ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث
موادعة الحرب بين علي ومعاوية
فكان في أول شهر منها - وهو المحرم - موادعة الحرب بين علي ومعاوية، قد توادعا على ترك الحرب فيه إلى انقضائه طمعًا في الصلح؛ فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف الأزدي، قال: حدثني سعد أبو المجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، قال: لما توادع علي ومعاوية يوم صفين، اختلف فيما بينهما الرسل رجاء الصلح، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة إلى معاوية، فلما دخلوا حمد الله عدي بن حاتم، ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل. فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأت مصلحًا! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عز وجل به. هيهات يا عدي بن حاتم! قد حلبت بالساعد الأشد. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة - وتنازعا جوابًا واحدًا: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال! دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وغياك نفعه. وتكلم يزيد بن قيس، فقال: إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن على ذلك لم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك؛ إن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليًا، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله! فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال له شبث: وإله الأرض وإله السماء، ما عدلت معتدلا. لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها. فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق.
وتفرق القوم عن معاوية، فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة التيمي، فخلا به، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليًا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا. وإني أسألك النصر عليه بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله جل وعز وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت.
قال أبو مخنف: فحدثني سعد أبو المجاهد، عن المحل بن خليفة، قال: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث، قال: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني على بينة من ربي وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، ثم قمت. فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جنبه جالسًا: ليس يكلم رجل منا رجلًا منهم فيجيب إلى خير. ما لهم عضبهم الله بشر! ما قلوبهم إلا كقلب رجل واحد.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد الأزدي، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، أن معاوية بعث إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفةً مهديًا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فع***م عليه فقتلتموه؛ فتادفع إلينا قتلة عثمان - إن زعمت أنك لم تقتله - نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر! اسكت فإنك لست هنك ولا بأهل له! فقام وقال له: والله لتريني بحيث تكره. فقال علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك! لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي؛ أحقرةً وسوءًا! اذهب فصوب وصعد ما بدا لك.
وقال شرحبيل بن السمط: إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله جل ثناؤه بعث محمدًا بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به من الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه ، ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا علينا - ونحن آل رسول الله - فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك!، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس؛ فبايعتهم، فلم يرعني إلا قاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقةً في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل الله عز وجل ولرسوله وللمسلمين عدوًا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، فلا غرو إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا حلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدًا. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
فقالا: اشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا، فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلومًا، ولا إنه قتل ظالمًا، قالا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلومًا فنحن منه برآء، ثم قاما فانصرفا. فقال علي: " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن ستمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون " ثم أقبل عليٌّ على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالهم منكم بالجد في حقكم وطاعة ربكم.
قال أبو مخنف: حدثني جعفر بن حذيفة، من آل عامر بن جوين، أن عائذ بن قيس الحزمري واثب عدي بن حاتم في الراية بصفين - وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم - فوثب عليهم عبد الله بن خليفة الطائي السبولاني عند علي، فقال: يا بني حزمر، على عدي تتوثبون! وهل فيكم مثل عدي أو في آبائكم مثل أبي عدي! أليس بحامي القربة ومانع الماء يوم روية؟ أليس بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟! أليس بابن المنهب ماله، ومانع جاره؟! اليس من لم يغدر ولم يفجر، ولم يجهل ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟! هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أو هاتوا فيكم مثله. أوليس أفضلكم في الإسلام! أوليس وافدكم إلى رسول الله ! أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم نهاوند ويوم تستر؟! فما لكم وله! والله ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون. فقال له علي بن أبي طالب: حسبك يابن خليفة، هلم أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طيىء، فأتوه جميعًا، فقال علي: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالت له طيىء: عدي. فقال له ابن خليفة: فسلهم يا أمير المؤمنين، أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة؟ ففعل، فقالوا: نعم، فقال لهم: عدي أحقكم بالراية. فسلموها له، فقال علي - وضجت بنو الحزمر -: إني أراه رأسكم قبل اليوم، ولا أرى قومه كلهم إلا مسلمين له غيركم؛ فأتبع في ذلك الكثرة. فأخذها عدي. فلما كان أزمان حجر بن عدي طلب عبد الله بن خليفة ليبعث به مع حجر - وكان من أصحابه - فسير إلى الجبلين؛ وكان عدي قد مناه أن يرده، وأن يطلب فيه، فطال عليه ذلك، فقال:
