بقلم: عبد الله بن محمد المالكي
أما مفهوم (العقل العربي/ أو الإسلامي)؛ فيجب ابتداء أن نشير إلى أن هذا المفهوم التركيبي مفهوم حادث؛ لم يكن متداولاً لا في التراث العربي الإسلامي، ولا في الدارسات العربية الإسلامية المعاصرة إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي تقريبا، ربما قد نستثني عبدالله العروي في مؤلفه (مفهوم العقل) والذي تقدم عنهما ببضع سنوات، لكن طرحه لم يحدث صدى في الساحة الثقافية كما أحدث مشروع الجابري وأركون .
ومنذ بداية الثمانينيات - كما سبق معنا - بدأ المصطلح يشتهر تداوله بشكل ملحـوظ [1]، وذلك بعد التحول المنهجي للفكر الحداثي في موقفه من الدين والتراث الإسلامي، من حالة المواجهة والمنابذة إلى حالة المصالحة والاحتواء، ومن منهجية نقل الحداثة من الخارج إلى تأصيلها من داخل التراث. وكان أبرز من يمثل هذا التحول: محمد أركون في مشروعه (نقد العقل الإسلامي)، ومحمد عابد الجابري في مشروعه (نقد العقل العربي). والملفت أن كلا المشروعين ظهرا في سنة واحدة، (سنة 1984) [2].
أركون يحبذ أحياناً أن يستخدم عبارة الفكر الإسلامي، بدلاً من العقل الإسلامي، وهذا يعطينا إضاءة أخرى في استكشاف مفهوم العقل الإسلامي عنده، لأن "كلمة العقل لا تكفي هنا وحدها، فالعقل هو ملكة من جملة ملكات أخرى يستخدمها الفكر [كالخيال والذاكرة]، ولهذا السبب أفضِّل استخدم كلمة فكر على استخدام كلمة عقل عندما أقول إني أدرس تاريخ الفكر الإسلامي، وأشتغل في مجال الفكر الإسلامي، وذلك لأن كلمة فكر أوسع" [3].
وهذا الاستخدام المحبَّذ نجده أيضاً محبّذا عند الجابري، فهو يعترف أن مصطلح (العقل العربي) سيثير "في ذهن القارئ الفاحص لما يقرأ، أكثر من سؤال: هل هناك عقلٌ خاص بالعرب، دون غيرهم؟ أوليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، أي إنسان، تميزه وتفضله عن الحيوان؟". وخروجاً من هذه الإشكالات "يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة (فكر) بدل كلمة (عقل)" [4]. وفعلاً "نستطيع أن نحدد مفهوم (العقل العربي) كما سنتناوله بالتحليل والفحص في هذه الدراسة تحديداً أولياً، فنقول: إنه ليس شيئاً آخر غير هذا (الفكر) الذي نتحدث عنه" [5].
إذا كان الأمر كذلك؛ فما الذي دفع أركون والجابري إلى استعمال كلمة العقل (الإسلامي/العربي) بدلا من كلمة (الفكر)؟
الذي يبدو أن أركون والجابري وإن كانا يحبِّذان استخدام كلمة (الفكر)، إلا أنهما يشعران بوجود إشكالية تحيل إليها كلمة (فكر) عند استعمالها، "ذلك أن كلمة (فكر) تعني في الاستعمال الشائع اليوم إلى مضمون هذا الفكر ومحتواه، أي جملة الآراء والأفكار والمسائل المعبّر عنها في هذا الفكر" [6]. وهذا ليس موضوع أركون وليس هو هدفه: "إني أهدف إلى دراسة بنيه العقل الديني وطريقة اشتغال العقل الديني ووظائفه ولا تهمني مضامين العقائد والمذاهب بحدِّ ذاتها، فالمضامين والتفاصيل قد تختلف، ولكن الآليات واحدة" [7].
