هبَّت نسمة من هواء الصحراء القوي على مجموعة من نخيل ، فأخذت تتمايل يمنة و يسرة تهز ضفائرها في طرب ، و مالت نخلة برأسها على زميلة لها ، تسرّ لها بكلمات كحفيف لا يمكن تبيّن معنــاه ، و لكن زميلتها سمعته و فهمتـه ؛ فأبعدت رأسها بسرعة معاتبة و هي ترسل أصواتاً رقيقة مرحة ، بينما انهمكت أسرة مترابطة من الأشجار في رقصـة مبتكرة ..
إنها الرمز الأول للحياة ، و أوّل القاطنين على الأرض ، و أوّل من استضافت الإنسـان و أعطته مفردات اللغة .. حياتها سكينة و هدوء ، و لها سحرها الأخّاذ ، تنمو بصمت ، و لا تموت إلا بعد عمر مديد .. النظر إليها اطمئنان ، و البعد عنها مكابدة ، خضرتها تمنح الصفاء و النقاء ، و الوفاء و الهناء .. أسرارها كالبحر زاخرة بوابل الحكمـة و المعرفة ، و ما أدرك الإنسان روعة الألوان إلا بها .. لها معانٍ بعيدة لم يُكشَف بعد إلا طلائعها .. هي صديقة الغيث ، و هي شفاء .. و إنه لفرق كبير بين أن يرى الإنسان نفسه في صحراء تلفُّها الأعاصير و لا تحيط بها إلا الأودية الشاحبة ، و بين أن يرى نفسه في رياض نضرة ملأى بأشجار باسقات و اخضرار كالموج ينســاب .
و التشجير عبـادة يثاب عليها الإنسـان .. و لو قامت القيامة و في يد الإنسان فسيلة ـ كما في الحديث ـ فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل .
أشجارنا هي نعمة فلنحمها هذا العطاء الزاهر الوضاء
أبداً هي الأشجار ظلٌّ وارفٌ نُعمى تجمِّل أرضنا و غذاء
و كان من وصية السابقين للمجاهدين : " لا تقطعوا شجراً " . فالشـجر يسجد لله و ينقاد لعظمته : ( و النجم و الشـجر يسجدان ) . الرحمن / 6 . و النجم هنا هو النبات الصغير الذي لا ساق له . و قال تعالى : ( هو الذي أنزل من السماء مـاءً لكم منـه شراب و منـه شجـر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) . النحل / 10 – 11 . و تمت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، و وصفت شجرة الزيتون في القرآن بالبركة .
و هنا نقف عند تلك الشجرة الباسقة في علياء السماء ، الضاربة بجذورها في عمق الأرض .. نقف عند الشجرة التي حنَّ جذعها إلى الرسول الله صلى الله عليه و سلم لما فارقه حين صُنِعَ له المِنبر ، الشـجرة المثلى في عطائهـا و استقامتها و دوام ظلها و طيب ثمرها و وجوده على الدوام .
يقول ابن القيم عن ثمرها بأنه من أكثر الثمار تغذية للبدن .. هو فاكهـة و غذاء و دواء و شراب . و في الحديث : (( بيت لا تمـر فيه جيـاع أهله )) . و في رواية البخاري : (( من تصَّبح بسبع تمرات ، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر )) . و ذلك ببركة دعوة النبي [ صلى الله عليه و سلم ] لتمر المدينة ، فالذي يتصبح بسبع تمرات إيماناً و تصــديقاً ، فإن يقينه يزيده توكلاً على الله ، و بذلك تقـوى معنوياته الجسدية و النفسية ، فلا يبقى مجال للوساوس و المخاوف و حدوث سحر أو دس سم من قِبَل عدو يكيد له ؛ لأن من شروط انتفاع المريض بالدواء اعتقاده النفع به .
و جاء الحثّ على الإفطار على التمر : (( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ؛ فإنه بركة ، فإن لم يجد تمراً فالماء )) . فالتمر يُمتَص في فترة قصيرة جداً ؛ ليعوض الدم عن نقص السـكر . و كان الرسـول الكريم يمكث ثلاثـة أهلّة في شهرين و طعـامه و طعام أهل بيتــه : التمر و المـاء . و معـروف أنه كان أكمل الناس في الخلق و الخليقة و الصحة و العافية .
و بالوقوف على ما طالعنا العلم الحديث عن مخازن الغذاء في التمر ؛ لن نستغرب كيف كانت جيوشنا تفتح الأمصار بجنود لا يقتاتون إلا بضع تمرات .
يمتد موطن النخيل من غرب إفريقيا حتى حوض السند ، و من تلك المناطق انتشر النخيل إلى الهند و الشرق الأقصى ، و ثمة آراء تفيد بأن الخليج العربي هو الموطن الأصلي الذي نشأ فيه النخيــل .
