني بك؟
يحدث أن أبحث عن ذلك التاريخ وأتساءل.. ترى أفي ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة؟ أم في ذلك اليوم الذي انفردت بك فيه لأول مرّة؟ أم في ذلك اليوم الذي قرأتك فيه لأول مرة؟.
أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، لأرسم فيه قسنطينة.. كأول مرة!
ترى يوم ضحكتِ أم يوم بكيت.
أعندما تحدَّثتِ.. أم عندما صمتِّ.
أعندما أصبحتِ ابنتي.. أم لحظة توهَّمت أنك أمي؟!
أيّ امرأة فيك هي التي أوقعتني؟.
كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الدمية الروسية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا تكون سبع دمى داخل واحدة!
كنت كلّ مرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بكِ تأخذين في بضعة أيام ملامح كل النساء. وإذا بي محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن عليّ في حضورك وفي غيابك، فأقع في حبّهن جميعاً.
أكان يمكن لي إذن أن أحبّك بطريقة واحدة؟
لم تكوني امرأة.. كنت مدينة.
مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهنَّ وفي ملامحهن؛ في ثيابهنَّ وفي عطرهنَّ؛ في خجلهنَّ وفي جرأتهنَّ؛ نساء من قبل جيل أمي إلى أيامك أنتِ.
نساء كلهن أنتِ.
عرفت ذلك بعد فوات الأوان. بعدما ابتلعتني كما تبتلع المدن المغلقة أولادها.
كنت أشهد تحولك التدريجي إلى مدينة تسكنني منذ الأزل..
كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوماً بعد يوم ملامح قسنطينة، تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها وذاكرتها ومغاراتها السرية، تزورين أولياءها، تتعطرين ببخورها، ترتدين قندورة عنّابي من القطيفة، في لون ثياب "أمّا"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد أسمع وقع خلخالك الذهبي يرنّ في كهوف الذاكرة.
أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين للأعياد.
وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا "تساء" على الطريقة القسنطينية.
كنت أناديك مدلّلاً "يالا" كما لم يعد الرجال ينادون النساء في قسنطينة.
كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته قسنطينة دون غيرها، عن أهل قريش من عصور.
وكنت، كنت عندما يجرّدني عشقك من سلاحي الأخير، أعترف لك مهزوماً على طريقة عشاقنا "نِشتيك.. يعن بُو زَيْنِك!".
تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي اختصروها منذ زمان لتخفي معناها الأصلي، وتتحول إلى كلمة ودّ لا غير.
فقسنطينة مدينة منافقة، لا تعترف بالشهوة ولا تجيز الشوق؛ إنما تأخذ خلسة كل شيء، حرصاً على صيتها، كما تفعل المدن العريقة.
ولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضاً.. والسرّاق!
ولم أكن سارقاً، ولا كنت وليّاً، ولا شيخاً يدّعي البركات، لتباركني قسنطينة.
كنت فقط، رجلاً عاشقاً، أحبك بجنون رسّام؛ بتطرف وحماقة رسام، خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها، وتقديم القرابين لها.
وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبّينه في حبّي!
ذات يوم قلت لي:
كنت أحلم أن يحبّني رسّام. قرأت عن الرسامين قصصاً مدهشة. إنهم الأكثر جنوناً بين كلّ المبدعين. إنّ جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. لا يشبه في شيء ما يُقال عن الشعراء مثلاً أو عن الموسيقيين. لقد قرأت حياة فان غوغ.. دولاكروا.. غوغان... دالي.. سيزان.. بيكاسو وآخرين كثيرين لم يبلغوا هذه الشهرة. أنا لا أتعب من قراءة سيرة الرسّامين.
في الواقع شهرتهم لا تعنيني بقدر ما يعنيني تقلّبهم وتطرّفهم. تهمني تلك اللحظة الفاصلة بين الإبداع والجنون. عندما يعلنون فجأة خروجهم عن المنطق
█║S│█│Y║▌║R│║█
واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحقّ التأمل والانبهار أحياناً، فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدّينا وتعجيزنا بلوحة ليست سوى حياتهم.
هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقريَّتهم في إنتاجهم. وهنالك آخرون، يصرّون على توقيع حياتهم أيضاً، بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة فريدة، غير قابلة للتكرار أو التزوير..
أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. ولا أظن أن شاعراً يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه فان غوغ مثلاً في لحظة يأس واحتقار للعالم، عندما قطع أذنه ليهديها إلى غانية..
أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد أذكر اسمه، والي شنق نفسه، بعدما علَّق في سقف غرفته، لوحة المرأة التي أحبها والتي قضى أياماً في رسمها. وهكذا توحّد معها على طريقته.. ووقّع لوحته وحياته معاً مرة واحدة.
قلتُ:
- إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة على تعذيب أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس كذلك؟.