وكما يقول فالجابري: "لو فعلنا ذلك [أي استعملنا كلمة فكر] لساهمنا في إعطاء القارئ لعنوان الكتاب فكرة أبعد ما تكون عن مضمونه الحقيقي ... ذلك لأن ما سنهتم به في هذا الكتاب ليس الأفكار ذاتها؛ بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار" [8]. ولذا كان استخدام كلمة (العقل) أدق وأقرب للتعبير عن طبيعة مشروعيهما، خاصةً بعد تطور مفهوم العقل.
خلاصة القول أن مفهوم (العقل العربي/ الإسلامي)، يتمثل في مجموع المبادئ والمسلمات القبلية التي من خلال يفكر العقل المسلم الفردي، ويصدر أحكامه ويتخذ مواقفه تجاه الواقع.
ولكن ثمة إشكال قوي، دائماً ما يطرح على محمد أركون، حين يستعمل عبارة (العقل الإسلامي)، وهو أن هذا الاستعمال يُشعِر بوجود عقلٍ واحد يمكن تحديده والإمساك به، مع أن الواقع والتاريخ يقول بخلاف ذلك!
فهناك في التاريخ الإسلامي، أنظمة فكرية متعددة، حصرها الجابري - مثلاً - في ثلاثة أنظمة/عقول: عقل بياني، وعقل عرفاني، وعقل برهاني. وهناك من يفرِّع هذه الأنظمة الفكرية إلى ما هو أدقّ، فيقول: عقل كلامي، وعقل فلسفي، وعقل صوفي، وعقل خارجي، وعقل سني، وعقل شيعي ... إلخ. وكل عقلٍ من هذه العقول، له ومبادئه وأصوله الفكرية، التي تميز منهجيته عن غيره من العقول في النظر والاستدلال. فكيف إذن تختزل هذه (العقول/المناهج) في عقل واحد، وهي بهذا التعدد والاختلاف المنهجي؟ بعبارة أخرى؛ ما هو العقل الإسلامي الذي يعنيه أركون من بين هذه العقول؟
في الحقيقة أن أركون لا يجهل هذا التنوع والاختلاف في داخل إطار العقل الإسلامي، فهو يدرك أن هنـاك "عقول إسلامية (بالجمع)، لا عقل إسلامي واحد" [9] ، وعندما نقارن - كما يقول أركون - "بين مختلف هذه العقول، أقصد عقول المدارس الإسلامية المختلفة، كعقل الصوفية، وعقل المعتزلة، وعقل الإسماعيلية، وعقل الفلاسفة، وعقل الحنابلة، وعقل الشيعة ... إلخ؛ فإننا نرى أنها تختلف في مجموعة من المجريات والمسلمات في لحظة الانطلاق، وعندما ننظر إلى التاريخ نجد أنها طالما اصطرعتْ وتنافست وتناحرت" [10]. بمعنى أن العـقل الإسلامي بالفعل "عقل تعددي متنوع لأنه يعتمد أنماطاً متعددة من المرجعيات والسيادات الثقافية" [11].
ولكن في نفس الوقت "عندما نعمِّق التحليل أكثر، وننظر إلى ما وراء القشرة السطحية والخلافات الظاهرية، فإننا نجد أيضاً أن هذه العقول تشتمل على عناصر مشتركة أساسية، وهذا العناصر المشتركة هي التي تتيح لنا أن نتحدَّث عن وجود عقل إسلامي (بالمفرد) بمعنى أنه يخترق كل هذه العقول المتفرعة ويشملها كلها" [12].
ولهذا ينتقد أركون المنهجية الاستشراقية في دراستها للفرق الإسلامية والتي التزمت بالتصنيف والتقسيم الذي كان يسلكه علماء الفرق في الإسلام، وهو يخصُّ هنا بالذكر كتاب (هنري لاوست) "الانشقاقات في الإسلام"، الذي يقول عنه: "نلاحظ في هذا الكتاب أن العقائد وممثليها من المؤلفين قد ذُكرتْ بشكل مختصر ضمن تسلسل زمني وسياسي دقيق. ولكن مفهوم العقل الإسلامي قد تفكك فيه وانحل إلى غبار متناثر من الأفكار والشخصيات والأحداث. إن المؤلف يهتم فقط بتبيان التناقضات والخلافات السطحية بين المدارس الفكرية الإسلامية. ولكننا نعلم أن هذه التناقضات السطحية تخفي وراءها السمات المشتركة العميقة" [13].
