اليوم نكمل مع الجزء الثالث مع قصة صديقنا وسام الذي سبق وأن وضعت بين أيديكم الجزء الأول والذي كان يحمل عنوان ( وسام الطفل الكبير ) والجزء الثاني والذي حمل عنوان ( وسام والعالم السفلي ) .
اليوم سيكون عنوان هذا الجزء هو ( وسام و الحذاء ) . لن أطيل عليكم وسأدعكم مع صديقي وسام الذي سيتكلم ويحكي لكم أحداث هذا الجزء .
كنت أعود إلى بيتي وأنا مثقل بالشحوم والزيوت بغض النظر عن التعب الذي كان يجعل مني كل يوم جثة هامدة تتوق شوقاً لتلك الأسفنجة التي تحتضن الغطاء الذي أصبح جزء لا يتجزأ من حياتي وماضيي وحاضري وحتى مستقبلي , طبعاً كل هذا كان في فصل الصيف وسرعان ما أن جاء الشتاء والشتاء يعني أمطار وبرد وقر , والأمطار تحدث مستنقعات كبيرة وصغيرة من الوحل الذي أصبح هو الآخر ملازماً لي ولابد من أن يرسم يومياً على ملابسي خرائط و خربشات مما عنده , وطبعاً هذا غير الأقدام التي تبقى دائماً مبتلة وذلك بسبب ذلك الحذاء الظمآن الذي يمتص كل المياه التي يصادفها في طريقه و الذي سأم مني ومل من أقدامي لأنه ملتصق بهما منذ أكثر من عام مع أني لا أقصر معه أبداً فقد سبق وأن أخذته إلى الإسكافي الذي بدوره أجرى له أكثر من خمسة عشر عمل جراحي في مناطق مختلفة من أنحاء جسمه في كل مرة.
طبعاً أمي كانت ترى حالي كل يوم و ربما كانت تبكي في أعماقها عندما تراني وتشاهد تلك الأرجل التي أصبحت كالأسفنج المبتل بلون الحليب تملأهما الفطور والتشققات , هذا ما دفعها لتفكر بحل سريع يساهم في بتخفيف حدة معاناتي و البرد الذي أعاني منه والذي كان ينخر بعظامي بسبب أبتلال قدماي الصغيرتان .
اتجهت والدتي إلى سوق الأحذية لتشتري لي حذاء جديد فدخلت إلى المحل الأول والثاني والثالث طبعاً كلهم لديهم طلبها , حذاء طويل الساق مصنوع من المطاط يرتديه عادة الفلاح الذي يعمل بالحقل ويطلق عليه اسم ( جزمة ) , ولكنها كانت تبحث عن السعر الأقل إلى حين أن وصلت إلى نهاية السوق فدخلت المحل وسألت البائع طلبها وتفاجأ صاحب المحل حين علم أنها تريد النمرة الأصغر من هذا الحذاء وخاصة أنها لا تبدو امرأة ريفية وتريد الحذاء لأبنها الذي يعمل بالحقل , بل يبدو عليها أنها من سكان المدينة لا وبل مظهرها و ملابسها توحي على أنها زوجة أحد كبار التجار أو أحد الأغنياء وذلك لأنها كانت ترتدي معطفاً جلدياً فاخراً يعتليه عند محيط الرقبة فراء الثعلب التي يعرف عنه أنه من أغلى و أثمن الفراء المتوفر في السوق , لكنه لم يعلم أنها بالفعل كانت زوجة تاجر وثري لكن الزمن جار عليه وأفقده كل ماله وأصبح هذا التاجر أجيرا يعمل كل يوم في مكان و يترك العمل لأنه غير معتاد على أن يكون مأمورا بعد أن كان آمراً .
تجرأ هذا البائع وسألها لمن تودين شراء هذا الحذاء أختاه ؟؟
و راحت أمي تحكي له بحرقة قلب وتكاد تخنقها العبرات و تفضحها دموعها التي حاولت أن تحبسها بعينيها عني وعن عملي الذي آتي منه كل يوم وأنا نصف متجمد من شدة البرد الذي يصيبني وعن الأقدام الصغيرة التي لا تجف وتنعم بالدفء إلا يوم واحد بالأسبوع ألا وهو يوم الأحد يوم عطلتي الذي أقضيه بالقرب من المدفئة .