وتنسونني يوم الشريعة والقنا ** بصفين في أكتفهم قد تكسرا
جزى ربه عنى عدي بن حاتمٍ ** برفضي وخذلاني جزاءً موفرا
أتنسى بلائي سادرًا يابن حاتمٍ ** عشية ما أغنت عديك حزمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ** وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ** رأوني ليثًا بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعط ال ** بعيد وقد أفردت نصرًا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم ** سجينًا، وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ** فلم تغن بالميعاد عني حبترا
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال
قال: ومكث الناس حتى إذ دنا انسلاخ المحرم أمر علي مرثد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشأم عند غروب الشمس: الا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله عز وجل، فدعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. ففزع أهل الشأم إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص في الناس يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علي ليلته كلها يعبي الناس، ويكتب الكتائب، ويدور في الناس يحرضهم.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، أن عليًا كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدوًا فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورةً، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترًا، ولا تدخلوا دارًا إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأةً بأذىً، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس.
قال أبو مخنف: وحدثني إسماعيل بن يزيد، عن أبي صادق، عن الحضرمي، قال: سمعت عليًا يحرض الناس في ثلاثة مواطن: يحرض الناس يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم النهر، يقول: عباد الله، اتقوا الله، وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمناضلة والمجالدة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر.
فأصبح علي من الغد، فبعث على الميمنة والميسرة والرجالة والخيل. قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج الكندي أن عليًا بعث على خيل أهل الكوفة الأشتر. وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم ابن عتبة ومعه رايته، ومسعر بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر.
قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن يزيد بن جابر الأزدي، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، أن معاوية بعث على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميرة، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي - وكان على خيل أهل دمشق - وعمرو بن العاص على خيول أهل الشأم كلها، ومسلم بن عقبة المري على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلها. وبايع رجال من أهل الشأم على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكان المعقلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون عشرة صفوف، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفًا، فخرجوا أول يوم من صفين فاقتتلوا. وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشأم حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالًا شديدًا جل النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسنٍ عددها وعدتها، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم ذلك، يحمل الخيل على الخيل، والرجال على الرجال، ثم انصرفوا وقد كان القوم صبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد القتال، وأخذ عمار يقول: يا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين، وظاهر المشركين، فلما رأى الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي فأسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب؛ ثم قبض الله عز وجل رسوله ! فوالله إن زال بعده معروفًا بعداوة المسلم، وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه فإنه يطفىء نور الله، ويظاهر أعداء الله عز وجل.
فكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل، فأمره أن يحمل في الخيل، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وشد عمار في الرجال، فأزال عمرو بن العاص عن موقفه. وبارز يومئذ زياد بن النضر أخًا له لأمه يقال له عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وكانت أمهما امرأة من بني يزيد - فلما التقيا تعارفا فتواقفا، ثم انصرف كل واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس.
فلما كان من الغد خرج محمد بن علي وعبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشد القتال. ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى ابن الحنفية: أن اخرج إلي؛ فقال: نعم، ثم خرج يمشي، فبصر به أمير المؤمنين فقال: من هذان المتبارزان؟ فقيل: ابن الحنفية وعبيد الله بن عمر؛ فحرك دابته ثم نادى محمدًا، فوقف له، فقال: أمسك دابتي، فأمسكها، ثم مشى إليه علي فقال: أبرز لك، هلم إلي؛ فقال: ليست لي في مبارزتك حاجة، فقال: بلى، فقال: لا، فرجع ابن عمر. فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يا أبت، لم منعتني من مبارزته؟ فوالله لو تركتني لرجوت أن أقتله، فقال: لو بارزته لرجوت أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، فقال: يا أبت أو تبرز لهذا الفاسق! والله لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه؛ فقال علي: يا بني، لا تقل في أبيه إلا خيرًا. ثم إن الناس تحاجزوا وتراجعوا.