و تعود زراعة النخيل إلى أكثر من عشرة آلاف عام ، و أهم البلاد التي تعنى بزراعة النخيـل : العراق و السعودية و مصر و إيران و الجزائر و المغرب .. حيث تنتج هذه البلاد 85 % من الإنتاج العالمي .
و يتوقف نجاح زراعة النخيل على كمية الماء المقدمة له ، و تتمثل عملية الري حديثاً بالنافورات ، أما السماد فتتوقف كميته على نوع التربة و عمر الأشجار .
أجناس و أنواع ..
- نخيل السكر : و هو من أهم أنواع النخيل المنتجة للسكر .
- نخيل النشاء : و مـن أهـم أنواعـه نخيل السـاغـو .
- نخيل الزيت : و من أهم أنواعه نخيل الزيت الإفريقي ، و نخيل جوز الهند .
- نخيل الشمع : و يستخدم الشمع المستخرج مـن هذا النوع في تحضير الصابون و الطلاء الغالي الثمن و ورق الكربون و البطاريات و الأفلام الصوتية ..
- نخيل العاج : و هو المصدر الرئيسي للعاج النباتي ، و يُستخدم كبديل عن العاج الحقيقي في صناعة الأزرار و أحجار الشطرنج و مقابض الأبواب .
- نخيل الثمار : و من أهم أنواعه نخيل التمـــر .
- نخيل الزينة : و مـن أهـم أنواعه النخيل المـروحي .
يتكاثر النخيل إما بواسطة البذور ، و إما بواسطة الشتلات التي يتم اختيارها عادة من أفضل الأصناف ، على أن لا تقل المسـافة بين الواحدة و الأخرى عن مترين .. و تأتي الأمطار رحمة من الله سبحانه ؛ لتكون كفيلة بغسل النخيل و رفع البلاء عنه .
أنسنة النخلة
النخلة مستقيمة معتدلة تماماً كالإنسان ، إذا قُطع رأسها ماتت ، و تتأثر بموت من جاورها ، و كذلك بموت زارعها ، و هي تعشق كرام الناس ، و تعوِّض بأكثر مما يكرمها الإنسـان ، لها قبائل و أصلها واحد ، و ثمرها مختلف في الطعم و اللون ، تعبِّر عن الضيق و العطش ، و تعيش عمراً كعمر الإنسان . و لقد قيل :
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يُرمى بصخرٍ فيعطي أطيب الثمرِ
وجـه المقاربة
النخيل من أطول الأشجار ، و الجمل من الحيوانات الكبيرة ، و النخيل من أرقى النباتات ، و الجمل من أرقى الحيوانات ، و كلاهما ذو منظر جميل : ( و النخلَ باسقات لها طلع نضيد ) 9ق / 10 . و تظهر الأزهار في أشجار النخيل حوالي السنة الخامسة ، و هي السنّ نفسها التي تبدأ الناقة فيها بالإنتاج ، و يشترك النخيل و الإبل في بيئة تقـاوم الحرارة و الملوحة . و لا تزهر شجرة النخيل إلا إذا تجاوزت الحرارة 18 % ، و ترتبط زراعتها بتوفر مائي جيد ، فهي تحتاج حوالي 170 م3 من الماء كل عــام .
تثير النخلة في النفس شــجوناً و ذكريات ، فقد رويت عن عبد الرحمن الداخل " صقر قريش " أبيات شجية أثارتها نخلة حديقة قصره بالرصافة :
تبدت لنا وسط الرصافة نخـلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ
فقلت شبيهي بالتغرب و النوى و طول التنائي عن بني و عن أهلي
و يصـف ابـن الرومـي " 835 – 896 م " يصـف التمــر فيقول :
ألذّ من السـلوى و أحلى من المنّ و أعذب من وصل الحبيب على الصدِّ
و في الشعر الجاهلي علاقة وثيقة بين النخلة و الناقة و الخيل و المرأة في صور تفرض نفسها على الخيال الواقعي ؛ فالنخل توغل جذورها في الأرض ، و تطاول بقاماتها قمم الجبال ، تهب عليهـا الريح فتنجذب الفروع إلى الفروع ، و يتشـابك السـعف و الجريد ، و من كثافتها كأنها ذوائب الجواري المهفهفة في مهب الريح . و مما قاله المعــري :
شـربنا ماء دجلة خير مـاء و زرنا أشـرف الشجر النخيلا
إن التمر غني بسكر العنب و الفاكهة و القصب ، و نسبتها 75 % ، و هو بذلك وقود من الدرجة الأولى . و ثبت أن جسم الإنسان لا يستغني عن المواد السكرية كمبعث للطاقة . و ينصح الأطباء بالإفطار على التمر امتثالاً لهدي رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يقتصر على تمرات أو شيء من الماء ، يقوم بعد ذلك إلى الصلاة ليعود لتناول طعام خفيف . و لو امتـثلنا هذا الهـدي الحكيم لحقـقنا البعد الطبي في حديث رسول الله : (( صوموا تصحّوا )) . و من فوائد السكر الموجود في التمـر :
_ منح النشاط و الرشاقة ، و تنقية الرئة ، و تقوية البصر ، و حفظ الصحة .
