««صديقة الدرب»»
كل زائر يقصد قصر العظم، و خاصة عند العبور من زحمة سوق الحميدية مخلفا وراءه كل الأصوات التي تدعو للشراء أو حتى الفرجة ، يخيل إليه أنه دخل زمان آخر ،فتراوده تلك القصص و الصور التي ما زالت تذكّر بها بقايا أعمدة معبد جوبتير الدمشقي العائد للقرن الأول الميلادي. يتداخل القديم بالحديث، إذ تسمع صوت بائع الفول النابت مع الحامض على طرف الطريق ، لم نصل بعد إلى مبنى القصر، حتى و لو عبرنا جادة الوراقين، " مكان قديم متخصص ببيع الكتب"، ووقفنا وجها لوجه أما باب الجامع الأموي، لنمشي يمينا في شارع المدرسة الصادرية القديمة،هنا يحضر خلفاء بني أمية ، و خاصة قصر الخضراء الذي ابتناه الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، إذ يقع قصر العظم على جانب من رقعة كان يقوم عليها قصر معاوية ، و تحديدا في حي الحمراوي بجوار سوق البزورية الشهير، ما بين الجامع الأموي في الشمال و سوق مدحت باشا في الجنوب.
و قد ذكرت بعض المصادر التاريخية أن قصر العظم بناه الوالي أسعد باشا العظم عندما أخذ دار الخليفة الأموي معاوية، و ما حولها من دكاكين و خانات و بيوت ليبني فيها داره.
بعد استقلال سورية تم استملاك كامل المبنى عام 1953 ، و بعد القيام بأعمال الترميم، و تزويد المبنى بالتجهيزات اللازمة، حوّل إلى متحف للتقاليد الشعبية و الصناعات اليدوية التقليدية ، و افتتح في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر عام 1954 .
و حسب الأستاذ محمد سليمان المتخصص في الأبنية التاريخية العثمانية، أن قصر العظم مثل كل البيوت الدمشقية العريقة المشادة في مرحلة الحكم العثماني، إذ هي ذات تقسيم ثلاثي الأجنحة ما زالت محافظة على تسميتها التركية ، ، و هي (الحرملك)، أي جناح العائلة، و (السلاملك) أي جناح الضيوف، و (الخدملك) أي الجناح الخاص بالخدمة .
و أضاف " اعتمد في بناء واجهات القصر الداخلية المطلة على الفسحات السماوية، وواجهة البوابة الخارجية على الحجارة الملونة نظمت في مداميك متناوبة و متدرجة الألوان بيضاء و مصفرة و محمرة تفصل بين مداميك من الحجارة السوداء.".
نعم.. لروعة البناء و جماله، صار متحفا مقسما إلى قاعات تختصر حياة دمشق ، من أمكنة و مهن ، و عادات و تقاليد،حتى إذا أراد أي زائر أن يرجع لقرون مضت، ليقف عند تفاصيل الحياة، فيمكنه أن يدخل هذا المتحف العريق.
قاعة سميت بقاعة التدريس في المتحف.. لقد دهشت الطفلة (شذى) و هي تراقب تلك المجسمات لطلاب يتعلمون الحروف، و شيخ يلقنهم الدرس، سألناها عن المشهد فأجابت " الطلاب هنا يجلسون على الأرض، و أخبرتني أمي بأنهم كانوا يتعلمون بهذه الطريقة أيام زمان ، أما الآن لدينا مقاعد نجلس عليها، و تعلمنا مدّرسة و ليس شيخ كبير مثل هذا".
انتقلنا بعدها إلى قاعة الآلات الموسيقية الشرقية ، حيث تعرض في الخزائن آلات إيقاعية، و نفخية ووترية، مثل: الطبل و الدربكة و الدف، و المزهر،و الصنجات، و الجلاجل، و أيضا نماذج أخرى من الناي و الأعواد، و يرى الزائر على جدار القاعة الغربي صورا لبعض أعلام الموسيقا و الغناء العربيين في سورية، الذين كان لهم دور الريادة الفنية في المرحلة ما بين القرن التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين مثل: أبو الخليل القباني و علي الدرويش، و عمر البطش، و الشيخ محمد نور عثمان ، و سعيد فرحات و أيضا يوجد صور لعازفين على الآلات الموسيقية تعود للعصر الروماني .
أما في قاعة الاستقبال في قصر العظم ، فقد فرشت بالسجاد و تحوي مصنوعات خشبية مثل: الكراسي، و سرير طفل، و في أحد الخزن، وضعت قباقيب خشبية مرصعة بالصدف و بعض الأواني ، إذ يقف الزائر مندهشا لتلك الصناعات اليدوية الجميلة.
في أروقة المتحف و قاعاته، ثمة سياح أجانب، يقربون وجوههم من تلك المعروضات ، و تارة يبتسمون و تارة أخرى يفكرون، و على ما يبدو أن للمعرض زوار عرب و سوريون من طلبة مدارس و عائلات من محافظات سورية أخرى تزور المكان، حتى أننا سألنا إحدى الزائرات عما تشاهده فأخبرتنا أنها من محافظة أخرى و قالت ( لا يوجد متعة لزيارة دمشق ، إلا بزيارة هذا المكان).
في قاعة العروس ، يفاجىء الزائر بمجسم لعروس تكاد تكون حقيقية مرتدية بدلتها و تظهر على يديها آثار التزيين و النقش تقف إلى جانبها والدتها مرتدية أثوابها التقليدية ، و ترافق العروس (الماشطة) التي تشرف على زينة العروس.
و ننتقل إلى قاعة الحماة في المتحف فيظهر مجسمات بديعة لحماة ( أم الابن المتزوج) و كناتها و كأن القاعة غرفة جلوس عائلية حقيقية .
و من القاعات المهمة في متحف قصر العظم ، قاعة الملك فيصل و التي خصصت بعد فرشها بالسجاد لعرض مجموعة من الأثاث الشرقي ، و قد صنع بعضه خصيصا لإهدائه إلى الملك فيصل بعد دخوله دمشق و تحريرها من الحكم العثماني ، كذلك قاعة الحج و أيضا جناح المقهى الشعبي إذ يظهر لنا مجسم للحكواتي و لعبة المنقلة كما كان شائعا في مقاه دمشق، و أيضا مجسما لرجال يجلسون أمام " صندوق الدنيا".
و من الأجنحة التي يقصدها الزائر في المتحف هي قاعة السلاح و قاعة الباشا وقاعة الحمّام مع معروضاته من مجسمات لرجال في الحمام، و أيضا القاعة الكبرى و قاعة الأزياء الشعبية و قاعة الصناعات الجلدية ، و إيوان السلاملك الذي يعرض فيه فرن للزجاج و مجسم لرجل يصنع القوارير، و أيضا مجسم لرجل يخرط الخشب بالدولاب اليدوي ، و قربها قاعة النسيج و قاعة النحاس و معروض فيها مجسمات لأصحاب تلك المهن.
هذا هو قصر العظم، قطعة من الماضي لكنها ما زالت صالحة للتعبير عن كل ما تختزنه هذه المدينة ...
يَا سُـــورْيَا لاَ تنْحَنِيِ .. .. أَنَا لاَ أُذَلُ وَلاَ أُهَــــاَنْ
خَلِّي جَبِينَكِ عَاَلِيـــــاً .. .. مَادُمْتِ صَاحِبَةُ الْمَكَانْ
للاستفسار او مساعدة راسلوني على هاد الايميل
[email protected]
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)