قال: فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة، فأخذ الوليد يسب بني عبد المطلب، وأخذ يقول: يابن عباس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم الله صنع بكم؟! لم تعطوا ما طلبتم، ولم تدركوا ما أملتم، والله إن شاء مهلككم وناصرٌ عليكم. فأرسل إليه ابن عباس: أن ابرز لي؛ فابى. وقاتل ابن عباس يومئذ قتالًا شديدًا، وغشي الناس بنفسه.
ثم خرج قيس بن سعد الأنصاري وابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم انصرفا، وذلك في اليوم السادس.
ثم خرج الأشتر، وعاد إليه حبيب بن مسلمة اليوم السابع، فاقتتلا قتالًا شديدًا، ثم انصرفا عند الظهر، وكلٌّ غير غالب، وذلك يوم الثلاثاء.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب، أن عليًا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا! فقام في الناس عشية الثلاثاء، ليلة الأربعاء بعد العصر، فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجل النقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره؛ ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا إنكم لاقو القوم غدًا، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله عز وجل النصر والصبر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. ثم انصرف، ووثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها، ومر بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجب ** والملك مجموعٌ غدًا لمن غلب
فقلت قولًا صادقًا غير كذب ** إن غدًا تهلك أعلام العرب
قال: فلما كان من الليل خرج عليٌّ فعبى الناس ليلته كلها، حتى إذا أصبح زحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشأم، فأخذ عليٌّ يقول: من هذه القبيلة؟ ومن هذه القبيلة؟ فنسبت له قبائل أهل الشأم، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قال للأزد: اكفوني الأزد، وقال لخثعم: اكفوني خثعم. وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشأم، ليس منهم بالعراق واحد، مثل بجيلة لم يكن منهم بالشأم إلا عدد قليل، فصرفهم إلى لخم. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالًا شديدًا نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، حتى إذا كان غداة الخميس صلى عليٌّ بغلس.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، قال: ما رأيت عليًا غلس بالصلاة أشد من تغليسه يومئذ، ثم خرج بالناس إلى أهل الشأم فزحف إليهم، فكان يبدؤهم فيسير إليهم، فإذا رأوه قد زحف إليهم استقبلوه بوجوههم.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن عليًا خرج إليها غداة الأربعاء فاستقبلهم فقال: اللهم رب السقف المرفوع، المحفوظ المكفوف، الذي جعلته مغيضًا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت سكانه سبطًا من الملائكة، لا يسأمون العبادة. ورب هذه الأرض التي جعلتها قرارًا للأنام، والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما لا يرى ومما يرى من خلقك العظيم. ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادًان وللخلق متاعًا؛ إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أصحابي من الفتنة.
قال: وازدلف الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا كأشد القتال يومهم حتى الليل، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا للصلاة، وكثرت القتلى بينهم، وتحاجزوا عند الليل وكلٌّ غير غالب، فأصبحوا من الغد، فصلى بهم عليٌّ غداة الخميس، فغلس بالصلاة اشد التغليس، ثم بدأ أهل الشأم بالخروج، فلما رأوه قد أقبل إليهم خرجوا إليه بوجوههم، وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، وقراء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار ابن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل؛ والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليٌّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وعظم من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه من خزاعة عدد حسن، ومن كنانة وغيرهم من أهل المدينة.
