أسلم بسبب المشاهد التي رآها لمعاملتي لوالدتي
لم أكن بحاجة لتذكيري أن البر بالوالدين فـــرصـة ذهبية لا تعوض لدخول الجنة ولذا أصررت على أن أصحب معي أسرتي وبخاصة والدتي المريضة، وأن يكون ذلك شرطي الأول والأخير لقبول الابتعاث إلى المانيا في دورة مدتها سنة وبضعة أشهر لدراسة مواد تخصصية في مجال عملي.
أكد لي المدير أنه لا يمكن ابتعاثي بهذا الشرط، وأن هناك ثلاثة موظفين ليس عندهم ظرفي الذي يستوجب ذلك الشرط.
سألته: هل تراني أكفأ المتقدمين أم لا؟
قال: بصراحة نعم !
- أليس في نظام الابتعاث شيء بخصوص ظرف مثل ظرفي مع والدتي؟
- أظن .
- لا .. !! بل فيه!! أنا متأكد أن واضع النظام قد راعى مثل هذا الظرف المهم في مجتمعنا، ومع ذلك فأنا من كل قلبي أخبرك أنه لا رغبة لي في الابتعاث إلا باصطحاب والدتي، وثق أنني لا أقبل المساومة على هذا الشرط .
وانتهى النقاش عند هذا الحد بيني وبين المدير، نسيت الموضوع تماماً، فلم أكن أطمح إلى الابتعاث لأن دبلوم الابتعاث يحتاج إلى معاناة، ثم إن مردوده الوظيفي لا يستحق كل هذا العناء، ولذا شعرت حين أخبرني المدير بقرار ابتعاثي أني أقدم على شيء ليس مريحاً.
لم تفرح زوجتي كثيراً بخبر هذا السفر، ولم تُخفِ والدتي ضيقهــا ،وإن كانت لا تبدي أي اعتراض وذلك من طبيعة ودها ولطفها بي، فهي تلقي وجهة نظرها بأسلوب خفيف بعيدا عن الإحراج، لأنها تعرف أن أي وجهة نظر منها سأعده أمراً أمتثله مهما كان، ولذا لم تكن تتضجر أو تبدي تأففاً لأي أمر تراني مقدماً عليه أو في مصلحتي، وكانت تثق كل الثقة باختيـاري ورأيي، وهو شيء أعتز به، وتوفيق من الله أشكره عليه.
وعلى الرغم من ذلك الجفاف والبرود الذي صاحب قبول الابتعاث إلا أنني أشعر داخل نفسي بأن الابتعاث سيكون من ورائه خير ما... لا أدري ما هو؟! لكنني أحس بأنه سيحدث!!
قلت لوالدتي : نغير جواً، ونزداد خبرة، ومكافأة.
قالت بسماحة نفس:
- الله يدبِّرنا وإياك للخيرة المباركة.
واعتبرت هذا القول منها موافقة ثمينة. وفي الأيام التي سبقت السفر زرت مع والدتي الطبيبة التي تتابع علاجها وأخذت كمية كبيرة من الأدوية التي تتناولها، وكذلك كل ما أتوقع أنها تحبه وستفتقده في السفر.
وصلنا إلى (كولون) بألمانيا المدينة التي سوف أدرس فيها، وأسرعت في البحث عن سكن مريح فوجدته في حي هادئ جداً، لم يكن يعنيني في الدرجة الأولى إلا الراحـة النفسية لوالدتي ولزوجتي وأطفالي الثلاثة.
وسارت أمور الدراسة سيراً حثيثاً، مع حرصي ألا تستأثر بوقتي جميعه، ولذا لم أضغط على نفسي في الجدول الدراسي، لكي يكون لي وقت مع أسرتي، ووالدتي، ولم أجد صعوبة تذكر بالنسبة لعائلتي إذ كانت هنالك مرونة في التلاؤم مع الظروف الجديدة، فسارت الأمور على خير ما يرام.
أما بالنسبة لوالدتي المريضة المقعدة، فلا بد أن تلقى مني ومن الأسرة عناية مضاعفة، وإن كنت على يقين أنها- حتى وإن لم ترتح في الغربة- فلن تبديَ لي شيئاً من ذلك، حتى لا تكون سبباً في إرباكي أو مضايقتي. ولذا لم أدخر جهداً في بذل سبل الراحة لها.