هذه العناصر المشتركة والتي تمثَّل - في نظر أركون - البينة العميقة للعقل الإسلامي، يمكن تحديدها من جهتين:
1) من جهة المنهج الذي ينطلق منه ذلك العقل .
2) ومن جهة المبادئ والمسلمات القبلية التي تحكم ذلك المنهج .
أما من جهة المنهج، فقد فضل أركون أن ينطلق من أهم المؤلفات المعيارية الكبرى في الإسلام، ويُفضَّل أن يكون ذلك من لحظات النضوج والتأسيس للفكر العربي والإسلامي، كما ويُفضّل أن يكون من الكتب التأسيسية في أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه في نظر أركون، "يشكِّل بناء متماسك يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعالا من الناحية التاريخية والتأملية للعقل الإسلامي الكلاسيكي" [14].
لقد اختار أركون أن يتخذ رسالة الإمام الشافعي رحمه الله، "الرائز [15] المعياري، الذي يمكن الاتكاء عليه للتوصل إلى تحديد وبلورة العقل الإسلامي الكلاسيكي" [16]. وذلك لأنه "مؤلَّف معياري اعتُرف به منذ القرن الثالث الهجي بصفته محلا للإجماع والإشعاعات المختلفة" . ولأنه "يُعتَبر المؤلَّف الأول لتأسيس ما ازدهر بعده باسم أصول الفقه" [17].
إذن الرسالة في نظر أركون تعتبر بداية أو تأسيس للعقل الإسلامي، وبالتالي لا بد من تحليليها، واستكشاف المبادئ التحتية العميقة أو الضمنية التي تشكِّل كل خطاب الرسالة وتنتجه .
وغنى عن القول بان الإمام الشافعي رحمه الله قعَّد الأصول المنهجية التي تحقِّق القراءة الصحيحة للوحي، كالتسليم بـ "أن كل ما أُنزل في كتابه - جلّ ثناؤه - رحمةٌ وحجةٌ، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله ... و أنه لا تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" [18]. وهذا أصل أولي بدأ به رسالته .
ثم قرر بأن العلم بالقرآن لا يتم إلا بمعرفة بيانه، ولهذا البيان وجوه [19]: منها "ما أبان الله لخلقه نصا" . ومنها "ما أحكم فرضه بكتابه وبين كيف هو على لسان نبيه" . ومنها "ما سنّ رسول الله مما ليس لله فيه نصّ حكم" . ومنها " ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد" .
وبناء على ذلك انتهي الشافعي إلى التقرير بأن العـلم عن الله ورسوله ما هو إلا اتباع، "فلم يجعل الله لأحد بعد رسول الله، أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهة العلم: الكتاب، والسنة، والإجماع، وما وصفت من القياس عليها" [20]. وهذه المصادر مرتبّة على الأولوية، فالإتباع أولاً: "اتباع كتاب، فإن لم يكن فسنة، فإن لم تكن فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفا (الإجماع)، فإن لم يكن فقياس" [21].
ثم قرر رحمه الله بأن السنة وحي كالقرآن، "وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قَبل" [22]. وهذا النقطة على وجه الخصوص تعتبر بمثابة حجر الزاوية بناء الفكر الإسلامي . ولهذا يقول أركون: "ينبغي العلم هنا بأن الجميع يعترفون للشافعي بميزة أنه فرض الحدث النبوي، وللمرة الأولى، بصفته المصدر الأساسي الثاني للتشريع بعد القرآن" [23].
