قصص من شعوب أخرى
بقلم محمد عبد الوهاب جسري
الجزء الأول
أنا من بلاد السين، كتبت قصتي دون أن أستخدم الحبر، لقد استخدمت دمع العين.... لن أطيل عليكم
فأنا من بلدة صغيرة تحيط بها عدة قرى، قد أصف بلدتي بالجمال والروعة لأنها بلدتي أنا، لكن الجيش الألماني عندما وصل في الحرب العالمية الأولى إلى هنا قال إنها جنة الأرض، والعرب يعتبرونها الأندلس الثانية...
في بلدتي كانت هناك بضعة مدارس ابتدائية ومدرستان ثانويتان ومعهد مهني، كنت طالبا متميزا في المرحلة الثانوية في مادة الرياضيات حتى أصبحوا ينادوني العبقري...لا ينافسني أحد في التفوق في عالم الأرقام فتم ترشيحي إلى المسابقة في العاصمة...
لا شك أن أهالي البلدة اجتمعوا جميعا أمام التلفزيون وقت المسابقة ليشاهدوا ابن بلدتهم العبقري وقد فزت بالدرجة الثانية على مستوى الدولة كلها.... عدت أحمل معي وساما ومكافأة صغيرة وحقيـبة جميلة وبعض الصور التذكارية....
كان أول المستقبلين رفيق عمري فنحن أصدقاء منذ بداية المرحلة الابتدائية ولا يفرقنا شيء ، أينما وجدت وجد هو، وبالفعل كنا مضرب المثل في التفاني و الاخلاص لصداقة بدأت منذ الطفولة.....كنا مثـل الكتاب المجلد عندما يكون هو صفحة ما، يجب أن أكون أنا الصفحة التالية إن لم أكن الصفحة السابقة...
بعد ظهور تفوقي على مستوى الدولة اقتربت مني تلك الشقراء الخجولة تعبر لي عن فرحتها بانجازي وتخبرني بأنها على علم بنظرات الاعجاب التي كنت أكنها لها وبأنها تبادلني ذلك الاعجاب.....
عامان كاملان من الحب الأول، علمت كل البلدة بحبنا، رسمت صورها، غنيت لها،أهديتها أطواق الورود، ساعدتها على النجاح والتفوق، بادلتني الحب وصنعت مني اسطورة في هذه البلدة ، ومن أجلها ومن أجل فرحتها أجهدت نفسي لأفوز بسباق الدراجات بالمرتبة الأولى بين شباب بلدتنا.....لكنني لم أفترق عن رفيق عمري، كان يحدثنا كيف ستكون سعادته يوم حفلة زواجنا ولأنه من عائلة ميسورة ومرموقة فإنه سيقدم لنا كل امكانياته وإمكانيات أسرته لتكون حفلة تشهد لها البلدة....حتى أنه أخبرنا أن أباه وافق على أن تكون سيارته الجديدة هي التي ستنقل العروس وستكون بخدمتنا مع السائق منذ صباح يوم العرس.
كنت أسعد الناس فقد كانت حبيبتي هي الأرض التي تأويني وصديق عمري هو السماء التي تغطيني....
مضى شهر على ظهور نتائج الثانوية، أمضيته في الحقول بعيدا عن البلدة أساعد جدي في جني المحصول، علمني كيف أقود الجرار وكيف أعتني بالماشية، فقد أذهب بعدها إلى المدينة لمتابعتي دراستي الجامعية وربما لن أعود أبدا...
عدت إلى البلدة بنشاط وحيوية وسواعد مفتولة أنتظر أخبار القبول في الجامعة ومنذ وصولي وأنا أسير من محطة الباص إلى بيتي بدأت ألاحظ في عيون الناس نظرات غير مفهومة إلى أن وصلت بيتي حيث استقبلتني أمي تحتضنني بطريقة عجيبة، وتقول لي بشفاه مرتعشة مبروك يا مهندس المستقبل، بدأت أشتم رائحة كارثة... بدأت عيوني تدور تبحث عن تفسير لما رأته منذ وصولي البلدة، قلت شكرا يا أمي لكن شيئا ما سلب مني فرحتي مالأمر؟؟ قالت صديقك .... صديقك قد حصل على بعثة إلى أمريكا و.... وماذا ؟ انطقي .... وصديقتك أيضا وقد قررا الزواج وذهبوا إلى العاصمة لاستكمال اجراءات السفر......
