««صديقة الدرب»»
وعى (ر) نفسه بين يدي زوجة أبيه بعد أن طلق والده أمه , واقتنع بأن التعذيب والاضطهاد الذي يتعرض له على يد زوجة
أبيه قدر لابد منه , وإن لا مبالاة والده بما تفعله زوجته بابنه أمر لابد منه أيضاً .
في كل مساء وبوجود الأب كان (ر) يتعرض للضرب المبرح من زوجة أبيه بتهم لم يرتكبها , والأب مساندة لزوجته كان
يضيف ضرباً آخر له , وكل ما كان يستطيع (ر) فعله هو استنفاد كل ما في أعماقه من صراخ وبكاء يؤدي في النهاية إلى
تدخل الجيران وإنقاذه من حفلة التعذيب , ولم يجد الجيران إلا إبلاغ خاله المقيم في القرية البعيدة عن حلب , فحضر الخال
وهدد بإبلاغ الشرطة إن لم يعطوه الطفل ليربيه هو مع أولاده , ولم يكن بحاجة لمزيد من التهديد إذ سلموه الطفل .
إعاقات
عاش (ر) مع أولاد خاله الفقير في القرية , ولكن سرعان ما تبين أنه بسبب التعذيب الذي تعرض له على يدي زوجة أبيه
وأبيه قد أصيب بعدة إعاقات منها نوبات الصرع وشلل جزئي في قدمه اليمنى ويده اليسرى وتشوه في الفكين , ومع مضي
السنوات شعر (ر) أنه صار عالة على خاله , وعندما توفي الخال غادر (ر) القرية إلى حلب ونجح بتدخل من بعض
أبناء قريته في الحصول على وظيفة مستخدم مؤقت في إحدى الدوائر الحكومية وبراتب متواضع , لكنه كان كافياً ليشعره
بإنسانيته وأنه لم يعد عالة على أحد .
الحب والحنان
أحاطه العاملون في الدائرة بكل ما لديهم من حب وعطف فعاملوه على أساس أنه إنسان سوي مما زرع الثقة في نفسه ,
وتطوعوا بعرضه على الأطباء في المشافي العامة لعلاجه من نوبات الصرع التي كانت تزيد , ونجحوا بإدخاله إلى مشفى
الرازي حيث أجريت له عملية جراحية في الفكين أصلحت بعض التشويه فيهما , وهكذا شعر أنه بين أسرته , ولأول مرة
في حياته شعر بالعطف والحنان ودفء الحب معتزاً بالصداقة التي بناها كل العاملين في الدائرة معه متفانياً في خدمتهم قدر
استطاعته .
الحالة المفارقة
كان يتلذذ بتقديم الشاي لزملائه في أحد المكاتب عندما جاء اتصال من المدير العام يطلب ذهاب (ر) إلى مكتبه فوراً , ولم
يشك هو ولا الآخرون بأن استدعاء المدير العام له هو لإعطائه بعض المال كلما قبض المدير راتبه كإعانة تعين (ر) على
شراء الأدوية المكلفة , ولكن عندما دخل (ر) مكتب المدير فوجئ بعجوز تجاوز الستين قدمه المدير لـ(ر) على أنه
والده .
تلبست الدهشة (ر) وهو ينظر للعجوز , هل هو والده فعلاً ؟ ولماذا تذكره بعد كل هذه السنوات ؟! وهل جاء ليتفقد
العاهات التي سببها له مع زوجته ؟
أسئلة كثيرة عصفت برأس (ر) وهو يتطلع بالعجوز , ولم يخرجه من سيل الأسئلة إلا المدير العام الذي قال :
-جاء والدك بعد أن علم أنك موظف عندنا ليطالبك بالنفقة , يريد أن تخصص له مبلغاً من راتبك كنفقة وإلا سيشتكي عليك
للقضاء .
رمق (ر) والده بنظرة قاسية وغادر المكتب , وبعد عدة أيام جاء موظف إلى الدائرة وسلمه إشعاراً للمثول أمام القاضي
الشرعي تنفيذاً لدعوى وجوب نفقة للأب .
أمام القاضي
مستنداً على عكازته وبحالته المزرية دخل والد (ر) مكتب القاضي من خلال دموعه شرح أنه لم يرزق سوى بابنه (ر)
الذي عقه ولم يسأل عنه طوال هذه السنوات مما يضطره وزوجته إلى قبول الصدقات وقد تعاطف القاضي مع دموع الأب وطلب
منه الجلوس ثم طلب إدخال المدعى عليه (ر) وليفاجأ بدخول معاق يتكئ على مدير الدائرة التي يعمل بها والذي تطوع
بالحضور مع (ر) مستأذناً بشرح وضع (ر) الذي لا يستطيع الكلام بسبب عملية جراحية أجريت له مؤخراً بالفكين ,
فسمح له القاضي بالشرح .
قال المدير بتأثر :
-تنفيذاً لقرار استيعاب المعاقين في الدوائر الحكومية قبلت تشغيل المعاق (ر) , ولكن سرعان ما اكتشفنا أنه يحمل مجموعة
إعاقات منها العرج والشلل والصرع وتشوه الفكين , وكلها بسبب تعرضه للتعذيب على يد زوجة أبيه وأبيه في طفولته , وقد
عملنا في الدائرة على معالجة ما يمكن معالجته من هذه الإعاقات , ولكن بطبيعة الحال لم نستطع معالجة آثار الكي بالأسياخ
المحماة على جسده , ولا التخفيف من نوبات الصرع الناجمة عن الضرب الشديد على رأسه عندما كان طفلاً , وشهرياً
نجمع من بيننا نحن زملاء (ر) مبلغاً من المال لشراء الأدوية المكلفة التي يحتاجها (ر) للتخفيف من آثار الإعاقات الكثيرة
التي يحملها وشرح المدير قصة (ر) مع زوجة أبيه وكيف عاش عند خاله مع إعاقاته .
وحكمت المحكمة
زاد تأثر القاضي وهو يرى آثار الكي بالأسياخ المحماة على جسد (ر) والتي لم تمحها السنوات , ولم يجد عبارات تعنيف
مناسبة يوجهها للأب الذي أطرق رأسه , وبعد صمت ثقيل خاطب المدير قائلاً :
- لو لم أكن في موقعي هذا كقاض شرعي لأمرت بإحالة الأب وزوجته للمحاكمة الجنائية .. صدقني يا أستاذ أنا محتار
.. لكن النفقة تجاه الوالدين واجبة .
ولم تصل النفقة
-حكم القاضي بمبلغ بسيط كنفقة واجبة للأب , ولكن (ر) لم يستطع تسديد النفقة , فبعد أيام أصيب بنوبة صرع شديدة
وهو يعبر شارعاً مزدحماً , وفي المشفى فارق الحياة , وقد تكفل زملاؤه في الدائرة بدفنه كما يليق بزميل لهم بينما كان والده
في أول الشهر يسأل في المحكمة إن كان ابنه قد وضع النفقة له ليستلمها .
يَا سُـــورْيَا لاَ تنْحَنِيِ .. .. أَنَا لاَ أُذَلُ وَلاَ أُهَــــاَنْ
خَلِّي جَبِينَكِ عَاَلِيـــــاً .. .. مَادُمْتِ صَاحِبَةُ الْمَكَانْ
للاستفسار او مساعدة راسلوني على هاد الايميل
[email protected]
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)