نحن أمام حقيقة كونية لا نستطيع لها صدّاً.. هي أن مجتمعنا يمور بانفتاح إعلامي وفكري وعقائدي واجتماعي وأخلاقي وسلوكي غير مسبوق.. بحيث أصبح الشاب الذي يعيش في أكثر البيوت مُحافظة والتزاماً ـ في بيت دون تلفزيون ولا إنترنت ـ يستطيع أن يصل إلى أكثر الأفكار ضلالاً، وإلى أكثر المُمارسات السلوكية ـ والجنسية ـ انحرافاً، بكبسة زر!
أضف إلى ذلك.. نحن أمام مائة ألف شاب مُبتعث ـ خلال فترة زمنية واحدةـ يقضون عدة سنوات في مُجتمعات غربية مفتوحة تَعتبِر أقصى ممارسات الانحلال والشذوذ حُرية شخصيّة، وتتعامل مع الإلحاد باعتباره ظاهرة طبيعية.. وهذا سيجعلنا بعد عقد أو عقدين من الزمن أمام مئات الآلاف من الشباب الذين قضوا شطراً كبيراً من شبابهم في بيئاتٍ غربيّة، وساهمت هذه البيئات بما تتضمنه من علاقات وأفكار وأنماط تعليميّة ونظام سياسي وقانوني في إحداث تغييرات ـ سواء جذرية أم طفيفة ـ في ذهنية هؤلاء الشباب.
وفي مُجتمعنا الذي بقي مُحافظاً ومُغلقاً لعقودٍ طويلة، ثم صار يشهد كل هذه التحوّلات الكبرى في الأفكار والعلاقات والسلوك، مازال هناك من يريد أن يتعامل مع الأجيال الجديدة بنفس الذهنية الاجتماعية، والأساليب التربوية، والانغلاق الفكري، والعُنف ضد المُخالف، والمُحافظة السياسية، وكأنه يعيش في ثمانينيّات القرن العشرين!
مجتمعنا في عِقده الأخير بحاجة ماسّة إلى تغيير نوعي في أنماط السلوك التربوي.. فما عادت أساليب (الحَجر الفكري والسلوكي) عبر المنع والحجب والتشنيع على المُخالف تنفع غالباً في المُحافظة على تديّن المُجتمع.. بل بات التحوّل قسرياً إلى فضاء (الحصانة الفكرية والسلوكية) الذي يعتمد على الإقناع الفكري والتسامح الاجتماعي.
من يختلط بفئاتٍ من الشباب العشريني وبكثيرٍ من المُبتعثين للدراسة في الخارج، يلمس بوضوح أن ثمة أفكاراً جديدة بدأت تتسرب إلى هؤلاء الشباب، وأن هناك تحولاً في أنماط تفكيرهم، وصار كثير منهم يضيق ذرعاً بالتشديد والانغلاق والعُنف ضد المُخالفين، وقسر الناس على اختيارات فقهية تأخذ بالعزيمة والأحوط والأشدّ، فيما هو يقرأ ويرى في ذات الوقت علماء كباراً يطرحون اختياراتٍ فقهية أكثر تسامحاً وانسجاماً مع بيئاتهم المفتوحة.
مشكلة بعض قيادات التيار المُحافظ أنها لم تُدرك بعدُ طبيعة هذه التحوّلات الكبرى التي يشهدها المُجتمع، مع أن بعضهم يرى ويلمس بوضوح انجفال فئاتٍ عديدة من الشباب المُتدين عنهم، وأن المحاضن التربوية في الجماعات الحركية تشهد أكثر مواسمها تضاؤلاً وانحساراً.