من ذروة النجاح والأمل إلى حضيض اليأس والفشل.......
قد تتصورون حالي لكنكم لم تعيشوا حالتي .... استجمعت قواي والتحقت بصفوف الجيش لأنني قررت قرارا نهائيا .... لن أحب بعد اليوم صغيرا.... سأحب وطني ووطني فقط وسأضع روحي بين كفي أقدمها له هدية في أول فرصة....
في بلاد السين هذه ... وفي جيش بلادي الذي أفتخر به وجدت نفسي من جديد ، وحصلت على لقب جديد فصاروا ينادونني بالعبقري الشرس....أنهيت دوراتي التدريبية والتحقت بوحدتي العسكرية، كان قائد وحدتي رجلا بكل ما تعنيه الرجولة من معنى، كان يهتم بنا فردا فردا ويهتم بخصوصياتنا وكأننا أبناءه، سرعان ما اكتشف الرجل أنني الشخص الوحيد الذي لا تصلني رسائل من صديقة أو حبيبة وبأنني الشاب الوحيد الذي ينأى عن التحدث عن الحب وهذا أمر غير عادي في مجتمع الشباب، فعلم أن في الأمر سرا، أرسل إلي محاولا فتح حديث ودي معي....كنت بحاجة إلى من يسمعني فقصصت عليه قصتي.... صمت قليلا ثم سألني أتدري لم أحببت أن أعرف قصتك ؟؟ قلت لا يا سيدي ، قال لقد وصلتك اليوم رسالة من أمريكا.....
عبرت عيناي عن غضب شديد فاستأذنت بالانصراف دون أن أستلم الرسالة فأذن لي، مرت أربعة أيام شديدة السواد، جراح ليس لها أن تلتئم، وقد جاء الوقت لصب الزيت عليها.... أرسل يطلبني مجددا، عندما دخلت إلى مكتبه قال لي أدعوك إلى شرب القهوة، قلت وإلى استلام الرسالة وفتحها...قال أتظن أنها منه أم منها؟؟؟ قلت لا أدري ربما من كليهما فكلاهما كان عندي أغلى من مما أتصور، طيب!! ألا يدفعك الفضول لمعرفة المرسل وما تحتويه الرسالة ؟؟ قلت ساخرا ربما رزقا مولودا !!!
لم يستطع أن يقنعني قائد وحدتي باستلام الرسالة وقراءتها، عندئذ أخرج دفتر مذكراته وراح يقلب فيه ويطلعني على حالات كثيرة مرت عليه خلال عمله الطويل هذا... وقال لي اقرأ ما تشاء وكلما احتجت إلى قراءة مذكراتي تفضل إلى مكتبي سيكون بابه مفتوحا لك دوما.... مرت الشهور وصلتني رسالة ثانية وثالثة..... وأنا لم أتوصل إلى رغبة بفتح أي رسالة والتعرف إلى مضمونها. حتى جاء اليوم الذي بدأت حركات انفصال بعض الأقاليم في شمال البلاد تتجه إلى الانفصال ودخلت البلاد في حرب أهلية، وتأهبت جميع القوات ونحن ننتظر الأوامر بالتحرك.... قال لي قائد وحدتي ، سنتحرك الليلة، اعلم أننا قد لا نعود إلى هنا أبدا، أنا سأحمل معي دفتر مذكراتي ورسائلك التي لم تستلمها وظرفين فارغين سأستعمل أحدهما وسأترك الآخر لك إن غيرت رأيك.....
في أتون تلك الحرب مررنا بظروف صعبة جدا، فقدنا الكثير من عناصرنا وعتادنا وكان كل يوم كان يذكرني، قد نموت غدا...ألا تريد أن تفتح رسائلك ؟؟ وأنا .... وأنا لا أجيب، إلى أن أصيب الرجل وهو يبعد عني أقل من ثلاثة أمتار سارعت إليه فإذا هو يشير إلى حقيبته، أحضرتها له قال هي أمانة عندك توصلها لبيتي وتخبرهم بالحقيقة وتقول لهم أنني مت هنا ويدي غير ملوثة بدماء المدنيين والأبرياء... وأرجوك أرجوك أن تقرأ رسائلك وترد عليها .... لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي، حملته وحملت محفظته تلك الأمانة الثقيلة التي أورثني إياها....
