في أواخر الخمسينات من القرن المنصرم كان في دمشق صناعي مهم نجا ومصانعه من قرارات التأميم لكون مصانعه موزعة ما بين دمشق وحلب وبيروت وعلى الرغم من انها كانت مصانع متكاملة فإنها لم تلفت نظر من وضع المنشآت في لوائح التأميم في مكرمة عبد الناصر الأولى التي خدم فيها قطاع الصناعة في سوريا وأصابه في الصميم بحيث لم يعد يقف على قدميه منذئذٍ وحتى اليوم.
وكانت للرجل ابنة وحيدة رأى الدنيا من خلال عيناها الجميلتين وكان اسمها ايفا أرسلها والدها لتدرس الطب في الجامعة الأميركية في لبنان بشرط أن تكون اقامتها في دير للراهبات لا تخرج منه إلاّ إلى الجامعة على ان تعود اليه عند انتهاء محاضرات اليوم، وخصص لابنته أحد سائقيه الأشداء والمخلصين الذي كان يتولى أخذها إلى الجامعة وإعادتها إلى الدير وإلى دمشق مساء كل يوم جمعة لتقضي يومي السبت والأحد مع أهلها ليعود بها صباح الأثنين رأساً إلى جامعتها في بيروت.
وتخرجت الفتاة من الجامعة وكانت بصدد انهاء ارتباطاتها والعودة بشهادتها إلى دمشق عندما فاجأت والدها بأنها على علاقة حب مع زميلها في الجامعة وكان الوضع المادي لزميلها سيئاً للغاية فهو وحيد مثلها، لا أشقاء ولا شقيقات، وتعيله والدته التي كانت تعمل مدبرة منزل في بيوت أحد الأثرياء أما والده فلقد قتل في حادث تدهور سيارة اجرة كان يقودها على طريق بيروت دمشق، وابنه لم يبلغ الثالثة من العمر بعد.
طلبت الفتاة المساعدة من والدها فسافر الوالد للتعرف على الشاب، وأحضره ووالدته إلى دمشق وأعطاه بيت فخم في منطقة المزرعة كهدية للزواج وتمت مراسم الزواج في الكنيسة التي تعود اليها طائفة العريس وهي نفس الكنيسة التي تعود اليها طائفة العروس اما الاحتفال بعد العرس فكان في أفخم فنادق دمشق في الأوريان بالاس في منطقة الحجاز وهو نفس الفندق الذي كان يضم كل الثوار الانقلابيين في سوريا منذ عهد حسني الزعيم الذي افتتح مسلسل الانقلابات هذا المسلسل الذي أرهق سوريا وشعبها، مروراً بالذين باركوا له ثم ارتدوا عليه فبارك لهم آخرون وأرتدوا عليهم وجاء أيضا من بارك لهم ثم ارتد عليهم وهكذا حتى عهد الوحدة وعبد الناصر ثم عهد الانفصال وما تلاه وقصتنا تدور زمنياً في هذه الحدود (حدود ما تلاه).
سافر العروسان إلى الولايات المتحدة لقضاء شهر العسل وعند عودتهما حدثت موجة التأميم الثانية فتضرر الوالد ضرر فادح وذهب مصنعه والأرض الملحقة وأشجار السرو المحيطة وسياراته أدراج الرياح فسارع إلى بيع ما بقي له ولزوجته ولأبنته ولصهره وتلك الأموال المسجلة باسم شقيقاته وأشقائه وأبنائهم تمويهاً... باعها كلها واستطاع تهريب أمواله إلى لبنان وقرر ارسال ابنته وزوجها إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة التحصيل العالي هناك وقرر مباشرة أعماله من لبنان والوقوف على قدميه من جديد بعد هذه الضربة المروعة التي كسرت ظهره، واستطاع فتح خطوط تجارية لتصريف صناعته في دول الخليج والسعودية فأثرى ثراءً فاحشاً، وفي بداية السبعينات استفاد من قانون العفو الذي صدر في سوريا بمناسبة العهد الجديد، مع ان ما فعله لم يكن يحتاج للعفو لأنه لم يفعل ما يلام عليه فالرجل حر التصرف بما بقي له من ماله ولقد مارس هذه الحرية، استفاد من قانون العفو وجاء لزيارة شقيقاته وأشقائه زيارة المودع وعاد في اليوم التالي إلى بيروت، ومضت فترة بسيطة توفي الرجل بعدها بنوبة قلبية وهو على رأس عمله هناك وقررت زوجته الالتحاق بابنتها في لوس انجيلوس وترك كل شيء على حاله ولم تأسف بدورها على هذا القرار فلقد كانت تباشير حرب لبنان تطفو على السطح.