طبعا هذه دعوى معروفة لدى العقلانيين [24]، وهي أن الشافعي هو أول من قام بـ (تأزيم) الفكر الإسلامي حين رفع الحديث النبوي إلى مرتبة الوحي وكأن المنهج لم يكن هكذا قبله، ومعلوم أن الشافعي لم يقرر ذلك باجتهاده المحض، وإنما كان منهجا قبله ثابتا سارٍ لدى عامة أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين . وقبل ذلك هو أمر الله تعالى الصريح في كتابه، كما أنه مقتضى الإيمان بالنبوة .
ومن معالم هذا المنهج، الاعتماد على لسان العرب فهم كلام الله وكلام رسوله . يقول أركو: "قبل القيام بالقراءة الصحيحة للقرآن ينبغي على المسلم أن يزيل عقبة معرفية أو ابستمولوجية بحسب ما يقول لنا الشافعي. يقول بالحرف الواحد: ومن جماع علم كتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما أُنزل بلسان العرب" [25]. ويعلل هذا الشافعي بقوله: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيها وتفرقها" [26]. ماذا نستنتج من ذلك؟ يقول أركون: "نستنتج طبقا لمنطق الشافعي بالطبع أن هناك علاقة لغوية إجبارية تربط بين الحقيقة المتعالية والمطلقة التي أوحى بها الله من جهة، والقوانين أو الأحكام من جهة ثانية، والصيغ اللغوية التي تلبستها في القرآن باللغة العربية من جهة ثالثة. بمعنى آخر، لا يمكن التعبير عن الحقيقة الإلهية إلا باللغة العربية، وذلك لأن القرآن نزل بها، فهي لغة الكتاب المقدس إذن" [27].
إلى آخر معالم هذه المنهجية التي أصلها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة. والحقيقة أن أركون لا يهمه كثيرا مناقشة تفاصيل هذه المنهجية، إنما الذي يهمه محاولة الكشف عن البنية الخفية التي تقف وراءها كما يقول، أي محاولة إبراز المبادئ والمسلمات الضمنية التي بررت للإمام الشافعي بناء هذه المنهجية. والتي تعبر عن محددات العقل الإسلامي من وجهة نظر أركون.
إن الكشف عن المقدمات القبلية لهذه المنهجية ومحاولة تفكيكها ونقدها تاريخيا هو الذي سيؤدي - بحسب أركون - إلى تثوير العقل الإسلامي، بخلاف الانشغال بالمماحكات اللاهوتية الشكلية حول صحة هذه المنهجية من عدمها .
هذه المبادئ التي انبثقت منها منهجية الشافعي، والتي تُعتبر بمجموعها التأسيس الأولي للعقل الإسلامي، يكشف عنها أركون في النقاط التالية [28]:
1) يوجد إله واحد، حي، خالق .
2) اتخذ الإنسان كخليفة له على الأرض .
3) وقد تكلم إلى البشر عدة مرات، أو على مراحل متلاحقة، من خلال الأنبياء الذين اختارهم .
4) وكانت آخر مرة تكلم فيها إلى البشر من خلال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) .
5) وقد استمع صحابة محمد إلى هذا الكلام بكل تقى وورع، وحفظوه في ذاكرتهم ونقلوه .
6) ثم دوّنوه كتابة في مجموعة نصية دعوها بـ (المصحف). فالمصحف يعني إذن مجموعة النصوص أو العبارات التي تشكّل القرآن.
7) والقرآن يعني كلام الله المتلوّ شعائريا، والمقروء، والمفسّر، والمعاش بصفته القانون الإلهي، الأبدي، الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يُمس، والصالح لكل زمان ومكان.
8) ثم جاءت أحاديث النبي لكي توضح هذا الكلام وتشرحه، وقد جُمع الحديث بنفس الخشية أو التقى والورع الذي جُمع فيه المصحف، لكي يصبح الأصل الثاني للقانون الإلهي، أي الشريعة .