_ تأخير مظاهر الشيخوخة و الحفاظ على جهــاز التنفس .
_ الوقاية من الوهن العام و أمراض الجلد ، و تقوية الذاكرة و الأعصاب .
_ منح السكينة و الهدوء : ( و هـزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا . فكلي و اشربي و قرّي عينا ) . مريم : 24- 25 .
ارتفاع الضغط
ارتفاع ضغط الدم مرض شائع جداً ، و قد ثبت أنه ينبغي على المصابين به أن يخففوا كثيراً من تناول الملح ، و على العكس من ذلك فإن الأغذية الغنية بالبوتاسيوم تفيد في الوقاية من ارتفاع ضغط الدم و معالجته .
و يؤكـد الأطباء أن هذا الإجراء وحده كافٍ للشفاء .. و ثبت من خلال البحث في تركيب الملح من قِبَل المختصين أنه غذاء مناسب للمصابين بارتفاع ضغط الدم ، فهو فقير بالصوديوم ، غني بالبوتاسيوم و المغنـزيوم ، و هذه عوامل تتضافر على خفض ضغط الدم المرتفـع .
و يؤكد الأطبـاء أن التمر لا داء فيه ، و لا تعيش فيه الجراثيم ، و هذا مصداق الحديث : (( التمر يذهب الداء ، و لا داء فيه )) .
انظر لتلك الشـجرة ذات الغصـون النضرة
كيف نمت من حبة و كيف صارت شجرة
فابحث و قل من ذا الذي يخرج منها الثمرة
و انظر إلى الغيم فمن أنـزل منـه مطـره
فصـيَّر الأرض بـه بعـد اصفرار خضـره
ذاك هـــو الله الذي أنعمـه منهمـره
ذو حكمـة بالغـة و قــدرة مقتـدره
و الأشـجار تعطي كل يوم آلاف الأطنان من الأوكسجين ، و تحافظ على الرطوبة ، و تحفظ التربة من الانجراف ، و تخفف من سرعة الريح و ارتفاع الحرارة ، و تعطي الفحم و الحطب و الخشب ، و لها قيمة جمالية و ترفيهية هامة ، و لها دعاء تقول فيــه :
رويدك يا من ترفع فأسك لتهوي به عليَّ فتقتلني .. استمع إليَّ قبل أن تؤذيني فأنا ظلك الظليل في أيام الشمس المحرقة ، و أنا أساس بيتك ، و باب دارك ، و مسند ظهرك .. أنا قلمـك الذي به تكتب ، و قاربك الذي به تبحر .. أنا شجر الفاكهة التي منهــا تأكل ، و أنا أدويتك التي بها تشــفى .. أنا زهرة البستان .. أنا البهجة و الســرور .
1_ روائع الطب الإسلامي – د . محمد نزار الدقر – الجزء الأول .
2 ـ الإعجاز العلمي في القرآن – سامي محمـد علي .
3_ الأغذيـة في القرآن – رافــدة الحــريري .
4_ ثمرة مباركة – علاء الدين حسـن – مجلة الحرس – رمضان 1420 هـ .
5- حكمة الإفطار على التمر – صلاح شهاب الدين – مجلة الفيصل – العدد 279 .
6- بين النخيل و الإبل – كمال خليفة – مجلة القافلة – شــوال 1418 .
7- كيف تعيش النخلة ؟ – د. عطا الله أحمد – المجلة العربية – ربيع الأول 1406 .
8- التمر و حكمة إفطار الصائمين – منير محمد – المرجع السابق – رمضان 1414 .
9- التمر غذاء و دواء – محمود إسماعيل – السابق – رمضــان 1417 .
10- من يبكي النخلة – د. منذر محمد – المرجع السابق – العدد 301 .
11 - الشجرة و دورها البيئي – مروان شيخو – مجلة نهج الإسلام – ذو الحجة 1420 .
12 – النخلة بين الشعر و الأسطورة – مصطفى سليمان – مجلة الكويت – العدد 103 .
13- أسرار جديدة للتمر – سيد عثمان " حديث الجمعة " 14 جمادى الآخرة 1412 .
14- التمر أول طعام الصائمين – دون اسم – صحيفة الرياض – 1 رمضان 1421 .
15- أهمية زراعة النخيل – غصوب عبـود – صحيفة الثورة ـا 25/ 6 /2000 .
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا))
حمل toolbar alexa لتصفح أسرع و حماية أكبر
يداً بيد نبني سورية الغد
مشكور عيني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)