الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت
لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة فالقلب الصحيح: هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به كما قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء: 88 ] والسليم هو السالم وجاء على هذا المثال لأنه للصفات كالطويل والقصير والظريف فالسليم القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسقيم والعليل
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده قالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء وخلص عمله لله فإن أحب أحب في الله وإن أبغض أبغض في الله وإن أعطى أعطى لله وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب وهي العقائد وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها وأعمال الجوارح فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقعه وجله هو ما جاء به الرسول فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل كما قال تعالى: يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله [ الحجرات: 1 ] أي لا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر قال بعض السلف: ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لم وكيف أى لم فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه
ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك
والثاني: سؤال عن متابعة الرسول في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه
فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما
فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الاتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة
فصل في القلب الميت
والقلب الثاني: ضد هذا وهو القلب الميت الذي لا حياة به فهو لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضى ربه أم سخط فهو متعبد لغير الله: حبا وخوفا ورجاء ورضا وسخطا وتعظيما وذلا إن أحب أحب لهواه وإن أبغض أبغض لهواه وإن أعطى أعطى لهواه وإن منع منع لهواه فهواه ا ثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور ينادى إلى الله وإلى الدار الا خرة من مكان بعيد ولا يستجيب للناصح ويتبع كل شيطان مريد الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه فهو في الدنيا كما قيل في ليلى:
عدو لمن عادت وسلم لأهلها... ومن قربت ليلى أحب وأقربا
فمخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك
فصل في القلب المريض
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة فله مادتان تمده هذه مرة وهذه أخرى وهو لما غلب عليه منهما ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه: ما هو مادة حياته وفيه من محبة الشهوات وإيثارها والحرص على تحصيلها والحسد والكبر والعجب وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة: ما هو مادة هلاكه وعطبه وهو ممتحن بين داعبيين: داع يدعوه إلى الله ورسوله والدار الآخرة وداع يدعوه إلى العاجلة وهو إنما يجيب أقربهما منه بابا وأدناهما إليه جوارا قالقلب الأول حى مخبت لين واع والثاني يابس ميت والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى
وقد جمع الله سبحانه بين هذه القلوب الثلاثة في قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ الحج: 52 54 ]
فجعل الله سبحانه وتعالى القلوب في هذه الا يات ثلاثة: قلبين مفتونين وقلبا ناجيا فالمفتونان: القلب الذي فيه مرض والقلب القاسي والناجي: القلب المؤمن المخبت إلى ربه وهو المطمئن إليه الخاضع له المستسلم المنقاد
وذلك: أن القلب وغيره من الأعضاء يراد منه أن يكون صحيحا سليما لا ا فة به يتأتى منه ما هيىء له وخلق لأجله وخروجه عن الاستقامة إما ليبسه وقساوته وعدم التأتي لما يراد منه كاليد الشلاء واللسان الأخرس والأنف الأخشم وذكر العنين والعين التي لا تبصر شيئا وإما بمرض وآفة فيه تمنعه من كمال هذه الأفعال ووقوعها على السداد فلذلك انقسمت القلوب إلى هذه الأقسام الثلاثة
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه فهو صحيح الإدراك للحق تام الانقياد والقبول له
والقلب الميت القاسي: لا يقبله ولا ينقاد له
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسي وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم
فما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ وفي القلوب من الشبه والشكوك: فتنة لهذين القلبين وقوة للقلب الحي السليم لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه ويعلم أن الحق في خلافه فيخبت للحق ويطمئن وينقاد ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له فلا يزال القلب المفتون في مرية من إلقاء الشيطان وأما القلب الصحيح السليم فلا يضره ما يلقيه الشيطان أبدا
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: قال رسول الله تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادزا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئا فشيئا وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة سوداء فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس وهو معنى قوله كالكوز مجخيا أي مكبوبا منكوسا فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك، أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلا والباطل حقا الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول وانقياده للهوى واتباعه له
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر فيه مصباحه فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها فازداد نوره وإشراقه وقوته والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات فتن الغي والضلال فتن المعاصي والبدع فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد والإرادة والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد
وقد قسم الصحابة رضي الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة كما صح عن حذيفة بن اليمان: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب منكوس فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمى وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق وهو لما غلب عليه منهما
فقوله: قلب أجرد أي متجرد مما سوى الله ورسوله فقد تجرد وسلم مما سوى الحق وفيه سراج يزهر وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغى وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر لأنه داخل في غلافه وغشائه فلا يصل إليه نور العلم والإيمان كما قال تعالى حاكيا عن اليهود: وقالوا قلوبنا غلف [ البقرة: 88 ] وهو جمع أغلف وهو الداخل في غلافه كقلف وأقلف وهذه الغشاوة هي الأكنة التي ضربها الله على قلوبهم عقوبة له على رد الحق والتكبر عن قبوله فهي أكنة على القلوب ووقر في الأسماع وعمى في الأبصار وهي الحجاب المستور عن العيون في قوله تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ الأنعام: 25 ] فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد المتابعة ولى أصحابها على أدبارهم نفورا
وأشار بالقلب المنكوس وهو المكبوب إلى قلب المنافق كما قال تعالى: فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا [ النساء: 88 ] أي نكسهم وردهم في الباطل الذي كانوا فيه بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها فإنه يعتقد الباطل حقا ويوالي أصحابه والحق باطلا ويعادى أهله فالله المستعان
وأشار بالقلب الذي له مادتان إلى القلب الذي لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه سراجه حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله بل فيه مادة منه ومادة من خلافه فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر والحكم للغالب وإليه يرجع
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الباب الثاني في ذكر حقيقة مرض القلب
قال الله تعالى عن المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ البقرة: 10 ] وقال تعالى: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ الحج: 53 ] وقال تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ الأحزاب: 32 ] أمرهن أن لا يلن في كلامهن كما تلين المرأة المعطية الليان في منطقها فيطمع الذي في قلبه مرض الشهوة ومع ذلك فلا يخشن في القول بحيث يلتحق بالفحش بل يقلن قولا معروفا وقال تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغر ينك بهم [ الأحزاب: 60 ] وقال تعالى: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر: 31 ] أخبر الله سبحانه عن الحكمة التي جعل لأجلها عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر فذكر سبحانه خمس حكم:
فتنة الكافرين فيكون ذلك زيادة في كفرهم وضلالهم وقوة يقين أهل الكتاب فيقوى يقينهم بموافقة الخبر بذلك لما عندهم عن أنبيائهم من غير تلق من رسول الله عنهم فتقوم الحجة على معاندهم وينقاد للإيمان من يرد الله أن يهديه، وزيادة إيمان الذين آمنوا بكمال تصديقهم بذلك والإقرار به، وانتفاء الريب عن أهل الكتاب لجزمهم بذلك وعن المؤمنين لكمال تصديقهم به فهذه أربعة حكم: فتنة الكفار ويقين أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين وانتفاء الريب عن المؤمنين وأهل الكتاب، والخامسة: حيرة الكافر ومن في قلبه مرض وعمى قلبه عن المراد بذلك فيقول: ماذا أراد الله بهذا مثلا [ البقرة: 26 ] وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفرا وجحودا وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا وقلب يتيقنه فتقوم عليه به الحجة وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به واليقين وعدم الريب في هذا الموضع إن رجعا إلى شيء واحد كان ذكر عدم الريب مقررا لليقين ومؤكدا له ونافيا عنه ما يضاده بوجه من الوجوه وإن رجعا إلى شيئين بأن يكون اليقين راجعا إلى الخبر المذكور عن عدة الملائكة وعدم الريب عائدا إلى عموم ما أخبر الرسول به لدلالة هذا الخبر الذي لا يعلم إلا من جهة الرسل على صدقه فلا يرتاب من قد عرف صحة هذا الخبر بعد صدق الرسول ظهرت فائدة ذكره والمقصود: ذكر مرض القلب وحقيقته وقال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين [ يونس: 57 ] فهو شفاء لما في الصدور من مرض الجهل والغى فإ ن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى والغي مرض شفاؤه الرشد وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين فقال: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى [ النجم: 1 ] ووصف رسوله خلفاءه بضدهما فقال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وجعل كلامه سبحانه موعظة للناس عامة وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة وشفاء تاما لما في الصدور فمن استشفى به صح وبرىء من مرضه ومن لم يستشف به فهو كما قيل:
إذا بل من داء به ظن أنه... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
وقال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنن ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ الإسراء: 82 ] والأظهر أن من ههنا لبيان الجنس فالقرآن جميعه شفاء ورحمة للمؤمنين
فصل في أسباب ومشخصات مرض البدن والقلب
ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل وإما أن ينقص إداركه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرا والخبيث طيبا والطيب خبيثا
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة
وسبب هذا الخروج عن الاعتدال: إما فساد في الكمية أو في الكيفية
فالأول: إما لنقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها وإما لزيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها
والثاني: إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعي فيداوي بمقتضى ذلك ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذى واستفراغ المواد الفاسدة ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة وقد تضمنها الكتاب العزيز وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة
فأما حفظ القوة: فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ويقضي المسافر إذا قدم والمريض إذا برىء حفظا لقوتهما عليهما فإن الصوم يزيد المريض ضعفا والمسافر يحتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر والصوم يضعفها وأما الحمية عن المؤذي: فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره وأمره بالعدول إلى التيمم حمية له عن ورود المؤذي عليه من ظاهر بدنه فكيف بالمؤذي له في باطنه
وأما استفراغ المادة الفاسدة: فإنه سبحانه أباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه فيستفرغ بالحلق الأبخرة المؤذية له وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفها فنبه به على ما هو أحوج إليه منه
وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال: والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة لكان سفرا قليلا أو كما قال
وإذا عرف هذا فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته وهو الإيمان وأوراد الطاعات وإلى حمية عن المؤذي الضار وذلك باجتناب الا ثام والمعاصي وأنواع المخالفات وإلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له وذلك بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات ومرضه هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره للحق وإرادته له فلا يرى الحق حقا أو يراه على خلاف ما هو عليه أو ينقص إدراكه له وتفسد به إرادته له فيبغض الحق النافع أو يحب الباطل الضار أو يجتمعان له وهو الغالب ولهذا يفسر المرض الذي يعرض له تارة بالشك والريب كما قال مجاهد وقتادة في قوله تعالى في قلوبهم مرض [ البقرة: 10 ] أي شك وتارة بشهوة الزنا كما فسر به قوله تعالى: فيطمع الذي في قلبه مرض. فالأول مرض الشبهة والثاني مرض الشهوة
والصحة تحفظ بالمثل والشبه والمرض يدفع بالضد والخلاف وهو يقوى بمثل سببه ويزول بضده والصحة تحفظ بمثل سببها وتضعف أو تزول بضده ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح: من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك فكذلك القلب إذا كان فيه مرض ا ذاه أدنى شيء: من الشبهة أو الشهوة حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته
وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه
الباب الثالث في انقسام أدوية أمراض القلب إلى قسمين: طبيعية وشرعية
مرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال: وهو النوع المتقدم كمرض الجهل ومرض الشبهات والشكوك ومرض الشهوات وهذا النوع هو أعظم النوعين ألما ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم ولأن سكرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له وهو متوار عنه باشتغاله بضده وهذا أخطر المرضين وأصعبهما وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم فهم أطباء هذا المرض
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم والغيظ وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب وما يدفع موجبها مع قيامها وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن فكذلك البدن يتألم كثيرا بما يتألم به القلب ويشقيه ما يشقيه
أمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الايمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء ولهذا يقال شفى غيظه فإذا استولى عليه عدوه آلمه ذلك فإذا انتصف منه اشتفى قلبه قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء [ التوبة: 14 ] فأمر بقتال عدوهم وأعلمهم أن فيه ست فوائد
فالغيظ يؤلم القلب ودواؤه في شفاء غيظه فإن شفاه بحق اشتفى وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضا من حيث ظن أنه يشفيه وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق فإن ذلك يزيد مرضه ويوجب له أمراضا أخر أصعب من مرض العشق كما سيأتى إن شاء الله تعالى وكذلك الغم والهم والحزن أمراض للقلب وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرىء من مرضه وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر ولم يزل وأعقب أمراضا هي أصعب وأخطر
وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضا إلى مرضه لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبرئه قال النبي في الذين أفتوا بالجهل فهلك المستفتي بفتواهم: قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال فجعل الجهل مرضا وشفاءه سؤال أهل العلم
وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره وحصل له برد اليقين وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده وينشرح بالهدى والعلم قال تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ الأنعام: 125 ]
وسيأتي ذكر مرض ضيق الصدر وسببه وعلاجه إن شاء الله تعالى والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية ومنها مالا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية والقلب له حياة وموت ومرض وشفاء وذلك أعظم مما للبدن
الباب الرابع في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر فيه