وتتفاقم المُشكلة حين ترى أنه على الرغم من كل هذه التحوّلات الفكرية والسلوكية في المجتمع، والتي تستلزم بطبيعتها قدراً من الانفتاح والتسامح، أن التيار المُحافظ مع ذلك بدأ يزداد قسوة وعنفاً في التعامل مع مُخالفيه، وصار الاحتقان والتوتر بادياً عند المُحافظين في تعاملهم مع الإسلاميين الذين اختاروا أقوالاً فقهية مُعتبرة تميل للتيسير لا التشديد.. فصار من يرى جواز الغناء مُنحرفاً لا تجوز الصلاة خلفه! وغدا من يرى جواز الاختلاط بالضوابط الشرعية عند بعضهم من (المُنافقين الخُلّص)! وبات من يرى أهمية قيم العدل والحقوق والشورى في الشريعة عند آخرين (خارج أهل السنة والجماعة)!.. وسوى ذلك من تشنيعاتٍ سجالية تهدف للردع والتخويف والزجر.. دون إدراك أن هذا العنف مع المُخالف ـ في مجتمعٍ يزداد انفتاحاً ـ سوف يُفضي إلى نتائج عكسية.
من يُتابع طبيعة السجال الذي يجري مُنذ ثلاثة أعوام في الوسط الثقافي والشرعي السعودي، يلمس بوضوح أن بعضاً من الإسلاميين المُحافظين صاروا يعتبرون الإسلاميين الإصلاحيين هم (الأخطر عليهم).. وبالطبع ليسوا لأنهم (الأكثر انحرافاً) وفق منظورهم.. بل هم مُتفقون في كل الأصول والعقائد، ومساحة التباين بينهم لا تتجاوز أنماط التفكير وتقدير المصالح والأولويات وبعض المسائل التي تقع ضِمن الخلاف الفقهي المُعتبر.. ولكن يَكمُن السبب في أن الإصلاحيين باتوا أكثر قدرة على إقناع الأجيال الجديدة من الشباب.. وغدت مساحة الاعتدال الإسلامي تتسع على مستوى الشيوخ وطلبة العلم وبين شرائح الشباب المُمتدة.. حتى إن أحد أبرز صقور التيار المُحافظ قال لي بامتعاضٍ في مُراسلة خاصة بيننا، إن خطاب الانفتاح ((صار يتصدّر له ويتبنّاه الأكاديميّون الشرعيون، وغدا حديث المجالس بلا استثناء، وصار يُردّده المُبتعثون في الخارج)).. لذلك نرى مثلاً أن صفحة في الفيس بوك للشيخ سلمان العودة ـ الذي يُمثل حالة غير مرضي عنها عند شريحة عريضة من التيار المُحافظ ـ تستقطب خلال مدة وجيزة قُرابة المائتي ألف مُعجب.. في الوقت الذي لا تحظى فيه صفحات بعض الشيوخ المُحافظين ـ ممن لهم برامج مُنتظمة في الفضائيات ـ على بضعة آلاف من المُعجبين.
ومن يراقب تحوّلات المُجتمع، ويحتكّ على الدوام بفئات الشباب.. يلمس بوضوح بروز ظواهر أخرى.. تتمثل في ظهور نزعات التمرّد الفكري والعَقدي والسلوكي على ثوابت الإسلام عند فئات بعضها كان مُتديناً في السابق.. فصِرتَ تسمع باستمرار أسئلة وجودية عن الكون والدين والإنسان، وأفكاراً ذات جذور إلحادية عَدَميّة، وتقارباً حاداً مع المُنطلقات العَلمانية، وتذمّراً من مُحافظة المُجتمع، ورغبة في فتح باب التحرر السلوكي والفكري على مصراعيّه.
