بسم الله الرحمن الرحيم
(وفي انفسكم أفلا تبصرون)

( سورة الذاريات ) .




بسم الله الرحمن الرحيم

إن القول بأن أهداف القرآن الكريم التي جاءت بها آياته الكريمة تبيّن أنه كتاب هداية ، قول حقٌّ لا شك فيه ، ومع ذلك فهو لا يحصر أغراض القرآن الكريم ، ويقصرها على الهداية في مجالات الاعتقاد والتشريع والتأمل الداعي إلى اكتساب المعارف فحسب ، فالباحث المدقق والمحقق إذا تدبر القرآن الكريم بإنعام نظر وفكر وعقل فإنه سيقف على إشارات تومئ إلى حقائق العلوم ، وإن لم تبسط في إنبائها ، أو تسمي بأسمائها ، واحتواءه على هذه العلوم يأتي حجة على أهل العلم كلما اخترقوا أسرار الطبيعة ، وكشفوا حقائق الموجودات .





، إذا تأملنا في خلق الإنسان ، وهو أقرب شيء للإنسان ، أن يتأمل فيه ، ويتفكر ، فهناك أمور تحدث للإنسان عجيبة بعض الشيء ، ولكن لا ندقِّق فيها ، الإنسان يدرك الزمن والوقت من خلال إدراكه ، ولكن كيف تدرك أجهزة الإنسان وأعراضه للزمن ، وهذه الأمور مرتبطة بوظائفها .

لعل الإجابة عن هذا السؤال الطيب يضطرنا إلى الحديث عما يسمى الساعة البيولوجية في الإنسان ، شيء محير ، وشيء بالغ الدقة ، لكن قبل الحديث عن هذه الساعة فهل في مخلوقات أخرى مثل هذه الساعة ؟ اكتشف أحد العلماء الفرنسيين أن في مقدور بعض النباتات حساب الزمن ، حيث إن بعض أوراق مجموعة من النباتات تؤدي حركات معينة في وقت محدد من اليوم ، إذاً هذا النبات عنده ما يسميه العلماء ساعة بيولوجية ، تحسب له الزمن إذ أن هذا النبات عنده ما يسميه العلماء ساعة بيولوجية تحسب له الزمن .
ثم إن العلماء اكتشفوا أيضاً أن في الحيوان ما يشبه ما في النبات ، فهناك حيوانات تعرف بدقّة بالغة مرور الزمن ، فتتجه إلى مكان ثبوتها في الشتاء ، لو تأخرت أو بكرت قليلاًَ لماتت ، إنه حساب في غاية الدقة ، تأوي بعض الحيوانات إلى أوكارها لتركض طوال فصل الشتاء ، ولولا أنها تعرف كيف يمر الزمن لما أمكنها ذلك ، قال تعالى ـ والآية دقيقة جداً ـ :(قال فمن ربكما يا موسى قال ربناالذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى)

( سورة طه ) .
شيء دقيق جداً أن الله هيأ للمخلوق كل أجهزته ، لكن من أودع فيه هذه الغرائز ، } رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ { ، زوّده بكل ما يحتاجه من أجهزة ، ثم هداه إلى مصالحه ، }ثُمَّ هَدَى{ .
أما عند الإنسان فإنه بجوار غدته النخامية مجموعة خلايا لها خاصية عجيبة ، إنها تستشعر الضوء الذي يسقط على قاع الشبكية في أثناء النهار ، إذا استشعرت هذا الضوء معنى ذلك أن الوقت نهار ، فإذا غابت هذه الأشعة التي تسقط على قاع الشبكية معنى ذلك أن الوقت ليل .
كما تفضلتم في مقدمة هذا اللقاء الطيب ، الإنسان بإدراكه الواعي يعلم ما إذا كان في الليل أو في النهار ، لكن هناك أجهزة كثيرة جداً في الجسم ، ينبغي أن تكون في النهار على وضعٍ ، وفي الليل على وضعٍ آخر ، ينبغي أن يزداد نشاطها في النهار ، وأن يقلّ نشاطها في الليل ، وهناك أجهزة أخرى بالعكس ينبغي أن يزداد نشاطها في الليل ، ويقلّ في النهار ، فما الذي ينبئ هذه الأجهزة التي ليست عاقلة أن الوقت نهار ، أو أن الوقت ليل ، هذا هو الموضوع بالذات ، طبعاً هذه الأجهزة تستشعر أن الوقت نهار فلها خطة ثابتة تفعلها في النهار ، ثم إنها تستشعر أن الوقت ليل لها خطة ثابتة تفعلها في الليل .
مثلاً : في النهار يزداد استهلاك الجسم للطاقة ، فترتفع درجة حرارته نصف درجة عن المعدل الوسطي ، وتنخفض في الليل نصف درجة عن هذا المعدل الوسطي ، من يشعر الخلايا وخلايا الاستقلاب بالذات أن الوقت وقت نهار ؟ هذه الخلايا التي إلى جوار الغدة النخامية تستشعر من خلال اقتباسها بقاع العين أن الوقت وقت نهار .
إذاً الساعة البيولوجية مكانها إلى جوار الغدة النخامية مرتبطة بقاعِ العين ، فإذا جاء الضوء في النهار على قاع العين أشعرَ هذا المركز البيولوجي الساعة البيولوجية أن الوقت وقت نهار ، فإذا غاب هذا الضوء من قاع الشبكية أخبرها أن الوقت وقت ليل ، إذاً لا بد من خطة ثانية .
الآن مع بعض التفاصيل ، إن سقوط الضوء فوق الشبكية ينتقل بوساطة سيالات عصبية عبر ألياف العصب البصري إلى الغدة النخامية ، وهي كما قلنا في حلقات سابقة : ملكة الغدد ، ووزنها نصف غرام ،هذه الغدة النخامية تؤمّن التكامل والتكيّف بين وظائف الأجهزة الداخلية ، هي مسيطرة ، هي ملكة الغدد ، تؤمّن أيضاً ضبط النشاط العام للجسم .
الآن أول غدة تتعلق بهذا المركز الذي هو الساعة البيولوجية الغدة الدرقية ، والغدة الدرقية فيها استقلاب ، معنى استقلاب ؛ تحول الغذاء إلى طاقة ، هذا الغذاء يتحول إلى طاقة عالية في النهار ، وطاقة متدنية في الليل ، أنت في النهار تتحرك ، تعمل ، تذهب إلى عملك ، تحل مشكلات ، قال تعالى :

(وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا )( سورة النبأ ) .
فالغدة الدرقية التي أوكل إليها أمر الاستقلاب ، أي تحوِّل الغذاء إلى طاقة ، هذه الغدة تعمل بنشاط بالغ في النهار ، وبنشاط متدنٍّ في الليل ، بأمر من هذا المركز البيولوجي الذي هو الساعة البيولوجية .


وهذا ما يفيد الإنسان أن في النهار كل يذهب إلى عمله ، نطلب من فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي أيضاً في الليل بعض الناس يعملون ، هذا السؤال لا بد من طرحه .

طبعاً هذا السؤال إجابته أن نتاجهم في الليل يقلّ عن النهار ، أنا أنصح أن يكون العمل في النهار ، لكن هناك حالات استثنائية كالمطارات ، ومراكز الحدود ، وبعض المعامل ، إذاً الطاقة التي يستطيع الإنسان بذلها في النهار ليست كالطاقة التي يستطيع بذلها في الليل ، إذاً حينما نكلف إنسانًا أن يعمل في وقت السكن والنوم فلا شك أن هذا العمل لن يكون في فعاليةِ عملِ النهار .

لذلك المدرّس ينصح الطالب بأن يدرسَ في النهار ، وليس في الليل .

كما أن الجسم ما ينتفع به من النوم في الليل لا ينتفع به بالنوم في النهار ، بل إن بعض الآثار : " إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، ولله عمل في النهار لا يقبله في الليل " .
أستاذ عبد الحليم ، جزاك الله خيراً ، في النهار تزداد ضربات القلب من عشر إلى عشرين ضربة عنها في الليل ، يزداد إدرار البول من ضعفين إلى أربعة أضعاف في النهار عنه في الليل ، بل إن المثانة كأنها في الليل تأخذ إجازة ، من أجل أن يرقد صاحبها براحة من دون إزعاج دخول وخروج إلى الحمام ، ضربات القلب ترتفع من عشر إلى عشرين ضربة في النهار عنها في الليل ، المثانة يزداد نشاطها في النهار إلى أربعة أمثال عنها في الليل ، ألا ترى معي أن لهذا الإنسان تصميماً رائعاً ؟ أن هذا الخالق العظيم رتب أجهزة الإنسان وعملها ، وتصميمها ، والتنسيق بينها بشكل معجز ؟

بالنسبة الساعة البيولوجية ، هي تسمية غريبة بعض الشيء ، تدل على الوقت في الساعة ، والبيولوجية تدل على جسم الإنسان .

هي تدل على ساعة ليست كساعاتنا ، ساعاتنا ساعات ميكانيكية أو إلكترونية ، فيها عجلات ومسننات ونوابض ، الإلكترونية فيها صفحة من مادة معينة فيها أوامر ، لكن ساعتنا ليست من هذا النوع ، ساعة بيولوجية تقوم بها الغدد الصماء والمراكز العصبية والتواصل الهرموني والعصبي .
شيء آخر ، في النهار يرتفع النشاط الكهربائي للدماغ ، وفي الليل يضعف هذا النشاط ، والإنسان في النهار يمكن أن يؤدي عملاً فكرياً رائعاً ، لكنه في الليل لا يستطيع ذلك ، طبعاً في النهار أقصد به بعد طلوع الشمس ، هذه ساعة الفجر المباركة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا )) .
[متفق عليه]

كما ان بركة صلاة الفجر ، وما بعد الفجر ، هوان تستيقظ عند صلاة الفجر ، ولا تنام بعدها إطلاقاً ، هذا وقت مبارك ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، فعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا ...)) .
[الترمذي]

.