البنت الثالثة ... الجزء (3) بقلم محمد عبد الوهاب جسري
الرجاء قرءاة الجزئين الأول والثاني
بالنسبة لي فقد حسمت أمري، وسأخبره بقراري في أول فرصة. ففي لحظة ما من حياتي كان همي الوحيد هو شفاء شقيقتي، أما وأن الأقدار لا تسير كما نرغب ، فإن همي الوحيد الآن هو حمل الأمانة. أمّا هو، فعلى ما يبدو أنه قد أخذ الوقت الكافي للتفكير، ففي زيارته لنا اليوم كان يحدث الأطفال ويسألهم إن كانوا يرغبون في الذهاب إلى الحديقة غداً، فهمت من حديثه لهم أنه يرغب في التحدث إليّ مجدداً....
في الحديقة وفي نفس المكان ، الأطفال يلهون ، نسمات خريفية عليلة تنعش الفؤاد بعد صيف طويل ، أنظرُ إلى هذه الأشجار الجميلة، بعضها سيحافظ على كسوته الخضراء وبعضها الآخر بدأت تصفر أوراقه معلنة بأنه يجب التخلي عن هذا الرداء بانتظار ربيع جديد وكساء أخضر آخر أكثر بريقاً تزينه براعم وأزهار جميلة....
أراقبه وهو آت من بعيد ، أحاول أن أقرأ تعابير وجهه لأكوّن فكرة مبدئية عما تحمله نفسه وما يمكن أن ينطق به لسانه، لكنني لم أتمكن من قراءة شيء، ربما لأنني مرتبكة، وربما لأن ملامح وجهه تحمل أكثر من تعبير في نفس الوقت، كعادته راح يحتضن فلذة كبده ويقبلهم بحرارة.....طلب منهم أن يتابعوا لعبهم واقترب مني قائلاً:
_ ألاحظ أنكِ في وضع لا تحسدين عليه، فأنتِ بين نارين، الناس يرسمون لنا أنتِ وأنا مستقبلاً و والداكِ في حيرة مما يسمعونه من كلام الأقارب والمعارف، لقد وجدت الحل.... لأنني أعلم أنكِ كنتِ صادقة عندما قلتِ لي بأنك لن تتزوجي إلى أن يكبر الأطفال، أريد أن أؤكد لك صدقي فأكرر ما قلتـُه لكِ، أنا قررت عدم الزواج للمرة الثالثة.
_ وما الحل ؟ هكذا ستتعقد الأمور كثيراً وسأكون مضطربة دائماً.....
_ الحل في أن أبتعد.....قررت الهجرة
_ مستحيل ..... لن أتخلى عن الأطفال
_ اهدئي ، اصبري..... سيبقون معكِ
أخذتُ نفساً عميقاً بعد تلك اللحظة التي ظننت فيها أنه يخطط لأخذ الأطفال مني ، ربما يكون هذا حقه ، لكنني لايمكنني بشكل من الأشكال أن أتخلَّ عن مسؤوليتي في حمل الأمانة. نعم لقد صدق ظنـّي، أنظر إليه من جديد، ملامح وجهه تحمل أكثر من تعبير في نفس الوقت، تحمل الأسى الذي ستطوَّق به نفسه على فراق أطفاله، وتحمل الفرحة بإيجاد حل لأزمة مستعصية لكلينا وليس أحدنا سبب في اصطناعها. خاطبته قائلة:
_ هذا حل جيد ولكنك هكذا تعامل نفسك بقسوة كبيرة.
_ لا يهم، قولي أنتِ ، هل عندك حل آخر ؟؟؟
_ لا ، ليس عندي أي حل ، ولم يخطر ببالي أن تتوجه إلى مثل هكذا حل
_ في الحقيقة، استشرتُ رجلاً كبيراً من معارفي في العمل ووضعته في أجواء حكايتي فقال لي : الحل الوحيد أن تبتعدا نهائياً ، لأن الناس لا ترحم، الرحمن هو الله يا ولدي.
_ متى تسافر ؟؟
_ خلال أقل من شهر ، سآتي مساءً لأزوركم وأخبر والديكِ، أعرف قوة شخصيتك وقدرتك على العناية بالأطفال وتربيتهم، لكنني أيضاً سأطلب من والدكِ أن يكون لهم مكان الأب....سأحاول أن أعمل وأجمع بعض المال من أجل مستقبلهم.
شعرتُ بارتياح كبير لقراره، فستزول عني تلك الضغوط وسأعود لألملم نفسي من جديد، أصبحت أتوق إلى لحظات هدوء افتقدتها منذ زمن بعيد.....
كانت لحظات صعبة عندما جاء ليودعنا، ترك عندي من المال أكثر مما يلزم من أجل المصاريف، أوصاني بأن لا أخفي عنه شيئاً عن أحوال أبنائه عندما سيتصل بنا، وأخيراً قال لي انتبهي لنفسك فلا تضيعي فرصة إن أتتك ، لا تهدري سنين عمرك. وأنتِ بماذا توصينني، فأجبته: لا تقطع أخبارك عنا ، لا تنسـَنا ، وإياك أن تكون صيداً سهلاً للنساء....
هز رأسه و رحل ، شعرتُ بغباء شديد لما قلتـُه له، وبدأتُ ألوم نفسي على تلك العبارات التي لم يكن هناك أي داع ٍ لقولها....سيفهمها على أنها نوع من الغيرة.....لكن هل أنا أغار عليه فعلاً ؟؟؟
راحت السنوات تتوالى برتابة، يكبر الأطفال وينتقلون في دراستهم من سنة إلى سنة بنجاح وتفوق ، عنايتي بهم توازي عناية الأم المثالية، كم كانت تدهشني تلك الأقدار فأقول سبحانك ربي، كانت أسرتنا مؤلفة من أب وأم وثلاث بنات ، وها هي الآن مؤلفة من أب وأم وابنتين وصبي وكأنّ ربي عوض أبي أنه لم يرزق بمولود ذكر .
