الباب الأول
حروب وأسفار
قتال الإفرنج


معركة قنسرين ولم يكن القتل في ذلك المصاف في المسلمين كثيراً. وكان وصل من الإمام الراشد بن المسترشد رحمهما الله، ابن بشر رسولاً إلى أتابك يستدعيه. فحضر ذلك المصاف وعليه جو شن مذهب، فطعنه فارس من الإفرنج، يقال له ابن الدقيق، في صدره اخرج الرمح من ظهره رحمه الله، بل قتل من الإفرنج خلق كثير.
وأمر أتابك رحمه الله، فجمعت رؤوسهم في حقل مقابل الحصن، فكانت قدر ثلاثة آلاف رأس
ثم إن ملك الروم عاد خرج إلى البلاد في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة، واتفق هو والإفرنج خذلهم الله، واجمعوا على قصد شيزر ومنازلتها. فقال لي صلاح الدين ماترى ما فعله هذا الولد المثكل ؟ يعني ابنه شهاب الدين احمد قلت وأي شيء فعل ؟ قال أنفذ إلي يقول أبصر من يتولى بلدك . قلت وأي شيء عملت قال نفذت إلى أتابك أقول تسلم موضعك . قلت بئس ما فعلت ! أما يقول لك أتابك لما كانت لحماً أكلها، ولما صارت عظماً رماها علي ؟ قال فأي شيء أعمل ؟ قلت أنا جالس فيها. فإن سلم الله تعلى كان بسعادتك، ويكون وجهك ابيض عند صاحبك. وإن اخذ الموضع وقتلنا كان بآجالنا، وأنت معذور قال ما قال لي هذا القول أحد غيرك
وتوهمت أنه يفعل ذلك، فحفلت الغنم والدقيق الكثير والسمن وما يحتاجه المحاصر، فأنا في داري المغرب ورسوله جاءني قال يقول لك صلاح الدين نحن بعد غدٍ سائرون إلى الموصل فاعمل شغلك للمسير . فورد على قلبي من هذا هم عظيم وقلت اترك أولادي واخوتي وأهلي في الحصار وأسير إلى الموصل ؟ فأصبحت ركبت إليه وهو في الخيام استأذنته في الرواح إلى شيزر لاحضر لي نفقة ومالاً نحتاج إليه في الطريق. فأذن وقال لاتبطىء، فركبت ومضيت إلى شيزر، فبدا منه ما أوحش قلبي، وعرك ابني فنازل، فنفذ إلى داري فرفع كل مافيها من الخيام والسلاح والرحل وقبض على أمر أحبتي وتتبع أصحابي فكانت نكبة كبيرة رائعة.
أسامة في دمشق
(1138 - 1144 م)


فاقتضت الحال مسيري إلى دمشق، ورسل أتابك تتردد في طلبي إلى صاحب دمشق فأقمت فيها ثماني سنين، وشهدت فيها عدة حروب، واجزل لي صاحبها العطية والإقطاع وميزني بالتقريب والإكرام يضاف ذلك إلى اشتمال الأمير معين الدين رحمة الله علي وملازمتي له ورعايته لأسبابي. ثم جرت أسباب أوجبت مسيري إلى مصر، فضاع من حوائج داري وسلاحي مالم أقدر على حمله، فرطت في أملاكي ما كان نكبة أخرى. كل ذلك والأمير معين الدين رحمه الله محسن مجمل كثير التأسف على مفارقتي مقرّ بالعجز عن أمري، حتى انه انفذ إلي كاتبه الحاجب محمود المسترشدي رحمه الله قال والله لو أن معي نصف الناس لضربت بهم النصف الأخر، ولو أن معي ثلثهم لضربت بهم الثلثين وما فارقتك. لكن الناس كلهم قد تمالوا علي ومالي بهم طاقة. وحيث كنت فالذي بيننا من المودة على أحسن حاله. ففي ذلك أقول