لاأدري مالذي حدث بعدها، اذا فتحت عيني لأجد نفسي مصابا في المشفى أتلقى العلاج، اقترب مني أحد الأطباء وقال لي أهنئك بالسلامة أيها العبقري الشرس، هكذا قال عنك رفاقك....هذه حقيبتك التي وصلتنا معك هي بجانبك، نظرت إليها وقلت له نعم حقيبتي....
في فترة وجودي في المشفى كان لدي وقت طويل لأعد عدد المرات التي مت فيها في تلك الحرب دون أن أموت وكان لدي الوقت لأقرأ جميع مذكرات قائد وحدتي الذي افتقدته، وكان لدي الوقت أيضا لأفكر بسبب اصراره على فتح الرسائل وقراءتها....
وتذكرت الأمانة....ايصال الحقيبة، إخبار ذويه بأنه مات ويديه غير ملوثة بدماء الأبرياء ورسائلي.... فتحت الرسائل لأقرأها.....
نحن نعيش حياة قاتمة هنا، كل من حولنا يعيشون بسعادة إلا نحن، حاولنا بناء سعادتنا على حساب تعاستك، فشلنا ..... نحن نقترب من الجنون، نحن نفتقر إليك.... إلى كلماتك.... إلى غنائك..... إلى بسمتك الرقيقة .....إلى قلبك الطيب.... أنت من اجتمعنا على حبك ...... هل لنا من مغفرة ؟؟ ...
يتبع
الجزء الثاني
لم أشأ أن أرد على الرسائل، فقد مضى عليها زمن، ثم إن نظرتي لهذا الموضوع لم تعد كما كانت، فحياتي أكبر من أن أضيعها، فأشغل نفسي بحوارات لم تعد تجدي.... كنت أحلم في الوقت الذي أصلُ فيه إلى بيت جدي، فقريتي تسكنُ سفحَ الجبل الكبير، تمتد فيها المساحاتُ الخضراء، تتوسطها البيوت الريفية الجميلة، تحيط بها الأشجار الصغيرة، وتزدان بأنواع الزهور وألوانها، تطل بعينيها على ذلك النهر الصغير الذي تحاذيه طريق ترابية تتعرج بتعرجه، يتنصفها جسر خشبي يشكل المعبر الوحيد لدخول القادمين إلى القرية.
لم تكن هناك للبيوت أسوار وكأن سكان القرية أسرة واحدة، تصطف بيوتهم بانتظام لتطل جميعها على بوابة القرية، وكأن الكل أراد أن يرضي فضوله، فيرى الداخل إلى القرية والمغادر منها.
بعد خروجي من المشفى، عدت إلى بلدتي، أحمل جراحي وآلامي، لكنني أحمل وساما يشرفني طوال حياتي.... وأحمل عزيمة كبيرة، سأتوجه إلى جدي وسأعمل معه في الأرض ، سأحب الأرض سأعشقها..... كلمات كبيرة كنت أسمعها منه دائما عندما كان أبناؤه يطلبون منه أن يترك القرية وعناءها، لينتقل إلى العيش في البلدة، كان دائما يقول تستطيعون أن تأتوا بي إلى البلدة فقط عندما أكون جثة هامدة.... كم أنت كبير ياجدي، وكم هو كبير عشقك للأرض وارتباطك بها.....
تسع سنوات مرت على حصولي على الشهادة الثانوية، علمت في الفترة الأخيرة أنهما عادا، ويعيشان في العاصمة، ولم يرزقا بأطفال وحياتهما ليست كما يرام....وعلمت أنها تعاني من مرض عضال .....
أما أنا فأعيش في قريتي ورثت أعمال جدي ، تعرفت عن قرب إلى أهالي القرية، غنيت لهم بأفراحهم، تحدثت إلى الصغار والكبار علني أستطيع فك رموز المرأة..... لغز الحياة، ذلك الكتاب الذي لم أتمكن أبدا من قراءته جيداَ.
