منذ القرن التاسع عشر، وقع التدليل على وجود النشاط الإشعاعي الذي يرمز إلى إشعاعات تبثّها كل أنواع المواد المتوفرة في الأرض (من أحجار وأشعة الشمس فوق البنفسجية......).
إذن يوجد النشاط الإشعاعي في كل المناطق وبدرجات متفاوتة حتى وإن لم يتفطن الإنسان لذلك.
في سنة 1938، وقع اكتشاف الانشطار النووي: إذا ما أخضعنا المادة المشعّة لظروف محددة، تنتج هذه المادة طاقة حرارية قد تؤدي إلى الانفجار. تتطلب هذه الظاهرة توفّر كمية هامة من المواد المشعة تسمى "بالكتلة القصوى" . من بين التطبيقات الأولى لانشطار المادة، القنبلة الذرية. أما التطبيق الثاني فيتمثل في إنتاج الكهرباء. لكن إنتاج الكهرباء النووي هو بالأساس لغاية عسكرية. يتحول جزء من اليورانيوم المستعمل في محطات توليد الطاقة النووية إلى مادة البلوتونيوم (وهو مركب اصطناعي) ويبلغ وزن الكتلة القصوى للبلوتونيوم 6 كيلوغرامات بينما يبلغ 200 كيلوغراما بالنسبة لليورانيوم. هكذا أصبح إنتاج القنبلة الذرية أمرا يسيرا.
بعد الحرب العالمية الثانية، وقع اكتشاف الانصهار النووي. فتحت تأثير حرارة فائقة تبلغ ملايين الدرجات يتفاعل الهيدروجين ومواد مشعّة أخرى وتنتج كميات هائلة من الطاقة. بسرعة اكتشف الإنسان تطبيقا عسكريا للظاهرة. إنها القنبلة H، بينما لازالت البحوث متواصلة لإيجاد تطبيقات في الميدان المدني. لكن عراقيل وعوائق تقنية تحول دون ذلك: كيف ننتج ونراقب في نفس الوقت حرارة تبلغ 150 مليون درجة.
لم تعتن البرامج النووية الأولى بمخاطر النشاط الإشعاعي. على سبيل المثال كان العاملون يلمسون بأيديهم قضبان اليورانيوم للحاشدة الذرّية. لكن بعد ظهور حالات من السرطان واللوكيميا، وقع التفطن لمضار النشاط الإشعاعي. فجسم الإنسان يخلط بين بعض المواد المشعّة وأخرى ضرورية لضمان نشاطه الفيزيولوجي. فعلى سبيل المثال، تثًبت الغدة الدرقية اليود 131 المشع عوضا عن اليود 126 غير المشع وكما لا يفرق جسم الإنسان بين السترونتيوم 90 المشع والكلسيوم 40 يتسبب الإشعاع أو ابتلاع العناصر المشعة في أمراض والتهابات وسرطانات واضطرابات فيزيولوجية وأنواع من اللوكيميا. كما يحدث النشاط الإشعاعي طفرات بما أنه يغير التكوين الهيكلي الحامض اليبونووي منزوع الأكسيجين DNA وهذا يتسبب في تراجع الخصوبة والعقم وفي تشوّهات خلقيّة للمواليد الجدد الذين تعرض والداهم للنشاط الإشعاعي.
لكن إذا كان تأثير الكميات العالية من النشاط الإشعاعي معروفا وبارزا فهذا لا ينطبق على النشاط الإشعاعي الموزع والمنتشر والذي يمكن أن تبرز آثاره بعد عقود من التعرض له.
حددت مؤسسات الطاقة النووية الكمية السنوية المقبولة من الإشعاعات وهي لا زالت محل جدال. فإذا استثنينا دراسة آثار الإشعاعات على الناجين من هوريشيما وناكاساغي، فإنه لا توجد دراسات وبائية جدّية حول هذا الموضوع. من ناحية أخرى، يؤكد عدد من الباحثين أنه حتى كميات ضئيلة ومحدودة من النشاط الإشعاعي قادرة على إحداث طفرات وبالتالي فإن إقرار الكمية السنوية المقبولة من النشاط الإشعاعي يعتمد على تقدير اعتباطي.
وإذا استثنينا النشاط الإشعاعي الطبيعي فانه بالإمكان تحديد كمية الإشعاعات الاصطناعية ويمثل السيزيوم 137 Cesium مادة مؤشّرة. فهذه المادة ناتجة عن الانشطار النووي ولا توجد بصفة طبيعية وهي تدلّ على وجود مواد مشعة أخرى. فنتيجة للتجارب النووية في الجوّ والتي انعكست على كامل الكرة الأرضية أصبح السيزيوم-137 موجودا في كل بقاع العالم ولكن بمستويات عالية في بعض المناطق كتشرنوبيل ولقد وقع نشر أطلس للسيزيوم-137 في أوروبا والعالم. لا يوجد وجه شبه بين النشاط الإشعاعي الطبيعي والنشاط الإشعاعي الاصطناعي. فحول محطة توليد الطاقة النووية يبلغ النشاط الإشعاعي 17 مليون مرة النشاط الإشعاعي للبحر على سبيل المثال.
