تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة وأبلغهم عن عودته من السفر...
على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..
اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت وحزنت كثيرا...
كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما هي ذكريات والدينا رحمهما الله...
لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد أبدا..
وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..
أما الثاني فهو بلا شك رغد...
وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..
وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة لبعض الوقت..
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي وللمفاجأة كان مفتوحا.
رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:
"السلام عليكم".
"مرحبا سامر... وعليكم السلام ورحمة الله".
وكان صوته منهكا:
"كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول".
"سلمك الله".
يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.
سألته:
"ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟"
"نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس".
سألت:
"أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟"
"نعم.. نعم".
قلت:
"تبدو مشغولا".
أجاب:
"أجل.."
قلت:
"حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف.."
"حسنا".
وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.
بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.
على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.
باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..
كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي الموثق... يحوي وثائق هامة... طلب مني الاحتفاظ بها... وأخبرني بأنه مسافر إلى خارج البلاد للاستجمام.
الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج...
هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب...
ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..
عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.
بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)
كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر هستيري.
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد...
******************************
منذ ذلك اليوم المشؤوم... الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي... ووالدتي طريحة الفراش في المستشفى والأطباء قرروا إجراء عملية جراحية لقلبها المريض.. أخيرا...
كان خالي يواضب على الاتصال بوليد الذي لم يكن يجيب... حتى رد اليوم وأبلغ خالي بأنه مسافر إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.
تدهورت صحة والدتي لما علمت بالخبر من خالي.. وها نحن نجلس إلى جانبيها في غرفة العناية القلبية المركزة.. والطبيب يبقي كمامة الأوكسجين على وجهها ويمنعها عن بذل أي مجهود يتعب قلبها.
أنا أمسكبيدها أضمها إلى صدري وأقبلها وأدعو الله أن يشفيها عاجلا...
التفت والدتي إلي وسألتني:
"ألم تتصلي بزوجك؟"
فأجبتها:
"كلا".
فقالت:
"هل يعلم بأنني في المستشفى؟"
فقلت:
"نعم. فقد أخبره خالي بذلك".
ونظرت إلى خالي الذي حرك رأسه مؤيدا. فقالت أمي:
"إذن لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس من عادته التخلف في موقف كهذا".
أجاب خالي:
"لأنه مسافر حاليا".
فنظرت إلي وشدت على يدي وقالت:
"يا ابنتي.. هل تخفين عني شيئا؟"
فقلت:
"كلا".
ولكنها بدت متشككة واستدرت إلى خالي وسألت:
"هل تخفون عني شيئا يا أخي؟"
فقال أخي:
"ربما حصل شيء.. بعد ذلك الشجار... ربما وليد نفذ ما طلبته أروى... لا أريد أن أرحل وأنا غير مطمئنة على ابنتي".
قربت رأسي من رأس أمي وأخذت أحضنها وأقبلها وأقول:
"لا تقولي هذا يا أمي أرجوك".
وهي تتابع:
"الأعمار بيد الله.. نسأله حسن الخاتمة".
فلم أتمالك نفسي وفاضت الدموع في عيني.. وقلت:
"أرجوك يا أمي لا تتحدثي هكذا.. شفاك الله ومد في عمرك.. أنا من لي غيرك في هذه الدنيا؟"
وأحسست بيدها تمتد وتلامس يدي ثم سمعتها تقول:
"لا زوجك.. وخالك.. يرعاكم الله".
ثم التفتت إلى خالي وقالت:
"أخي يا قرة عيني.. أحضر وليد وصالحهما أصلح الله لك آخرتك.. الشاب جيد ومن خيرة الرجال وأنا ما كدت أصدق أنني وجدت من أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي".
خالي مسح على رأس أمي وقال:
"لا تشغلي بالك بهذه الأمور يا أم أروى هداك الله.. إنه شجار عابر يحصل بين أي زوجين وينتهي".
لكن أمي أبدت عدم التصديق مخاطبة خالي:
"لا تدعه يذهب يا إلياس.. ما كان نديم ليطلب من شخص عادي أن يهتم بعائلته".
ثم التفتت إلي وقالت:
"لو لم يكن رجلا بمعنى الكلمة.. لما تمسك بالمسؤولية عن ابنة عمه اليتيمة بهذا القدر".
وشددت على يدي وقالت:
"تمسكي به يا أروى.. لا تفرطي به.. يهديك الله".
