الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
لقد بيَّنَ البيان الإلهي للإنسان بعبارة واضحة قاطعةٍ الوظيفة التي كُلِّفَ بالنهوض بها في حياته الدنيا هذه وذلك عندما قال:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات : 56-58].
إذاً فالوظيفة التي خُلِقَ الإنسان للنهوض بها إنما هي عبادة الله سبحانه وتعالى وهي إنما تنبثق من شعور الإنسان بعبوديته ومملوكيته لله عز وجل.
ولكن الإنسان لن يقتنع بهذه الوظيفة التي يقول له الله عز وجل إنه قد كُلِّفَ بها ما لم يعد فيتعرف على ذاته، ما لم يعد فيتعرف على نفسه، عندئذٍ بوسعه أن يؤمن بهذه الوظيفة ويخضع لسلطانها.
وكيف السبيل – يا عباد الله – إلى أن يتعرف الإنسان على نفسه كي يدرك الوظيفة التي حُمِّلَهَا ولكي ينهض بها بعد ذلك؟
يعرف الإنسان نفسه عندما يقف أمام مرآة ذاته ويتأمل طويلاً في المزايا التي متعه الله عز وجل بها.
عندما يتأمل في مزية السمع والبصر والحواس المختلفة ثم يتأمل في الفكر والعقل اللذين يتميز بهما عن سائر الحيوانات الأخرى ثم يتأمل في القوة المودعة في كيانه ثم في العافية التي تسري في أوصاله.
عندما يتأمل الإنسان في هذه المزايا بوسعه أن يعلم عندئذٍ أنه مملوكٌ وليس مالكاً ومن ثم بوسعه أن يعلم أنه عبدٌ وعليه أن يؤدي حقوق العبودية لمن هو عبد له.
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
كيف؟
أنا عندما أتأمل في هذه المزايا التي أتمتع بها لابد أن أسأل نفسي أأنا فاعل لها أم أنا منفعل بها؟
هل أنا فاعل لها؟ أنا الذي مَتَّعْتُ نفسي بهذه المزايا وأنا الذي أحرسها كي لا تشرد عني وكي تبقى رفيقي إلى الممات أو إلى الأبد؟
أم أنا لست فاعلاً لها وإنما أنا منفعل بها أي أنني استقبلتها من حيث لا أدري ثم توضَّعَتْ هذه المزايا في كياني كما لا أعلم ثم إني أصبحت أتمتع بها دون أن أدري المصدر الذي جاءت إليَّ هذه المزايا منه؟
إنك إن تأملت في هذا علمتَ – يا ابن آدم – أنك منفعل بهذه المزايا ولست فاعلاً لها.
فتحتَ عينيك على هذه الدنيا وإذا أنت تتمتع بالسمع والبصر، تتمتع بالذاكرة وبالعقل، ونظرتَ فإذا بالقوة تسري في كيانك من حيث لا تعلم وتأملت وإذا بالعافية تسري في كيانك من فرقك إلى قدمك من حيث لا تعلم، وتنظر وإذا بغدٍ قريبٍ يأتي وقد ودَّعَتْكَ هذه المزايا كلها، ستجهل بعد علم ولسوف تنسى بعد تذكر وذكرى، ولسوف تتحول القوة الكامنة في كيانك إلى ضعف ولتنظر إلى الشباب الذي تتباهى به وإذا هو يتقلص عنك رويداً رويدا وإذا به يودعك ليحل محله المشيب وأنت لا تملك استبقاء هذه المزايا في كيانك قط بل أنت لا تعلم كيف وجدت في كيانك.
إذاً أنت منفعل بهذه الصفات يا ابن آدم.
أي إنك بالعبارة العلمية الدقيقة شاشة استقبال، أنت جهاز استقبال يستقبل الصور والألوان المتعددة ويستقبل التحركات المتنوعة الهادفة وغير الهادفة. أنت هكذا، أنت جهاز استقبال لا أكثر.