بعد عمل مجهد في يوم صيفي، جلست كعادتي قبل الغروب أمام فسحة البيت تحت ظل الياسمين، أشرب القهوة وأتحدث إلى الحمام والاوز والدجاج من حولي، وأقدم لهم عشائهم.... وكلبي الأبيض الجميل يراقب كل حركاتي، وربما يعد لي أنفاسي ليتأكد أني على مايرام. وإذا بسيارة غريبة دخلت القرية... تابعتها، ازدادت نبضات قلبي، لقد وصلت إلى فسحة بيتي ... إنه هو صديق عمري.
أسرعت أمسك بكلبي الذي شعر بضيقي، وقرر أن يهشم جمجمة القادم كائن من كان. أشرت على صديقي أن لا ينزل من السيارة ريثما أتصرف. حاولت أن أضم كلبي إلى صدري أشعره بأنني بخير لكن عبثا، هو أكثر من يفهمني، ممَ اضطرني إلى ادخاله إلى البيت واغلاق الباب.
الصمت كان حوارنا لبضع دقائق..... وكأن الشمس تحاول أن تغرب فتمتنع وكأن الزمن توقف، وكأن الحمام يأكل ولا يشبع أبدا.....
ـ إنها في المشفى في أيامها الأخيرة وهي تدعوك لزيارتها.....تحب أن تسمع منك كلمة سماح قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.....
عيون تبكي ولا تدمع ...قلب يتصدع ولا يخشع....
دخلت إلى البيت، ومن النافذة ناديت جاري لأعلمه أنني مسافر لأمر طارئ، وأن عليه الاعتناء بالحيوانات ريثما أعود، لكن ندائي كان أيضا ليسمع صديقي فيعرف أنني أبدل ملابسي لأذهب معه.
في الطريق، حدثني صديقي كثيرا واستمعت لحديثـه قليلا وكأنني أشاهد مرغما فيلما لا أرغب أصلا بمشاهدته ، فهم من كلماتي القليلة أنني أذهب لأُسمعها كلمات السماح التي تنتظرها، وفهم أيضا أنني ما كنت لأفعل ذلك إلا لأنها على حافة الموت، قال لي متسائلا:
ـ وهل ستتمكن من مسامحتي أنا أيضا إن صرت على حافة الموت؟
ـ أتمنى لها الشفاء وأن تعيشا حياة طبيعية...
ـ أعرف ما تتمناه لنا لكن لا أعرف ما تتمناه لنفسك ؟ لماذا تعيش هكذا لوحدك بعد وفاة جدك ؟؟ و لمَ صرفت النظر عن متابعة الدراسة ؟
سألني أسئلة كثيرة أجاب هو بنفسه عن معظمها، لكن السؤال الأوحد الذي كنت أتمنى أن أجيب عليه ولم أستطع هو ( وهل ستتمكن من مسامحتي أنا أيضا إن صرت على حافة الموت؟ ) كنت أتمنى أن أقول له لقد سامحتكما عندما فتحت عيني في المشفى مثقلا بجراحي ، لكنني لم أتمكن من النطق.
عندما دخلنا باب المشفى، حاول أن يشير إلى جدية الموقف وأن الأطباء شرحوا له كيف أنها لا تستجيب للعلاج لأن رغبتها في الشفاء معدومة، وأنها قد تكون في ساعاتها الأخيرة. ومن بداية الممر المؤدي إلى غرفتها، دلني على الغرفة وانسحب بكذبة مفضوحة مدعيا أنه يجب عليه أن يقابل الطبيب بسرعة خوفا من أن يغادر المشفى، لم أ ُبدِ اكتراثا لتصرفه، فأنا أتيت إلى هنا بإرادتي، ووجودي لن يستغرق أكثر من بضعة دقائق.
جسد هزيل مستلق على فراش الموت، كما هو شعرها الذهبي مستلق على تلك الوسادة ، عيناها الجميلتان عكر صفاؤهما نظرات الرجاء والأمل، كان الموقف بحاجة لأن أسترجع من ذاكرتي ذلك العبقري الشرس حتى أستطيع الصمود.
ـ كيف حالك ، أتمنى لك السلامة ، أين هي تلك التي كنت أستمد من قوتها كل قوتي ؟؟ .... جئتك لتسمعيني وها أنا أسألك!!! حسناً أقولها لك من قلبي الذي ما أحب غيرك: أنا قد سامحتك منذ زمن بعيد ، لقد رأيت الموت مرات كثيرة، وأعرف تماما ذلك الشعور الذي تشعرين به الآن.
