وكتب إلي السَّري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة مثل ذلك، إلّا أنهما قالا: اشترى هذا الضَّرب رجال من كلّ قبيلة ممن كان له هنالك شيء؛ فأراد مأن يستبدل به فيما يليه، فأخذوا، وجاز لهم عن تراض منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق؛ إلّا أنّ الذين لا سابقة لهم ولا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة في المجالس والرياسة والحظوة، ثم كانوا يعيبون التفضيل، ويجعلونه جفوة، وهم في ذلك يختفون به ولا يكادون يظهرونه، لأنه لا حجّة لهم والناس عليهم، فكان إذا لحق بهم لاحق من ناشيء أو أعرابي أو محرَّر استحلى كلامهم؛ فكانوا في زيادة، وكان الناس في نقصان حتى غلّب الشرّ.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مددًا لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان - وكذلك كانوا يصنعون، يجعلون للناس ردءًا - فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - سقط خاتم رسول الله من يد عثمان في بئر أريس وهي على ميلين من المدينة، وكانت من أقلّ الآبار ماء، فما أدرك حتى الساعة قعرها.
ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عثمان في بئر أريس
حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزّاز. قال: وكان شريك يونس بن عبيد قال: حدثنا داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله ص أراد أن يكتب إلى الأعاجم كتبًا يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنهم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، فأمر رسول الله ص أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في إصبعه، فأتاه جبريل، فقال له؛ انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ص من إصبعه، وأمر بخاتم أخر يعمل له، فعمل له خاتم من نحاس، فجعله في إصبعه، فقال له جبريل عليه السلام: انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ص من إصبعه، وأمر رسول الله ص بخاتم من ورق، فصنع له خاتم من ورق فجعله في إصبعه، فأقرّه جبريل، وأمر أن ينقش عليه: محمد رسول الله، فجعل يتختّم به، ويكتب إلى من أراد أن يكتب إليه من الأعاجم، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر. فكتب كتابًا إلى كسرى بن هرمز فبعثه مع عمر بن الخطاب، فأتى به عمر كسرى فقرىء الكتاب، فلم يلتفت إلى كتابه، فقال عمر: يا رسول الله، جعلني الله فداءك! أنت على سري مرمول باللّيف، وكسى بن هرمز على سرير من ذهب، وعليه الديباج! فقال رسول الله : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة!. فقال: جعلني الله فداءك! قد رضيت.
وكتب كتابًا آخر، فبعث به مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرق ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، فقرأه وضمّه إليه، ووضعه عنده؛ فكان الخاتم في إصبع رسول الله يتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم استخلف أبو بكر فتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم ولى عمر بن الخطاب بعد فجعل يتختّم به حتى قبضه ه، ثم ولى من بعده عثمان ابن عفان، فتختّم به ستّ سنين، فحفر بئرًا بالمدينة شربًا للمسلمين، فقعد على رأس البئر، فجعل يعبث بالخاتم، ويديره بإصبعه، فانسلّ الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه في البئر، ونزحوا ما فيها من الماء، فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالًا عظيمًا لمن جاء به، واغتم لذلك غمًا شديدًا، فلما يئس من الخاتم أمر فصنع له خاتم أخر مثله، خلقه من فضّة، على مثاله وشبهه، ونقش عليه: محمد رسول الله؛ فجعله في إصبعه حتى هلك؛ فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه.
أخبار أبي ذر رحمه الله تعالى
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية، وإشخاص معاوية إيّاه من الشأم إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمور كثيرة، كرهت ذكر أكثرها.
فأما العاذرون معاوية في ذلك، فإنهم ذكروا في ذلك قصّة كتب إلي بها السري، يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: لما ورد ابن السوداء الشأم لقي أبا ذرّ، فقال: يا أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية، يقول: المال مال الله! ألا إنّ كلّ شيء لله كأنه يريد أنيحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذرّ، فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله! قال: يرحمك الله يا أبا ذرّ؛ ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره! قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرّداء، فقال له: من أنت؟ أظنّك والله يهوديًّا! فأتى عبادة بن الصامت فتعلّق به، فأتى به معاوية، فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذرّ؛ وقام أبو ذرّ بالشأم وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء. بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم. فمازال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس.
فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذرّ قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، فلم يبق إلا أن تثب. فلا تنكأ الفرح، وجهّز أبا ذر إلي، وابعث معه دليلًا وزوّده، وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت؛ فإنما تمسك ما استمسكت. فبعث بأبي ذرّ ومعه دليل؛ فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع، قال: بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار.
ودخل على عثمان فقال: يا أبا ذرّ، ما لأهل الشام يشكون ذربك! فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا. فقال: يا أبا ذرّ؛ علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعيّة، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد.