تبسم البائع ابتسامة اختلط بها الحزن والأسى على حال هذا الولد الذي سمع قصته , والفرح لأنه قد يستطيع أن يدخل السعادة على حياة أمي وحياتي وذلك لأنه يفكر بعرض قرر أن يقدمه لوالدتي .
نظرت والدتي إليه بنظرة لا تخلو من الاستغراب وقالت له ما الذي دفعك للتبسم وهل في قصة ولدي شيء يدعو للتبسم أو للضحك ..؟
تدارك نفسه البائع واعتذر وقال : لا يا سيدتي ابنك هذا سيكون بمثابة ابني وسأعمل على توظيفه في وظيفة أحسن له وسوف أعلمه صنعة تفيده في صغره وحتى حين يكبر .
اعتقدت أمي أنه يريد أن يوظفني عنده في الدكان نفسها , فاعتذرت وقالت له : لا شكراً حرمانه الدراسة ولا نريد أن نحرمه الصنعة فربما يكبر ابني و يدعو علينا أكثر من قبل لأننا حرمانه الدراسة والصنعة معاً .
قاطعها البائع هنا وقال ومن قال أني لن أعلمه صنعة وقال ( صنعة خفيفة نضيفة ) منذ فترة شاركت أحد الأشخاص وفتحنا مشغل لحياكة الشراشف والبياضات ونحن بحاجة لصبي صغير نعلمه المهنة ويساعدنا في العمل , فرحت أمي في سرها وكادت أن تطير من الفرح دونما أن تعرف أين ولا كيف ولا متى سيبدأ ولدها هذا العمل الذي بالفعل يعرف عنه أنه عمل مريح ولا يصحبه زيوت أو شحوم أو مازوت , لكنها لم تنسى أن تسأله أول سؤال كم ستعطونه راتب ( أجرة ) طبعاً أنا كنت أقبض من عملي في صيانة السيارة مبلغ قد يكون قليل ولكن والدتي كانت تعتمد عليه بشكل كبير في مصروف المنزل , كان راتبي حينها مائتين وخمسين ليرة أتقاضاها كل يوم سبت أي في نهاية الأسبوع بالنسبة للمنطقة التي أعمل بها , أجاب البائع وقال لأمي سأعطيه خمس مائة ليرة أسبوعياً .
الدنيا لم تعد تتسع لأمي و لولا العيب والخجل لكانت قبلت هذا البائع من وجنتيه على هكذا عرض مغري " خمس مائة ليرة سورية !!!! " ضعف راتب ابني .. !! سأشتري له ولأخوته ملابس جديدة , سنطبخ كل أسبوع طبخة دسمة , سوف أخصص لابني مبلغ أدخره من راتبه وأضعه في الحصالة خاصته لكي يجدها عندما يشب ويذهب لقضاء الخدمة الإلزامية .
قالت أمي للبائع : متى تريد أن أحضره لك لكي يبدأ العمل ؟؟؟
أجابها البائع من اليوم إن أحببني ...
فكرت أمي بسرعة وقالت لنفسها اليوم ثلاثاء وإن ترك عمله من الغد لن يعطيه أبو محمد راتب اليومين الماضيين .. هنا قاطعها البائع وكأنه كان يسمع الحديث الذي تحدث به نفسها وقال لها لا تقلقي إن باشر العمل من الغد سوف أدفع له يوم الخميس أجرة أسبوع كامل دون أن اقتطع عليه شيء وذلك كتعويض عن تركه لعمله القديم .
هنا بدت بشائر الفرح والبهجة على وجه أمي وأصبحت تمشي الخطوة بخطوتين متجهة نحو المنزل بعد أن ودعت البائع ووعدته بأنها سوف تحضر في الغد وأنا بصحبتها لكي أبدأ العمل بهذه المهنة التي كنت لا أعلم عنها إلا أسمها .
إلى اللقاء مع جزء قادم من قصة وسام .... أخوكم تاجر السعادة
أخبار من العالم بنكهة سورية
ربَ صدفة خير من ألف ميعاد ... كانت تريد أن تشتري له حذاء
و إذا به يحظى بفرصة عمل أفضل
قصة جميلة و شيقة .. شكرا جزيلا
بانتظار الجزء القادم
تحياتي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)