لم أكن أدري إن كانت كلماتي مرتبة بشكل جيد أم لا ، لكنني كنت ألاحظ أن معالم وجهها بدأت تشير إلى الرضا، في تلك الأثناء دخل صديقي فنطـَقـَتْ بأول كلمة:
أنظر لقد سامحني ، بدأت أشعر أن شريان الحياة بدأ يسري في دمي.
بحركة عجيبة أخرج صديقي مسدسا من حقيبته, وقال سنعرف جميعا الآن من الذي يجب أن يموت ، وصوب مسدسه إلى صدره وأطلق النار.
كل الكوارث التي مرت بي صغرت أمام تلك الكارثة، حملته وأسرعت به إلى الاسعاف وهو يكلمني قائلا : أردت أن أعرف إن كنت ستسامحني وأنا على حافة الموت أيضا......
اعتقدت أنه قد فارق الحياة عندما وضعته على النقالة، ليدخلوا به إلى غرفة العمليات.
لا أدري كم طال انتظاري على باب غرفة العمليات، فمقاييس الزمن لم تعد منتظمة بالنسبة إلى الأحداث التي تتوالى صورها في مخيلتي، لكني انتبهت أن عدد المنتظرين مثلي بدأ يزداد، وأن اثنان من رجال الأمن قد اقتربا مني، وبكل لباقة قال أحدهما : سيدي لدينا تعليمات بتوقيفك على ذمة التحقيق في الحادث.....
يتبع
الجزء الثالث
بتهمة تحريض صديقي على الانتحار وبدليل تواجدي في مكان وقوع الحادث، وبغياب أي شاهد يمكن أن يشهد على صدق كلامي، حُكـِم علي بالسجن خمس سنوات في محاكمة يمكن وصفها بتمثيلية بارعة....
لم يمض وقت طويل في السجن حتى تمكنت من أجمع حولي الكثير من الأصدقاء، في ساعات النهار كنت أقرأ وأقرأ فمكتبة السجن ذاخرة بالكتب المفيدة والشيء الوحيد الذي أمتلكه هنا هو وفرة الوقت، وفي المساء كنت أحدث أصدقائي الجدد بقصص قرأتها في النهار..... بدأت أتأقلم مع وضعي الجديد، ولم يكن يحزنني سوى فراق كلبي الوفي الذي أظنه قد هلك بحثاً عني....
بعد أربعة أشهر جاءتني زائرة.... فرحتي بزيارتها، برؤيتها معافاة، تصارعت في وجداني مع مأساتي التي خلفتها زيارتي لها في المشفى....
-لقد سجـّلتُ لك في الجامعة، وأحضرت لك الكتب، بعد أيام يبدأ العام الدراسي، أرجوك بشدة، أنا التي كنت سبباً في عدم متابعتك لدراستك الجامعية، أرجوك بشدة أن تستغل فترة وجودك في السجن وتتخرج من الكلية..... أعلم أنك تستطيع فعل ذلك.....أنت عبقري.
- نعم أستطيع، لكني لا أرغب ....
-ستتولد عندك الرغبة عندما تحب أن تسمعني لأحكي لك حقائق لم تكن لتخطر ببالك، لكن عدني بأن تفكر بما قلته لك، وعدني بأن تعطني فرصة للتحدث إليك.... سأزورك في الاسبوع القادم فصحّتي تتحسن بشكل ملحوظ وسأتعافى قريبا.
غادرت وخلفت لي أعباءً ثقيلة، فتوقفت عن مطالعة الكتب من مكتبة السجن وبدأت أفكر بجدية بأن أستمع إليها، فأنا أيضاً بحاجة شديدة إلى من يستمع إلي، تناولتُ رزمة الكتب التي أحضرَتـْها لي وفتحتـُها فارتسمت على وجهي ابتسامة نقية افتقدتها منذ زمن، فقد وضعتْ فيها أيضا علبة "الشوكولاته" التي أحبها، تذكرت مقولتها عندما كنت أساعدها في دراستها " تناول الشوكولاته يشعرني بسعادة لا توصف " .
لم أعد أدري كيف سأخفي فرحتي بزيارتها القادمة التي أنتظرها، لم أعد أتمكن من إدارة الصراع بين حبي اللامتناهي لها وبين كبريائي الذي يدفعني بقوة إلى صدها، ثم ما بال هذا الاسبوع يمضي هكذا ببطء شديد وليس كباقي الأسابيع؟؟ كأنه عام كامل....