قال: فتأذن لي في الخروج، فإنّ المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شرًّا منها! قال: أمرني رسول الله أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعًا؛ قال: فانفذ لما أمرك به. قال: فخرج حتى نزل الربذة، فخطّ بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين، وأرسل إليه: أن تعاهد المدينة حتى لا ترتدّ أعرابيًا؛ ففعل.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة، وكان يحبّ الوحدة والخلوة. فدخل على عثمان، وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف؛ وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألّا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان، ويصل القرابات. فقال كعب: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذرّ محجنه فضربه فشجّه، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذرّ، اتق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يا بن اليهوديّة؛ ما أنت وما ها هنا! والله لتسمعنّ مني أو لأدخل عليك.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأشعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين، قال: خرج أبو ذرّ إلى الربذة من قِبَل نفسه لما رأى عثمان لا ينزع له، وأخرج معاوية أهله من بعده، فخرجوا إليه ومعهم جراب يثقل يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهّد في الدنيا ما عنده! فقالت امرأته: أما والله ما فيه دينار ولا درهم، ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسًا لحوائجنا.
ولما نزل أبو ذرّ الربذة أقيمت الصلاة، وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدّم يا أبا ذرّ، فقال: لا، تقدّم أنت، فإنّ رسول الله قال لي: " اسمع وأطع، وإن كان عليك عبد مجدّع ". فأنت عبد ولست بأجدع - وكان من رقيق الصدقة؛ وكان أسود يقال له مجاشع.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر، قال: أجرى عثمان على أبي ذرّ كلّ يوم عظمًا، وعلى رافع ابن خديج مثله، وكانا قد تنحيّا عن المدينة لشيء سمعاه لم يفسّر لهما، وأبصرا وقد أخطئا.
وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن سلمة بن نباتة، قال: خرجنا معتمرين، فأتينا الربذة، فطلبنا أبا ذرّ في منزله، فلم نجده، وقالوا: ذهب إلى الماء. فتنحبّينا، ونزلنا قريبًا من منزله، فمرّ ومعه عظم جزور يحمله معه غلام، فسلّم ثم مضى حتى أتى منزله، فلم يمكث إلّا قليلا حتى جاء، فجلس إلينا وقال: إنّ رسول الله قال لي: " اسمع وأطع وإن كان عليك حبشي مجدّع "، فنزلت هذا الماء وعليه رقيق من رقيق مال الله، وعليهم حبشي - وليس بأجدع، وهو ما علمت، وأثنى عليه - ولهم في كلّ يوم جزور؛ ولي منها عظم آكله أنا وعيالي. قلت: مالك من المال؟ قال: صرمة من الغنم وقطيع من الإبل، في أحدهما غلامي وفي الآخر أمتي، وغلامي حرّ إلى رأس السنة. قال: قلت: إنّ أصحابك قبلنا أكثر الناس مالًا، قال: أما إنهم ليس لهم في مال الله حق إلّا ولي مثله.
وأمّا الآخرون، فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة، وأمورًا شنيعة، كرهت ذكرها.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر هرب يزدجرد إلى خراسان
وفي هذه السنة، هرب يزدجرد بن شهريار في قول بعضهم من فارس إلى خراسان.
ذكر من قال ذلك وما قال فيه
ذكر علي بن محمد أنّ مسلمة أخبره عن داود، قال: قدم ابن عامر البصرة، ثمّ خرج إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جوز - وهي أردشير خرّه - في سنة ثلاثين. فوجّه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فأتبعه إلى كرمان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر، وهرب يزدجرد إلى خراسان. قال: وعبد القيس تقول: وجّه ابن عامر هرم ابن حيّان العبدي، وبكر بن وائل تقول: وجّه ابن حسان اليشكري. قال: وأصحّه عندنا مجاشع.
قال علي: وأخبرنا سلمة بن عثمان - وكان فاضلًا - عن مجاشع يزدجرد فخرج من السيرجان، فلما كان عند القصر في بيمند - وهو الذي يقال له قصر مجاشع - أصابهم الثلج والدّمق، فوقع الثلج، واشتدّ البرد، وصار الثلج قامة رمح، فهلك الجند، وسلم مجداشع ورجل كانت معه جارية، فشقّ بطن بعير، فأدخلها فيه وهرب؛ فلما كان من الغد، جاء فوجدها حيّة فحملها، فسمّي ذلك القصر قصر مجاشع؛ لأن جيشه هلكوا فيه؛ وهو على خمسة فراسخ أو ستّة من السيرجان.