9) أن صحابة النبي يشكّلون جيلا ممتازا ومتميزا، وهم مزودون بمقدرة عقلية وفكرية مثالية تؤهلهم لأن يشرحوا الآيات القرآنية والأحاديث ويطبقونها في الواقع بكل إخلاص ودقة وأمانة، وبالتالي كان عصرهم (العصر الذهبي)، وكانوا هم الرعيل الأول .
10) يمكن للإنسان المسلم في أي زمان أن يصل إلى الحقيقة الدينية المطلقة، ويجسدها باستعادة ذلك (العصر الذهبي) الذي يمثل إسقاطا لجوهر الدين في التاريخ البشري وتحققا له .
هذا هي المسلمات والمبادئ القبلية لدى العقل الإسلامي - بحسب أركون - والتي بمجموعها تشكّل نظاما معرفيا ملزما، ومقدمات ضمنية توجه الفكر الإسلامي توجيها حتميا حتى وهو يمارس علوما مختلفة في الظاهر (الفقه، الفلسفة، علم الكلام، اللغة والنحو، ...) .
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
هذه إذن عناصر (إبستيمية) العقل الإسلامي، التي أصبحت فيما بعد "سياجاً دوغمائيا انغلق داخله العقل الإسلامي" [29]، بحيث أنه لا يستطيع أن يفكر ذلك العقل خارج إطارها . وهو أيضاً يمثل "ملخص الاعتقاد الإسلامي كثّفناه هنا بشكل حرفي. إنه يمثل النواة الصلبة التي يعود إليها وينطلق منها في آن معاً نظام العقائد/ اللاعقائد الخاص بالمسلمين. ومن هذه النواة الصلبة تستمد الشيفرات المعيارية الشعائرية، والأخلاقية، والتشريعية، والاجتماعية، والاقتصادية، وطرق التحقق أو التجلي المعنوية والفنية والثقافية" [30]. "باختصار؛ فإن كل التوسعات والانتشارات في الزمان والمكان لعمل العقل والذاكرات الاجتماعية" [31] تنطلق من هذه النواة الصلبة .
هذه النواة الصلبة، هي محل نقد العقل الإسلامي عند أركون، وهي موضوع (الإسلاميات التطبيقية) .
يقول أركون "إن هذه النواة الصلبة للاعتقاد الإسلامي مُتجاهلة أو مُهملة من قبل البحّاثة المتبحّرين في العلم (المستشرقين)، كما أنها متجاهلة من قبل الخبراء الغربيين في الشؤون الإسلامية ... وحده (الباحث - المفكر) يوضح نقطة أبحاثه وتحرياته. فهو يهتم بدراسة هذه النواة الصلبة للاعتقاد الإسلامي، ثم دراسة مضامينها وتوسعاتها العديدة (أو انتشارها). ثم يطبق عليها عمليات الزحزحة، والتجاوز. هذه العمليات التي لم يحاولها إطلاقا الفكر الإسلامي نفسه" [32].
"وهذا ما سأفعله الآن ... إن التحري الذي يفرض نفسه منهجيا وابستمولوجيا علينا هو التحري التاريخي، الذي يقوم به المؤرخ، ولا أقصد المؤرخ الفيلولوجي على طريقة القرن التاسع عشر فقط. وإنما أيضاً المؤرخ الذي يمزج بين الأداة الفيلولوجية والأداة الألسنية، والأداة النفسية - الاجتماعية، والأداة الدلالية السيميائية، والأداة الأتنولوجية - السوسيولوجية، والأداة الأنثربولوجية" [33].
هذه يعني أن أركون بحسب تلميذه هاشم صالح "سوف يجيّش ترسانة من الأسلحة المنهجية والمفهومية لكي يستطيع تفكيك النواة الصلبة للاعتقاد الإسلامي، ويحررها من الداخل ويحررنا من وطأة هيمنتها على مدار القرون. فهو يريد تجيش علم الألسنيات الحديثة، وعلم السيميائيات أو الدلالات، وعلم النفس التاريخي على طريقة مدرسة الحوليات، وأركيولوجيا المعرفة على طريقة ميشيل فوكو، وعلم الاجتماع الحديث على طريقة بورديو، وتفكيك الميتافيزيقا على طريقة دريدا، ... إلخ، من أجل تنفيذ مشروعه الكبير في نقد العقل الإسلامي" [34].