في الولايات المتحدة قرر الدكتور ديفيد وهو الاسم الذي اختاره بعد حصوله على الجنسية الأميركية قرر الحصول على درجة الدكتوراه في جراحة الأعصاب والمخ فكان له ما أراد أما الدكتورة ايفا فلقد قررت ان تكون سيدة بيت وكان لها ما أرادت وتم تأجيل الحمل والانجاب الى ما بعد انتهاء التحصيل العالي، ورزقها الله بعد ذلك بصبي وبنت وكانت الحياة تسري بشكل روتيني ولإيفا صداقات في المجتمعات المخملية ونشاطات النساء المتميزات في النوادي والمنتديات وجمع التبرعات للأحزاب ولانتخابات الرئاسة الأميركية وعلى الرغم من انكارها للحقيقة فلقد كانت تهمل زوجها وأولادها بسبب انشغالها الدائم خارج البيت، أما ديفيد فلقد كان منشغل بالمؤتمرات الطبية حول العالم فلقد كان محاضر بارع ومعفى من قيود الوقت فلقد كان يحظى على الدوام بمحاضرات مفتوحة لا يجرؤ رئيس الجلسة النظر فيها إلى ساعته احتراماً للمحاضر القدير الذي كان يدير شبكة من المشافي في الولايات المتحدة يشارك في رأسمالها بمشاركات عالية لا يرضى بأن تقل عن 51% من اجمالي قيمة الأسهم المطروحة للتداول، ويتجول بينها ليباشر عملياته الجراحية المعقدة مستخدماً طائرته الخاصة.
في صباحات أحدى أيام سبتمبر وسبتمبر ليس من الشهور المفرحة في أميركا ويدل على ذلك معزوفة سبتمبر سونغ الشهيرة، كان الدكتور ديفيد يتناول قهوته الصباحية على البار في منتصف الصالون في فيلته وهو بكامل أناقته وزوجته على المرآة تضع اللمسات الأخيرة قبل مغادرتها للمنزل وكانت ترجو زوجها ان يترك السامسونايت من يده ليشرب قهوته بهناءة، وكان يردد بأنه لا وقت لديه وأن ربان طائرته اتصل به من المطار يطلب منه عدم التأخر لأن هناك اعصار يقترب ويجب استباق الزمن لتفاديه.
وجاءت جيني وشربت من فنجان ابيها وطبعت على جبينه قبلة وسألته إلى أين فأشار بيده إلى الشمال الشرقي وقال لها إلى كندا يا حبيبتي فسألته ومتى تعود فأجابها بعد ثلاثة أيام فنظرت إلى امها وقالت لها وأنتِ؟ فأجابت اليوم هو آخر يوم لنا في لوس أنجيلوس وفي الغد ستبدأ الحملة الانتخابية في ولاية أخرى ولم أقرر بعد ولكن على الأرجح فأنا ككل مرة سأمضي في الطريق إلى آخره.
وخرجت جيني بملابس المدرسة وبيدها شنطة خفيفة اصطدمت عفوياً بالباب فتطايرت محتوياتها وتناثرت على الأرض ولم يهتم الأب لما حدث أما الأم فلقد حاولت مساعدة ابنتها في التقاط الأغراض فانتبهت إلى ظرف دواء تم استعمال بعضه وقد اسرعت جيني لإلتقاطه أولاً ووضعته في الشنطة وتبادلت الأم مع ابنتها نظرات لا تخلوا من التساؤل وعلامات الاستفهام وكان الظرف لا يسمح بأكثر من ذلك وشعرت البنت أن امها فهمت كل شيء فلقد كان ظرف الدواء هو حبوب منع الحمل.
وسأل الأب عن ولده فاستغربت الأم هذا السؤال بشدة وأجابت وهي تتصنع الرزانة عليك ان تسأل الذي أعطاه الأذن البارحة بالبقاء في مزرعة صديقه.
نظر ديفيد إلى ايفا وقال: لم يكن قرارنا بتأجيل الانجاب صائباً فلقد حدث فارق لا يستهان به ما بين أعمارنا وأعمار أولادنا فلا زلت أراهم صغاراً... أجابت ايفا وستبقى كذلك وأنا مثلك مهما كبروا.