ثم زحف إليهم بالناس، ورفع معاوية قبةً عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس وبايعه عظم الناس من أهل الشأم على الموت، وبعث خيل أهل دمشق فاحتاطت بقبته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه، ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن ابن بديل قام في أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجسًا إلى رجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وبرهان مبين. فقاتلوا الطغاة الجفاة، ولا تخشوهم، فكيف تخشوهم وفي أيديكم كتاب الله عز وجل طاهرًا مبرورًا! " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين "، وقد قاتلناهم مع النبي مرة، وهذه ثانية، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكى ولا أرشد، قوموا إلى عدوكم بارك الله عليكم! فقاتل قتالًا شديدًا هو وأصحابه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عن أبيه ومولىً له، أن عليًا حرض الناس يوم صفين، فقال: إن الله عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تشفي بكم على الخير: الإيمان بالله عز وجل وبرسوله ، والجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن. ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص؛ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة. وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عند نزول الحقائق، هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكنفونها؛ يضربون حفافيها خلفها وأمامها، ولا يضعونها أجزأ امرؤٌ وقذ قرنه - رحمكم الله - وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب بذلك لائمةً، ويأتي به دناءة. وأنى لا يكون هذا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هاربًا منه، أو قائمًا ينظر إليه! من يفعل هذا يمقته الله عز وجل، فلا تعرضوا لمقت الله سبحانه فإنما مردكم إلى الله، قال الله عز من قائل لقوم: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذًا لا تمتعون إلا قليلًا ". وايم الله لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل الله النصر.
الجد في الحرب والقتال
قال أبو مخنف: حدثني أبو روق الهمداني، أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض الناس فقال: إن المسلم السليم من دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه، وإحياء حقٍّ رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرةً فيه ملوكًا، فلو ظهروا عليكم - لا أراهم الله ظهورًا ولا سرورًا - لزموكم بمثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه الضال، يخبر أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجده، يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمه، وإنما هو مال الله عز وجل، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا يأخذكم في جهادهم لوم لائم، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم؛ وهم من قد عرفتم وخبرتم؛ وايم الله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلا شرًا.
وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالًا شديدًا حتى انتهى إلى قبة معاوية. ثم إن الذين تبايعوا على الموت أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء، قد أسند بعضهم ظهره إلى بعض، وانجفل الناس، فأمر عليٌّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموعٌ لأهل الشأم عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة، وكان في الميمنة إلى موقف عليٍّ في القلب أهل اليمن، فلما كشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف يتمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني، قال: مر علي معه بنوه نحو الميسرة. ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه. فيكره عليٌّ ذلك، فيتقدم عليه، فيحول بين أهل الشأم وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه، فبصر به أحمر - مولى أبي سفيان، أو عثمان، أو بعض بني أمية - فقال علي: ورب الكعبة؛ قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى ب ني أمية، وينتهزه عليٌّ، فيقع بيده في جيب درعه، فيحبذه، ثم حمله على عاتقه؛ فكأني أنظر إلى رجيلتيه، تختلفان على عنق علي، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه، وشد ابنا علي عليه: حسين ومحمد، فضرباه بأسيافهما، حتى بردا، فكأني أنظر إلى علي قائمًا وإلى شبليه يضربان الرجل، حتى إذا قتلاه وأقبلا إلى أبيهما، والحسن قائمًا قال له: يا بني، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟ قال: كفياني يا أمير المؤمنين. ثم إن أهل الشأم دنوا منه ووالله ما يزيده قربهم منه سرعةً في مشيه، فقال له الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني، إن لأبيك يومًا لن يعدوه ولا يبطىء به عند السعي، ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله ما يبالي أوقع على الموت، أو وقع الموت عليه.
قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن مولى للأشتر، قال: لما انهزمت ميمنة العراق وأقبل عليٌّ نحو الميسرة، مر به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك، قال: لبيك؛ قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لن تبقى لكم! فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي قالها له عليٌّ. وقال: إلي أيها الناس، أنا مالك بن الحارث، أنا مالك بن الحارث، ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: أنا الأشتر، إلي أيها الناس. فأقبلت إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيها الناس، عضضتم بهن آبائكم! ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أيها الناس، أخلصوا إلي مذحجًا، فأقبلت إليه مذحج، فقال: عضضتم بصم الجندل! ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان؛ الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطل دماؤهم، ولا يعرفون في موطن بخسفٍ، وأنتم حد أهل مصركم، وأعد حيٍّ في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم؛ فاتقوا مأثور الأحاديث غد، واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - رجلٌ على مثال جناح بعوضة من محمد . أنتم ما أحسنتم القراع، اجلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله عز وجل لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه. قالوا: خذ بنا حيث أحببت. وصمد نحو عظمهم فيما يلي الميمنة، فأخذ يزحف إليهم، ويردهم، ويستقبله شبابٌ من همدان - وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ - وقد انهزموا آخر الناس، وكانوا قد صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسًا، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر، فكان الأول كريب بن شريح، ثم شرحبيل ابن شريح، ثم مرثد بن شريح، ثم هبيرة بن شريح، ثم يريم بن شريح، ثم سمير بن شريح، فقتل هؤلاء الإخوة الستة جميعًا. ثم أخذ الراية سفيان ابن زيد، ثم عبد بن زيد، ثم كريب بن زيد، فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعًا، ثم أخذ الراية عميرة بن بشير، ثم الحارث بن بشير، فقتلا، ثم أخذ الراية وهب بن كريب أخو القلوص، فأراد أن يستقبل، فقال له رجل من قومه: انصرف بهذه الراية - رحمك الله - فقد قتل أشراف قومك حولها، فلا تقتل نفسك ولا من بقي من قومك؛ فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نقتل أو نظفر. فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول، فقال لهم الأشتر: إلي أنا أحالفكم وأعاقدكم على ألا نرجع أبدًا حتى نظفر أو نهلك. فأتوه فوقفوا معه، ففي هذا القول قال كعب بن جعيل التغلبي:
وهمدان زرقٌ تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه ناس تراجعوا من أهل الصبر والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، ولا لجمع إلا حازه ورده؛ فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إلى العسكر، فقال: من هذا؟ فقيل: زياد بن النضر، استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته، فصبروا، وقاتل حتى صرع، ثم لم يمكثوا إلا كلا شيء حتى مر بيزيد بن قيس الأرحبي محمولًا نحو العسكر، فقال الأشتر: من هذا؟ فقالوا: يزيد بن قيس، لما صرع زياد ابن النضر رفع لأهل الميمنة رايته، فقاتل حتى صرع، فقال الأشتر: هذا والله الصبر الجميل، والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف لا يقتل ولا يقتل، أو يشفى به على القتل! قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن الحر بن الصياح النخعي؛ أن الأشتر يومئذ كان يقاتل على فرس له في يده صفيحة يمانية، إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبًا، وإذا رفعها كاد يعشي البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول:
الغمرات ثم ينجلينا
قال: فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر متقنع في الحديد، فلم يعرفه، فدنا منه فقال له: جزاك الله خيرًا منذ اليوم عن أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين! فعرفه الأشتر، فقال يا بن جمهان، مثلك يتخلف عن مثل موطني هذا الذي أنا فيه! فنظر إليه ابن جمهان فعرفه، فكان من أعظم الرجال وأطول - وكان في لحيته خفلةٌ قليلة - فقال: جعلت فداك! لا والله ما علمت بمكانك إلا الساعة، ولا أفارقك حتى أموت. قال: ورآه منقذٌ وحمير ابنا قيس الناعطيان، فقال منقذ لحمير: ما في العرب مثل هذا، إن كان ما أرى من قتاله على نيته، فقال له حمير: وهل النية إلا ما تراه يصنع! قال: إني أخاف أن يكون يحاول ملكًا قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مولىً للأشتر، أنه لما اجتمع إليه عظم من كان انهزم عن الميمنة حرضهم، ثم قال: عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا شدة قوم موتورين ثأرًا بآبائهم وإخوانهم، حناقًا على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بوتر، ولايلحقوا في الدنيا عارًا، وايم الله ما وتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وإن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله أنفسًا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم. وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، والغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة.