بناء على هذه العناصر المشتركة؛ يمكننا - بحسب أركون - أن نتحدث عن (عقل إسلامي) كبير، متسمٍ بنظام فكري محدد، تنضوي تحته كافة مختلف العقول الفرعية التي تشكَّلت عبر التاريخ الإسلامي.
ومحمد أركون إذْ يرسم هذه الفكرة للعقل الإسلامي، فهو إنما يستعير ويوظِّف نظرية (الإبستميه) Episteme للمفكر الفرنسي (ميشيل فوكو)، الذي طالما يبدي أركون إعجابه به، إلى درجة أنه لا يخفي التشبه والتأثر بمنهجيته أثناء نقده للعقل الغربي: "إن الثورة التي أحدثها ميشيل فوكو في الساحة الفرنسية عندما فكك أسس الإنسية البرجوازية والعنجهية والتقليدية الأوربية تشبه ما نفعله نحن في الساحة الإسلامية والعربية" [35].
ما المقصود بالإبستميه؟
يقول ميشيل فوكو: هي "مجموع العلاقات التي بإمكانها أن توجد في فترة معينة بين الممارسات الخطابية التي تفسح المجال أمام أشكال إبستمولوجية" [36]. بعبارة أخرى هي: "مجموع العلاقات التي يمكننا الوقوف عليها في فترة ما بين العلوم حينما نحلل مستوى انتظاماتها الخطابية" [37].
ويمكن أن نشرح هذا فنقول: إن الإبستميه هو نظام الفكر العميق الذي يسيطر على البشر طيلة فترة معينة من الزمن، أو هي النظرية النموذجية التي تسيطر على جماعة المفكرين طيلة فترة معينة من الزمن، والتي يفسرون من خلالها كل شيء، وذلك قبل أن تسقط وتنهار وتحل محلها نظرية جديدة، فهناك الإبستميه الأرسطوطاليسي، وهناك الإبستميه الغاليليوي، وهناك إبستميه نيوتن، وإبستميه اينشتاين، وكل واحدٍ من هذه الإبستيميات كان يستخدم في وقته لتفسير الكون والعالم، وبالتالي فالإبستميه يعني نظام الفكر المسيطر في مرحلة تاريخية ما وبيئة ما [38].
لقد سعى أركون وفق نظرية الإبستميه إلى إخراج الفكر الإسلامي من مجال البعثرة التي لا جامع لها - كما يقول [39] - إلى مجال النظام، وذلك من خلال بحثه عن المبادئ المشتركة بين مختلف العقول الإسلامية، ليصوغ لنا في النهاية النظام الفكري العام أو الأفق الفكري المعرفي الذي يؤطِّر كافة العقول الإسلامية.
هذا بالنسبة لأركون وتحديده لمفهوم العقل من خلال نظرية الإبستميه لميشيل فوكو، ولكن إذا أردنا أن نعود إلى المقارنة من جديد بين أركون والجابري، فيمكننا أن نقول: إن أثر ميشيل فوكو لم يكن مقتصراً على أركون فحسب، بل نجده أيضاً حاضراً عند محمد عابد الجابري [40].
حيث وظَّف الجابري أيضاً نظرية الإبستميه أو (النظام المعرفي)؛ في تحديد مفهوم العقل العربي بوصفه كما يقول: "النظام المعرفي القائم الذي يؤسس المعرفة وكيفية إنتاجها داخل الثقافة العربية" [41].
ماذا يقصد الجابري بـ(النظام المعرفي)؟
يجيب: "يمكن أن نتلمس لمفهوم النظام المعرفي Episteme تعريفاً أولياً في العبارة التالية: النظام المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما؛ بنيتها اللاشعورية. ويمكن اختزال هذا التعريف كما يلي: النظام المعرفي في ثقافة ما، هو بنيتها اللاشعورية [42] " [43].