قال علي: أخبرنا أبو المقدام، عن بعض مشيخته، قال: خرج مجاشع على وفد أهل البصرة من تستر - وفيهم الأحنف - وأخذ في غداة واحدة على لجام واحد خمسين ألفًا، سبق على الصفراء ابنة الغبراء، فأخذها منه عمر حين قاسم عمّاله الأموال.
قال علي: فقلت للنضر بن إسحاق: إنّ أبا المقدام ذكر هذا الحديث! فقال: صدق، سمعته من عدّة من الحي وغيرهم، وفرسه الصفراء ابنة الغرّاء ابنة الغبراء. وهو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن عائذ بن وهب بن ربيعة بن يربوع بن سمّال بن عوف بن امرىء القيس بن بهثة بن سلم. ويكنى أبا سليمان.
قال: وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء، وصلّى بمنىً أربعًا.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين
ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة
فممّا كان فيها من ذلك غزوة المسلمين الروم التي يقال لها:
غزوة الصواري
في قول الواقدي. فأمّا أبو معشر فإنه قال فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين؛ وقال: كانت في سنة إحدى وثلاثين الأساودة في البحر ووقاع كسرى.
وقال الواقدي: غزوة الصواري والأساودة كلتاهما كانتا في سنة إحدى وثلاثين.
ذكر الخبر عن هاتين الغزوتين
ذكر الواقدي أن محمد بن صالح حدثه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أنّ أهل الشأم خرجوا؛ عليهم معاوية بن أبي سفيان، وكانت الشأم قد جمع جمعها لمعاوية بن أبي سفيان.
ذكر السبب في جمعها له
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن عبد الملك والربيع وأبي مجالد وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: لما حضر أبو عبيدة استخلف على عمله عياض بن غنم - وهو خاله وابن عمّه - وقد كان ولي بالجزيرة عملًا، فعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلحق بأبي عبيدة بالشأم؛ وكان معه؛ وكان جوادًا مشهورًا بالجود، لا يليق شيئًا، ولا يمنع أحدًا. فكلّم عمر في ذلك، فقيل له: عزلت خالدًا وعتبت عليه العطاء، وعياض أجود العرب وأعطاهم؛ لا يمننع شيئًا يسأله؛ فقال عمر: متى سيمه عياض في ماله حتى يخلص إلى ما لنا! وإني مع ذلك لم أكن مغيّرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة. ومات عياض بن غنم بعد أبي عبيدة، فأمر عمر على عمله سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد بعد؛ فأمّر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ، وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين؛ وإنما مصّر قنّسرين معاوية بن أبي سفيان لمن لحق به من أهل العراقين ومات يزيد بن أبي سفيان، فجعل عمر مكانه معاوية ونعاه لأبي سفيان، فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية، فقال: وصلتك رحم؛ فاجتمعت لمعاوية الأردنّ ودمشق؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين، وعلقمة ابن مجزّزّ على فلسطين وعمرو بن العاص على مصر.
وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: كان أوّل عامل استعمله عثمان بن عفان سعد بن أبي وقّاص عن وصيّة عمر. ثمّ إنّ عمير بن سعد طعن فأضنى منها، فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله؛ فأذن له؛ وضمّ حمص وقنّسرين إلى معاوية.
وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، عن خالد بن معدان؛ قال: لمّا ولي عثمان أقرّ عمال عمر على الشام؛ فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني - وكان على فلسطين - ضمّ عمله إلى معاوية، ومرض عمير بن سعد في إمارة عثمان مرضًا طال به، فاستعفاه واستأذنه فأذن له، وضمّ عمله إلى معاوية؛ فاجتمع الشأم على معاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان عمرو بن العاص على مصر زمان عمر، مجتمعة له، فأقرّه عثمان صدرًا من إمارته.
رجع الحديث إلى حديث الواقدي عن خبر الغزوتين اللتين ذكرتهما: إنّ أهل الشام خرجوا، عليهم معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقال: وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية، فخرجوا في جمع لم يجتمع للرّوم مثله قطّ منذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب؛ فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضًا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك بينصواريها.
قال ابن عمر: حدثني عيسى بن علقمة، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كنت معهم، فالنقيا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قطّ؛ وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبًا منا؛ وسكنت الريح عنّا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم قالوا: ذلك لكم ولنا منكم، ثم قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم؛ وإن شئتم فالبحر. قال: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء؛ فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها إلى عبض حتى كنّا يضرب بعضنا بعضًا على سفننا وسفنهم؛ فقاتلنا أشدّ القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن، ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركامًا.