واشتريت سيارة مناسبة، فكنت أوقفها قريباً من باب المنزل ثم أدفع بالكرسي المتحرك الذي تجلس عليه إلى السيارة فإذا حاذيت الباب فتحته، وحملتها برفق بالغ ووضعتها على الكرسي المجاور لكرسي السائق، ولم أنس في كثير من الأحيان أن أمازحها بكلمة تشجيع أو مجاملة.
وكلما خطر في ذهني شيء من التضايق أو التعب استحضرت قصة ذلك الرجل الذي حمل والدته وطاف بها البيت وسأل عمر (رضي الله عنه): هل أدى حقها أو شيئاً من حقها؟ فقال لـه عمر: ولا طلقة من طلقاتها، إنك تحملها وتتمنى موتها حتى تستريح، وحملتك وهي تتمنى لك الحياة..!!
أتذكر هذه الحادثة فأستحي، وأبعد كل غرور يطيف بأرجاء نفسي في أن أكون قد أديت شيئاً من الواجب علي نحوها. ومع ذلك لا أذكر أنني تعمدت إغضابها، وكنت سعيداً لا تكاد الأرض تسعني من الفرح حين أرى مخايل الرضى على قسمات وجهها، وأسمع منها الدعاء الصادق الندي الذي أجده يعطر الأجواء حولي أينما ذهبت..
كنت رفيقا بها، حنوناً عليها كلما أنزلتها من السيارة ووضعتها على الكرسي المتحرك، أو عند التجول بها في الحديقة أو السوق، وقد عرفت زوجتي أن هذا الأمر من مهماتي، فتولت العناية بأطفالي والإمساك بهم في مثل تلك التجولات.
كانت هنالك عينان ترقباني في كثير من الأحيان دون أن أشعـر، وكانت تبهرها العناية المدهشة، وسعة صدري في هذه الرعاية التي أقـوم بها لأمي.
وفي إحدى الأيام، وعقب مجيئنا من جولة من جولات التنزه مـــع والــدتي وزوجتي وأطفالي. وجـــدت جـــاري قادماً نحوي، وأنا في طريقي لإنزال بعض الأغراض من السيارة.
إنني أعرفه معرفة خفيفة، فطالما تبادلت وإياه تحايا عابرة حينما نلتقي قريباً من منزلنا، أو في السوق المركزي الصغير للحي الذي نسكن فيه.
كان رجلاً طويلاً، ضخم الجثة، أشيب الشعر، تدل سحنته على شيخوخة وكبر في السن، وإن بدا وافر النشاط جم الحيوية، لكنه أبداً لا يستطيع إخفاء أعراض الشيخوخة التي تبدي زحفها القوي على بدنه وتترك بصماتها الواضحة في انحناء ظهره، وتجعد بشرته، وضعف بصره، لكن روحه بالفعل كانت شابة، تتجلى في نظراته المتفائلة، وابتسامته الصافية البسيطة التي لا يتكلفها، يحيي بها كل قادم حتى ولو كان غريباً مثلي.
قال لي:
- لقد تعارفنا منذ مدة أليس كذلك؟
- سعدت بذلك.
- لا أحب الفضول أو التدخل في شؤونك الخاصة، ولكن هنالك شيء يثيرني وأتعجب منه كثيراً.
- ... ؟؟
- هذه العجوز التي تعتني بها، كم تدفع لك من الأجرة مقابل هذه العناية الشديدة بها..؟؟ لا بد أنها تجزل لك المكافأة.
-... ؟؟
ثم أضاف:
- لقد رأيتك تعتني بها عناية فائقة، وذهلت لاستمرارك على هذا المستوى، دائماً تحملها في السيارة ثم تنزلها منها، تقبل رأسها ويدها، وتتجول بها، وترفه عنها، لم أرك في يوم من الأيام متضايقاً من خدمتها، لقد أثار هذا فضولي كثيراً، لا مؤاخذة!! ولكن هذا ما حدث بالفعل، وهو ما دفعني بالفعل إلى هذا السؤال؟!
ورأيت أن أزيل الكلفة بيننا فقلت له:
- سأجيبك على تساؤلك، ولكن ليس هنا، ونحن وقوف على باب المنزل. أرجو أن تتفضل وتشرب معي قدحاً من القهوة..
- أنا حريص على وقتك.. ربما لا تعلم أنني متقاعد ولدي وقت فراغ أكثر منك بكثير.. وأكثر مما أريد.. ولا أريد أن أضايقك.
- لا مضايقة أبداً.