وربما لأننا ـ أنا وبعض الأصدقاء ـ غير محسوبين على التيار المُحافظ.. بل وربما لكوننا دخلنا في حوارات ونقاشات ونقد لبعض أفكاره التي نحسبها مُتشدّدة.. صرنا نتلقى اتصالاتٍ ونجتمع بأعداد مُتزايدة من هؤلاء الشباب، إذ يطرحون علينا تساؤلاتِهم وأفكارهم دون وجل، ونلمس بوضوح من خلال الجلسات العديدة أن كثيراً من هذه الأفكار هي مجرد (ردّات فعل) نتجت عن توترٍ من النمط الديني المُتشدّد الذي عاشوا فيه.. وصارت ظاهرة الإعجاب ـ إلى حد التماهي ـ بكتابات بعض المُفكرين العلمانيين الذين اشتغلوا على موضوعات الأنسنة وتاريخيّة النص كـ: نصر حامد أبوزيد، ومحمد أركون، وعلي حرب، ظاهرة شائعة.. إذ يقرأ الشاب لهؤلاء المُفكرين وهو مأخوذ بوهجهم الثقافي وتعاليهم النقدي للظواهر الدينية، دون أن يملك القدرة على الفرز والتقييم ومعرفة مآلات هذه الأفكار وما يترتب عليها من تقويض لكل المُسلّمات الشرعية.
ولم أكن أتصوّر أن شباباً كانوا مُتدينين، وعاشوا طوال حياتهم في بيئات مُحافظة ـ بعضهم لم يخرج من السعودية قبل إتمام المرحلة الجامعيّة ـ يمكن أن أخوض معهم يوماً حواراتٍ حول (بشريّة القرآن أم ألوهيته!.. وتماثل الأديان أم حصريّة الإسلام!.. وتناقض العلم والدين!.. وأن الشعائر "الصلاة والصيام...الخ" هي مُجرد طقوس غير مُلزمة وإنما يكفي الإيمان!)، وسوى ذلك من موضوعاتٍ تدل على اهتزازٍ عنيفٍ في (القناعة الدينيّة) بمُجرد الانتقال السريع والمُفاجئ إلى مُجتمعات وثقافات وأفكار مُختلفة تماماً.. وفي مُقابل هذا المُسلسل التقويضي ـ عند البعض ـ لكل المُسلّمات الشرعية، فإن هؤلاء الشباب لا يمتلكون أي تصورات مُكتملة ـ حتى لو كانت إلحادية أو علمانية ـ عن الله والكون والحياة والإنسان والموت وما بعد الموت، فيبقون في حالة سيولة فكرية تصل بهم أحياناً إلى عَدَميّة لا مُتناهية!
قبل أن أرسل هذا المقال للنشر وصلتني رسالة من شابٍ مُبتعثٍ لا أعرفه تُشير إلى ذات المعنى، واستأذنته بنشر جزء منها فقبِل بذلك.. يقول فيها:
((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
عزيزي نواف، أرجو منك مساعدتي في خطب جلل.. كل ما رجوه هو المشورة.
أنا مُبتعث للدراسة في أمريكا.. ولي صديق عُمُر يدرس في مدينه أخرى.. وهو متزوج وله طفل.. وهو بالمناسبة محسوب من الشباب الصالحين.. وهذا ما أعرفه طوال فترة عشرتنا لثماني سنوات.
أتى ليقضي عندي بضعة أيام.. وحالما دخل قال لي: هناك موضوع أريد أحدثك فيه.. وصلت له بعد تفكير طويل.. قلت له: ما هو.. قال: أنا ملحد.
طبعاً كان وقع الصدمة شديداً عليّ لدرجه أنني اعتذرت عن استضافته.. لم أستطع النوم ليلة البارحة.. ثم وجدت منه إيميل هذا الصباح يعتذر إنْ كان الخبر مفاجئاً لي.. وكان في رسالته من العتب الشيء الكثير على ردة فعلي.. وقال لي حرفياً: أتيتك أنت شخصياً لأني أثق فيك وفي رأيك، وخذلتني بشكل لا يُعقل.
أنا الآن حائر والله، وحزين، ومحبط، وقلق، وفي حال لا يعلمها إلاّ الله)).