قال ابن عمر: فحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عمّن حضر ذلك اليوم، قال: رأيت الساحل حيث تضرب الريح الموج، وإنّ عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال؛ وإنّ الدم لغالب على الماء، ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرًا لم يصبروا في موطن قطّ مثله. ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرًا، فما انكشف إلّا لما أصابه من القتل والجراح؛ ولقد أصابه يومئذ جراحات مكث منها حينًا جريحًا.
قال ابن عمر: حدثني سالم مولى أمّ محمد، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، قال: كان أوّل ما سمع من محمد بن أبي حذيفة حين ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين، لمّا صلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالناس العصر، كبر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا ورفع صوته حتى فرغ الإمام عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فلما انصرف سأل: ما هذا؟ فقيل له: هذا محمد بن أبي حذيفة يكبّر، فدعاه عبد الله بن سعد، فقال له: ما هذه البدعة والحدث؟ فقال له: ما هذه بدعة ولا حدث؛ وما بالتّكبير بأس، قال: لا تعودنّ.
قال: فأسكت محمد بن أبي حذيفة، فلمّا صلّى المغرب عبد الله بن سعد كبّر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا أرفع من الأوّل، فأرسل إليه: إنّك غلام أحمق؛ أما والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لقاربت بين خطوك. فقال محمد بن أبي حذيفة: والله مالك إلى ذلك سبيل؛ ولو هممت به ما قدرت عليه. قال: فكفّ خير لك؛ والله لا تركب معنا، قال: فأركب مع المسلمين؟ قال: اركب حيث شئت. قال: فركب في مركب وحده ما معه إلى القبط؛ حتى بلغوا ذات الصواري؛ فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علي، قالوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنّواقيس، وبات المسلمون يصلّون ويدعون الله.
ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقرّبوا سفنهم، وقرّب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصفّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن، ويأمرهم بالصبر، ووثبت الروم في سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها؛ فكانوا يقاتلون على غير صفوف. قال: فاقتتلوا قتالًا شديدًا. ثم إنّ الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلّا الشريد.
قال: وأقام عبد الله بذات الصواري أيّامًا بعد هزيمة القوم؛ ثم أقبل راجعًا؛ وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل: أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقًا، فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا حتى أفسد الناس. فقدموا بلدهم وقد أفسدهم، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به.
قال محمد بن عمر: فحدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: خرج محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عبد الله بن سعد، فأظهرا عيب عثمان وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمر؛ وأنّ دم عثمان حلال. ويقولان: استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلًا كان رسول الله أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله قومًا وأدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد، فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين، ولقوا العدوّ؛ وكانا أكلّ المسلمين قتالًا، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكّمه! عبد الله بن سعد استعمله عثمان، وعثمان فعل وفعل؛ فأفسدا أهل تلك لاغزاة، وعابا عثمان أشدّ العيب. فأرسل عبد الله بن سعد إليهما ينهاهما أشدّ النهي، وقال: والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما.
قال الواقدي: وفي هذه السنة توفّيَ أبو سفيان بن حرب وهو ابن ثمان وثمانينن سنة.
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - فتحت في قول الواقدي أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة الفهري.
ذكر الخبر عن مقتل يزدجرد ملك فارس
وفي هذه السنة قتل يزدجرد ملك فارس.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
اختلف في سبب مقتله؛ وكيف كان قذ؛ فقال علي بن محمد: أخبرنا غياث بن إبراهيم، عن ابن إسحاق، قال: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل مرزبانها مالًا فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب يزدجرد حتى أتى منزل رجل ينقر الأرجاء على شطّ المرغاب، فأوى إليه ليلًا، فلما نام قتله.
قال علي: وأخبرنا الهذلي، قال: أتى يزدجرد مرو هاربًا من كرمان، فسأل مرزبانها وأهلها مالًا، فمنعوه وخافوه، فبيّتوه ولم يستجيشوا عليه الترك، فقتلوا أصحابه، وخرج هاربًا على رجليه، معه منطقته وسيفه وتاجه؛ حتى انتهى إلى منزل نقّار على شطّ المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار، وأخذ متاعه وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتّبعوا أثره، حتى خفي عليهم عند منزل النقّار، فأخذوه، فأقرّ لهم بقتله وأخرج متاعه؛ فقتلوا النقّار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب فجعلوه في تابوت من خشب.
قال: فزعم بعضهم أنهم حملوه إلى إصطخر فدفن بها في أول سنة إحدى وثلاثين، وسمّيت مرو " خذاه دشمن "، وقد كان يزدجرد وطىء امرأة بها فولدت له غلامًا ذاهب الشقّ - وذلك بعد ما قتل يزدجرد - فسمى المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له: إنّهما من ولد المخدج، فبعث بهما - أو بإحداهما - إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص.
