أيّها الفرن الآلي...
أتيتك وأنت كظيظُ من الزحام , فيك الأصوات متداخلة مرتفعة ,لاتفرّق فيها بين ذكرٍ وأنثى
ولا تكاد تميّز جملةً واحدةَ من أحاديث المتخاطبين .
... أتيتك والمسافة بيني وبين كوّة المبيع , تتجاوز العشرة أمتار , وكلُّ يدّعي أنّه في الدّور ...
...أيّها الفرن الآلي ...
نظرت أمام كوّتك ,فرأيت أناساً من مختلف الأعمار والألوان والأشكال
منهم من ازداد طولاً فوق الحدّ المألوف , ومنهم من كان له من القصر ما يستوجب عليك أن تومئ بناظريك للأسفل قليلاً .
منهم المبتسم والكئيب,منهم القاطب والمرح , والخبيث واللئيم ,والطيّب والمتغطرس والبليد
وحتى بعض اللّذين لا تستطيع قراءة ما يقبع خلف وجوههم من شخصيّات .
... أيّها الفرن الآلي ...
هاهنا رجلُ يزفر ويزبد ويثرثر بصوتٍ منخفضٍ تارةً وبصوت مرتفعٍ تارةً أخرى , يجد في استخدام صوته الأجش ما يمنحه المتعة في التعبير عن سخطه من الحياة والواقع والفوضى التي تعمّ المكان.
وهناك رجلٌ كهلٌ يتحامل على نفسه , واقفاً متجهّد الأنفاس في الثلث الأخير من الصّف
تكسوه أسمالٌ صفيقةٌ , ذو وجنتين مصفرّتين , قاطب الحاجبين حاني الظهر قليلاً
رأيته يسترق النظرة بين الحين والآخر الى ساعته العتيقة , نظرة ممزوجة بألم الإنتظار في هذا الصّف الطويل المعوجّ كالأفعى ,مع تاميل النفس بأنّ الوقت سيمضي كمضيّ عقارب الساعه مثل كل يومٍ كالمعتاد,
أيّها الفرن الآلي...
نساءٌ يتحدّثن بصوتٍ مرتفع لا يخلوا من حرارة الحديث المتعارف عليه بين النساء إذا اجتمعن
يقضمن الوقت في الحديث عن الأزواج والأبناء والبنات , وعن أنواع المأكولات , وعن بعض المصائب والملمات أيضاً.
كلّ ذلك من غير أن يغفلن عن استخدام التعابير المناسبة لكل حديث,وما يلائمهُ من تبدّلات في تضاريس وانفعالات الوجوه , إلى حركات اليدين والأصابع وما شابه ذلك من حركات
...أيّها الفرن الآلي ...
أطفالٌ لم يتمّوا العقد الأوّل من أعمارهم ,وأطفالٌ دخلوا في عقدهم الثاني , بعضهم يتكسّب الناس على الرصيف
من بيع الخبز ومن استجداء عطف رحماء النفوس على الطفوله,فلقد تعلّموا من أقرانهم الأقدم على الأرصفة
كيف يستخدمون طفولتهم لاستجداء العطف , وتعلّموا أيضاً من لغة الشارع بعض الشتائم بالمجّان
وأنّى للشارع أن يعلّم غير الشتائم وكيفيّة السباب , وبالأخص للأطفال, وهم الذّين يملكون ذواكر أدعى لإلتقاط المفردات وأسرع من مغناطيس يجتذب برادة الحديد ..
والبعض الآخر من الأطفال ممّن هم دون العقد في العمر , يتّخذ من أنامله الصغيرة أسناناً يعضّ بها على الأوراق النقديّه التي أودعته إيّاها أمّه أغلب الظّن , أوأيّاً ممن يكمن خلف هذه الصورة المعذّبه
ترى هؤلاء الأطفال منهم من يقف متنحّياً إلى الحائط , يقف وله وجهٌ بريء يثقله شعورٌ بالوحدة والنفور , وفيه كثير من الإستغراب من بيئةٍ لم يعتد عليها أو لم يألفها من قبل .
طبيعيّ هذا ... لأن مثل هؤلاء الأطفال أغلب الظّن أنهم ما اعتادوا ارتياد هذه الأماكن العامّه
وأنهم نشؤوا في بيئةٍ منزليّة محضة , حتى إذا خرجوا من البيت كما تخرج الهرّه الصغيرة من وكرها أول مرّه
كان لكل ما تصادفه نظراتهم أبلغ الأثر وأعمق إلإحساس لديهم,تماماً كالهرّ سريع التّلفت والإنتباه حذر الخطى دائم الخوف بالقرب من الناس ,
فكيف بهم إذاً والرصيف معلّمهم , والشتائم والسباب تجتذبه ذواكرهم ,
... أيّها الفرن الآلي...
غلمان يتراشقون بالألفاظ النابيه ,ويتلذّذون بسب الذات الإلهيّه , (أستغفر الله العظيم) , يتضاربون ويتراكضون من الشارع إلى داخل بوتقة الفرن الصغيرة ,, يثيرون غضب الكثير , واللامبالاة عند الكثرة الأخرى ,يندسّ بعضهم بين أرجل الحاضرين عنوةً بحجّة أنه أوقع أوراقه النقديّه وهو يبحث عنها ,ممّا يجعل البعض يبادلهم الشتائم أيضاً,
... أيّها الفرن الآلي...