كنت متوتراً بعض الشيء عندما جاءت لزيارتي كما وعدتني، فالصراع في داخلي لم يحسم بعد، لكنها هي.... هي التي تفهمني جيدا كما عرفتها، هي التي بادرت في الحديث
-أدرك تماماً أنك تؤمن أنه من العار أن تقترب من زوجة صديقك ولن تفعل، وما كنت لأفكر بزيارتك لولا أنني أعرفك كما أعرف نفسي، حان الوقت لأن تسمعني الآن، أرجوك لا تتكلم لأنهي كل ما عندي.
صديقك كان ضحية أبيه، وزواجنا كان زواج مصلحة، تعلم أن والده آنذاك كان مقربا من الحكومة بسلطة ماله ومعارفه، وكان يريد خوض الانتخابات البلدية ويرغب بالفوز فيها، وتعلم أن عائلتي كبيرة جداً فأراد أن يكسبها في صفه، مارس جميع الضغوط على ابنه ليقبل، وتقدموا لخطبتي، كان رفضي قاطعاً لكنه ضعيفاً فأنا بالنسبة لعائلتي لا أمتلك أسباب الرفض مقابل المغريات التي قدمها الرجل.
وبسبب معرفة والده المسبقة بأن زواجنا لن يكتب له النجاح، استغل نفوذه في العاصمة وقرر إبعادنا في تلك البعثة، جرت الأمور بسرعة مذهلة، لكن هذا كله كان مخططا له مسبقاً من ذلك الرجل الذي يصبو إلى السلطة. وبالفعل فقد حصل كل ما أراده، وفاز في الانتخابات، وهو اليوم في سلطة أعلى، ولا أخفيك بأن أقول لك أنه هو السبب في صدور الحكم عليك بالسجن. أما نحن فكان زواجنا على الأوراق فقط، وكنا نظهر أمام الناس فقط كزوجين، لم يكن أحد منا يجرؤ على الاقتراب من الآخر، لم تجمعنا وسادة واحدة. كان طيفك يحوم حولنا، كان حبك لنا يغمر وجداننا، أما منبع شقائنا فهو أننا كنا الأداة التي غدرت بك.
كان صديقك مخلصاً لك..... يخرج ويمضي ليال حمراء وربما سوداء بحثا عن صديق مثلك لكنه لم يوفق، أصبح له صديقات كثر أضاع معهن سنينه ولم يتخرج من الجامعة. أما أنا فما حصل معي جعلني أمتلك طاقة هائلة لمتابعة دراستي وقد تخرجت بمعدل جيد.
عندما عدنا إلى هنا، كان ينتظرنا مسكن جميل في العاصمة، ووظيفة مرموقة نحسد عليها، وسيارة جديدة تؤمن لنا كل أسباب السعادة المفقودة. كنا نتابع أخبارك وكنا نتناقش دائما ونتساءل إلى متى؟..... لكن ساعة الحساب بدأت تقرب عندما أصابني ذلك المرض الخبيث، كنت فرحة به وكأنه أذِنَ بنهاية عذاباتي، كثيراً ما قال لي الأطباء بأنهم يشعرون أن لا رغبة عندي في الشفاء......
أما الآن فكل شيء قد اختلف، أنا أتماثل للشفاء، أنا الوحيدة التي أمتلك سر عذاباتنا نحن الثلاثة، وأنا الوحيدة التي أعرف كم كان حبك لصديقك كبيرا وكم كان وفاؤه لك عظيماً.
لقد أخبرني أنه سيذهب إليك ليدعوك لزيارتي في المشفى، وقال لي بأن رحلة عذاباتنا قاربت على الانتهاء، لكنه أبدا لم يخطر ببالي أنه كان ينوي الانتحار.
حبيبي، ها أنا ذا أفرغ بين يديك سلة أسراري، وأعلمك أنني آتي لزيارتك سراً، وأني لازلت تلك الفتاة التي أحببتها والتي لن يمسها أحد غيرك. أنا الآن سيدة نفسي، أعيش هنا في العاصمة لوحدي وسأعود إلى عملي قريباً، أهلي يظنون أن أهل زوجي يعتنون بي، وأهل زوجي يظنون أن أهلي يعتنون بي، سأنتظر خروجك من السجن مع شهادتك الجامعية ولنا حديث آخر....