سألت اثنين من أهمّ طلبة العلم الذين يرتادون المُنتديات النتيّة الليبرالية منذ سنواتٍ عديدة، ودخلوا في حوارات كثيرة جداً مع مُرتادي هذه المُنتديات.. سألتهما: من أكثر فئات الليبراليين عنفاً ضد التديّن والمُتدينين وأكثرها انحرافاً وبُعداً عن الشريعة؟ فكانت الإجابة التي اتفقوا عليها: من كان مُتديناً وصحويّاً سابقاً، ثم ضجِر من بعض أنماط التشدّد، وتغيّرت بعض أفكاره، فَلقِي تعاملاً عنيفاً وحاداً من أصحابه المُحافظين، فدفعه هذا إلى الانحياز نحو الليبرالية الموغلة في التوتر من كل مظاهر التديّن!
في حواراتي مع هؤلاء الشباب كنتُ دوماً أقول لهم: يجب أولاً أن تفصِل بين بعض الأوساط الدينية التي تعتبرها مُتشدّدة، وبين الشريعة. فنُفرتك وتوترك من هذه الأوساط لا تعني أن تأخذ موقفاً سلبياً من قطعيات الشريعة، ولا يعني أن تعتقد أن العلمانية هي الحل. فإذا كان التشدّد هو نزوعٌ لاختيارات فقهية تميل للتحوّط والشدة، فثمة اتجاهات إسلامية أخرى مُعتبرة هي أكثر تسامحاً وانسجاماً مع قناعاتك وأفكارك، وستبقى معها مُحافظاً على تديّنك وإيمانك.. لأنك قطعاً لن تجد في العلمانية حلاً.. بل هي ستأتيك بطوفانٍ من الأسئلة الوجودية التي لن تعثر لها على إجابات.. ثم إن غضبك ونُفرتك من شرائح مُحافظة، يجب ألاّ تُصبح نُفرة من الدين.. وكنتُ أدخل مع بعضهم في نقاشاتٍ فكرية وشرعيّة تفصيلية، لأصِل ـ في كل مرة ـ إلى نتيجة مفادها: إن هؤلاء الشباب لا يملكون منظومة علمانية مُتكاملة، وما عندهم لا يتجاوز كونه توتراً من المُحافظة الدينية، وربما خالطها بعض المواقف الشخصية مع هؤلاء المُحافظين، ثم وجدوا فضاءً آخر يحمل قدراً من الجاذبية في كتابات بعض المُفكرين العلمانيين، تحت لافتتي: الليبرالية والعلمانية.
طبعاً هذا لا يعني عدم وجود مجموعات مُحافظة في الأجيال الجديدة تملك في داخلها استعداداً فطرياً للمُحافظة سواء كانت تعيش في نجد أو في لاس فيغاس.. تماماً كما أن هناك فئات من الشباب تملك الاستعداد والرغبة في الوصول إلى أقصى درجات الانحراف الفكري والسلوكي بمعزلٍ عن الوسط الذي تعيش فيه.. ولكنني بالطبع لا أتحدث عن كِلتا هاتين الفِئتين.. بل عن الفِئة الكبرى من الشباب التي تتأثر بالمُحيط، وتحتكّ بالعالم، وتتواصل يومياً مع كل الأفكار والذهنيات عبر الوسائط الإعلامية، أو عبر الاحتكاك المُباشر كما عند المُبتعثين.
* * * *
من يُتابع المسار العام للتيار الإسلامي المُحافظ في السعودية، يَلحَظ بوضوح أن لغة التصعيد والحِدّة على المُخالفين ازدادت عند هذا التيار في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وتحوّل مسار النقد الحاد عند بعضهم بدل أن يكون باتجاه (الليبراليين والعلمانيين) ـ كما في السابق ـ إلى (الإسلاميين الإصلاحيين)، فصرنا نسمع كثافة في العنف والتصعيد والتشنيع والاتهام والطعن في النيات والأعراض ضد الشخصيات التي تتبنى مساراً إصلاحياً، سواء كان إصلاحاً (شرعياً واجتماعياً) أو (فكرياً وسياسياً).. ولم يُوفّر هذا العنف اللفظي حتى شخصيات مرموقة في الوسط الشرعي والفكري كسلمان العودة، وحاتم العوني، ومحمد الأحمري، وكثيرين سواهم.