ثم يشير في الهامش قائلاً: "واضح أننا نستوحي هنا، على صعيد التعريف، ميشيل فوكو، كما سيلاحظ القارئ المطلع على أعمال هذا المفكر الفرنسي. ولكن لا نحذو حذوه، حذو النعل بالنعل كما يقال، بل نتلمس لعملنا مفاهيمه وتوجيهاته من طبيعة موضوعه الخاص: الثقافة العربية" [44].
لكن تحديد الإبستميه أو النظام المعرفي للتراث عند الجابري يختلف عن تحديد الإبستميه عند أركون، فأركون - كما سبق معنا - يعود بالنظام المعرفي إلى (العقل المؤسّس) أي إلى القرآن أو الوحي، بخلاف الجابري الذي يجعل عصر التدوين منذ أواخر الدولة الأموية هو العصر الذي تكوّنت فيه الأسس النهائية للعقل العربي، حيث تم فيه جمع الأحاديث النبوية، ووضع تفاسير القرآن، وما تلا ذلك من بدء كتابة التاريخ الإسلامي، وأسس علم النحو، وقواعد الفقه، وعلم الكلام، وتشكيل المذاهب والفرق الإسلامية، فهو نقطة البداية لتكوين النظام المعرفي للثقافة العربية فيه اكتمل التكوين، ولم يتغير منذ ذلك الوقت ومازال سائدا في ثقافتنا حتى اليوم، وهو الإطار المرجعي للعقل العربي، وعلى هذا فإن بنية الثقافة العربية ذات زمن واحد، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية .
هذه العلوم التراثية المتعددة والمذاهب والنظريات الإسلامية المختلفة تعود إلى بنية محددة، هذه البنية تتجلى من خلال ثلاثة أنظمة رئيسية، وهي: النظام البياني، والنظام العرفاني، والنظام البرهاني. وهذه الأنظمة مع وجود خصائص مميزة لكل نظام إلا أنها تشترك في معنى واحد حدده الجابري في آخر كتاب (بنية العقل العربي) .
والهدف عند الجابري من دراسة هذه الأنطمة الثلاثة ومحاولة استنباط البنية التي تقبع خلفها، هو من أجل التمهيد لطريق النهضة، فلا "يمكن بناء نهضة بعقل غير عقل ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه" [45]، ولهذا فإن هذا المشروع "كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة. إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة" [46].
المقصود أن الجابري يريد أن يتجاوز حالة الدراسة التراثية التقليدية من قبل الباحثين القدامى والجدد، الذين تعاطوا مع التراث بصورة تجزيئية يغيب فيها الترابط المعرفي الذي يعطي وحدة البنية المعرفية للتراث الإسلامي، ففرقوا بين أنواع الفلسفات والمذاهب والعلوم داخل المجتمع، مما يؤدي إلى تفكيك وحدة الفكر الفلسفي العربي إلى أجزاء متناثرة ولم يقفوا عند هذا الحد بل وصلوا إلى حد تفكيك وحدة المعارف والتفريق بين الفقه وعلم الكلام والأصول والتفسير والحديث، بل حتى وصل التفكيك للعلم الواحد، كالعلم النحو والصرف والبيان ونحو ذلك، مع العلم أن العالم في ذلك الزمان كان يجمع في ذاته جميع المعارف الرائجة آنذاك، فهو الفقيه و الأصولي والمتكلم، لهذا فدراسة التراث العربي ما زالت تخضع لهذه الرؤية التجزيئية العازلة اللاعلمية، فما زلنا ننظر إلى الفقه والفلسفة والنحو والادب والحديث والتفسير بوصفها علوماً لكل منها كيانه المستقل تمام الاستقلال، إذاً من خلال هذه النظرة الموجزة يتبين أن الجابري يحث على وحدة البنى الفكرية للتراث العربي الإسلامي، حتى يمكن الإمساك على الإحداثيات المنهجية في هذا العقل التراثي، هذه الإحداثيات التي يمكن عبر مراجعتها ونقدها وإعادة تشكلها إلى تحديث العقل العربي .