******************************
تتمـــــــــــــه
*************
حصلت على أقرب موعد ممكن مع أحد أطباء العظام في إحدى المستشفيات الكبيرة في المدينة الصناعية واليوم سآخذ رغد من أجل المعاينة ومتابعة العلاج.
استخرجت الظرف الذي أرسله لي شقيقي قبل سفره وقلبت الأوراق لاستخراج التقرير الطبي.
وأثناء ذلك اطلعت على مجمل الأوراق وبشكل أخص على ورقة التوكيل.
كانت ورقة رسمية وموثقة من قبل مكتب المحامي يونس المنذر وهو شخص سبق لوليد وأن أخبرني بأنه يعمل معه في المصنع.
ذكر في هذا التوكيل أمورا كثيرة يفوضني لتوليها وفي الأسفل ذكرت جملة الاستثناءات.. وفي الواقع لم يكن هناك غير استثناءين اثنين...
الزواج والسفر!
ويحك يا وليد!
وهل تظن مثلا بأنني سأستخدم هذا التوكيل وأعيد رغد إلى ذمتي وأهرب بها بعيدا؟؟
ليتني أستطيع ذلك..
أخذت أوراق التقرير الطبي وذهبت إلى بيت أبي حسام.
تمنيت أن أقابل رغد بحالة أفضل ولكنها كانت بحالة يرثى لها..
"لا أريد أن أذهب إلى أي مكان... ومن فضلك يا سامر لا تضغط علي..."
هذا ما استقبلتني به فقلت:
"بربك رغد! لا بد من معاينة إصابتك ومتابعة علاجك. بل إنني أخشى أن نكون قد تأخرنا ويصيب قدمك أو يدك شيء لا قدر الله".
قالت بلا مبالاة:
"لا فرق عندي".
لن أبذل الجهد في محاولة تشجيعها فنبرتها أشد كآبة من أن تتغلب كلماتي عليها...
لكنني قلت برجاء:
"يا رغد.. يجب أن نزور الطبيب حتى تتخلصي من هذا العكاز وهذه الجبيرة.. هل يعجبك أن تظلي معاقة عن الحركة الطبيعية وحتاجة لمساعدة الآخرين في أبسط الأشياء؟"
وكانت الآنسة نهلة تجلس معنا وسترافقنا إلى المستشفى, فقالت مشجعة رغد:
"على العكس. أنها تريد التخلص من هذين بسرعة. أليس كذلك؟ اشتاقت إلى الرسم ونتوق لفنها الرائع! هيا بنا عزيزتي".
لكن ردة فعل رغد جاءت عنيفة!
انفجرت صارخة:
"قلت لكما اتركاني وشأني... لا أريد الذهاب إلى أي مكان... إلا إذا شئتما حملي إلى المقبرة ودفني تحت الأرض... لأرتاح وأريحكم جميعا..."
قالت الآنسة نهلة بعد الدهشة:
"بعد ألف شر! لا تتكلمي هكذا يا رغد".
فردت رغد بانفعال:
"ما لم يعجبكم كلامي فحلوا عني... لماذا تضغطون علي؟؟ أتركوني وشأني... أتركوني وشأني.."
وهمت بمغادرة المجلس حيث كنا هي وأنا والآنسة نهلة جالسين... في ذات الوقت دخلت الخالة أم حسام الغرفة وهي تنظر نحو رغد ويظهر أنها سمعت صوتها الصارخ وكلامها الزاجر...
لما رأت رغد خالتها تصرفت بعصبية أكبر وغيرت اتجاه سيرها واستدارت نحو الباب الخارجي للمجلس وخرجت إلى الفناء...
أم حسام لحقتها بسؤال:
"إلى أين يا رغد؟"
والأخيرة ردت بحدة:
"إلى حيث ألقت".
وهذه إجابة وبأسلوب لم أعهده على رغد. فهي لطالما كانت تحب خالتها وتعاملها بكل احترام ومودة كما وأن رغد فتاة مهذبة وهادئة الطباع وراقية الأسلوب.
هذا تحول غريب في شخصيتها صبغها به حزنها وغضبها بسبب سفر وليد.
وبعد أن انصرفت رغد خاطبتني الخالة متسائلة:
"هل وافقت؟"
فأجبت إجابة مخيبة:
أبدا. لم تعرني أذنا صاغية. جل ما أخشاه هو أن تتطور إصابتها للأسوأ لا قدر الله".