وحمل عليهم حتى كشفهم، فألحقهم بصفوف معاوية بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصبة من القراء بين المائتين والثلثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جشًا فكشف عنهم أهل الشأم، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم، فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة، يقاتل الناس أمامه، فقالوا: الحمد لله، قد كنا ظننا أن قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا؛ فأرسل الأشتر إليه: ألا تفعل، اثبت مع الناس فقاتل، فإنه خيرٌ لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى، فمضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال الجبال، وفي يده سيفان، وقد خرج فهو أمام أصحابه، فأخذ كلما دنا منه رجلٌ ضربه فقتله، حتى قتل سبعة، ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد جرحوا منهزمين، فبعث الأشتر ابن جمهان الجعفي فحمل على أهل الشأم الذين يتبعون من نجا من أصحاب ابن بديل حتى نفسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر، فقال لهم: ألم يكن رأيي لكم خيرًا من رأيكم لأنفسكم! ألم آمركم أن تثبتوا مع الناس! وكان معاوية قال لابن بديل وهو يضرب قدمًا: أترونه كبش القوم! فلما قتل أرسل إليه، فقال: انظروا من هو؟ فنظر إليه ناس من أهل الشأم فقالوا: لا نعرفه، فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال: بلى، هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة أن تقاتلنا فضلًا على رجالها لفعلت، مدوه، فمدوه، فقال: هذا والله كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت يومًا به الحرب شمرا
والبيت لحاتم طيىء. وإن الأشتر زحف إليهم فاستقبله معاوية بعك والأشعرين، فقال الأشتر لمذحج: اكفونا عكا، ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ يخرج إلى قومه فيقول: إنما هم عك، فاحملوا عليهم، فيجثون على الركب ويرتجزون:
يا ويل أم مذحجٍ من عك ** هاتيك أم مذحجٍ تبكي
فقاتلوهم حتى المساء. ثم إنه قاتلهم في همدان وناس من طوائف الناس، فحمل عليهم فأزالهم عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم شد عليهم شدة أخرى فصرع الصفوف الأربعة، - وكانوا معقلين بالعمائم - حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرس فركب - وكان يقول: اردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة من الأنصار - كان جاهليًا، والإطنابة امرأة من بلقين:
أبت لي عفتي وحياء نفسي ** وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ** وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي
فمنعني هذا القول من الفرار.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجني، عن زيد بن وهب، أن عليًا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقعها ومصافها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل الشأم، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين؛ ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي، أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحسونهم بالسيوف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطردة الهيم؛ فالآن فاصبروا، نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله عز وجل باليقين، ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه؛ إن الفرار موجدة الله عز وجل عليه، والذل اللازم، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عليه. وإن الفار منه لا يزيد في عمره، ولا يرضي ربه، فموت المرء محقًا قبل إتيان هذه الخصال، خير من الرضا بالتأنيس لها، والإقرار عليها.
قال أبو مخنف: حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر الأحمسي، أن راية بجيلة بصفين كانت في أحمس بن الغوث بن أنمار مع أبي شداد - وهو قيس بن مكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن جابر بن علي ابن أسلم بن أحمس بن الغوث - وقالت له بجيلة: خذ رايتنا؛ فقال: غيري خيرٌ لكم مني، قالوا: ما نريد غيرك، قال: والله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا: اصنع ما شئت، فأخذها ثم زحف، حتى انتهى بهم إلى صاحب الترس المذهب - وكان في جماعة عظيمة من أصحاب معاوية، وذكروا أنه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي - فاقتتل الناس هنالك قتالًا شديدًا، فشد بسيفه نحو صاحب الترس، فتعرض له رومي، مولىً لمعاوية فيضرب قدم أبي شداد فيقطعها، ويضربه أبو شداد فيقتله، وأشرعت إليه الأسنة فقتل، وأخذ الراية عبد الله ابن قلع الأحمسي وهو يقول:
لا يبعد الله أبا شداد ** حيث أجاب دعوة المنادي
وشد بالسيف على الأعادي ** نعم الفتى كان لدى الطراد
وفي طعان الرجل والجلاد
فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية أخوه عبد الرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس، فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي - أخو قيس بن أبي حازم - يومئذ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية البجلي يومئذ، فأتى ابن عمه وسمية نعيم بن الحارث ابن العلية معاوية - وكان معه - فقال: إن هذا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فقال: لا تدفنه فليس لذلك أهلًا، والله ما قدرنا على دفن ابن عفان رضي الله عنه إلا سرًا. قال: والله لتأذنن في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك. قال معاوية: أترى أشياخ العرب قد أحالتهم أمورهم، فأنت تسألني في دفن ابن عمك! ادفنه إن شئت أو دع. فدفنه.
قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة الأزدي، عن أشياخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سليم لما ندبت الأزد للأزد، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن من الخطإ الجليل، والبلاء العظيم، أنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا، والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا، وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا كفرنا، وإن نحن فعلنا فعزنا أبحنا، ونارنا أخمدنا، فقال له جندب بن زهير: والله لو كنا آباءهم وولدناهم - أو كنا أبناءهم وولدونا - ثم خرجوا من جماعتنا، وطغوا على إمامنا، وإذًا هم الحاكمون بالجور على أهل ملتنا وذمتنا، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه، ويدخلوا فيما ندعوهم إليه، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم.
فقال له مخنف - وكان ابن خالته: أعز الله بك النية؛ والله ما علمت صغيرًا وكبيرًا إلا مشؤومًا، والله ما ميلنا الرأي قط أيهما نأتي أو أيهما ندع - في الجاهلية ولا بعد أن أسلمنا - إلا اخترت أعسرهما وأنكدهما، اللهم إن تعافي أحب إلينا من أن تبتلي، فأعط كل امرىء منا ما يسألك.
وقال أبو بريدة بن عوف: اللهم احكم بيننا بما هو أرضى لك. يا قوم إنكم تبصرون ما يصنع الناس، وإن لنا الأسوة بما عليه الجماعة إن كنا على حق، وإن يكونوا صادقين فإن أسوةً في الشر - والله ما علمنا - ضررٌ في المحيا والممات.
وتقدم جندب بن زهير، فبارز رأس أزد الشأم، فقتله الشامي، وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل مع مخنف من رهطه عبد الله وخالد ابنا ناجد، وعمرو وعامر ابنا عويف، وعبد الله بن الحجاج وجندب بن زهير، وأبو زينب بن عوف بن الحارث، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في الفقراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه.
قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أشياخ النمر، أن عقبة بن حديد النمري قال يوم صفين: ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيمًا، وأصبح شجرها خضيدًا، وجديدها سملًا، وحلوها مر المذاق. ألا وإني أنبئكم نبأ امرىء صادق: إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وقد كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها في كل جيش وغارة؛ فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم. ألا وإني متعرض لها من ساعتي هذه، قد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ خوفًا من الموت القادم عليكم، الذاهب بأنفسكم لا محالة، أو من ضربة كفٍّ بالسيف! تستبدلون الدنيا بالنظر في وجه الله عز وجل وموافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار! ما هذا بالرأي السديد. ثم مضى فقال: يا إخوتي، قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها لا يبرح وجوهكم، ولا يقطع الله عز وجل رجاءكم. فتبعه إخوته: عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقبح الله العيش بعدك! اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك! فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا.
قال أبو مخنف: حدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: شهدت صفين مع الحي ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي، فبارزه أدهم بن محرز الباهلي، فضرب أدهم وجه شمر بالسيف، وضربه شمر ضربةً لم تضرره، فرجع شمر إلى رحله فشرب شربةً - وكان قد ظمىء - ثم أخذ الرمح، فأقبل وهو يقول:
إني زعيمٌ لأخي باهله ** بطعنةٍ إن لم أصب عاجله
أو ضربةٍ تحت القنا والوغى ** شبيهةٍ بالقتل أو قاتله
ثم حمل على أدهم فصرعه، ثم قال: هذه بتلك.
قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن عمرو بن عوف بن مالك الجشمي أن بشر بن عصمة المزني كان لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين بصر بشر بن عصمة بمالك بن العقدية - وهو مالك بن الجلاح الجشمي، ولكن العقدية غلبت عليه - فرآه بشر وهو يفري في أهل الشأم فريًا عجيبًا، وكان رجلًا مسلمًا شجاعًا، فغاظ بشرًا ما رأى منه، فحمل عليه فطعنه فصرعه، ثم انصرف، فندم لطعنته إياه جبارًا، فقال:
وإني لأرجو من مليكي تجاوزًا ** ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ** على ساعةٍ فيها الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية، فقال:
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ** شغلت وألهاني الذين أمارس
فصادفت مني غرةً وأصبتها ** كذلك والأبطال ماضٍ وخالس
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)