معين الدين كم لك طوق منّ

يحيدي مثل أطواق الحمام
يعبدني لك الإحسان طوعاً

وفي الإحسان رقٌ للكرام
فصار إلى مودتك انتسابي

وإن كنت العظامي العصامي
ألم تعلم بأني لانتمائي

إليك رمى سوادي كل رام
ولولا أنت لم يصحب شماسي

لقسر دون إعذارالحسام
ولكن خفت من نار الأعادي

عليك فكنت إطفاء الضرام
أسامة في مصر
(1144 - 1154م)
ثورة في الجيش المصري


فكان وصولي إلى مصر يوم الخميس الثاني من جمادى الآخر سنة تسع وثلاثين وخمس مائة. فأقرني الحافظ لدين الله ساعة وصولي، فخلع علي بين يديه، ودفع لي تخت ثياب ومائه دينار وخولني دخول الحمام، وأنزلني في دار من دور الأفضل بن أمير الجيوش في غاية الحسن وفيها بسطها وفراشها ومرتبة كبيرة آلتها من النحاس، كل ذلك لا يستعاد منه شيء، وأقمت بها مدة إقامة في إكرام واحترام وإنعام متواصل وإقطاع زاج. فوقع بين السودان، وهم في خلق عظيم، شر وخلف بين الريحانية، وهم عبيد الحافظ، وبين الجيوشية والإسكندرية والفرحية، فكان الريحانية في جانب، وهؤلاء كلهم في جانب متفقين على الريحانية وانضاف إلى الجيوشية قوم من صبيان الخاص. فاجتمع من الفريقين خلق عظيم، وغاب عنهم الحافظ، وترددت إليهم رسله، وحرص على إن يصلح بينهم. فما أجابوا إلى ذلك، وهم معه في جانب البلد، فأصبحوا التقوا في القاهرة فاستظهرت الجيوشية أصحابها على الريحانية فقتلت منهم في سويقة وأمير الجيوش ألف رجل حتى سدوا السويقة ونحن نبيت ونصبح بالسلاح خوفاً من ميلهم علينا، فقد كانوا فعلوا ذلك قبل طلوعي إلى مصر.
وظن الناس لما قتل الريحانية أن الحافظ ينكر ذلك ويوقع بقاتليهم، وكان مريضاً على شفى، فمات رحمه الله بعد يومين، وما انتطح فيها عنزان.
خروج ابن السلار على الظافر

وجلس بعده الظافر بأمر الله وهو أصغر أولاده، واستوزر نجم الدين بن مصال وكان شيخاً كبيراً. والأمير سيف الدين أبو الحسن علي بن السلار رحمه الله إذ ذاك في ولايته، فحشد وجمع وسار إلى القاهرة ونفذ إلى داره. فجمع الظافر بأمر الله الأمراء في مجلس الوزارة، ونفذ إلينا زمام القصور يقوليا أمراء هذا نجم الدين وزيري ونائبي، فمن كان يطيعني فليطعه ويتمثل أمرهفقال الأمراء نحن مماليك مولانا سامعون مطيعون. فرجع الزمام بهذا الجواب.
فقال أمير من الأمراء شيخ يقال له لكرونياأمراء، نترك علي بن السلار يقتل؟ قالوالا والله. قالفقوموا. فنفروا كلهم وخرجوا من القصر شدوا على خيلهم وبغالهم وخرجوا إلى معونة سيف الدين بن السلار فلما رأى الظافر ذلك وغلب عن دفعه أعطى نجم الدين بن مصال مالاً كثيراً وقالاخرج إلى الحوف، واجمع واحشد وانفق فيهم وادفع ابن السلارفخرج لذلك. ودخل ابن السلار القاهرة ودخل دار الوزارة، واتفق الجند على طاعته وأحسن إليهم، وأمرني أن أبيت أنا وأصحابي في داره، وافرد لي موضعاً في الدار أكون فيه. وابن مصال في الحوف قد جمع من لواته ومن جند مصر ومن السودان والعربان خلقاً كثيراً. وقد خرج عباس ركن الدين، وهو ابن امرأة على بن السلار، ضرب خيمة في ظاهر مصر، فغدت سرية من لواته ومعهم نسيب لابن مصال وقصدوا مخيم عباس، فانهزم عنه جماعة من المصريين، ووقف هو وغلمانه ومن صبر معه من الجند ليلة مخايستهم.
وبلغ الخبر إلى ابن السلار فاستدعاني في الليل وأنا معه في الدار، وقال هؤلاء الكلاب (يعني جند مصر) قد شغلوا الأمير (يعني عباساً) بالفوارغ، حتى عدا إليه قوم من لواتة سباحة، فانهزموا عنه ودخل بعضهم إلى بيوتهم بالقاهرة، والأمير مواقفهم . قلت يا مولاي، نركب إليهم في سحر، وما يضحي النهار إلا وقد فرغنا منهم، إن شاء الله تعالى. قال صواب أبكر في ركوبك . فخرجنا إليهم من بكرة وفلم يسلم منهم إلا من سبحت به فرسه في النيل، وأخذ نسيب بن مصال وضرب رقبته.