فقالت الخالة آسفة:
"إنها لا تستمع إلي وترمقني بنظرات الاتهام وتشعرني بأنني ارتكبت جريمة عظمى في حقها. أيرضيك أن ندعها تسافر مع وليد بمفردهما؟؟ هل هذا يليق؟؟"
ولم أشأ فتح المجال لها لإدارة موضوع هكذا الآن, وفي خاطري نقمة على المعاملة السيئة التي عومل بها شقيقي من قبلها وآثرت أن أصرف الاهتمام إلى إصابة رغد فقلت:
"سألحق بها وأحاول إقناعها... على الأقل ولو بزيارة واحدة للطبيب الآن".
ونهضت واستأذنت وخرجت إلى الفناء أتعقب رغد.
فوجدتها تسير ببطء بعكازها متغلغلة في الحديقة حتى وقفت عند إحدى الأشجار الباسقة فاستندت إليها وأطلقت بصرها نحو الأعلى.
توقفت على بعد مترين أو أكثر منها ثم سألتها:
"أيمكننا التحدث؟"
ردت بضيق:
"أرجوك لا تتعب نفسك وتتعبني... لن أذهب إلى المستشفى ولا يهمني ما يحل برجلي ولا بيدي... لن أخسر شيئا إن فقدتهما أيضا إزاء كل ما فقدت".
الحزن بلغ بها لهذا الحد... وحزنها يعصرني... قلت بلطف مشجعا:
"أنت لم تخسري شيئا يا رغد..."
فرمتني بنظرة قوية وقالت:
"ما حجم الخسارة التي تريدون مني فقدها حتى يمكنكم رؤيتها؟؟"
رددت:
"لا أحد يريد لك خسارة شيء... رغد لا تنظري للأمر هكذا".
وضغطت على أعصابي وأضفت:
"إنه سافر مؤقتا ولم يرحل عن الدنيا لا سمح الله".
وأخذت تعبيرات وجهها تنهار شيئا فشيئا... وتابعت:
"وسيعود حتما بإذن الله."
أطرقت برأسها وقالت نافية:
"لن يعود... لقد تخلى عني... أخلف بوعده... إنه دائما يخلف بوعوده.... لطالما كان يتركني ويسافر بعيدا... يظن أنني سأبقى حية لحين عودته ذات يوم... لا يعرف أنني سأموت عاجلا بسببه".
عضضت على أسناني بمرارة وتحملت الألم وقلت:
"بعد ألف شر وشر... لا تكوني متشائمة هكذا... لقد أخبرني بأنه سيقضي بضعة أسابيع للاستجمام هناك ثم سيعود".
قالت مصرة:
"لن يعود إلي... ألم ينقل كفالتي إليك؟ تبرأ من مسؤوليتي... انتهينا".
وكم ألمت لألمها وتجرعت مرارتها. عقبت:
"الوصاية التي أسندها إلي جزئية ومؤقتة. لا تخشي... ستعودين إلى كنفه ورعايته فور مجيئه".
ولكن رغد أومأت برأسها عدم التصديق وبأسى قفلت:
"بلى... ولكن... هل أنا سيء لهذا الحد؟؟"
هنا حملقت بي وكأنها للتو تدرك أنني سامر خطيبها السابق والذي يحبها كثيرا...
تبدلت سحنة وجهها وقالت بصوت كئيب:
"أنت... أعز إنسان على قلبي... سامحني..."
وكانت تقول بمرارة وندم... وقد تكون اللحظة الأولى التي تكتشف فيها رغد كم قست علي وجرحتني وإلى أي عمق طعنت قلبي...
تابعت رغد:
"ليته لم يظهر في حياتي من جديد... ليتني لم أقترب منه... كم أنا حمقاء... حمقاء وغبية وواهمة... أتعلق بالأوهام... والخيالات المستحيلة... وواقعي... فتاة يتيمة وحيدة بائسة معدمة..."
وضربت بعكازها جذع الشجرة وتابعت:
"ومعاقة وعاجزة وعالة على الآخرين".
قلت معترضا:
كفى يا رغد... لا تصفي نفسك بهذا وأنت العزيزة الغالية وكلنا رهن إشارتك".
لكنها واصلت بكآبة:
"ما الذي كنت أتوقعه لنفسي؟؟ البلهاء... ما الذي كان سيجعله يختارني؟؟ ما الذي لدي ويستحق العودة من أجله؟؟ ماذا أملك أنا ليعجبه؟؟ أنا لم أثر لديه إلا الإزعاج والقلق والمشاكل..."