أصل كل خير وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق: كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة الخير كله قال الله تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام: 122 ] فجمع بين الأصلين: الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات وحياؤه من القبائح هو بحسب حياته في نفسه فالقلب الصحيح الحى إذا عرضت عليه القبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف وينكر به المنكر
وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه
وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الأصلين في مواضع من كتابه فقال تعالى: وكذلك أو حينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ الشورى: 52 ] فجمع بين الروح الذي يحصل به الحياة والنور الذي يحصل به الإضاءة والإشراق وأخبر أن كتابه الذي أنزله على رسوله متضمن للأمرين فهو روح تحيا به القلوب ونور تستضىء وتشرق به كما قال تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ الأنعام: 122 ] أي أومن كان كافرا ميت القلب مغمورا في ظلمة الجهل: فهديناه لرشده ووفقناه للإيمان وجعلنا قلبه حيا بعد موته مشرقا مستنيرا بعد ظلمته فجعل الكافر لانصرافه عن طاعته وجهله بمعرفته وتوحيده وشرائع دينه وترك الأخذ بنصيبه من رضاه والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته: بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها من مكروه فهديناه للإسلام وأنعشناه به فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها ويعمل في خلاصها من سخط الله تعالى وعقابه فأبصر الحق بعد عماه عنه وعرفه بعد جهله به واتبعه بعد إعراضه عنه وحصل له نور وضياء يستضىء به فيمشي بنوره بين الناس وهم في سدف الظلام كما قيل:
ليلى بوجهك مشرق... وظلامه في الناس ساري
الناس في سدف الظلام... ونحن في ضوء النهار
ولهذا يضرب الله سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لوحيه ولعباده أما الأول فكما قال في سورة الرعد: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذكلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال
فضرب لوحيه المثل بالماء لما يحصل به من الحياة وبالنار لما يحصل بها من الاضاءة والإشراق وأخبر سبحانه أن الأودية تسيل بقدرها فواد كبير يسع ماء كثيرا وواد صغير يسع ماء قليلا كذلك القلوب مشبهة بالأودية فقلب كبير يسع علما كثيرا وقلب صغير إنما يسع بقدره وشبه ما تحمله القلوب من الشبهات والشهوات بسبب مخالطة الوحي لها وإمازته لما فيها من ذلك بما يحتمله السيل من الزبد وشبه بطلان تلك الشبهات باستقرار العلم النافع فيها بذهاب ذلك الزبد وإلقاء الوادى له وإنما يستقر فيه الماء الذي به النفع وكذلك في المثل الذي بعده: يذهب الخبث الذي في ذلك الجوهر ويستقر صفوه وأما ضرب هذين المثلين للعباد فكما قال في سورة البقرة: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمى فهم لا يرجعون. فهذا المثل الناري ثم قال: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت. فهذا المثل المائي
وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمناه من الحكم في كتاب المعالم وغيره
والمقصود: أن صلاح القلب وسعادته وفلاحه موقوف على هذين الأصلين قال تعالى إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا. فأخبر أن الانتفاع بالقرآن والإنذار به إنما يحصل لمن هو حي القلب كما قال في موضع آخر إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب. وقال تعالى يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. فأخبر سبحانه وتعالى أن حياتنا إنما هي باستجابتنا لما يدعونا إليه الله والرسول من العلم والإيمان فعلم أن موت القلب وهلاكه بفقد ذلك
وشبه سبحانه من لا يستجيب لرسوله بأصحاب القبور وهذا من أحسن التشبيه فإن أبدانهم قبور لقلوبهم فقد ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم فقال الله تعالى إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور. ولقد أحسن القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم... وليس لهم حتى النشور نشور
ولهذا جعل سبحانه وحيه الذي يلقيه إلى الأنبياء روحا كما قال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده في موضعين من كتابه وقال: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا. لأن حياة الأرواح والقلوب به وهذه الحياة الطيبة هي التي خص بها سبحانه من قبل وحيه وعمل به فقال: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. فخصهم سبحانه وتعالى بالحياة الطيبة في الدارين ومثله قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله. ومثله قوله تعالى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير وزيادة ولنعم دار المتقين. ومثله قوله تعالى للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة فبين سبحانه أنه يسعد المحسن بإحسانه في الدنيا وفي الآخرة كما أخبر أنه يشقى المسيء بإساءته في الدنيا والآخرة قال تعالى: ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. وقال تعالى وقد جمع بين النوعين: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأ نما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
فأهل الهدى والإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج
وقال تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
فأهل الإيمان في النور وانشراح الصدر وأهل الضلال في الظلمة وضيق الصدر
وسيأتي في باب طهارة القلب مزيد تقرير لهذا إن شاء تعالى
والمقصود: أن حياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه وموته وظلمته مادة كل شر فيه
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)