تتعرض محطات توليد الطاقة النووية إلى أحداث متفاوتة الأهمية والخطورة من ذلك انفلات وتسرب النشاط الإشعاعي من محطة توليد الطاقة والتعرض للفيضانات والتعطل وارتفاع الحرارة بصفة غير طبيعية. تعود هذه الأحداث إلى أخطاء بشرية أو عطب تقني. لكن المسؤولين والمختصون يقرون بأن احتمال وقوع حادث نووي خطير ضئيل جدا وهذا لا ينفي احتمال وقوعه في أي وقت وهذا ما أثبتته عديد الأحداث. فتشرنوبيل ليس الحادث النووي الوحيد الذي عرفته البشرية. منذ سنة 1954 وقع ما يقارب ستون حادثا خطيرا.
من بين هذه الأحداث نذكر انفجار Tchéliabinsk بالاتحاد السوفييتي السابق في سنة 1957 ويمكن مقارنته بكارثة تشرنوبيل وقد انتشر السحاب النووي على امتداد 1000 كيلومترا. في نفس السنة عرف المولّد المركزي للطاقة النووية ببريطانيا بـWindscale حادثا أدى إلى انتشار سحابة نووية بلغت الدنمارك ولم يقع الاعتراف بهذا الحادث سوى في سنة 1979 وقد أثبتت الدراسات أنه تسبب في حالات سرطان وتشوّهات خلقية ووراثية. في سنة 1979 انفجر مولد Three MileIsland بالولايات المتحدة الأميركية وتسبب في انتشار مواد مشعّة.
في سنة 1981 وقع حادث بمصنع La Hague بفرنسا وقد أدى إلى إصابة 400 عامل وتعرضهم إلى الإشعاعات النووية وقد بلغ تلوث الحليب والنباتات حول المصنع 300 مرة الحد المسموح به.
نضيف إلى كل ذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر حادث محطة Takaï-Mura باليابان في سنة 1999 و Mihawa باليابان في سنة 2004 وTemelin بتشيكيا في سنة 2006 وحادث محطة Farsmark في السويد في 2006... القائمة تطول.
نضيف لهذه أمثلة حوادث لا تقل خطورة نذكر منها:
- سقوط طائرات حاملة لقنابل من ذلك سقوط 6 طائرات لسلاح الجو الأمريكي في عرض البحار محملة بصواريخ نووية. من بين الأمثلة الأكثر خطورة سقوط طائرة B52 في سنة 1996 وهي محملة بـ4 قنابل هيدروجية H فوق منطقة Palomares بإسبانيا
- غرق غواصات نووية وهناك عشر أمثلة معروفة.
- سقوط مراكب فضائية تسير بالحاشدات الذرّية
أخيرا نذكّر بالمخاطر الناتجة عن نقل المواد النووية والتي عادة ما تحاط بالكتمان التام. في شهر أيار- مايو 1998 كشفت وسائل الإعلام الفرنسية أن موادا مشعّة قد وقع نقلها على مدى سنين عن طريق القطار بحيث فاقت كمية المواد المشعة الحد المسموح به بـ500 مرة. كذلك يقع نقل المواد المشعة على شاحنات وقد تبلغ كمية المواد المشعة من البلوتونيوم 150 كيلوغراما في الأسبوع ويقع ذلك دون إعلام المواطنين وحتى الممثّلين المحليين.
عندما وقع الشروع في بناء المحطات النووية لم تكن قضية النفايات النووية تشغل المسؤولين الذين تجاهلوا تأثيراتها البيئية والصحية.
في سنة 1990 أثبتت دراسة علمية وجود تلوث نووي خطير صادر عن المركز العسكري بـ Hanford بالولايات المتحدة الاميركية أين وقع انجاز مشروع مانهاتن. فلقد وقع إلقاء كيلوغرامات من مادة البليتونيوم في الهواء الطلق والمحيط دون القيام بأي دراسة وبائية حول انعكاس النفايات على صحة المواطنين الساكنين قرب المحطة.
إلى حد سنة 1983، تخلصت البلدان النووية من نفاياتها بإلقائها في البحر. تشير الأرقام الرسمية إلى ما لا يقل عن 95 ألف طن من النفايات التي ألقيت في البحر.
في فرنسا وقع التخلص من النفايات النووية العسكرية بردمها في الأرض أو إلقاءها في الأنهار أو بحرقها في الهاء الطلق وهذا إلى حد سنة 1991. في فرنسا أيضا تخلّف المحطات النووية المنتجة للكهرباء كميات من النفايات تقدر بـ3000 حاوية وكل واحدة منها تحتوي على 500 كيلوغراما. من بين الوسائل الحديثة للتخلص من النفايات هناك الخزن في عمق 600 إلى 800 مترا تحت الأرض وفي منطقة غير معرضة للزلازل. لكن هناك خطر تلوث الماء بالنفايات.