قال علي: وأخبرنا روح بن عبد الله، عن خرداذبه الرازي؛ أنّ يزدجرد أتى خراسان ومعه خرّزاذمهر، أخو رستم، فقال لماهويه مرزبان مرو: إني قد سلّمت إليك الملك. ثم انصرف إلى العراق وأقام يزدجرد بمرو، وهمّ بعزل ماهويه، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بانهزام يزدجرد وبقدومه عليه، وعاهدهم على مؤازرتهم عليه، وخلّى لهم الطريق.
قال: وأقبل الترك إلى مرو، وخرج إليهم يزدجرد فيمن معه من أصحابه، فقاتلهم ومعه ماهويه في أساورة مرو، فأثخن يزدجرد في الترك، فخشي ماهويه أن ينهزم الترك، فتحوّل إليهم في أساورة مرو، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر فرس يزدجرد عند المساء، فمضى ماشيًا هاربًا حتى انتهى إلى بيت فيه رحًا على شطّ المرغاب، فمكث فيه ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه، فلما أصبح اليوم الثاني دخل صاحب الرحا بيته، فلما رأى هيئة يزدجرد قال: ما أنت؟ إنسي أو جني! قال: إنسي؛ فهل عندك طعام؟ قال: نعم، فأتاه به، فقال: إني مزمزم فأتني بما أزمزم به، فذهب الطحان إلى إسوار من الأساورة، فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟ قال: عندي رجل لم أر مثله قطّ؛ وقد طلب هذا مني. فأدخله على ماهويه، فقال: هذا يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فقال له الموبذ: ليس ذلك لك، قد علمت أنّ الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلّا بالآخر، ومتى فعلت انتهكت الحرمة التي لا بعدها. وتكلم الناس وأعظموا ذلك، فشتمهم ماهويه، وقال للأساورة: من تكلم فاقتلوه. وأمر عدّة فذهبوا مع الطحان، وأمرهم أن يقتلوا يزدجرد، فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذلك وقالوا للطحان: ادخل فاقتله، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه، ثم احتزّ رأسه، فدفعه إليهم، وألقى جسده في المرغاب. فخرج قوم من أهل مرو، فقتلوا الطحان، وهدموا رحاه، وخرج أسقف مرو، فأخرج جسد يزدجرد من المرغاب، فجعله في تابوت، وحمله إلى إصطخر، فوضعه في ناووس.
وقال آخرون في ذلك ما ذكر هشام بن محمد؛ أنه ذكر له أن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند، وكانت آخر وقعاتهم حتى سقط إلى أرض إصبهان، وبها رجل يقال له مطيار من دهاقينها - وهو المنتدب كان لقتال العرب حين نكلت الأعاجم عنها - فدعاهم إلى نفسه، فقال: إن ولّيت أموركم وسرت بكم إليهم ما تجعلون لي؟ فقالوا: نقرّ لك بفضلك. فسار بهم، فأصاب من العرب شيئًا يسيرًا، فحظي به عندهم، ونال به أفضل الدرجات فيهم. فلما رأى يزدجرد أمر إصبهان ونزلها، أتاه مطيار ذات يوم زائرًا، فحجبه بوابه، وقال له: قف حتى أستأذن لك عليه، فوثب عليه فشجّه أنفةً وحميّة لحجبه إيّاه، ودخل البواب على يزدجرد مدمّىً، فلمّا نظر إليه أفظعه ذلك، وركب من ساعته مرتحلًا عن إصبهان، وأشير عليه أن يأتي أقصى مملكته فيكون بها، لاشتغال العرب عنه بما هم فيه إلى يوم. فسار متوجّهًا إلى ناحية الري، فلما قدمها خرج إليه صاحب طبرستان، وعرض عليه بلاده، وأخبره بحصانتها، وقال له: إن أنت لم تجبني يومك هذا ثم أتيتني بعد ذلك لم أقبلك ولم آوك؛ فأبى عليه يزدجرد، وكتب له بالإصبهبذيّة، وكان له فيما خلا عليه درجة أوضع منها.
وقال بعضهم: إنّ يزدجرد مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثمّ سار منها إلى مرو في ألف رجل من الأساورة.
