[ تتمة تجارب العصر العباسي ]

[ تتمة خلافة هارون الرشيد ]

والحمد لله واهب العقل
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

وفيها قوى رافع بن الليث واشتدّت شوكته
وقد ذكرنا قبل هلاك ابن عليّ بن عيسى: ولمّا قتل ابنه، خرج من بلخ حتى أتى مرو، مخافة أن يصير إليها رافع بن الليث فيستولى عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ مالا عظيما قيل: إنّه كان ثلاثين ألف ألف درهم، ولم يعلم بها عليّ بن عيسى ولا اطّلع على ذلك إلّا جارية كانت له.
فلمّا شخص عليّ عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدّث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها فدخلوا البستان وانتهبوه وأباحوه للعامّة وبلغ الرشيد الخبر فقال:
« خرج عليّ عن بلخ عن غير أمري وخلّف مثل هذا المال وهو يزعم أنّه قد أفضى إليّ حلى نساءه فيما أنفق على محاربة رافع. » فعزله عند ذلك وولّى هرثمة بن أعين واستصفى أموال عليّ بن عيسى، فبلغت ثمانين ألف ألف. ووردت خزائنه التي أخذت على الرشيد، فكانت على ألف وخمسمائة بعير.
وكان عليّ بن عيسى قد أذلّ جبابرة أهل خراسان وأشرافهم، حتى خرج منهم مثل الحسن بن مصعب إلى مكّة واستجار بالرشيد من عليّ بن عيسى فأجاره، وأظهر مثل هذا هشام بن فرخسروا، أنّ الفالج قد أصابه حتى أمكنه لزوم منزله. وكانت كتب حمويه وردت على هارون: أنّ رافعا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وأنّ غايتهم عزل عليّ بن عيسى الذي سامهم المكروه.
ولمّا عزم الرشيد على عزل عليّ بن عيسى دعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال:
« إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سرّى فيك غيرك، وقد اضطرب عليّ ثغر المشرق وأنكر أهل خراسان أمر عليّ بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمدّ ويستجيش وأنا كاتب إليه فأخبره أنّى أمدّه بك وأوجّه إليه معك من الأموال والسلاح والقوّة والعدّة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلّع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطّى فلا تفضّنّه ولا تطلعنّ فيه حتى تصير إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله، ولا تجاوزه إن شاء الله.
« وأنا موجّه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى عليّ بن عيسى بخطّى ليتعرّف ما يكون منك ومنه ومورّ عنه أمر عليّ فلا تظهرنّه عليه ولا تعلمنّه ما عزمت عليه فيه وتأهّب للمسير واظهر لخاصّتك وعامتك أنّى أوجّهك مددا لعليّ بن عيسى وعونا له. » ثم كتب إلى عليّ بن عيسى كتابا بخطّه نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن الزانية، رفعت من قدرك ونوّهت باسمك وأوطأت سادة العرب عقبك وجعلت أبناء ملوك العجم خولك، وكان من جزائي أن خالفت عهدي ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عشت في الأرض وظلمت الرعيّة وأسخطت الله عز وجل وخليفته بسوء سيرتك ورداءة طعمتك وظاهر خيانتك. وقد ولّيت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدّد وطأته عليك وعلى ولدك وكتّابك وعمّالك ولا يترك وراء ظهورهم درهما واحدا ولا حقّا لمسلم ولا معاهد إلّا أخذكم به، حتى تردّه إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمّالك، فله أن يبسط عليكم العذاب ويصبّ عليكم السياط ويحلّ بكم ما يحلّ بمن نكث وغيّر وبدّل وخالف وظلم وتعدّى وغشم، انتقاما لله بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا فلا تعرّض نفسك للّتى لا سوى لها، واخرج ممّا يلزمك طائعا أو مكرها. » وكتب عهد هرثمة بخطّه:
« هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه. أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله وموافقته وأن يجعل لكتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله فيحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقف عند متشابهه ويسأل عنه أولى الفقه في دين الله وأولى العلم بكتاب الله أو يردّه إلى إمامه ليريه الله فيه رأيه ويعزم له على رشده.
« وأمره أن يستوثق من الفاسق عليّ بن عيسى وولده وعمّاله وكتّابه وأن يشدّ عليهم وطأته ويحلّ بهم سطوته ويستخرج منهم كلّ مال يصحّ عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين وأخذهم بحقّ كلّ ذي حقّ، حتى يردّوه إليه، فإن ثبت قبلهم حقّ لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين فدافعوا بها أو جحدوها، أن يصبّ عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي أن تخطّاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم. فإذا خرجوا من حقّ كلّ ذي حقّ أشخصهم كما يشخص العصاة من خشونة الوطأ وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله.
« فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك فإني آثرت الله وديني على هواى وإرادتى فكن كذلك وعليه فليكن عملك وأمرك ودبّر في أعمال الكور التي تمرّ بها وعمّالها في صعودك بما لا يستوحشون معه إلى أمر يريبهم وظنّ يرعبهم وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانيهم وعذرهم ثم اعمل بما يرضى الله فيك وخليفته ومن ولّاك الله أمره إن شاء الله.
« هذا عهدي وكتابي بخطّى وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكّان سماواته وكفى بالله شهيدا. وكتب أمير المؤمنين بخطّه ولم يحضره إلّا الله وملائكته. » ثم أمر أن تكتب كتب هرثمة إلى عليّ بن عيسى في معاونته وتقويته وتقوية أمره والشدّ على يديه، فكتبت وظهر الأمر بها.