هكذا أنهت كلامها....وبكشفها لتلك الأسرار ازداد حزني على موت صديقي، وانكشفت لي أسرار أخرى فقلت لها : أدركت الآن سبب عدم اهتمامي بالتعرف إلى أي فتاة طيلة السنين الماضية، فهل سيجمعنا القدر من جديد؟؟ أجابتني بكل ثقة بالنفس، إننا نعيش الآن ليلة شتوية طويلة جداً، شديدة البرودة، حالكة الظلام، لكنني على ثقة بأن الصبح سيأتي، وأن الشمس ستسطع من جديد، وسنشعر بدفئها، أرجوك دع الأمر لي واهتم بدراستك، سأزورك كلما سنحت لي الفرصة وأعدك بأن أرتب كل أمورنا من جديد.
من رحم المعاناة ولد الأمل من جديد، أمل يجمعني بمحبوبي الوحيد، كنت ألتهم الدروس بشهية، وأمتحن نفسي بمناهجي قبل أن تبدأ الامتحانات، فالنجاح والنجاح فقط هو الهدية التي سأقدمها لها عند خروجي من السجن. هكذا مضت السنوات......
جاءتني زائرة، كانت فرحتها تفوق فرحتي عندما حصلت على شهادتي الجامعية، أسمعتني عبارات جميلة تشيد بنجاحي لكن تكرارها لهذه العبارات جعلني أتوقع أنها تريد أن تقول شيئاً آخر.
-نجاحي يسرني ، و لك الفضل فيه أولا و آخراً، تعلمين أن متابعة الدراسة لم تكن لتخطر ببالي، لكنني أشعر أنك تـُقـَدّمين إلى شيء آخر تريدين أن تقوليه.
-نعم، هذه هي زيارتي الأخيرة لك، اقترب موعد خروجك من السجن، أحسست بأني مراقبة وقد تعرضت لتلميحات أخذتها على محمل الجد، أخشى أن مستقبلنا معا سيكون في خطر، سأغادر البلد خلال أيام...
-إلى أين ؟؟ هل تنوين السفر إلى المجهول ؟؟
-ستخرج من السجن وسيكون زوج صديقتي في انتظارك، له علاقاته القوية، في اليوم التالي ستحصل على جواز السفر وبطاقة الطائرة وسأكون في انتظارك في المطار، وسنبدأ حياتنا الجديدة....
بعيون يغمرها الرجاء ونظرات مفعمة بالأمل، وبشفاه ترسم ابتسامة لتمتنع عن نطق ما يفيض به القلب، سلـّمتني هدية التخرج، وبكلمات قلـّبت صفحات حكايتي بأجزاء من الثانية ودّعتني قائلة: أنا التي انتظرتك طويلا، سأكون في انتظارك في المطار....
توقعت أن أجد في علبة الهدية رسالة تشرح لي فيها ظروفها لكنني وجدت منديلا مشغولا بأناملها البارعة مطرز عليه اسمها يتداخل مع اسمي، وحمامتان تعانقان قلباً واحداً، بالاضافة إلى علبة "الشوكولاتة" التي أحبها، وبطاقة مصرفية لا أدري شيئاً عنها..... ، كم أنتَ رائع أيها المخلوق البشري؟؟ تستطيع أن تكون لاشيء وبمقدورك أن تصير كل شيء !!!! كم أنتِ كبيرة يا حبيبتي !!!!
كان الرجل في انتظاري يوم خروجي، أحسست أنه يحيطني بعناية فائقة، أعطاني شيفرة البطاقة المصرفية التي بحوزتي وقال لي أنت ضيفي إلى الغد فقط، أعدك أنك ستسافر غداً......
لم أعد أتمكن من متابعة كتابة قصتي، فدموع العين التي استخدمتها بدل الحبر قد نفذت، ثم إن طفلتنا الصغيرة "آية الجمال" تشدني إلى سريرها لأغني لها أغنيتها قبل أن تنام حيث سنحتفل غداً بعيد ميلادها الثاني.
قصة جميلة جدا، شكرا جزيلا، هل هناك نية لاكمالها؟؟
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)