هذا التصعيد والتشنيع الذي مارسه البعض ضد التيار الإصلاحي ـ في مُجتمع يشهد تحوّلات فكرية وسلوكية كبيرة ـ صار في حالاتٍ عديدة يُفضي إلى تسرُّب مفاهيم وأفكار حادّة ومُرعبة في الوسط الإسلامي، مفادها أن هناك مسارين لا ثالث لهما: إما أن تتديّن وفق النمط المُحافظ ووفق اختياراته الفقهية.. وإما الانحراف!
أي.. أن التديّن والالتزام بالشريعة ليس له سوى مسار واحد، هو الالتزام الكامل بالطريقة المُحافظة وباختياراتها الفقهية.. وأن كل ما عدا ذلك هو (انحراف)!
إلى أي حد تُساهم هذه الأفكار الموغلة في الحِدة، والتي يتولى بعض رموز التيار المُحافظ ضخّها في المجتمع ـ بوعيٍ أو دون وعي ـ صباح مساء، في دفع شرائح واسعة من الشباب الذين ما عادوا ـ بعد انفتاح المُجتمع ـ يُطيقون التديّن وفق طريقة المُحافظين، إلى الانحراف الكامل عن التديّن، وتقويض كل الثوابت والأصول الشرعية، والانجراف نحو وهج الفكر العلماني الحديث!
عندما يرى الشاب المُتدين ـ الذي بدأ يدلفُ إلى عالمٍ صاخبٍ وجذابٍ من الأفكار والفلسفات ـ كل هذا العُنف يُكالُ للإصلاحيين لكونهم مالوا إلى اختيارات فقهية مُتسامحة.. فإذا كان هؤلاء الإصلاحيون بهذا المستوى من (الانحراف) وفق مقاييس المُحافظين، فبماذا يختلفون إذاً عن العلمانيين والليبراليين؟!.. ولماذا يُلزم نفسه باتباع اتجاه إسلامي إصلاحي يتمسك بالشريعة وبقيودها، ما دام أن الإصلاحيين والعلمانيين في (الانحراف) سواء!
هذه المُفاصلة في التعامل مع المُخالفين، وتصنيع (نمط مُحدّد من التديّن) وما عداه هو (انحراف).. تُنتج لنا دوماً ظواهر انحراف حادّة عند شرائح واسعة في المُجتمع.
أذكر أنني في آخر مرحلة في دراستي الثانوية، شهدتُ تجربة لصديق عزيز تعكس بالضبط حالة المُفاصلة في التديّن التي تعيشها بعض الأوساط المُحافظة.. فصديقي هذا كان يمر بحالة تأنيب ضمير حادة، وشعور ضاغط بأنه (مُنافق)! وأنه يخدع الناس بتديّنه وأنه في حقيقته ليس كذلك.. والسبب، أنه كان عندما يعود إلى البيت، كان يسمع أحياناً مقطوعة موسيقية من التلفزيون دون أن يقطع الصوت، ويرى بعض المُسلسلات الدرامية، وكان يعتبر هذا السلوك منه نِفاقاً وكذباً على الناس! لذا كان يُكرر عليّ: لا أريد أن أظهر أمام الناس شاباً مُتديناً ومُلتزماً بأحكام الشريعة، وأسمع منهم الثناء والإطراء، ثم عند عودتي إلى البيت، أمارس كل هذه الانحرافات!. وكان يقول: يا أخي لَأَن أظهر مُنحرفاً أمام الناس خير لي من النفاق!..