بضعة رجال من مرموقي المجتمع لايتجاوزون الخمسة , لهم من غريب الطّلعة ما يجعل الصمت يستيقظ بضع لحظات ,
يقبلون من بعيد , يتقّدمهم أطولهم قامة , وأرتبهم هنداماً , له من الطول ما يلفت النظر ,يتخطّى أرواح العباد
لامبالياً بخطٍّ مستقيم , ولعلّه معذور , إذ أنّه يضع نظّارة سوداء قاتمه العدستين , وأظنّها اختراع جديد ليست ككل النظارات , إذ أنه خيّل إلي ـــ وذلك بسبب غطرسته ـــ أنّ الناظر من خلالها يرى المكان أمامه فارغاً
من الناس , وهذا ماجعله يسير بخطّ مستقيم لا يهمّه إلاّ كوّة المبيع
وكأنه مركب مسرع في لجّةٍ هادئة ,فيشقّ الناس كما يشق المركب سطح البحر إلى شطرين
... أيّهاالفرن الآلي ...
بداخلك أشخاص على ما أعتقد وظيفتهم خدمة الناس, وتسيير أمورهم , ورحمة ضعيفهم ,
فلماذا الآن هم لا يلتفتون خارجاً, ولماذا وقفوا في الداخل كسالى , يتقهقهون سويّاً, غير آبهين بما يحصل للناس في الخارج , ولا مدركين أنّ الفوضى التي تعمّ المكان , هم سبب في جزء منها , وذلك لكسلهم وتهاونهم في اداء الواجب, أو فلنقل إمعانهم عن عمد بعدم القيام بالواجب
...أيها الفرن الآلي...
أقول في منتهى هذه الكلمات
من أراد لطفله أن يخطوا أول خطوة نحو الجريمة , فليتركه يمضي إليك .
من أراد أن يدرك معنى ضياع الطفولة فليذهب ويراقب على رصيفك .
من أراد أن يعلم بآخر أخبار الحوادث والمصائب والإشاعات , فليستمع لأحاديث نسائك.
ومن أراد أن يستغفر فليذهب إليك , لأن ما سيطرق مسامعه أصوات السباب والشتائم ونكران الذات الإلهيّه
ومن أراد أن يحصل على تعريف نموذجي للفوضى , فليراقبك وأنت تسيّر الأمور
ومن أراد أن يحزن فليذهب إليك , لأنه سيرى كثيرأً من البكاء أحياناً وكثيراً أيضاً من قسوة النفس الإنسانيّه
من أراد أن يتعرّف ماهو عدم الإحترام فلينظر إلى أناسك ومعاملتهم بعضهم البعض
ومن أراد أخيراً أن يعلم أن الرجل الكهل الّذي يتحامل على نفسه وهو يناظر الساعة
.
.
تهالك إلى الحائط حتى جلس
.
ومازال ينتظر الخبز ...
دعني وحيداً أعانيــ‘‘ العيش منفرداً
❀ ♛♛♛❀
فبعض معرفتيــ‘‘ بالناس يكفينيـــ‘‘
❀ ♛♛♛❀
ماضرنيـــ‘‘ ودفـــــاع الله يعصمنيــــ‘‘
❀♛♛♛❀
من باتـــــ‘‘ يهدمنيـ‘‘ فالله يبنينيـــ‘‘
❀ ♛♛♛❀
للحظات قليلة .. انتابني إحساس بأنني فعلا واقفة ضمن الطابور أمام الفرن الآلي ...
أراقب و أتأمل الناس من حولي !!
لقد أبدعت في الوصف حقاً ....
لدرجة أن من يقرأ تعابيرك ... يشعر و كأنه هو من شاهد و أحسّ و استنتج !!
وصف شكلي رائع و دقيق و مفصّل ...
يخفي وراءه أروع و أعمق المعاني التي تتناول المجتمع بأسره ...
انطلاقاً من حالة خاصة متمثلة بــ " الفرن الآلي " !!
فها أنت ذا قد قدّمت نصيحة مخفيّة قيّمة جداً ... عندما تكلمت عن الأطفال و ما يعلّمهم إياه الشارع ..
أشرت إلى قلة الاحترام و سوء التعامل المنتشر بين الناس ... بمنتهى الاحترام و الرقي ..
لمّحت بأسلوب رشيق ... للفروق الطبقية الاجتماعية ... عند ذكرك للنظارات السوداء !!
و ذكرت أخيرا سبباً من الأسباب المؤدية لمشاكل عدّة ... ألا وهو التهاون و التكاسل في أداء الواجب ...
و انعدام الإحساس بالمسؤولية !!
نعم .. إنها مشاكلنا ... و قد أجدت في اختصارها و التعبير عنها بطريقة شيّقة ممتعة ...
استمتعت كثيراً بقراءة ما خطه قلمك هنا ...
جزيل الشكر لك ... و أطيب الأمنيات لهذا القلم المتميّز ..
مع كل الاحترام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)