ساعدني والدي كثيراً في تأدية مهمتي، أما والدتي فكان لها النصيب الأكبر في تربية الأطفال على قوة الإيمان وحب الخير، في الوقت الذي كان والدهما سخياً في الاتصال بنا و الإطمنان علينا، وفي نهاية كل اتصال كانت تتكرر نفس الأسئلة فهو يسألني : ألم يتقدم أحد لخطبتكِ ؟؟ وأنا أسأله : ألم ترتبط بزوجة جديدة ؟؟ وكأنَّ كلَُّ منا ينتظر أن يبدأ الآخر بالارتباط حتى يُكسبَ نفسه حريتها المطلقة.
لا أستطيع أن أكون دقيقة مع نفسي في الإجابة على تساؤلاتي ، فأنا لا أدري في أية إجابة من إجاباته ستكون فرحتي، وكنت أنتظر الأيام لتدلني على حقيقة نفسي، لكن شيئاً ما لم يحصل، فكلانا لم يتقدم أية خطوة في مشروع حياته الشخصي، ربما كان هذا أيضاً أحد أبواب سعادتي.....
هكذا مرت السنوات، كبـُر الأطفال وصاروا شباباَ، فهموا قصتهم وقصتنا، كنت أستغل كل فرصة لأذكرهم بأختي الكبرى أمهم التي لا يتذكرونها، وبأختي الوسطى أمهم التي لا ينسونها، وتضحية والدهم الذي ما تأخر يوماً عن تلبية حاجاتهم، فهموا كل هذا لكنهم أيضاً فهموني أنا، وبدأت أشعر باهتمامهم بمستقبلي من خلال أحاديثهم وتلميحاتهم....
منذ ثلاثة أيام تكـثـّفت اتصالات والدهم، فنتائج الثانوية العامة قد اقتربت وهو يريد أن يطمئن على نجاحهم ودرجاتهم.....
يا لفرحتي الكبيرة فبالاضافة إلى خبر نجاحهم لدي خبر سعيد آخر، أتحرك في البيت وأذناي تترقبان رنـّة الهاتف...... سأرد أنا ، إنه هو
_ السلام عليكم
_ وعليكم السلام ، هنيئاً ، أبارك لك نجاحهما، نتائجهما مشرّفة
_ بارك الله لنا جميعاً ، لن أنس فضلك مدى الحياة
_لكن عندي خبر آخر سيسعدنا جميعاً
_ تفضلي قولي ، وأنا عندي خبر جديد
_ قريبنا علاء الدين ، يريد أن يتقدم لخطبة ليلى، وقد أخذت رأيها وهي موافقة (بعد موافقتك ) لكن لديها شرط واحد لم تشأ حتى الآن أن تقوله لي، ربما تقوله لكَ، وما هو الخبر الذي عندك ؟؟
_ أصلُ غداً إن شاء الله لنفرح سوية
هكذا أنا لا أجيد التصرف عند المفاجآت، دون أن أودعه قذفت السماعة إلى يد ليلى لتكلم أباها، لم أعد أستمعُ لحديثهما، ذهبتُ إلى عالم آخر....
كم أنا سعيدة ، عادت الأفراح إلى هذا البيت من جديد، نجح الأولاد، سيصل غداً، وعريس ممتاز يتقدم لخطبة ليلى.....
جاء بعد طول غياب، تشرق شمسه من جديد و يسطع نورها، ويتلون بألون الطيف الجميلة مع تعدد أسباب فرحتنا، أنظرُ إليه كيف يضم أولاده ، تعابير وجهه تدل عن الرضا.... أسمع همساً لكنني لا أستطيع أن أسترق شيئاً، يُحَدّثُ أبناءه ويحدثونه وأنا أشاغل نفسي بتقديم الشراب والحلويات، يدفعني الفضول لأعرف ما يدور، لكنني أضبط نفسي وأمنعها من الاقتراب والمشاركة في الحديث فلست أنا من أفراد هذه الأسرة الصغيرة.....
شعرت ليلى بأحاسيسي وبرغبتي في الانضمام إلى تلك الدائرة الحميمة فدعتـني وعلى وجهها ابتسامة غير معهودة..... وما أن جلستُ معهم حتى بدأتْ بالحديث :
_ مرات كثيرة سألتـِني عن شرطي الوحيد لقبول العريس ، سأجيبك الآن، أنا لا أحب تجاوز الدور، هناك عريس يتقدم لخطبتك الآن انظري ما أجمله......
يعرف الأولاد أنني أرتبك كثيراً ، وقد جهزوا أنفسهم لهذه اللحظات، نهض قيس من مقعده، ووقف ورائي وكأنه يريد أن يقول، لقد أصبحتُ رجلاً يمكنك أن تستندي إلي ، وضمني بذراعيه وأمال رأسه يهمس في أذني: منذ أشهر ونحن نعدُّ لكِ هذه المؤامرة ، وليس أمامك إلا الموافقة......
في مثل هذه المواقف لاتنفع تمثيلية الأولاد، فالأنفع ما قاله والدهم: أنتِ أو لا أحد.... والله لن أجد من يحرص على حمل الأمانة مثلكِ، أرجو موافقتكِ أن تصيري ملكة مملكتنا الصغيرة.....
بقلم محمد عبد الوهاب جسري
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)