وبعد دقائق فرغ البيت من ساكنيه ووصل ديفيد إلى المطار وفوجئ بأن ربان طائرته لم ينجح في الحصول على اذن بالاقلاع بسبب الاعصار فتأجلت الرحلة واضطر الدكتور ديفيد بأن يعود إلى داره ولأنه لم يكن في ذهنه أي مخطط آخر فلقد تعطل برنامجه بالكامل، ووصل إلى بيته ووضع المفتاح في الباب ودخل إلى الصالون ووضع أغراضه على الصوفا المجاورة للباب وصعد إلى غرفة نومه ينشد حمام ساخن يريد بعده ان ينام حتى الظهيرة بحيث لا يزعجه أحد وعندما وصل إلى باب الغرفة سمع أصوات غريبة فدب الرعب في قلبه ففتح الباب مسرعاً ورأى ابنته في سريره يعلوها شاب لم يراه من قبل، وعندما انتبه له العاشقان نهض الشاب والتمس ملابسه ودفع الوالد الذي كان يسد الطريق وقفز الدرج كله بقفزتين او ثلاثة وابتعد هارباً أما ديفيد فلقد تذكر في هذه اللحظة اصوله الشرقية فاندفع يلتقط كل قطع الأثاث ومحتويات الدروج ليضرب بها جيني وهو يصرخ ... وعلى سرير والدك ايتها الكلبة الوضيعة... وفي بيتي ايتها الساقطة... تدخلين هذا المتسول إلى بيتي... وتدنسين غرفة نوم والديك؟
وسقط الرجل مغشياً عليه، واستفاق على صوت ابنه يعطيه الحب المهدئ وكأس الماء فسأله اين اختك... فأجابه في المستشفى وأمي معها... وهل هي متأذية... نعم يا أبي وبشدة... حسناً أتمنى لو انها ماتت بين يدي.
وبعد قليل وصل المحقق وبصحبته شرطيان ودارت المحادثة الآتية: د ديفيد انت متهم بالاعتداء بالضرب المبرح على ابنتك والتسبب بجروح وكدمات في انحاء جسدها فهل تعترف بذلك ... نعم لقد فعلت... هل كنت تعرف بأن ابنتك كانت حامل؟... وانحدرت دموع ديفيد فلقد كان يشعر بمنتهى الذل والمهانة فقال ... تقول انها كانت... نعم كانت وقد اجهضت الآن... الحمد لله.
انت موقوف د ديفيد ويمكنك الاتصال بمحاميك ويمكنك ايضاً الامتناع عن الاجابة على اسئلتي حتى يحضر محاميك وانصحك بإختيار محام قدير فإن ما فعلته د ديفيد يندرج تحت مسمى الشروع بالقتل.
وتم سجن الدكتور ديفيد لمدة شهرين واعتبر محاميه ان هذا انجاز غير مسبوق في تاريخ المحاكم الاميركية خاصة وان جيني رفضت اسقاط حقها وارسل والدها تهديداً لها بأنه ان عادت إلى البيت فإنه سيقتلها... وهكذا فلقد ضاعت هذه الاسرة بعد هذه الفعلة... وجلس الدكتور ديفيد اسابيع طويلة في غرفته لا يفارقها، إلى أن قرر زملاؤه عمل حفلة بمناسبة خروجه بالسلامة واستطاعوا بعد جهد جهيد انتزاع موافقته على حضور الحفلة، فحضر ومعه زوجته وابنه، وبالطبع لم تفلح هذه الحفلة بإضافة أي شيء جديد فلقد كانت نظرات اليأس في عيني الدكتور ديفيد الذي فقد الحافز ووقع في مستنقع الكآبة.
حاول زملاؤه بذل جهود اضافية أثمرت بأنهم نجحوا في اعادته إلى غرفة العمليات ولكنهم لم يتركوه لوحده لأنه كان كثير الشرود وغير متوازن... تلقى صدمة مالية طالت الأسهم خاصته فناور واستطاع تجاوز الأزمة بنجاح... بدأت الأمور تعود إلى نصابها الطبيعي مع فارق واحد وهو التخلص من كل الأثاث الموجود في غرفته والذي يذكره بما حدث واستبدال سريره المزدوج بسرير واحد مفرد حيث استطاع بهذه الحركة افهام زوجته بأنه غير مرغوب بها في غرفته فذهبت طواعية لتنام في غرفة الأولاد.
ورن جرس الهاتف بعد منتصف الليل وتم استدعاؤه على عجل فذهب بسيارته إلى المستشفى ودخل غرفة العمليات وكان في مواجهة خمسة ضحايا يتمددون ومن حولهم أطباء مسعفين وكان الرجل في مواجهة أحب اصدقاءه إلى قلبه وهو غارق في دمه وعلى اجهزة الانعاش وعائلته المؤلفة من ثلاثة أولاد وأمهم وقد دخلوا جميعاً تحت شاحنة وكان يقود السيارة الابن البكر حيث تبين انه وصل إلى المشفى مفارقاً الحياة وبالعودة إلى المعلومات المحفوظة مسبقاً فإنه في مثل هذه الحوادث يكون هناك تفويض مسبق ووصية من المصاب يفوض فيه المشفى والطبيب بمباشرة الاسعاف في حال حدوث حادث يؤدي إلى فقد أهلية المصاب وكان المصاب قد كتب مسبقاً اسم الدكتور ديفيد وعنوان مستشفاه وبالتالي لا يمكن لأي طبيب آخر مباشرة أي عملية تعتبر في هذه الحالة عالية الخطورة بسبب عدم وجود تفويض.