فإذا علمت أنك كذلك أنك جهاز استقبال أفلا يحملك عقلك على أن تسأل عن جهاز الإرسال الذي يتم الإرسال منه إلى شاشة كيانك فتتمتع بهذه المزايا من حيث لا تدري؟
تأمل في جهاز الإرسال وفكر تجد أن مصدر الإرسال هو ذاك الخالق الذي قال:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
تأمل فلسوف تجد أن المصدر الذي يتم الإرسال منه إليك بالعقل هو الله، المصدر الذي يتم إرسال العافية منه إليك المصدر هو الله، المصدر الذي ينجدك بالتذكر والفكر هو الله، المصدر الذي ينجدك بالقوة هو الله عز وجل، وآية ذلك أنك عندما استقبلت هذه المزايا لم يكن لك أي دورٍ في استقبالها، وعندما تتمتع بها ليس لك أي دورٍ في كيفية التمتع بها، وغداً عندما ترحل عنك لتبقى شاشة كيانك صافية عن الألوان والصور والحركات لا تستطيع أن تستبقي شيئاً من ذلك في كيانك.
ألست جهاز استقبال يا ابن آدم؟ وإذا قلتَ نعم أفما ينبغي أن تسأل من أي جهاز إرسال تفد إليَّ هذه المزايا؟ اسأل عقلك ولسوف يجيبك مستعيناً بكل العلوم القديمة والحديثة بأن مصدر هذا الإرسال إنما هو الله عز وجل. فإذا عرفت ذلك تحققت بمعرفة هويتك، علمتَ أنك مملوك لهذا الذي يرسل إليك مزاياه ولسوف تتقلص عنك عما قريب، عندئذٍ تعلم أنك عبدٌ.
وما هي وظيفة العبد؟ وظيفة العبد أن يضع عبوديته موضع التنفيذ لمن هو عبد له.
ألا يكفي العقل لينبهك إلى هذا يا ابن آدم؟
إن لم يكن العقل كافياً فاسمع كلام الخالق الذي يذكرك بهذا.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم : 54].
وأنت لا دور لك إلا الاستقبال. اسمع كلامه في مكان آخر:
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج : 5].
ألا يكفي هذا يا ابن آدم من أجل أن تعلم هويتك ومن أجل أن تعلم إذاً وظيفتك؟
أنت عبدٌ لم أنت ملك يده، أنت مملوك لهذا {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار : 7-8].
أرسل إليك هذه المزايا كلها وليس لك أي دورٍ في استقبالها ولن يكون غداً أي دورٍ في استبقائها بشكل من الأشكال.
هنا يعلم الإنسان وظيفته ويتجاوب عندئذٍ مع قوله سبحانه:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].
أي إنما حَمَّلْتُهُمْ وظيفةً واحدة هي أن يعلموا عبوديتهم لي ومن ثم عليهم أن يضعوا هذه العبودية لله موضع التنفيذ، لا يستبدلون بالعبودية استكباراً، لا يستبدلون بالمملوكية امتلاكاً وهمياً.
هذه هي الوظيفة التي كُلِّفَ الإنسان بها.
عندما تعلم يا ابن آدم هويتك وتعلم هذه الحقيقة هل يساورك شك أو ريب في هذه الوظيفة التي ينبغي أن تنهض بها؟ ما أخالك ترتاب في ذلك قط.
ربما سمعتَ بعض المغفلين يقول: هل الله بحاجة إلى أن أعبده؟ إذا كان إلهاً حقاً فما أغناه عن أن أكون عبداً له!
ومن الذي قال لك – يا أيها المغفل – أنك إنما أمرْتَ بأن تدين له بالعبادة والعبودية لكي تُكَمِّلَ نقصاً في ذاته؟! من الذي قال لك أن الله عز وجل قبل أن يخلقك كان بحاجة إلى أن يوجدك لكي تعبده لكي تكمل ألوهيته؟!
إنما يأمرك بالعبادة والعبودية لكي يكون سلوكك منسجماً مع واقعك، هكذا يقول المنطق والعلم.
أرأيت إلى إنسان خُلِقَ قَزْمَاً وعاش قَزْمَاً أفيحسن به أن يرتدي ألبسة المَرَدَةِ الطوال؟ وإذا طمع وطمح إلى أن يلبس ثياب المَرَدَةِ الطوال فإن عقل كل عاقل يزدريه وينتقصه، يقول له العقل: انسجم في سلوكك مع نفسك، لو كنت مارداً من الرجال لكان يليق بك أن ترتدي ثياب المردة الطوال ولكنك كما تعلم قزم، عِشْ حياة الأقزام وارتد ثياب الأقزام ولا تتجاوز حدود الأقزام.