وأضافت:
"وبعد كل هذا... تأتي خالتي وعائلتها ويهينونه في بيتهم وعلى مرأى ومسمع مني... كيف أنتظر منه أن يعود من أجلي؟؟ يا لي من حمقاء... غبية".
قلت:
"هوني عليك أرجوك... لم كل هذا؟؟ بالله عليك... إن هي إلا فترة مؤقتة ويعود ونصلح الشروخ الحاصلة بين الجميع.. ليس شقيقي من النوع الذي يهرب من المسؤوليات والشدائد بل هو أهل لها".
فقالت منفعلة:
"إذن لماذا لا يرد على اتصالاتي؟؟ لماذا قاطعني؟؟"
أجبت محاولا تحسين الموقف وتبريره:
"تعرفين... إنه غاضب ولا يحسن المرء التصرف في ثورة الغضب. عندما يهدأ سيتصل بك".
فقالت:
"ما ذنبي أنا؟؟... لماذا يشملني في غضبه ومقاطعته؟"
قلت:
"أعذريه يا رغد... ربما كانت خالتك بالغة القسوة عليه".
قالت:
"كلهم قساة... وليد أشرف وأرقى منهم جميعا... سوف لن أغفر لهم إهانتهم له... وإذا لم يعد ويأخذني معه فسوف لن أبقى في هذا المنزل... وسأعود إلى بيتي المحروق وأدفن نفسي تحت أنقابه".
يتضح لكم مدى الاكتئاب الذي ألم برغد جراء سفر وليد... لم أفلح يومها في إقناعها بالذهاب إلى المستشفى وحالما عدت إلى شقتي هاتفت شقيقي وأبلغته عن هذا فوبخني وألقى بالمسؤولية علي وقال لي بالحرف الواحد:
"أنت المسؤول عنها الآن ويجب أن تتصرف ولا تدع عنادها يتغلب عليك. أرحني من همها بضعة أسابيع لا أكثر فأنا قرحتي تكاد تمزق أحشائي".
وفهمت من كلامه بأن وضعه الصحي متدهو وقلقت كثيرا... وربما يكون الطبيب هو من نصحه بالسفر والاستجمام بعيدا عن المشاكل والمسؤوليات من أجل صحته...
خصوصا وأنني لاحظت إكثاره من تناول الأدوية خلال فترة مكوثه في شقتي...
واهذا تحاشيت في المكالمات التالية وقدر الإمكان إبلاغه بالتفاصيل المزعجة عن وضع رغد وادعيت بأنها في تحسن بينما هي عكس ذلك...
إلى أن حل يوم احتد الجدال فيه بين رغد وخالتها واتصلت بي هي بنفسها وطلبت مني أخذها إلى المستشفى.
لم يكن هدفها هو المستشفى بل الابتعاد عن خالتها...
زرنا الطبيب وعاينها واطلع على تقاريرها وأجرى لها بعض الفحوصات ثم أخبرنا بأنه لا يزال أمامها أسابيع أخرى قبل أن يمكنها الاستغناء عن الجبيرة والعكاز...
وهذا خبر لم يزد رغد إلا كآبة ما كان أغناها عنها... فانزوت على نفسها في غرفتها بقية اليوم.
اتصلت بشقيقي مساءً وأعلمته بأننا زرنا الطبيب أخيرا وأخبرته بما قال, كما أوصاني مني مسبقا.. ولكنني أخفيت عنه مسألة الإحباط الشديد الذي ألم برغد وطمأنته على صحتها... وأذكر أنه يومها سألني بتشكك:
"لأا تخفي عني شيئا؟؟ هل حقا تقبلت النبأ؟"
فقلت له:
"أسألها بنفسك لتتأكد!"
قال:
"سأفعل, في الوقت المناسب".
والله الأعلم متى يحين الوقت المناسب حسب معادلة وليد...!
ومرت أيام أخرى... والحال كما هي.
وليد غائب ويتابع أخبار رغد عن بعد ويرفض التحدث معها أو أقاربها أو عن شجاره معهم... وهي في كآبة مستمرة لا تعرف حتى البسمة السطحية إلى وجهها طريقا... إلى أن طلبت مني الخالة أن أزورهم ذات مرة...