وبذل ديفيد غاية جهده واستطاع انقاذ الأم والولدين ومات صديقه بين يديه... فخرج من غرفة العمليات مباشرة إلى سيارته وعاد إلى البيت.
وتبعه من كانوا معه في غرفة العمليات وتحدثوا معه كثيراً وقالوا له لقد بذلت جهد وبأكثر مما يمليه الواجب وكان جوابه ... كنت استطيع انقاذه ولكني فشلت لأنني بالاساس طبيب فاشل.
وظل ديفيد حبيس غرفته لا يدخل اليه أحد لمدة شهر كامل نهض بعده وطلب استدعاء الحلاق إلى البيت فحلق ذقنه وشعره وارتدى ملابسه وذهب إلى النقابة يطلب سحب ترخيصه ويطلب توقيفه عن مزاولة المهنة ... وتم له ذلك بعد مقابلة هيستيرية حاول الجميع فيها ثنيه عن طلبه وعاد إلى بيته ليعتني بحديقته وهو يصفر ويغني ألحان شرقية تذكره بأصله الشرقي الذي صار يحن اليه.
ووصل وفد من المساهمين يطلبون منه مباشرة عمل اداري لا يتعلق بالطب بل بإدارة الأسهم ومباشرة مهامه كرئيس مجلس ادارة... وكان رده بارداً وغير مبالٍ... وتحول إلى الشراب وصار يتناول المشروب بمعدلات متزايدة وبدون توقف حيث لا يستطيع النوم الا اذا كان منتهي.
ورفض توسلات زوجته بأن يذهب لزيارة طبيب نفسي... وفي الصباح دخلت زوجته تحمل القهوة وطرقت على الباب بهدوء ثم بقوة ثم بعنف فلم يفتح لها... واستعانت بإبنها فتم خلع الباب... وكان ممدداً على الأرض وفي أعلى يده اليسرى الانبوب المطاطي الذي يستعمل لكشف الوريد وعلى الأرض سيرنغ فارغ حقن محتوياته في الوريد، والجرائد التي فضحت الرجل واسرته ونشرت عرضه مبعثرة في كل مكان.
وكان القاتل الفعلي غائباً عن الجنازة ولمحت الأم خيال ابنتها تبتعد خلف الشجر في المقبرة وعلمت بعد سنين ان ابنتها تمضي حياة زاهدة كراهبة في احد الأديرة في دولة آسيوية وقد تكون الهند حسب الوصف، وهكذا فإن مغادرة السرب بعد مغادرة الوطن وتعلم ايقاع جديد هجين غير مألوف يؤدي إلى النتيجة الكارثية التي سبق ذكرها، لأن السرب تغير والوطن تغير والناس تغيرت وكل الكساء والغذاء والملبس، ولا تبقى إلاّ رحمة الخالق وموال حزين بصوت خفيض قادم من الشرق.
ملاحظة: هذه القصة حقيقية 100% وهي لأشخاص يمتون لي بصلة القرابة، وقد تم عن عمد تغيير الاسماء حماية لحقوق اللاعبين وحفاظاً على الانسانية والخصوصية واحترام المبادئ.
لتوصل معي على الفيس بوك بإمكان اضافتي على الحساب التالي :
https://www.facebook.com/Microsoft.Engineer
نصائح واستشارات امنية في مجال امن المعلومات والإتصالات
كبار استشاري امن المعلومات في شركة مايكروسوفت
لا حول و لا قوة إلا بالله
قصة مؤثرة و معبرة جدا
فعلا كتير من العائلات يلي عم تنتقل لبلدان و مجتمعات تانية ... مع نمط معيشة مختلف جذرياً عن مجتمعاتنا
عم تواجه مشاكل و صعوبات ... و خاصة بالنسبة لتربية و تنشئة الأولاد
لأنه مهما حاولوا يزرعوا فيهم البذور الشرقية ( من مبادئ و قيم و عادات و مفاهيم و أخلاق .....)
رح يكون الموضوع كتير صعب لأنه الجو المحيط مختلف تماما ( مدرسة , أصدقاء ..... )
و بالتالي لازم يتأثروا فيه ..
و غالبا النتائج بتكون سلبية ( طبعا مو كل الحالات ... دايما في استثناءات )
مشكور كتير ع الطرح الهادف
شكرا لنقل هذه المقالة المميزة للمميز الاستاذ سولفيان
شكرا لك صديقي وعساها عبرة لنا جميعا
سوريا ياحبيبتي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)