وقال بعضهم: إنّ يزدجرد وقع إلى أرض فارس، فأقام بها أربع سنين، ثم أتى أرض كرمان، فأقام بها سنتين أو ثلاث سنين؛ فطلب إليه دهقان كرمان أن يقيم عنده، فلم يفعل؛ وطلب من الدهقان أن يعطيه رهينة، فلم يعطه دهقان كرمان شيئًا، فلم يعطه ما طلب، فأخذ برجله فسحبه وطرده عن بلاده؛ فوقع منها إلى سجستان، فأقام بها نحوًا من خمس سنين. ثمّ أجمع أن ينزل خراسان فيجمع الجموع فيها ويسير بهم إلى من غلبه على مملكته، فسار بمن معه إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاذ؛ فلما قدم مرو استغاث منهم بالملوك، وكتب إليهم يستمدّهم، وإلى صاحب الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر والدّهقان يومئذ بمرو ماهويه بن مافناه بن فيد أبو براز. ووكّل ماهويه ابنه براز مدينة مرو - وكانت إليه - وأراد يزدجرد دخول المدينة لينظر إليها وإلى قهندزها - وكان ماهويه قد تقدّم إلى ابنه ألّا يفتحها له إن رام دخولها تخوّفًا لمكره وغدره - فركب يزدجرد في اليوم الذي أراد دخولها، فأطاف بالمدينة، فلما انتهى إلى باب من أبوابها، وأراد دخولها منه صاح أبو براز ببراز: أن افتح - وهو في ذلك يشدّ منطقته، ويومىء إليه ألّا يفعل - وفطن لذلك رجل من أصحاب يزدجرد، فأعلمه ذلك، واستأذنه في ضرب عنق ماهويه، وقال: إن فعلت صفت لك الأمور بهذه الناحية؛ فأبى عليه.
وقال بعضهم: بل كان يزدجرد ولّى مرو فرّخزاذ، وأمر براز أن يدفع القهندز والمدينة إليه، فأبى أهل المدينة ذلك؛ لأن ماهويه أبا براز تقدّم إليهم بذلك، وقال لهم: ليس هذا لكم بملك، فقد جاءكم مفلولًا مجروحًا، ومرو لا تحتمل ما يحتمل غيرها من الكور، فإذا جئتكم غدًا فلا تفتحوا الباب. فلما أتاهم فعلوا ذلك، وانصرف فرّخزاذ، فجثا بين يدي يزدجرد، وقال: استصعبت عليك مرو؛ وهذه العرب قد أتتك. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نلحق ببلاد الترك ونقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب؛ فإنهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها. قال: لست أفعل؛ ولكني أرجع عودي على بدئي؛ فعصاه ولم يقبل رأيه، وسار يزدجرد، فأتى براز دهقان مرو، وأجمع على صرف الدهقنة إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه أبا براز، فعمل في هلاك يزدجرد وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أنّ يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه لتكون أيديهما معًا في أخذه، والاستيثاق منه، فيقتلوه أو يصالحوا عليه العرب، وجعل له إن هو أراحه منه أن يفي له كلّ يوم بألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مماكرًا له لينحّيَ عنه عامّة جنده، ويحصل في طائفة من عسكره وخواصّه، فيكون أضعف لركنه، وأهون لشوكته، وقال: تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه؛ من مناصحته ومعونته على عدوّه من العرب، حتى يقهرهم، وتطلب إليه أن يشتقّ لك اسمًا من أسماء أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادمًا عليه حتى ينحّيَ عنه فرّخزاذ.
فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو فاستشارهم، فقال له سنجان: لست أرى أن تنحّيَ عنك جندك وفرّخزاذ لشيء، وقال أبو براز: بل أرى أن تتألّف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه، وفرّق عنه جنده، وأمر فرّخزاذ أن يأتي أجمة سرخس، فصاح فرّخزاذ، وشقّ جيبه، وتناول عمودًا بين يديه يريد ضرب أبي براز به، وقال: يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرّخزاذ حتى كتب له يزدجرد بخطّ يده كتابًا: هذا كتاب لفرّخزاذ؛ إنك قد سلّمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه إلى ماهويه دهقان مرو. وأشهد عليه بذلك
فأقبل نيزك إلى موضع بين المروين، يقال له حلسدان؛ فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو براز ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به، وينفر عنه؛ ولكن يلقاه بالمزامير والملاهي؛ ففعل فسار فيمن أشار عليه ماهويه، وسمّى له، وتقاعس عنه أبو براز، وكردس نيزك أصحابه كراديس. فلمّا تدانيا استقبله نيزك ماشيًا، ويزدجرد على فرس له، فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه فركبها؛ فلمّا توسط عسكره تواقفا، فقال له نيزك فيما يقول: زوّجني إحدى بناتك وأناصحك، وأقاتل معك عدوّك. فقال له يزدجرد: وعلي تجترىء أيّها الكلب! فعلاه نيزك بمخفقته، وصاح يزدجرد: غدر الغادر! وركض منهزمًا، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا فيهم القتل.