[1] ندوة حصيلة العقلانية والتنوير في الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 42 .
[2] كمال عبداللطيف، قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة، ص 80 .
[3] كمال عبداللطيف، قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة، ص 80 .
[4] محمد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 11 .
[5] نفس المصدر، ص 13 .
[6] نفس المصدر، ص 11 .
[7] محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 297 .
[8] محمد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 11 .
[9] محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 236 .
[10] نفس المصدر .
[11] نفس المصدر .
[12] نفس المصدر .
[13] محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 88 .
[14] المصدر السابق : ص 67 .
[15] الرائز: هو المجرِّب والمختبِر . ورازَه : أي جرَّبهُ وقدَّرهُ وامتحنهُ لينظر ما ثقلهُ، والدينارَ وزنهُ ليعلم قدرهُ. والرجل اختبرهُ ليعلم ما عندهُ . انظر: لسان العرب، مادة رازه .
[16] أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي : ص 67 .
[17] أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل : ص 7 .
[18] الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر : ص 19 - 20 .
[19] نفس المصدر: ص 21 - 25 .
[20] نفس المصدر: ص 508 .
[21] نفس المصدر: ص 390 .
[22] نفس المصدر: ص 32 .
[23] أركون، نحو نقد للعقل الإسلامي : ص 102 .
[24] انظر على سبيل: نصر حامد أبو زيد في كتابه (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية). وأدونيس في كتابه (الثابت والمتحول - الجزء الثاني). هذا على المستوى العلماني. وأما على المستوى العصراني فعبدالمجيد الصغير في كتابه (الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام). ولؤي صافي في كتابه (إعمال العقل).
[25] أركون، نحو نقد العقل الإسلامي : ص 97 .
[26] الشافعي، الرسالة : ص 50 .
[27] أركون، نحو نقد العقل الإسلامي : ص 98 .
[28] أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: ص 330 .
[29] أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل : ص 330 .
[30] نفس المصدر : ص 331 .
[31] نفس المصدر .
[32] المصدر السابق : ص 332 .
[33] نفس المصدر .
[34] نفس المصدر، حاشية رقم 3 : ص 333 .
[35] محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 334 .
[36] ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ص 183 .
[37] نفس المصدر .
[38] هاشم صالح، مدخل إلى التنوير الأوربي، ص 131 .
[39] محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص 242 .
[40] بل إن أثر ميشيل فوكو يطال كثيراً من المفكرين المحدثين في الساحة العربية، خاصة المغاربية، انظر: الزواوي بغورة، ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر .
[41] محمد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 37 .
[42] (البنية اللاشعورية) هي: مجموع الأحكام والمسلمات الذهنية الخفية التي تتحكم في عملية المعرفة لدى الفرد ويستعملها في تفكيره بطريقة لاشعورية. وقد استفاد الجابري هذا المفهوم من عالم النفس البنوي الشهير (جان بياجيه)، والذي استعمل مفهوم اللاشعور المعرفي Linconscient cognitive في دراسته لتكوين العقل الفرد وعلاقته بالثقافة السائدة. واضح أن الجابري يرى أن اللاشعور المعرفي عند بياجيه هو الإبستميه عند فوكو . انظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 40 . وبالمناسبة لجورج طرابيشي نقد قوي على الجابري في توظيفه الخاطئ والانتقائي لنظرية الإبستميه عند فوكو . انظر: إشكاليات العقل العربي، ص 277 .
[43] محمد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 40 .
[44] نفس المصدر، ص 55 .
[45] الجابري، الحداثة والتراث: ص 22 .
[46] نفس المصدر .
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
مشكور مان موضوع رائع
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)