"لا أفعل هذا إلا من أجل رغد... الفتاة تذبل يوما بعد يوم وأخشى أن تموت بين يدي... معاملتها ونظراتها لي كلها اتهام ونفور شديدين... وأنا لا أقوى على مواجهتها خشية أن يزداد الموقف حدة ولا أستطيع تحمل وضعها هذا... قلبي منفطر عليها ويكاد الشعور بالذنب يمزقني... أريد أن نتصالح مع وليد لأجلها وأن أفهمه أنني لم أقصد إهانته شخصيا بل توضيح حدود علاقته برغد... قل له أن يعود وإلا أنها ستموت أن بقيت على هذه الحال..."
قلت وأنا أعلم كم يرفض وبشدة الحديث عن أو مع عائلة الخالة:
"سأخبره عن رغبتك في محادثته حينما أتصل به".
فقالت:
"اتصل به الآن يا سامر رجاء ودعني أكلمه".
أحرجني الطلب فأذعنت له كارها واتصلت بشقيقي وبعد تبادل التحيات أخبرته بأنني في منزل أبي حسام وأن الخالة أم حسام ترغب وبشدة في التحدث معه, وبدوره أيضا وليد أحرجني جدا حيث قال:
"لا أرغب في التحدث مع أحد يا سامر.. البتة.. أرجوك أنهِ المكالمة".
قلت ووجهي يحمر حرجا:
"ولكن.."
فقال:
"آسف يا سامر سأغلق الهاتف رجاء لا تكرر هذا ثانية. اعذرني ومع السلامة".
وقطع الاتصال.
أبعدت الهاتف عن أذني وعيناي تطئان الأرض خجلا وأم حسام تراقبني ثم قالت:
"لم يشأ التحدث معي أليس كذلك؟"
قلت محرجا:
"إنه.. أعني.."
وطبعا أم حسام فهمت الأمر. قالت مستنكرة:
"ولكن ما هذا الطبع في أخيك؟ يجب أن يكون أرحب صدرا وأوسع بالا وأرقى ذوقا من هذا".
في ذات اللحظة أقبلت رغد تدخل الغرفة سائرة بعكازها وعلى وجهها أمارات القلق والفضول...
لا بد أنها كانت تنتظر المكالمة بصبر نافذ... وبعد تحيتي سألت عما إذا كنا قد أفلحنا في الاتصال بوليد... فأطرقنا برأسينا... وفهمت رغد ما جرى... فطأطأت رأسها حزنا... وتراجعت للوراء...
أم حسام حاولت أن تطيب خاطر رغد فقالت:
"ربما لا يزال ناقما علي... سيبلغه سامر اعتذاري ويطلب الصفح بالنيابة عني... لا أظنه سيرفض اعتذاري هذه المرة".
ولم تعر رغد الكلام أهمية واستدارت لتغادر يائسة... فقالت أم حسام مخاطبة إياي:
"أعد الاتصال به وأخبره بأن رغد هي من يرغب بالحديث معه".
والتفت إلى رغد... موقفي صار غاية في الحرج... واتصلت فلم يرد.
وبقيت أنظار رغد وأم حسام تراقبان وتترقبان بأمل يائس... وضعت الهاتف أخيرا في جيبي وقلت:
"ربما انشغل".
وهو مبرر ندرك زيفه ثلاثتنا... أم حسام قالت:
"بل ربما ينوي قطع الصلة بيننا نهائيا".
فالتفتت رغد إليها وتكلمت منزعجة:
"يقطع صلته بنا؟ ماذا تعنين؟؟ كيف يقطع صلته بي أنا؟؟ إنني ابنة عمه... ومكفولته... لا يجوز له.."
قالت أم حسام:
"كما ترين, لا يريد أن يعطينا فرصة للتصالح معه بتاتا... فبماذا تفسرين هذا؟"
قالت رغد وقد علا صوتها واشتد احمرار وجهها واشتعل الغضب في عينيها:
"أنت السبب ياخالتي.. أنت السبب".
ولم تعقب الخالة فاستمرت رغد في الاتهام:
"دفعته لأان يتركني ويرحل.. ماذا سيحل بي الآن؟"
قالت أم حسام بلطف محاولة تهدئة رغد:
"ستسير حياتك طبيعية بيننا والله يغنينا عنه وعن وصايته... سريع الغضب عنيف الرد..."
وفي الواقع لم يكن يجدر بها قول هذا على مسامعنا وفيما رغد على أهبة الانفجار...