وانتهى يزدجرد من هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان فمكث فيه ثلاثة أيام؛ فقال له الطحّان: أيّها الشقي، اخرج فاطعم شيئًا، فإنك قد جعت منذ ثلاث، قال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة وكان رجل من زمازمة مرو أخرج حنطة له ليطحنها، فكلمه الطحان أن يزمزم عند ليأكل، ففعل ذلك؛ فلما انصرف سمع أبا براز يذكر يزدجرد، فسألهم عن حليته؛ فوصفوه له، فأخبرهم أنه رآه في بيت طحّان، وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا، مقرّط مسوّر. فوجّه إليه عند ذلك رجلًا من الأساورة، وأمره إن هو ظفر به أن يخنقه بوتر، ثم يطرحه في نهر مرو؛ فلقوا الطحّان، فضربوه ليدلّ عليه فلم يفعل، وجحدهم أن يكون يعرف أين توجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه قال لهم رجل منهم: إنّي أجد ريح المسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه؛ فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه، ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته؛ قال الآخر: أعطني أربعة دراهم وأخلّي عنك؛ قال يزدجرد: ويحك خاتمي لك، وثمنه لا يحصى! فأبى عليه؛ قال يزدجرد: قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم؛ وأضطر إلى أن يكون أكلي أكل الهرّ، فقد عاينت، وجاءني بحقيقته؛ وانتزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان مكافأة له لكتمانه عليه، ودنا منه كأنه يكلمه بشيء، فوصف له موضعه، وأنذر الرجل أصحابه، فأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه وقال: ويحكم! إنّا نجد في كتبنا أنّ من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا؛ مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان أو سرّحوني إلى العرب؛ فإنهم يستحيون مثلي من الملوك؛ فأخذوا ما كان عليه من الحلي، فجعلوه في جراب، وختموا عليه؛ ثم خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتى انتهى إلى فوّهة الرزيق، فتعلّق بعود، فأتاه أسقفّ مرو، فحمله ولفّه في طيلسان ممسّك، وجعله في تابوت، وحمله إلى بائي بابان أسفل ماجان، فوضعه في عقد كان يكون مجلس الأسقفّ فيه وردمه، وسأل أبو براز عن أحد القرطين حين افتقده، فأخذ الذي دلّ عليه فضربه حتى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود.
وقال آخرون: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إياها، فأخذ على طريق الطبسين وقهستان، حتى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خراسان جموعًا، ويكرّ إلى العرب ويقاتلهم، فتلقّاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو؛ يقال لأحدهما براز والآخر سنجان؛ ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخصّ براز فحسده ذلك سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عليه، وسعى بسنجان حتى عزم على قتله؛ وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأة من نسائه كان براز واطأها؛ فأرسلت إلى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك. فنذر سنجان، وأخذ حذره، وجمع جمعًا كنحو أصحاب براز، ومن كان مع يزدجرد من الجند، وتوجّه نحو القصر الذي كان يزدجرد نازله. وبلغ ذلك براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكّرًا، ومضى على وجهه راجلًا لينجو بنفسه، فمشى نحوًا من فرسخين حتى وقع إلى رحًا ما، فدخل بيت الرحا، فجلس فيه كالًّا لغبًا، فرآه صاحب الرحا ذا هيئة وطُرّة وبزّة كريمة، ففرش له، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يومًا وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقة مكلّلة بجوهر كانت عليه؛ فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وقال: إنما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها وأشرب، فأخبره أنه لا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحا؛ حتى إذا غفا قام إليه بفأس له فضرب بها هامته فقتله، واحتزّ رأسه؛ وأخذ ما كان عليه من ثياب ومنطقة، وألقى جيفته في اعلنهر الذي كان تدور بمائه رحاه، وبقر بطنه، وأدخل فيه أصولًا من أصول طرفاء كانت نابته في ذلك النهر لتحبس جثّته في الموضع الذي ألقاه فيه، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه. وبلغ قتل يزدجرد رجلًا من أهل الأهواز كان مطرانًا على مرو؛ يقال له إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى؛ وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانيّة مع ما نال النصارى في ملك جدّه كسرى من الشرف؛ وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير؛ حتى بنى لهم بعض البيع، وسدّد لهم بعض ملّتهم؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين، كان إلى النصارى؛ وقد رأيت أنّ أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.
فقال النصارى: أمرنا لأمرك أيّها المطران تبع؛ ونحن لك على رأيك هذا مواطئون. فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووسًا؛ ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد من النهر وكفّنها، وجعلها في تابوت، وحمله من كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي أمر ببنائه له وواروه فيه، وردموا بابه؛ فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه وغلظتهم عليه.
وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك؛ وصفا الملك بعده للعرب.
شخوص عبد الله بن عامر إلى خراسان وما قام به من فتوح
وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ففتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا حتى بلغ سرخس، وصالح فيها أهل مرو.