ودخل معي إلى المنزل، وبينما كنا نرتشف القهوة، رحت أجيبه عن تساؤله الذي أفضى به إلي، أخبرته أنها أمي، وأنني أخدمها بدون نقود، بل إنني أنفحها في كل شهر بمصروف خاص، تنفق منه ما تريد مع تغطية جميع ما تحتاج إليه بكل معنى الكلمة.
ذهل وهو يسمع هذه المعلومات قلت:
- ليس هذا هو المهم.
نظر إليَّ بتعجب وقال:
- وهنالك ما هو أهم من ذلك؟
- نعم.. !! إنني أقوم بكل ذلك في سعادة غامرة، ورضى يعمر قلبي بالحب والسرور، إنني لا أشعر أنها مشكلة على الإطلاق!! بل نعمة موفورة أتاحها القدر لي. وهنالك شيء أؤمن به وهو أن ما سأقدمه لوالدتي سوف أجده من أبنائي، والأمر الأعظم من ذلك كله أنني أريد رضى الله تعالى. ولدينا إيمان نحن المسلمون بأن رضى الله من رضى الوالدين وسخطه من سخطهما، فهما أو أحدهما سبيل لنعيم خالد، أو لعذاب خالد مستمر بعد الموت، هذا أمر الله تعالى ويجب أن نمتثله ولا نعارضه.
قال بلهجة ونبرة فيها تأسف:
- أنا لا أصدق أن مثل ذلك يحدث لولا أن رأيتك بعيني!!
وتنهد بحسرة بالغة وهو يقول:
- لقد أحلت إلى المعاش منذ ثلاث سنوات، ولو لم يكن لدي هذا المنزل وراتب المعاش لرمى بي ولدي وابنتي إلى دار المسنين، لأني لا أجد عندهما أي عاطفة نحوي، لقد أنفقت مالاً كثيراً في تربيتهما وتعليمهما، ومع ذلك فقد نسيا ذلك كله (ثم توقف ليقول):
- أتصدق أن ابني قد زوَّر توقيعي عدة مرات وسحب من رصيدي في المصرف عدة مرات؟ كان يعلم أنني أحبه، وأني لن أعاقبه، وقد غضبت منه وقتها، ولكنني لم أستمر في غضبي لأنني رغم كل شيء أحبه، والمشكلة أنه يعرف ذلك!! لقد خدمت في الشرطة زهرة شبابي حتى وصلت إلى رتبة جيدة، والآن أعيش وحدة قاتلة، ولو كانت زوجتي بجانبي الآن ربما كانت المشكلة أقل، لكننا كنا قد افترقنا بالطلاق منذ عدة سنوات. وعاش كل منا وحده. لا أدري ما حدث لها بعدي... آسف!! (... ثم أضاف بلهجة حزينة!!) لقد أشغلتك بأمور لا تعنيك.
- لا.. أبداً ... أنا سعيد أن تختارني بالذات لتكشف لي عن معاناتك.. وهذه ثقة أعتز بها.. أعتز بها كثيراً..
- حقَّاً .. أنت تبالغ في مجاملتي..
- هذا ما أعتقده .. أنا لا أجاملك..
وسار الحديث هادئاً هانئاً، ثم تجدد اللقاء بعد ذلك.. حيث دعاني إلى منزلـه عدة مرات، وحين عرف أن ديني الإسلام هو الذي يجعلني أحترم والدتي وأحبها وأبذل الكثير لإسعادها رأيته يطلب مني أن أحدثه عن الإسلام.. قال: إنه لا يعرف إلا القليل عنه، وأن هذا القليل لا يشجع مطلقاً على الدخول فيه .
وجدتها فرصة.. قلت له:
- لماذا لا تتعامل مع المصدر الأصلي لتعاليم الإسلام؟
- ما هو؟
- القرآن الكريم!
وناولته في اليوم التالي نسخة من القرآن الكريم، وعددا من الكتب الإسلامية المتميزة، وتركته يقرأ على مهل، ويفكر بهدوء، وأنا أدعو من صميم قلبي أن يهديه الله على يدي، ولم يخيِّب الله رجائي، إذ لم تمض ثلاثة أشهر، إلا وهو يأتي إليَّ يعلن فيه رغبته باعتناق الإسلام.. هذه الرغبة التي أشعلتها في نفسه بعد توفيق الله رؤيته لرعاية والدتي بكل حب وحنان. لقد جاءت به المشاهد التي رآها لمعاملتي لوالدتي ليكون من المسلمين من غير أن أكلمه وقتها بأي كلمة عن الإسلام!!.
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)