اشتطت رغد غضبا وانتفخ وريد جبينها وهتفت بعنف:
"قلت لك لا تتحدثي عن وليد هكذا.. إذا لم يكن يعني لكم أنتم شيئا فأنا لا أستغني عنه.. ولا أريد وصيا غيره.. وسألحق به أينما ذهب.. ولا أحد له الحق في توجيه حياتي غيره هو.. وليس لأنني يتيمة الأبوين ستعبثون بي كما تريدون.. وإذا تخلى عني كليا فسوف لن أبقى معكم.. سوف لن أسامحكم أبدا لأنكم أنتم السبب.. وما لم تعيدوه إلي فسأخرج بنفسي للبحث عنه.. عسى ألا أعود حية بعد خروجي".
وسارت نحو الباب وغادرت ثائرة...
خين الصمت بيننا أنا والخالة لبعض الوقت ثم إذا بها تقول:
"جن جنونها!!"
وبقيت صامتا.. فواصلت:
"لم أكن أتوقع أنها.. لا تزال مولعة به لهذا الحد.. حتى بعد كل تلك السنين"ز
أثارت الجملة جل اهتمامي وركزت النظر إلى عيني الخالة يعلوني التساؤل..
فقالت هي:
"عندما كانت صغيرة كانت مهوسة به للغاية, حسبناه تعلق طفولي لطفلة يتيمة تبحث عن الحنان.. وكان شقيقك يدللها كثيرا معه أينما ذهب.. والتك رحمها الله كانت قلقة بهذا الشأن.. وكانت تعتقد أنهما حين يكبران قد تتطور علاقتهما...
مع فلرق السن... لكن عندما غاب تلك السنين توقعنا أن تكون قد نسيته وانتهى كل شيء".
ثم أضافت:
"لكن يبدو أن الحنين إلى الماضي قد اجتاح كل عواطفها ولا أعرف... إن كان الآن يعني لها وليد السابق أم أن الأمر قد تخطى ذلك بكثير..."
هنا وقفت شاعرا بالحرج والجرح معا... لم يكن ليخطر ببالي أن لهذا علاقة بالماضي البعيد... وقد أذهلني كلام الخالة وأرسلني إلى غياهب الأفكار...
لكن... ماذا عني أنا؟؟ لا يبدو أن أحدا يكترث لمشاعري أو يقيم لها اعتبارا...
يتحدثون معي عن رغد وكأنها لم تكن خطيبتي لسنين ولم أكن على وشك الزواج منها حين فقدتها فجأة...
"أستأذنك للانصراف الآن".
ذهبت إلى شقتي كئيبا مكسور الخاطر... مشوش الأفكار...
لم يكن كلام خالتي يفارقني... ولم أستطع لا تصديقه ولا تكذيبه... كانت رغد طفلة صغيرة فكيف يمكن أن تكون قد أحبت وليد هذا النوع من الحب في ذلك الزمان؟؟
و... ماذا عن وليد؟؟ هل يعقل أن شيئا ما... كان بينهما حقا؟؟ هل يمكن أن يكون وليد... هل يمكن أن يكون هو أيضا...؟؟؟
يا للسخف...
تحاشيت التفكير قدر الإمكان إلى أن اتصلت بأخي لا حقا... في البداية عاتبته على إحراجي مع أم حسام فلم يكترث..
ثم نقلت إليه تحيات رغد وأشواقها الشديدة إليه وأنا أدوس على قلبي وأتصرف كالرجل الآلي تماما... ودققت في كلامه وردوده جيدا باحثا عن أي دليل يؤدي إلى تأكيد أفكاري أو نفيها... غير أن أخي كان يتحدث ببلادة شديدة.. لم تكشف لي أي شيء...
وأخيرا... داهمتني رغبة ملحة في توجيه سؤال مباشر إليه... غير أنه قال فجأة إنه يتلقى اتصالا آخر وأنهى المكالمة عاجلا...
قررت بعد ذلك مواجهته في الاتصال التالي لتتضح حقائق الأمور...
ولكن... وفي اليوم التالي مباشرة وفيما كنت أجلس في شقتي بكسل في عطلتي الأسبوعية رن جرس الباب وإذا بي أفاجأ بأخي يقف خلفه!!!
اهتز قلبي واصفر لوني وسألت وأنا بالكاد أخرج الحروف صحيحة من فمي:
:وليد!!!... مــــ... ماذا حصل؟؟"
فمد وليد يده وربت على كتفي وقال والخشوع والحزن يكسوان وجهه العريض:
"البقاء لله.. توفيت خالتي أم أروى بالأمس.. إنا لله وأنا إليه راجعون".
*************
متـابـعـــة ممتعـــة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)