ذكر الخبر عن ذلك
ذكر أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمي، فقال: أصلح الله الأمير! إنّ الأرض بين يديك، ولم تفتتح من ذلك إلّا القليل، فسر فإنّ الله ناصرك؛ قال: أولم نأمر بالمسير! وكره أن يظهر أنه قبل رأيه؛ فذكر علي بن محمد أن مسلمة بن محارب أخبره عن السكن بن قتادة العريني، قال: فتح ابن عامر فارس ورجع إلى البصرة، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم. قال: كنّا نقول: إنه الأحنف - ويقال: أوس بن جابر الجشمي جشم تميم - فقال له: إنّ عدوّك منك هارب؛ وهو لك هائب، والبلاد واسعة؛ فسر فإنّ الله ناصرك، ومعزّ دينه.
فتجهّز ابن عامر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف على البصرة زيادًا، وسار إلى كرمان؛ ثم أخذ إلى خراسان، فقوم يقولون: أخذ طريق إصبهان؛ ثم سار إلى خراسان.
قال علي: أخبرنا المفضّل الكرماني، عن أبيه، قال: كان أشياخ كرمان يذكرون أنّ ابن عامر نزل المعسكر بالسّيرجان، ثمّ سار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود السلمي، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر؛ وهي ثمانون فرسخًا، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر؛ وهي مدينة نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأخذ إلى قهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيه الهياطلة؛ وهم أهل هراة؛ فقاتلهم الأحنف فهزمهم؛ ثم أتى ابن عامر نيسابور.
قال علي: وأخبرنا أبو مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، قال: أخذ ابن عامر على مفازة خبيص؛ ثم على خواست - ويقال: على يزد - ثمّ على قهستان؛ فقدّم الأحنف فلقيه الهياطلة، فقاتلهم فهزمهم؛ ثم أتى أبرشهر، فنزلها ابن عامر؛ وكان سعيد بن العاص في جند أهل الكوفة، فأتى جرجان وهو يريد خراسان؛ فلمّا بلغه نزول ابن عامر أبرشهر، رجع إلى الكوفة.
قال علي: أخبرنا علي بن مجاهد، قال: نزل ابن عامر على أبرشهر فغلب على نصفها عنوة، وكان النصف الآخر في يد كنارى، ونصف نساوطوس؛ فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليمًا رهنًا، ووجّه عبد الله بن خازم إلى هراة وحاتم بن النعمان إلى مرو، فأخذ ابن عامر ابني كنارى، فصارا إلى النعمان ابن الأفقم النصري فأعتقهما.
قال علي: وأخبرنا أبو حفص الأزدي، عن إدريس بن حنظلة العمبّي، قال: فتح ابن عامر مدينة أبرشهر عنوة؛ وفتح ما حولها طوس وبيورد ونسا وحمران، وذلك سنة إحدى وثلاثين.
قال علي: أخبرنا أبو السري المروزي، عن أبيه، قال: سمعت موسى بن عبد الله بن خازم يقول: أبي صالح أهل سرخس، بعثه إليهم عبد الله بن عامر من أبرشهر وصالح ابن عامر أهل أبرشهر صلحًا، فأعطوه جاريتين من آل كسرى بابونج وطهمبج - أو طمهبج - فأقبل بهما معه، وبعث أمين ابن أحمر اليشكري، ففتح ما حول أبرشهر: طوس وبيورد ونسا وحمران، حتى انتهى إلى سرخس.
قال علي: وأخبرنا الصلت بن دينار، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر عبد الله بن خازم إلى سرخس؛ ففتحها وأصاب ابن عامر جاريتين من آل كسرى، فأعطى إحداهما النوشجان؛ وماتت بابونج.
قال علي: وأخبرنا أبو الذيال زهير بن هنيد العدوي، عن أشياخ من أهل خراسان، أنّ ابن عامر سرّح الأسود بن كلثوم العدوي - عدي الرباب - إلى بيهق؛ وهو من أبرشهر، بينها وبين مدينة أبرشهر ستة عشر فرسخًا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم. قال: وكان فاضلًا في دينه، كان من أصحاب عامر بن عبد الله العنبري وكان عامر يقول بعد ما اخرج من البصرة: ما آسى من العراق على شيء إلّا على مماء الهواجر، وتجاوب المؤذّنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.
قال علي: وأخبرنا زهير بن هنيد، عن بعض عمومته، قال: غلب ابن عامر على نيسابور، وخرج إلى سرخس، فأرسل إلى أهل مرو يطلب الصلح؛ فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف.
قال: فأخبرنا مصعب بن حيّان عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالحهم على ستة آلاف ألف ومائتي ألف.
وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)