سيدي القاضي ! أنا امرأة فقيرة مسكينة ليس لي من سند الا الله
ويختنق صوتها بالبكاء .........
ويتفرس القاضي بالشبح الماثل أمامه , فيرى عجوزا
طويلة عجفاء . تبدو صلبة العود على الرغم من شيخوختها
, ملتفة بملاءة سوداء ,
وقد أسفرت عن وجه لا لون له ,حفر فيه البؤس أخاديد عميقة.
اما عيناها فقد غارتا في محجريهما ,حتى لتبدو لمن يراها من بعيد
وكأنها عمياء
ويقول القاضي بلهجة فيها رفق وود :
_ لا عليك يا خالة .. ماهي قضيتك؟
وترد عليه بحرقة وانفعال:
_ سرقوا مالي ياسيدي القاضي !.. الله يقتص منهم ...
أتدري من أين سرقوه ؟؟ سرقوه من جوف ابني ... من أحشائه
لا تستغرب قولي يا سيدي ...
اني والله لاأكذب عليك . ويصرخ القاضي دهشا:
من أحشائه ؟...
ويستغرب الناس ويضحك بعضهم فتضج القاعة, حتى
القاضي نفسه يخفي ابتسامة مراعاة
لهيبة المنصب. ويحملق بالعجوز ويتفحص وجهها , فقد خيل
اليه أنها مجنونة.
أما هي فراحت تنظر في وجوه الناس مبهوتة متعجبة تتساءل
في سرها ما يضحكهم ياترى ؟؟
لم يخطر لها أبدا أن مصيبتها الفادحة قد تثير الضحك
يقول القاضي بلهجة جدية :
_ احكي قضيتك يا امرأة ولاتخفي عني شيئا .
_ وحياة الكعبة الشريفة ياسيدي القاضي لن أخفي عنك كلمة
واحدة :
نحن أناس فقراء نشتغل لنعيش انا كنت اعمل غسالة! وقد
انقطع رزقي منذ اقتنى الناس الغسالات الكهربائية
الله يقطع رزق من ادخلها هذا البلد .
وكان ابني آه ياحرقة قلبي عليه..
يتبع
وكان ابني آه ياحرقة قلبي عليه.... يشتغل حمالا اما زوجه فامرأة بليدة ما تستطيع ان تجني شيئا لتساعد زوجها وكيف تستطيع ان تشتغل وهي من يوم دخلت بيتنا اما حامل واما نفساء..رزق ابني من الابناء ستة لايعرفون الشبع !..كان ابوهم يانار قلبي عليه!..
يعمل من اجلهم واجل امهم من الصبح الى المساء يحمل على ظهره ما يعجز البغل عن حمله وذات مرة التوى ظهره تحت ثقل صندوق من الحديد فذهب الى الطبيب ليصف له دواء .....
قال الطبيب:
لم تعد تصلح حمالا فتش عن عمل آخر..
ويعود ابني يائسا ما يعرف كيف يدبر امره.. نحن ياسيدي تسعة اشخاص في رقبته مالنا كاسب غيره وهذا ليس بقليل!..
رأيته يبكي من ضيقه !.. بكاء الرجال صعب يفتت الكبد!..
عندئذ اضطررت ان اعترف لابني انني املك قطعة ارض صغيرة في قريتي البعيدة في الشمال كنت قد ورثتها عن ابي وكتمت خبرها عن ابني.. خفت ان يبيعها فيذهب ثمنها هدرا كنت قد وضعت ورقة الطابو في حجاب وعلقته في عنقي وتركتها ليوم شدة وقد جاء يوم الشدة .فرح ابني كثيرا عندما حدثته عنها فقد ظن انه وجد لضيقه مخرجا..لم ينم والله ليلتها ابدا كان يسألني عن الارض في كل لحظة عن قيمتها ومساحتها وعم ينبت فيها وما يصبح الصباح حتى نسافر انا وهو لنبيع قطعة الارض ..ضيعتي بعيدة ياسيدي ظللنا في السيارة من الصبح حتى نصف الليل.. لااريد ان اطيل عليك ..بعنا الارض بابخس ثمن بعشرين ليرة ذهبية.. وهي والله تساوي خمسين.. اختي باعت حصتها بخمسين .. ولكن الشاري استغل حاجتنا الى البيع. الله لايبارك له ..وضعت الذهبات في كيس واخفيته في صدري . كان ابني يحدثني طول الطريق عما يريد ان يفعل بالمال:
خمس ليرات ديون.. ليرة لكسوة المرأة والاولاد اربع ليرات اجرة دكان.. عشر ليرات ثمن البضاعة فاكهة وخضار ومايلزم الدكان من عدة ثم يقول لي : ستقعدين انت في الدكان حين اذهب الى السوق كل صباح لأتبضع.. وسنربح ياامي كثيرا.. جارنا الخضري اشترى بناية من وراء دكانه الصغيرة.. وسيشبع الاولاد سآتيكم كل مساء بما يتلف في الدكان من فاكهة وخضار
ويطول الطريق علينا تعطلت السيارة ثلاث مرات وكان المطر يندلق من السماء كالأنهر كدنا نموت من البرد واذا انا اسمع احد الركاب يقول لزميل له:وصلنا الان الى مكان الخطر الله يسلمنا منهم. سألته من هم يااخي؟ قال: اللصوص .. وقطاع الطرق..كثيرا ما يخرجون من بطن هذا الوادي الذي نمر به الان ويوقفون السيارات ويسلبون الركاب كل ما يملكون.
هلع والله قلبي من....