واستمر معه تأنيب الضمير والتقريع الداخلي، حتى وصل الأمر به إلى الانحراف السلوكي الكامل! ـ وأقصد بالكامل بكل ما تحمله الكلمة من معنى ـ ولكنه مع كل انحرافه هذا كان يقول: أنا هكذا أكثر رِضاً عن نفسي، صحيحٌ أنني عاصٍ، ولكنني لستُ مُنافقاً!!
وثمة قصة أخرى تحمل ذات المضمون حكاها لي صديق كان يدرس في بريطانيا في تسعينيات القرن الماضي، حيث تعرّف على رجل بريطاني في الأربعينيات من العُمر، واكتشف أنه مُهتم كثيراً بالدين الإسلامي وعنده رغبة شديدة في الإسلام، ولكن هذا البريطاني صارح صديقي قائلاً: بصراحة عندي مُشكلة واحدة مازالت تمنعني من الدخول في الإسلام، وهي أنني منذ مُراهقتي وفي كل مراحل شبابي وأنا مرتبط روحياً ونفسياً بالموسيقا، وأعمل في هذا المجال منذ عشرين سنة، وأحب العزف أكثر من حبي لأي شيء آخر في الحياة، ولكنني في كل مرة أتحاور فيها مع الشيوخ في المركز الإسلامي ـ وكان يعيش بقرب مركز إسلامي يُشرف عليه بعض الجهاديين العرب المعروفين ـ كانوا يقولون لي إن الموسيقا حرام، وإنك يجب أن تُضحي بها من أجل دخولك في الدين الجديد!! وهو أمر لا أتصور حتى الآن أنني أطيقه، وهو ما يؤجل مشروع إسلامي!!
ماذا لو قال شيخٌ لذلك الشاب أن ممارسة بعض المعاصي لا تعني انتفاء التديّن ولا تعني النفاق؟! وماذا لو قال شيخ لهذا البريطاني أن سماع الموسيقا هي مسألة خلافية، وأنه يُمكنه الإسلام وفي الوقت ذاته الاستمرار في عزف وسماع الموسيقا!! أليس في هذا النمط من التعامل دفعٌ للمجتمع باتجاه التديّن بدلاً من وضع الناس أمام مُفاصَلات حادّة على طريقة (خذوا الدين كُلّه أو دعوه كُلّه)!! التي ستُنتج دون شك نُفرة من الدين، وبعداً عن مظاهر التديّن، على الأقل عند شريحة واسعة من المُجتمع.
* * * *
وفق هذا التصعيد والعُنف الذي يُمارسه المُحافظون ضد من قرّروا اختيارات فقهيّة مُتسامحة.. يحق لنا أن نسأل: من أكثر حزماً في الوقوف أمام (انحراف الشباب)؟
هل هم المُحافظون المهمومون بتصنيع نموذج مُحافظ وحصري للتدين، وما سواه ليس سوى (انحراف)! قد يكون فاعِله من (المُنافقين)! أو حتى (خارج أهل السنة والجماعة)! أم هم الإصلاحيون المهمومون بخلق فضاءٍ لتديّن مُعتدل، يحافظ على القيم والأصول الشرعية، وفي نفس الوقت يميل للتيسير، والتواصل على العالم المفتوح، في محاولة لإنتاج منظومة فكرية إسلامية تستطيع أن تقف (حائط صدّ) أمام الشباب غير القادر على التدّين وفق (النموذج المُحافظ)، ولم يرَ أمامه سوى الانحراف الأخلاقي والليبرالية الفكرية.. فيحاول الإصلاحيون أن يصنعوا له نموذجاً من التديّن المُتسامح الذي يحافظ على أصول الشريعة، وفي نفس الوقت يميل إلى فقه التيسير.
