بعض المُتثاقفين من الذّكور في البلاد العربيّة لا يُحسنون إزاء الأقلام الأنثويّة التي اختارت السّير في درب الرّسم بالكلمات غير الإفتاء والتّنظير؛ يجب أن تفعل، ويجب ألآ تفعل. يجب أن تتحجّب لأنّ الحجاب فريضة على كلّ مُسلمة، وينبغي ألا تتحجّب لأنّ الحجاب مُضادّ للفكر المُستنير!. يجب أن تقرأ أعمال (ألبير كامو) لأنّه صاحب رؤيةٍ أدبيّةٍ مُبتكرة، ولا بدّ أن تتجنّب الاطّلاع على أعماله لأنّه ذو فكرٍ فاسد مُنحل. يجب أن تكون شُجاعةً في إطلالاتها الإعلاميّة، وعليها في الوقت ذاته أن تتجنّب الصّحافة والتّلفاز والإذاعة كي لا تُرجم بتُهمة الانفلات!.. ثُمّ يُطلقون الأحكام الباترة إزاء ما تكتبه بأقلامٍ مسنونةٍ وألسنةٍ أشبه بقاذفات القنابل دون التفاتٍ إلى مُعاناتها التي تحرم روحها وقلمها من النّمو والنّضج والتّحليق.
الكاتبة المثقّفة في مُجتمعنا أيّها السّادة مازالت تُعامل كطفلةٍ قاصرةٍ تُحاصر بالمنع، والحبس، والتجسس، والاستجواب عن كلّ خطوةٍ تخطوها مهما صغُرت. كلّ من هبّ ودبّ من ذكور المُجتمع يتبرّع بوصايةٍ ديكتاتوريّةٍ عليها بحُجّة أنّه في مقام والدها، أو كشقيقها، أو في منزلة عمّها، أو صديق ابن عمّة خال جدّة زوجة ابن تاسع جار من جيرانها، حتّى وإن كان هذا المُتبرّع بتطفّله لا يُحسن تهجّي حروف اسمه ولا يعرف الفرق بين يده اليُمنى و يده اليُسرى!. باختصار؛ إنّ تلك المرأة لا تمتلك أكثر من مُعطيات جُثّة ثقافة، حلم ثقافة، خيال ثقافة، سرابُ ثقافة. لذّةٌ روحيّةٌ تُرى عن بُعدٍ ولا تُمس، إنّها – من وجهة نظري - محض هُراء، عبثٌ لا يستحقّ اسمه الكبير. إنّها ذاك المسخ الذي تساءلت عنه بطلة الكاتبة بُثينة العيسى في روايتها (عروس المطر) حين قالت بشجاعة: " أيّ ثقافة؟ أيّ دجَل؟ ثقافةٌ ميّتة، لا تمنحني أفقًا ولا سعة نظر ولا حتّى عدسات لاصقة، إنّها ببساطة لا تمنحني أيّ شيء".
تستفزّ سُخريتي الدّاخليّة سذاجة من يتصوّرون أنّ مُجرّد امتلاك الكاتبة ورقةً، وقلمًا، وخطّ اتّصالٍ بالشّبكة العنكبوتيّة الإلكترونيّة كافيًا لترشيحها على قائمة جائزة نوبل للآداب، جاهلين أنّ النّضج الثّقافي والأدبيّ يتطلّب قدرًا كبيرًا من إيمان أسرة تلك الكاتبة ومُجتمعها ببلوغها سنّ الرّشد العقلي، وثقةً بمقدرتها على اتّخاذ القرار بمسؤوليّة، وحُريّةً تؤكّد حقّها الإنسانيّ في الحياة. يتطلّب السّفر في أرض الله الواسعة، والاختلاط بالأوساط والنّشاطات الثّقافيّة الجادّة، لا الأوساط الافتراضيّة والنّشاطات التي تُقرّر وتُقام من باب الإيهام و (رفع العتَب). يتطلّب اطّلاعًا مُستمرّا لجديد السّينما والمسرح ومعارض الكتاب، وزياراتٍ حُرّةٍ للمكتبات التّجاريّة والمكتبات العامّة دون حراسةٍ إجباريةٍ مُشدّدة. يتطلّب ألا تكون دقيقة الاتّصال بالانترنت مُراقبة، والاتّصال الهاتفيّ محظورًا، وتجاوز عتبة باب البيت ممنوعًا، ونقاب الوجه إجباريّا. يتطلّب أن يكون بيدها اتّخاذ قرارها الفوريّ بالموافقة على أيّ أمسيةٍ شعريّةٍ أو قصصيّةٍ تُدعى لتقلّد دور البطولة فيها دون أن تُضطرّ لخوض معركةٍ مجهولة العواقب مع الأغراب والأقارب، ويتطلّب مع كُلّ هذا الاختلاط بمُختلف نماذج المُجتمع، وطبقاته، وشخصيّاته، لإنضاج تجربة نفسيّة واجتماعيّة قابلة للتّصديق والتّأثير حين تسكُن الصّفحات المقروءة. لا أن يكون أقصى ما تحظى به من حُريّة هو الاكتفاء بدفن نفسها واسمها ومستقبلها تحت عفونة ثقافة العزل في نوادي أدب (الدّائرة التّلفزيونيّة المُغلقة)، حيث لم تشفع الثّقافة في ترقيتها درجةً تسمح بتجاوزها مرحلة الاستكانة في (الزّريبة) إلى مرحلة تقاسُم هواء الحجرة ذاتها مع المخلوقات البشريّة المُعترَف بإنسانيّتها. ولا أدري – بعد كُلّ هذا- كيف يجرؤ البعض على الإسراف في إهانة نصوص كاتبةٍ يُدرك أنّ انعزالها عن العالم كان على الرّغم منها، وافتقارها للتجربة الحقيقيّة كان على الرّغم منها، وحرمانها من التّواصُل الإعلاميّ البنّاء كان على الرّغم منها، واستسلامها لفتات الثّقافة الذي يصل الإناث من باب الصّدقة كان على الرّغم منها.. مثلما لا أدري كيف يجرؤ أيّ مثقّف على المقارنة بين أدب المرأة الأوروبيّة والأمريكيّة وأدب المرأة العربيّة من على بُرجه الذّكوريّ العاجي دونما مُحاولة لشطف تلك الهمجيّة الاجتماعيّة بين أبناء جنسه، وبعض الإمّعات من بنات أبناء جنسه!.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)