يتبع
هلع والله قلبي من كلامه كان كالبوم بشرنا بالشؤم .. وما يتم كلامه حتى نسمع صوت الرصاص يلعلع في الفضاء وتتوقف السيارة فجأة ويصعد اليها رجلان ثم يسحبان سائقها وينزلانه الى الارض ..فلم نشك أبدا انهم من اللصوص..
ويقترب ابني مني ويوشوشني قائلا:
أخرجي الذهبات دون ان يشعر بك احد ..وتعالي نبلعها انا وانت..
هذه خير وسيلة لانقاذها والا فقدناها......
المال عزيز ياسيدي كالروح تماما..
ناولني ابني ليرة وحاولت ان ابلعها لكني لم استطع ...شرقت وكدت اختنق....
قال لي ابني: لاعليك ياامي سأبلعها أنا وحدي
ورحت اناوله ليرة ليرة وهو يبلع حتى بلغ عددها العشرة واذا الكيس يفرغ!! فكدت اجن.. وما لبثت ان عرفت انني قد غلطت!..
كنت احمل كيسا آخر فيه عشر فرنكات فقط وهي كل ما كان معي من النقود عدا الذهبات....ويضحك الناس ويقول احدهم بصوت مسموع : الله لا يعطيك عافية على هذه الغلطة الكبيرة..
وترد العجوز وهي تتنهد: ما ذنبي يابني؟كنت والله ارتجف من الخوف وكان الظلام حالكا وكنت لا اعي ما افعل ! ..ولا يمكن ان افرق بين الليرة والفرنك باللمس قلت لابني انني غلطت وقد ناولته الفرنكات عوضا عن الليرات ... سب ديني ........ ياربي اغفر له وسامحه..كان والله دينا يصلي ويصوم وما يكفر ابدا وما شتمني مرة..كظم غيظه وقال لي :هيا اسرعي ناوليني الذهبات الان...
ورحت اناوله ليرة بعد ليرة وهويبلعها بسرعة عجيبة حتى بلغ عددها العشرين..احلف لك يا سيدي القاضي ان ابني قد بلع عدا العشر فرنكات عشرين ليرة ذهبية ام حصان لم تنقص واحدة ..
حين انتهى ابني من بلعها كلها .عاد السائق ومعه رجلان...........
يتبع...........
عاد السائق ومعه رجلان يحملان اخر جريحا.. فهمنا فيما بعد ان الرجلين ما كانا من اللصوص او قطاع الطريق انما خشيا الا ينتظرهما السائق ريثما يصل رفيقهما الجريح فاضطرا ان ينزلاه من السيارة كي لايغدر بهما .....قال ابني: لا تهتمي ياامي هذه قسمتنا غدا لابد ان تخرج الليرات من جوفي والفرنكات ايضا..وساعيدها لك كاملة.الفرنكات طبعا..وضحك. ونصل الى البلد ويمضي يوم ويومان وثلاثة ولم تخرج الليرات ولا الفرنكات من جوف ابني....وبدأ يشعر بآلام كأنها تمزق أحشاءه كان اذا ربت على خاصرته اليمنى نسمع خشخشة النقود!!!!... ويصبح المسكين تسلية اولاده!! واحد رائح وآخر آتي....يربتون على خاصرة ابيهم ليسمعوا الخشخشه ثم يفرون ضاحكين!!..صغار ما يدركون شيئا .....
وتضج القاعة بالضحك مرة اخرى وتتحول العجوز ثم تستأنف كلامها :صار ابني ياسيدي القاضي يخشى الخروج من البيت لاسيما في الليل لأن الخبر كان قد شاع في حارتنا وربما تعقبه أحد أولاد الحرام فاذا سنحت له فرصه بقر بطنه ليسرق منه الذهبات.....اولاد الحرم كثار يا سيدي والفقر كافر ..ويضطر ابني اخيرا ان يذهب الى المستشفى ويعرض نفسه على الاطباء..
قالو له لابد من اجراء عمليه جراحيه والا فحياته في خطر...اذعن لاقوالهم ودخل يا نار قلبي عليه الى غرفه العمليات على رجليه مثل الحصان طول وعرض وصحه وبعد ساعتين اخرجوه لي ميتا
طار عقلي من راسي...انا والدة يا سيدي وقد رأيت وحيدي جثه هامده..!!.نسيت ان اسال عن الذهبات...!!..بعد ثلاثه ايام رأيت اولاد ابني حولي يبكون من الجوع...قمت وجررت نفسي الى المستشفى وهناك طالبت بمالي واذا هم يدفعون لي عشرين فرنكا وعشر ذهبات فقط.!!؟؟..قالو لي هذا ما وجدناه في جوف ابنك..!!!.اقسم لك يا سيدي القاضي ان الفرنكات كانت عشره والذهبات عشرين انكليزيه ام حصان كما قلت لك.!.قد فحص ابني كل واحده منها على الوجهين قبل ان يقبضها ودفعها الي واحده اثر واحده وانا وضعتها في الكيس وعلقته في عنقي ثم اخفيته في صدري الى جانب كيس الفرنكات ثم بلعها ابني كلها .!...فكيف انقلبت الفرنكات في جوفه الى ذهبات والذهبات الى فرنكات؟؟؟؟
انا يا سيدي القاضي امرأه مغلوبه على امري فقيره ومسكينه وعندي ايتام وليس لي من سند....
سيدي نسيت ان اقول لك ان امرأه ابني وضعت بعد موته باسبوع واحد توأمين بنات لقد اصبحنا عشرة.....عشرة افواه لا تعرف الشبع وانى لها ان تعرفه .
تمت
قصة قصيرة للكاتبة السورية الفة الادلبي بعنوان قضية خاسرة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)