ثم ما هو مصير هذه الكميات الهامة من النفايات المردومة في الأعماق بعد مئات وآلاف السنين. كذلك لابد من الإشارة إلى النفايات النووية ذات الإشعاع المحدود كالإسمنت والتراب والحديد التي تلوثت بعد مكوثها مدة محدّدة قرب المحطات. ماذا نقول عن النفايات المنجمية والتي تبلغ ملايين الأطنان قرب مناجم اليورانيوم؟
لا يقتصر التلوث على النفايات النووية بل يتعدّاه إلى المواد التي تلفظها المحطات من مواد كيميائية وسوائل تحتوي على مواد مشعة مثل Tritium وغازات تحتوي على مادة السيزيوم Cesium والتريتيوم Tritium وبعض الغازات النادرة.
تحدد المستويات القصوى للمواد التي تلفظها المحطات النووية وتقاس بصفة سرّية تامة بحيث يعجز المواطن عن التعرف على طريقة القيس التي لا تتوجه أساسا إلى درجة سمومة المادة على البشر بقدر ما ترتبط بالإمكانيات التكنولوجية المتاحة. على سبيل المثال يمكن إلقاء مادة التريتيوم السامة دون أن يعتبر ذلك تجاوز لقوانين السلامة.
أخيرا تكمن المخاطر الأخرى في التطبيقات العسكرية للطاقة النووية. فرغم مختلف المعاهدات الداعية إلى عدم تطوير الأسلحة النووية والتي تسعى في الحقيقة إلى "حرمان" الدول من هذا السلاح وحصر ملكيته على الدول الكبرى فقد أحصى المختصون في سنة 2004، 16 ألف نوعا من الأسلحة النووية ومصادر عديدة لمادة البليتونيوم واليورانيوم المخصب.
فإذا كان صنع قنبلة نووية يتطلب تقنيات وتجهيزات كبيرة ورصد أموال ضخمة فإن صنع "قنبلة قذرة" كما هو متعارف عليه أي قنبلة مشحونة بمواد مشعة هو أيسر بكثير.
من ناحية أخرى ومنذ 50 سنة راودت فكرة إنشاء مولّد ضخم عديد المختصين ورجال السياسة وهذا المولد قادر على إنتاج كمية من البليتونيوم تفوق الكمية المستهلكة. لكن هذه التقنية الجديدة التي يدعى أصحابها أنها ستمكن من التخلص من العقبات والآثار السلبية الناتجة عن إنتاج الطاقة الذرية باستعمال مولدات كلاسيكية لا تخلو هي الأخرى من المخاطر. فهي ستنتج نفايات أشد إشعاعا وتتطلب نقل كميات أكبر من المواد النووية (عبر الطرقات أو السكك الحديدية) وتتطلب تعميم معالجة النفايات (التي لا تمكن من التخلص منها بصفة نهائية) وإلقاء مزيد من النفايات في المحيط كالبلوتينيوم.
في الملتقى الوزاري الدولي حول "الطاقة النووية في القرن الواحد والعشرين" الذي انطلق في بكين العام الماضي صرح السيد Angel Gurria الكاتب العام لمنظمة البلدان المصنعة OCDE أن "الطاقة النظيفة وبأسعار معقولة بما في ذلك الطاقة النووية المؤمّنة والسليمة ستمثّل العنصر المركزي لمجهوداتنا الرامية إلى تأمين اقتصاد مستديم وضمان مستقبل مزدهر للأرض". حسب الوكالة العالمية للطاقة ووفقا للإحصاءات الأخيرة والخاصة بـ"آفاق الطاقة النووية" سيعرف إنتاج الطاقة النووية زيادة لا تقل عن 55 بالمائة وقد تبلغ 375 بالمائة بحلول سنة 2050.
يتحتم بناء أعداد متزايدة من المولدات إلى حد سنة 2030 وإنشاء 23 إلى 54 مولدا ضخما بطاقة 1000 ميغاوات في السنة.
في فرنسا توفر الطاقة النووية 80% من الكهرباء وتوجد 58 محطة نووية سيقع الشروع في توسيعها.
كما تقوم فرنسا ببناء محطتين تعملان بمولد من الجيل الثالث EPR. نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لبريطانيا واليابان وكوريا والصين والهند. أما في الولايات المتحدة الأميركية أين لم يقع بناء أي محطة جديدة منذ 1997 فلقد دفعت إدارة بوش الابن نحو بناء محطات نووية جديدة. اليوم هناك 30 محطة في طور البناء في العالم بينما يوجد 422 محركا لإنتاج الطاقة النووية في 31 بلد.
إن تعبير الطاقة النظيفة الذي يلصق بالطاقة النووية لا يخلو من مغالطة، وهذا بالنظر لخطورة هذه الطاقة، كما أن استعمالها سوف لن يحدّ من الاحتباس الحراري بل قد يعرّض العالم لكوارث غير محسوبة العواقب
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)