في تونس انطلق الشعار: 'الشعب يريد اسقاط النظام'، وفي مصر تشكّل الميدان، فصار 'ميدان التحرير' اطار التوازن بين سلطتي الجيش وثوّار 25 يناير. اما في سورية، التي تتفتق فيها الانتفاضة الشعبية وسط الدم والترهيب، فلقد اضيف شعار جديد الى شعارات الثورة: 'الشعب السوري ما بينذلّ'. كما ارتفعت كلمة الحرية، ملخصة الهدف والمشروع.
الشعب لا يُذلّ، ويرفض الاذلال. كلمة الذلّ تثير كلّ المواجع. ما معنى ان ينتفض شعب ضد اذلاله؟ وهل يمكن اقناعه بأن يعود الى بيت الطاعة بعدما اكتشف انه يستطيع ان يصرخ في الشوارع.
ان تنطلق كلمة الذلّ من الحناجر، فهذا دليل على ان الناس تصرخ من اعماق الألم. كلمة ذلّ هي اشدّ الكلمات وحشية والتباساً، الى درجة ان ابن منظور لم يجد مرادفاً لها في 'لسان العرب'، ففسرها بنقيضها: 'الذلّ نقيض العزّ...والذلّ: الخِسة، وتذلل اي خضع'...
لم يجد ابن منظور في نفسه القدرة على شرح كلمة خسيسة الا عبر نقيضها. فالاذلال يجمع الاخضاع الى الهوان، ويتضمن امتهان الكرامة، ويقود الى الشعور بفقدان الهوية الانسانية.
التونسيون والمصريون التقطوا الشعار السياسي، اما السوريون فانهم صاغوا الشعار الأخلاقي للثورات التي تجتاح العالم العربي. فهذه الثورة هي في جوهرها ثورة اخلاقية، انها دعوة الى استعادة الكرامة الفردية والجماعية.
ليس الجوع والفقر، على الرغم من وجودهما المخيف هما سبب الانتفاضة. الشعوب تثور لكرامتها اولاً. لا ادري كيف لا يشعر الديكتاتور وبطانته بأن الناس لم تعد تحتمل. هل كان بن علي وحرمه وافراد عائلتها يعتقدون ان الشعب التونسي يستطيع ان يصبر اكثر على الاذلال اليومي؟ ماذا كان يعتقد حسني مبارك وبلاط زوجته وابنه الذي يستعد لوراثة ابيه؟ هل كانوا يعتقدون فعلا ان الشعب المصري يستطيع ان يبتلع الاهانات اليومية واعتداءات رجال الأمن على كرامات الناس؟
الشعب السوري ابدع العبارة الأساسية، ورفع شعار مقاومة الذلّ، وهو بهذا رسم للأفق العربي الجديد معناه.
يخطىء النظام السوري اذا كان يعتقد انه يستطيع رشوة الشعب. الملك السعودي اعتقد انه ابعد الكأس عن نظامه، عبر رمي عشرات المليارات من الدولارات، لكنه واهم. اهل درعا صرخوا في مظاهرتهم، 'الشعب السوري مش جوعان'. حتى لو جاع الناس، فان كراماتهم هي المسألة اليوم، وشعورهم بأن سيف القمع وحكم قانون الطوارىء ومناخات الترهيب فقدت شرعيتها.
عندما يعلن شعب رفضه للذلّ، فانه يطرح سؤال الشرعية. ما لا تستطيع الأنظمة الحاكمة منذ اربعة عقود استيعابه هو ان الانقلاب العسكري وحكم الحزب الواحد والاستبداد باسم الشعارات القومية فقدت شرعيتها التاريخية، وصار تداعيها مسألة وقت لا اكثر. لم يعد هناك من يستطيع انقاذها من مصيرها المحتوم. والسؤال لم يعد عن السقوط بل عن كيفيته.
المهرّج الليبي حوّل سقوطه الى مجزرة، ثم الى انقسام بين الشرق والغرب، ثم الى تحالفات قبلية، مما استدعى التدخل الخارجي، وهو يناور اليوم كي يخرج من السلطة بحصة لابنه الذي وعد الشعب الليبي بالدمار!
اما الديكتاتور اليمني، فانه يلعب السلطة حتى الثمالة، ويهدد بتفكيك اليمن قبل ان يرضخ لثورة شعبه.
في البحرين دخل الجيش السعودي بدرع الخليج كي يسحق ساحة اللؤلؤة، متناسيا ان جزيرة العرب مليئة بالساحات، وان القوة الغاشمة لا تصنع اي شرعية.
مشكلة النظام العربي الأولى، هي ان فقدان شرعيته الداخلية بات امرا جلياً، وان لجوءه الى الاستعانة بالخارج وبالدور الأقليمي لم يعد يفيده في شيء. السعوديون والخليجيون لا يستطيعون اعطاء الشرعية للنظام السوري لأن شرعيتهم سقطت ايضاً. كما ان الدور الأقليمي المستند اساساً الى ضبط 'الارهاب'، لم يعد بضاعة صالحة، فالنموذجان التونسي والمصري، اعلنا ان الثورة في العالم العربي انهت هذه الهستيريا التي هي في الأساس بضاعة امريكية. كما ان اسرائيل والسعودية رغم كل ضغوطهما لم تستطيعا انقاذ رأس حليفهما الأساسي حسني مبارك.
اما مشكلته الثانية فهي ان الشعب اعلن انه يرفض ان يُذلّ. لقد أُذلت الشعوب العربية طويلاً بتلك النظرية التي تقول ان النظام هو الكيان، وان سقوط النظام يعني تفكك الكيان الوطني. وللمناسبة فان من صكّ هذا التعبير الأجوف هو زعيم الفاشية اللبنانية، مؤسس حزب الكتائب الراحل بيار الجميل. ورأينا ماذا كانت عاقبة هذا الشعار الأحمق على لبنان وعلى الكتائبيين انفسهم.
كلا النظام ليس سوى عقد اجتماعي، اما الدولة فهي اطار ثابت وهي ملك جميع المواطنين، وانظمتها وقوانينها خاضعة للتبدل.
لا يُخفى على احد وجود محاولات للتلاعب بالمسألة الطائفية، لكن الشعب السوري اكثر وعيا من السقوط في هذه الهاوية، ولن يسمح لأحد بجرّه اليها. فهذا الشعب الذي اثبت حتى الآن حكمة كبرى في تحركاته العفوية، انتظر ثم تحرّك جزئياً، لأنه اراد ان يعطي النظام فرصة الاتعاظ من تجارب الدول العربية المجاورة، كي تتجاوز سورية ازمتها مع النظام من دون سفك الكثير من الدماء البريئة.
غير ان الدم سال، والألم ارتسم على وجه الأرض.
الحكمة لا تعني الاستسلام، وهذا ما اثبتته دوما ودمشق وحمص وبانياس والقامشلي واللاذقية ودرعا.
رسمت الحكمة خطها الأحمر الذي تجسده كلمتان: الحرية ورفض الذل.
هذا الخط تلّون بدماء الشهداء، ولن يكون في مقدور احد ان يتجاوزه بعد اليوم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)