أجبتِ:
- لا.. ولكن هنالك لعنة ما تلاحق الرسامين دون غيرهم؛ وهنالك جدلية لا تنطبق إلا عليهم. فكلّما زاد عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم. حتى إن موتهم يوصلها إلى أسعار خيالية، وكأن عليهم أن ينسحبوا لتحلّ هي مكانهم.
لم أناقشك في رأيك.
رحت أستمع إليك وأنت ترددّين كلاماً أعرفه، ولكن فاجأني منك.
لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني لاحتمال جنوني، أو لشيء آخر. ولا أن تكون نيّتك اللاشعورية تحويلي إلى لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي.
هل سيزيد عذابي حقاً، من قيمة أية لوحة سأرسمها كيفما كان، تحت تأثير جوعي أو نوبة جنوني؟
اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفنّ ترى؟.. وأين تبدأ النزعة السادية عند الآخرين؟
كنت أعتقد أن هذه الجدلية لا علاقة لها بالإبداع ولا بالفن، وإنما بطبع الإنسان لا أكثر.
نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات الآخرين، ونعتقد، عن أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء ليصلب مكاننا.
عذابه يحزننا و يسعدنا في آن واحد. قصّته قد تبكينا، ولكنها لن تمنعنا من النوم، ولن تدفعنا إلى إطعام فنان آخر، يموت جوعاً أو قهراً أمامنا. بل إننا نجد من الطبيعي أن تتحول جراح الآخرين إلى قصيدة نغنيها، أو لوحة نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسبب نفسه.
فهل الجنون قُصر حقاً على الرسامين دون غيرهم؟
أليس هو قاسماً مشتركاً بين كلِّ المبدعين، وكل المسكونين بهذه الرغبة المرضيّة في الخلق؟
فالذي لا يمكن بحكم منطق الإبداع نفسه، أن يكون إنساناً عادياً، بأطوار عادية وبحزن وفرح عاديّ. بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة والتعاسة.
إنه إنسان متقلّب، مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد مبرراً لسلوكه.
كان ذلك أول يوم حدّثتك فيه عن زياد.
قلت:
- لقد عرفت شاعراً فلسطينياً كان يدرس في الجزائر. كان سعيداً بحزنه وبوحدته؛ مكتفياً بدخله البسيط كأستاذ للأدب العربي، وبغرفته الجامعية الصغيرة، وبديوانين شعريّين. حتى ذلك اليوم الذي تحسّنت أحواله المادية، وحصل على شقة وكان على وشك الزواج من إحدى طالباته التي أحبّها بجنون، والتي قبل أهلها أخيراً تزويجها منه.
عندما قرّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي..
عبثاً حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته تلك، وإصراره على الرحيل عندما أوشك أخيراً أن يحقق أحلامه. وكان يجيب ساخراً "أيّ أحلام.. أنا لا أريد أن أقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشرّد.. فعندها لن يكون لأيّ شيء أمتلكه من قيمة..".
ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي خلفه كي يبوح لي بسرٍّ: "ثم.. لا أريد أن أنتمي لامرأة.. أو إذا شئت لا أريد أن أقيم فيها.. أخاف السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق للشعراء..".
وكانت الفتاة التي أحبّته تزورني راجية أن أقنعه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب إلى الموت وإلى حتفه المؤكد. ولكن عبثاً، لم تكن هناك حجة واحدة لإغرائه بالبقاء.. بل إنه في تطرفه المفاجئ، أصبح يجد في حججي ما يزيده إغراءً بالرحيل.
أذكر أنه قال لي يومها بشيء من السخرية، وكأنه يعطيني درساً في الحياة:
"هناك عظمة ما، في أن نغادر المكان ونحن في قمة نجاحنا. إنه الفرق بين عامة الناس.. والرجال الاستثنائيين!".
سألتك إن كنت تعتقدين أنّ شاعراً كهذا، هو أقلّ جنوناً من رسام قطع أذنه؟
لقد استبدل براحته شقاءً لم يكن مرغماً عليه. واستبدل بحياته موتاً، دون أن يكون مجبراً عليه.
لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابراً وليس مهزوماً ومكرهاً. إنها طريقته في أن يهزم مسبقاً شيئاً لا يُهزم، وهو الموت.
سألتني بلهفة:
- هل مات؟
قلت لك:
- لا.. إنه لم يمت.. أو على الأقل مازال على قيد الحياة حتى تاريخ بطاقته الأخيرة التي بعث إليّ بها في رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريباً.
ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن أفكارنا معاً ذهبت إليه..
قلت لك:
- أتدرين أنه كان سبباً غير مباشر في مغادرتي الجزائر؟ معه تعلّمت أنه لا يمكن أن نتصالح مع كل الأشخاص الذين يسكنوننا، وأنه لا بد أن نضّحي بأحدهم ليعيش الآخر. وأمام هذا الاختبار فقط نكتشف طينتنا الأولى، لأننا ننحاز تلقائياً إلى ما نعتقد أنه الأهم.. وأنه نحن لا غير.
قلت وأنت تقاطعينني:
- صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى فرنسا؟
أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر أوصدته الخيبات:
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)