تلك هي وظيفة العبد.
نحن جميعاً يا عباد الله مملوكون لله عز وجل، نتحرك ولكن في قبضته، نقوى ولكن بسلطانه، نعتز ولكن بأمره، لا تستطيع أن توجد في كيانك إلا ما قد أوجده الله فيك.
فمن أنت إذاً؟
أنت شاشة الاستقبال التي حدثتكم عنها.
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
أنت هذا الإنسان الذي توضعت في كيانه هذه المزايا ولم يعلم من أين جاءت وغداً سيودعها ولا يستطيع أن يستبقي منها شيئاً، أفيليق بهذا الإنسان أن يستكبر! أفيليق بهذا الإنسان أن يقول لا بل أنا حر، أنا لست عبداً لأحد أنا أتصرف كما أشاء، ألزم نفسي بما أريد وأبتعد عما لا أريد!
من أنت – يا أخي – حتى تقول هذا الكلام؟
أرني جرأتك وبقاءك واستمرارك على هذه الدعوى لا اليوم – والله يمدك بقوته – لا اليوم – والله يكرمك بالفكر والتدبر والتأمل – أرني حريتك وقدرتك هذه عندما تمتد على فراش الموت وعندما تشم رائحته تدنو إليك وعندما يدخل عليك ملك الموت من حيث لا تدري – أجل ستراه بعيني رأسك – أرني تلك الساعة حريتك التي تزعمها اليوم، أرني تلك الساعة قدرتك على الدفاع عن حريتك فيما تريد أن تفعل وفيما تريد أن تدع وفيما تريد أن تتصرف به.
إن كنت قادراً على أن تَثْبُتَ على هذه الحالة اليوم في تلك الساعة فهنيئاً لك حريتك التي تدعيها، ولكنك تعلم وأعلم أنك ستكون آنذاك كتلةً من ضعف، كتلة ضعف، كتلة ذل ومهانة.
فيا عجباً للإنسان يعلم أنه صائرٌ إلى هذا المصير لماذا لا يتهيأ له؟
يعلم الإنسان أن صائرٌ إلى هذه النهاية ومع ذلك يتحدى مولاه وخالقه عندما شرع وأمر ووصف، يتحداه في وصاياه لأنه حر، لو كنت حراً لكنت أنت الذي غرس هذه المزايا في كيانك ولكنت أن القادر على استبقائها لديك.
لو كنت حراً لأبقيت شبابك المتألق في كيانك ولما تركته يودعك إلى غير رجعة.
لو كنت حراً لاستبقيت قوتك في كيانك.
لكنك تعلم أنها ودائع استودعها الله عز وجل لديك.
ألم تقتنع بعد – يا أخي الإنسان – أنك مملوك! فابحث عن مالكك الذي أنت في قبضته.
ألم تقتنع بعد أنك عبد! فابحث عن مولاك الذي أنت مملوك وعبد له.
إذا عرفت هذا انسجمت كل الانسجام مع قوله عز وجل:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات : 56-58].
والعبادة سلوك في الطريق الذي شرع الله ولكن السلوك لا يتأتَّى إلا بعد وجود العبودية والعبودية شعور يهيمن على الكيان يشعرك أنك مملوك، يشعرك أنك في قبضةِ مولاك، يشعرك أنك تتحرك تحت سلطانه ويسعدك هذا الشعور أيما سعادة. ولسوف تجد هذا الشعور هو رفيقك عندما يدنو منك الموت، هو صديقك عندما تنتقل من رحاب هذه الدنيا إلى الحياة البرزخية التي تنتظرك.
أسأل الله عز وجل أن يبقي لي ولك هذا الرفيق في الساعة النكراء التي نعيش فيها غربة وأي غربة إلا من هوياتنا الحقيقية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
نحن قومٌ أعزنا الله عز وجل بالإسلام
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)