ومن يُحافظ على الشباب من الانجراف وراء الأفكار التغريبية والعلمانية؟
هل هم المُحافظون الذين يتعاملون بحدة وتشنيع مع حالات الاختلاف الفقهي، ويطرحون كل حين فتاوى وآراء موغلة في التشدّد (على غِرار كُفر مستحل الاختلاط/ عدم جواز الصلاة خلف مجيز الغناء أو الموسيقا/ دعوة المرأة كي تُغطي وجهها في المدارس والأعراس / حُرمة الاختلاط في الطواف، والدعوة لهدم المسجد الحرام وإعادة بنائه لمنع الاختلاط/ أن مسألة تغطية المرأة لوجهها هي مسألة عقدية لا فقهية/ وسوى ذلك).
أم هم الإصلاحيون الذين يقولون إن تديّن الإنسان مرتبط بمقدار مُحافظته على شعائر الإسلام، وبمدى عمق الإيمان في داخله، وبحجم مُحافظته على الأخلاق الشرعية الرفيعة في التعامل مع الناس، حتى لو كان يرى أن الموسيقا حلال، وأن الدش وسيلة يُمكن الاستفادة منها وتقنينها، وأن الاختلاط مرتبط بالضوابط والقيود وليس مُحرّماً بالمُطلق.
ومن هو (الشيخ النموذج) القادر على احتضان الشباب من الانحراف؟
هل هو الشيخ الذي يكتب باسمه الصريح في مُنتديات نتيّة، ومهمومٌ بالرد على المُخالفين في مسائل فقهية ـ وهو أمر مشروع لا تثريب عليه ـ، لكنه في نفس الوقت، يرى أنصاره وهم يخوضون معركتهم لإنكار ما يعتبرونه منكراً كـ (إباحة الغناء)، يرتكبون منكراتٍ أكبر وأعظم، حيث يبغون على مُخالفيهم، ويخوضون في أعراضهم، ويفترون عليهم، ويطعنون في تديّنهم، وسوى ذلك من أفعال هي (كبائر) بميزان الشريعة، ولا تكفي فيها التوبة ـ دون صفح المفترى عليه ـ.. ثم لا تجد هذا الشيخ قال في يوم من الأيام لأنصاره الباغين: (عيب)!! و (اتقوا الله في أعراض مخالفيكم) وأن (هؤلاء وإن رددنا عليهم واعتقدنا خطأهم، إلاّ أنهم إخواننا في الدين، وقد يكونون من أهل الدعوة والصلاح)!!
أم ذلك الشيخ الذي يقول لك: إنك تكون أقرب إلى الله، وإلى حقيقة الإيمان، حين تضع خشية الله بين ناظريك، فلا تعتدي على أحد، ولا تفجر في خصومة، ولا تطعن في النوايا والأعراض.. حتى لو كنتَ ترتكب بعض المعاصي، وتُمارس بعض السلوكيات، كسماع الموسيقا، أو حلق اللحية، أو مشاهدة أفلام سينمائية ومباريات كروية.. ثم تستغفر الله على ما بدا منك من صغائر ولَمَم.. إنك بهذا الفعل تكون أقرب إلى الله من ذلك الشاب الذي لا يسمع الموسيقا ولا يحلق اللحية، ولكنه كرّس وقته للطعن والتشويه والافتراء والبغي على المخالفين بـأسماء مستعارة في مواقع ومنتديات نتّية.
وفي مُجتمعنا الذي بات مُشرعاً على مصراعيه لكل الأفكار الشاذة والسلوكيات المُنحرفة.. من هو الأكثر قدرة على احتضان الشباب، والمُحافظة على تديّنهم، ووقف اندفاعهم نحو الانحلال والعلمانيّة.. هل هو الشيخ المُنحاز للتيسير كـ (سلمان العودة)؟.. أم الشيخ الذي يميل إلى الشدة، ويُغلِظ الإنكار على من يتبنّى التيسير في مسائل الخِلاف المُعتبر؟
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)