كتبتْ إلي يوما تسألني عن فلسفة الشوق،وألزمتني في الجواب بين التحليق والغوص فأجبتها قائلا:
أديبتي الراقية..خيرتني بين جناحين لا غنى لي عنهما ،وما أروعك وأنت تأسرين قلمي بمتضادين في الاتجاه ،الغوص والتحليق،،هو تحليق في غوص وغوص في تحليق ،أليست النهاية محطة النبض العلوية بيننا!!
سابقني سؤالك إلى الطرح ،وأبى الا أن يتمركز فوق قبة الحديث ،ويتمحور حول مدار الفكر .
الشوق ..كلمة تكتبها أقلام النظرات المتبادلة بين حبيبين رأى كل منهما الدنيا كلها مجتمعة بقضها وقضيضها في نظرة حبيبه ،تصوري النفحةَ الأولى للقاء ..البسمةَ الأولى ..النظرةَ الأولى..اللمسةَ الأولى ،أما اللغة الأولى فهي بكرٌ في روعة السبك بكر في دفء اللفظ وحميمية المعنى.
يا لنفس المحب حينما يستولي الشوق عليها فيحيلها قطعةَ من جمر متَّقد ، لا يطفئها ماءٌ ولا يخمدها هواء ٌ،وشدة التأجج تنساق في حثيث مستمر إلى جهة واحدة هي مرمى الحبيب ،فيخيل إليك أن هذا المحب قد حيل بينه وبين عالمنا المعهود فتحار في نسبته إلى أي العوالم ينتمي ،حتى يخبرك شوقه الفاضح ..أن عالمه ليس ثمة إلا موطن فاح بريح محبوبه .وللشوق حديث لسانه الدمع ،وللشوق إفصاح لغته الأنين، وللشوق علامات أوضحها صمت في كلام وكلام كالصمت.
هنا استجمعتُ قوى قلبي قبل عقلي لمناقشة الشوق لدى أربابه ..فالشوق في دستور العاشقين شيء فوق التفسير العقلي ،والمنطق الواقعي بمفهومنا ،حيث لا يعدو عذابه توهمَ لقاءٍ قد لا يكون،وتخيلَ مملكة رضا لدى الحبيب قد لا تتحقق،وإن شئت فقولي هي أحلام يجترها عاشق حال خلو واقعه مما يتمنى.يعرض فيها محسوساته لعذاب الخيال المسمى شوقا..لن أناقشك -أديبتي-حول إيمان العاشق وعدمه بما يفعل فذاك أمر صار يقينا في خلده ،لكنني سأحاور حرفك العميق حول استطعام الشوق في حلق العاشق وإن كان ذلك سيجري عن طريق حلوقنا ..فماذا أديبتي ؟؟ثم ماذا وجدت من برهان يسند حالته ،ويشرح حقيقته؟
يبدو من حرفي هنا احتمائي بجانب القلب،ويبدو من سؤالك جانب الحياد بين القلب والعقل،ولا أرانا سنختلف مادام هناك اعتراف لدى العاشق بكليهما ،في الوقت الذي يخالف فيه غيره بفلسفة الترتيب المكاني ،فهو بشوقه الخيالي جعل عقله مكان قلبه ،أو جمع دواعي العقل كلها في بوتقة القلب ..أديبتي..لو دخل العقل مجال الشوق الغرامي لما وجد له محلا يرتضيه ،فمعادلاته هنا سترتطم بمركب الشوق الحالم وسرعان ما تتحطم على عتباته.
ولو عاتبنا مشتاقا لعاتبناه قبل ذلك محباً ،فالحب عاش فاقداً موضع قدم في دنيا الواقع ،ثم ما الشوق إلا تمرد العاشق على سياج الموانع وطلبه ما ليس له عرفا ،ولذا لو حاولنا تفسير الشوق وفق معايير المحسوس لما وجدنا عاشقا استثنى من حبيبه شيئا خارج حدود الشوق.
ومن الشوق ما يستعر حالة الغياب ،ومنه ما يستعر حالة الحضور ،ومنه ما يجمع الحالتين معا..أما الغياب فلتوفر دواعيه من الفراق والبعد وما يصطحبهما من الظنون والتأويلات المجنحة المعذبة،وأما الحضور فلتسلط الخوف على عقل المحب أن يفوته شيء من محبوبه تلك الساعة..فتراه شاخص البصر يرعى كل ذرة في قسمات محبوبه كأنما لن يجمع القدر بينهما بعد تلك الساعة،وكأنما لن يسمح له أن يمتع قلبه وحواسه من محبوبه لعظم حبه على بساط الزمن القصير.وهي أعلى حالات الشوق مع ما بعدها وذاك لقلة الدواعي المهيجة عادة ،كأن هناك دواعيَ فوق عادة البشر.
أديبتي..ومن الشوق ما تُولده الحالة ومنه ما يولد الحالة ذاتها فيصنع من نيرانه من حالات العذاب ما ينأى عن حمله القوام الإنساني، وهذا تعليل قسوة المحبوب على محبه ،إذ لا يقسو إلا عندما يتألم من وقع الشوق لمحبوبه في حالة لا يعرف الشوق فيها حدا يقف عنده ،وسدا يقيم أمامه..وفي الوقت الذي يحدد له حبيبه مقدار ما ينبغي له من شوق وحب وطلب وكأني بلسان حال هذا المحب يقول..حبيبيتي :لا أجد لجنوني فيك موضعا معينا يهيم به ،فكلك وحيثما أنت روحا وجسدا،عقلا وقلبا،حسنة وسيئة جهة وجهات،كل ذلك مصدر عشقي وهيامي وحبي،أحبك وأحب لحبك ما أحاط بك واتصل بذاتك ،فكيف أقوى على تحديد ما أشتاقه منك وأحبه وأجن فيه!!هل أحب فكرك فقط..أم قلبك..أم صوتك ..أم قوام جسدك!!أنت قدر متكامل أثبت على صفحة قدري حبك متفردا متكاملا..أنت يا حبي بهذا الكل المتكامل قبلة حبي في اتجاهي وسيري ،ومهوى إرادتي حالة رغبتي وهيامي ،أنت لا أستطيع تفريقك عن بعضك فالجمال فيك مسحة واحدة لا تعرف التجزئة ولا التفريق ،جننت أنا بهذا الجمال فصعب علي تفرقة وتجزئة جنوني هذا بك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)