ثم دخلت سنة ست عشرة
قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهر سير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزد جرد بن شهريار.
ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهر سير
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: لما نزل سعد على بهر سير بثّ الخيول، فأغارت على ما بين دجلة إلى عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فحسبوا، فأصاب كلّ منهم فلاحا؛ وذلك أنّ كلهم فارس ببهرسير. فخندق لهم، فقال له شيرزاذ دهقان ساباط: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا؛ إنما هؤلاء علوج لأهل فارس لم يجرّوا إليك، فدعهم إلىّ حتى يفرق لكم الرأي. فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم.
وكتب سعد إلى عمر: إنّا وردنا بهر سير بعد الذي لقينا فيما بين القادسيّة وبهر سير، فلم يأتنا أحد لقتال؛ فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام؛ فر رأيك.
فأجابه: إنّ من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.
فلما جاء الكتاب خلّى عنهم. وراسله الدهاقين، فدعاهم إلى الإسلام والرجوع، أو الجزاء ولهم الذمّة والمنعة، فتراجعوا على الجزاء والمنعة ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، ومن دخل معهم؛ فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادىّ إلّا أمن واغتبط بملك الإسلام. واستقبلوا الخراج؛ وأقاموا على بهر سير شهرين يرمونها بالمجانيق ويدبّون إليهم بالدبّابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، قال: نزل المسلمون على بهرسير، وعليها خنادقها وحرسها وعدّة الحرب، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق، فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فلما نزل سعد على بهرسير، كانت العرب مطيفة بها، والعجم متحصّنة فيها، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في جماعتهم وعدّتهم لقتال المسلمين؛ فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا في رجّالة وناشبة، وتجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم، فكذّبوا وتولوا؛ وكانت على زهرة بن الجويّة درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد! فقال: ولم؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إنّي لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلّه ثم أتاني من هذا الفصم، حتى يثبت في! فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشّابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم؛ فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعوني، فإنّ نفسي معي ما دامت في، لعلّي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد، عن عائشة أمّ المؤمنين، قالت: لما فتح الله عز وجل وقتل رستم وأصحابه بالقادسيّة وفضّت جموعهم، اتّبعهم المسلمون حتى نزلوا المدائن، وقد ارفضّت جموع فارس، ولحقوا بجبالهم، وتفرّقت جماعتهم وفرسانهم، إلّا أنّ الملك مقيم في مدينتهم، معه من بقي من أهل فارس على أمره.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بن فلان الهجيمىّ، عن أبيه ومحمد بن عبد الله، عن أنس بن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إنّ الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فبدر الناس أو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو ولا نحن؛ فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزّر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحقّ ما أدري ما هو؛ إلّا أنّ علىّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير؛ وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد؛ فجاءنا فقال: يا أبا مفزّر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهرّاب؛ فحدثه بمثل حديثه إيّانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم؛ وإنّ مجانيقنا لتخطر عليهم؛ فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلّا رجل نادى بالأمان فآمنّاه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسوّرها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فها شيئا ولا أحدا؛ إلّا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: وايله ألا إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم، تردّ علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك؛ ما هذا إلّا شئ ألقى على في هذا الرجل لننتهي؛ فأرزوا إلى المدينة القصوى.
كتب إلي السري عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما دخل سعد والمسلمون بهرسير أنزل سعد الناس فيها، وتحوّل العسكر إليها، وحاول العبور فوجدوهم قد ضمّوا السفن فيما بين البطائح وتكريت. ولما دخل المسلمون بهرسير - وذلك في جوف الليل - لاح لهم الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر؟! أبيض كسرى؛ هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. فقال محمد وطلحة: وذلك ليلة نزلوا على بهرسير.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن - يعني بهرسير - وهي المدينة الدنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثمّ لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد؛ فدخلوها وما فيها أحد.
حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى
قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا؛ طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شئ، ووجدهم قد ضمّوا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلّواه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردّد عن ذلك، وفجئهم المدّ، فرأى رؤيا؛ أنّ خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المدّ بأمر عظيم؛ فعزم لتأويل رؤياه على العبور؛ وفي سنة جود صيفها متتابع. فجمع سعد الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصركم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل. فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستّمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتة وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوّكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون؛ منهم أصمّ بنى ولّاد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكورة، ليكون أساسا لعوم الخيل. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم، فكان أوّل من فصل من الستين أصمّ التيم، والكلج، وأبو مفزّر، وشرحبيل، وجحل العجلى. ومالك بن كعب الهمدانىّ، وغلام من بنى الحارث بن كعب؛ فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدّوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخّوا العيون؛ فالتقوا فاطّعنوا، وتوخّى المسلمون عيونهم، فولّوا نحو الجدّ، والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم. ما يملك رجالها منع ذلك منها شيئا. فلحقوا بهم في الجدّ، فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين. ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجّة، وإنّ دجلة لترمى بالزّبد، وإنها لمسودّة، إنّ الناس ليتحدثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كلّه مما بقى في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيرى ومن بعده. وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأسلنا على المدائن خيلا ** بحرها مثل برّهنّ أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى ** يوم ولّوا وحاص منّا جريضا
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: لما أقام سعد على دجلة أتاه علج، فقال: ما يقيمك! لا يأتي عليك ثالثة حتى يذهب يزدجرد بكل شئ في المدائن؛ فذلك مما هيّجه على القيام بالدّعاء إلى العبور.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن رجل، عن أبي عثمان النهدىّ في قيام سعد في الناس في دعائهم إلى العبور بمثله، وقال: طبّقنا دجلة خيلا ورجلا ودوابّ حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، فخرجت بنا خيلنا إليهم تنفض أعرافها، لها صهيل. فلما رأى القوم ذلك انطلقوا لا يلوون على شئ، فانتهينا إلى القصر الأبيض، وفيه قوم قد تحصّنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم، فقلنا: ثلاث تختارون منهنّ أيّتهن شئتم، قالوا: ما هنّ؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن عطيّة بمثله. قال: والسفير سليمان.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلّا ما كانوا تقدّموا فيه - وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف - فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقرّوا نصفه في بيوت الأموال.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن حفص بين عمر، قال: قال سعد يومئذ وهو واقف قبل أن يقحم الجمهور، وهو ينظر إلى حماة الناس وهو يقاتلون على الفراض: والله أن لو كانت الخرساء - يعني الكتيبة التي كان فيها القعقاع بن عمرو وحمّال بن مالك والرّبيل بن عمرو، فقاتلوا قتال هؤلاء القوم هذه الخيل - لكانت قد أجزأت وأغنت؛ وكتيبة عاصم هي كتيبة الأهوال؛ فشبّه كتيبة الأهوال - لما رأى منهم في الماء والفراض - بكتيبة الخرساء. قال: ثمّ إنهم تنادوا بعد هنات قد اعتوروها عليهم ولهم. فخرجوا حتى لحقوا بهم، فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال بأسرهم، أقتحم سعد الناس - وكان الذي يساير سعدا في الماء سلمان الفارسي - فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمنّ الله عدوّه؛ إن لم يكن في الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذلّلت لهم والله البحور كما ذلّل لهم البرّ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوه أفواجا. فطبّقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ، ولهم فيه أكثر حديثا منهم في البرّ لو كانوا فيه، فخرجوا منه - كما قال سلمان - لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق منهم أحد.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهدي، أنهم سلموا من عند آخرهم إلّا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغرق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرصه إليه، فأخذ بيده فجرّه حتى عبر، فقال البارفىّ - وكان من أشدّ الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلّا قدح كانت علاقته رثّة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر. فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمى الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بن مالك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن عمير الصائدي، قال: لما أقحم سعد الناس في دجلة اقترنوا، فكان سلمان قرين سعد إلى جانبه يسايره في الماء، وقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم؛ والماء يطمو بهم، وما يزال فرس يستوي قائما إذا أعيا ينشز له تلعة فيستريح عليها؛ كأنه على الأرض، فلم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، وذلك يوم الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عليها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بين أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنّا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما دخل سعد المدينة الدنيا، وقطع القوم الجسر، وضموا السفن، قال المسلمون: ما تنتظرون بهذه النطفة! فاقتحم رجل، فخاض الناس فما غرق منهم إنسان ولا ذهب لهم متاع، غير أنّ رجلا من المسلمين فقد قدحا له انقطعت علاقته، فرأيته يطفح على الماء.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن أحد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى المشركون المسلمين وما يهمون به بعثوا من يمنعهم من العبور، وتحمّلوا فخرجوا هرّابا، وقد أخرج يزدجرد - قبل ذلك وبعد ما فتحت بهرسير - عياله إلى حلوان، فخرج يزدجرد بعد حتى ينزل حلوان، فلحق بعياله، وخلّف مهران الرازي والنّخيرجان - وكان على بيت المال - بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حرّ متاعهم وخفيفة، وما قدروا عليه من بيت المال، وبالنساء والذّرارىّ، وتركوا في الخزائن نم الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان مالا يدري ما قيمته، وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة والأشربة، فكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه إلّا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم، فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمّة، وتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم؛ ليس في ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة في المقدّمات في آثار القوم إلى النهروان، فخرج حتى انتهى إلى النهروان، وسرّح مقدار ذلك في طلبهم من كلّ ناحية.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسيّة: ديوان آمد. وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلّا الجنّ. فانهزموا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إيّاهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلمو فإخواننا لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإلا الجزية، وإلّا نابذناكم على سواء؛ إنّ الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا. ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتّخذ الإيوان مصلى، وإنّ فيه لتماثيل جصّ فما حرّكها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيمي، قالوا: وقد كان الملك سرّب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرّابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمون وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن من أحد. فانهزموا واقحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقيّة الجيش.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا أحد بنى عدىّ ابن شريف؛ رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمى أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الأقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس؛ فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهنّ حتى ألزقهنّ بالحيطان، فأفناهنّ. وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشدّه على عجل، وركب، ثم خرج فوقف. ومرّ به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بن شهاب.
قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون، ويقولون: من أي شئ فررنا! فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج عاجوا معه وهو أمامهم؛ فانتهى إلى ذلك الرجل، فرماه من أقرب مما كان يرمى منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرّط الحجارة. وتفارّ عن الفارسي أصحابه.
وقالوا جميعا؛ محمد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأوثناها قوما آخرين ". وصلّى فيه صلاة الفتح - ولا تصلّى جماعة - فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجصّ رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها. قالوا: وأتمّ سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أوّل جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ستّ عشرة.
ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعقبة وعمرو وأبي عمر وسعيد، قالوا: نزل سعد إيوان كسرى، وقدّم زهرة، وأمره أن يبلغ النهروان. فبعث في كلّ وجه مقدار ذلك لنفي المشركين وجمع الفيوء، ثمّ تحوّل إلى القصر بعد ثالثة، ووكّل بالأقباض عمرو بين عمرو ابن مقرّن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدّور وإحصاء ما يأتيه به الطلب؛ وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط. وألحّ عليهم الطلب فتنقّذوا ما في أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضمّوه إلى ماقدجمع؛ وكان أوّل شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى وسائر دور المدائن.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركيّة مملوءة سلالا مختّمة بالرصاص، فما حسبناها إلّا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة فقسمت بعد بين الناس. وقال حبيب: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه الرفيل بن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدّمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إنّ لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لشئ بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى؛ ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة؛ وترجّل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة:
فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ** هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي
هم فلجوا بالبغل في الخصام ** بكلّ قطّاع شئون الهام
وصرّعوا الفرس على الآكام ** كأنّهم نعم من الأنعام
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عنت جدّه الكلج، قال: كنت فيمن خرج في الطلب، فإذا أنا ببغّالين قد ردا الخيل عنهما بالنّشاب، فما بقي معهما غير نشّابتين، فألظظت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحميني! فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بها. ثم إني حملت عليهما فقتلتهما وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أبلغتهما صاحب الأقباض، وإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان في الخزائن والدّور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك! فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا - وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان - وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسّ يحمى الناس؛ فاقتتلا فقتله؛ وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستّة أسياف؛ وإذا في العيبتين أدراع، فإذا في الأدراع درع كسرى ومغفره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع خاقان ودرع داهر ودرع بهرام شوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان؛ وكانوا استلبوا ما لم يرثوا، استلبوها أيام غزاتهم خاقان وهرقل وداهر؛ وأمّا النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى، وأما أحد الغلافين ففيه سيف كسرى وهرمز وقباذوفيروز، وإذا السيوف الأخر، سيف هرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان. فجاء به إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفّلها في الخرساء إلّا سيف كسرى والنعمان - ليبعثوا بهما إلى عمر لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما، وحبسوهما في الأخماس - وحلىّ كسرى وتاجه وثيابه؛ ثم بعثوا بذلك إلى عمر ليراه المسلمون، ولتسمع بذلك العرب، وعلى هذا الوجه سلب خالد بن سعيد عمرو بن معد يكرب سيفه الصمصامة في الردة والقوم يستحيون من ذلك.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن ردل من بني الحارث بن طريف، عن عصمة بن الحارث الضبىّ، قال: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا وإذا عليه حمّار، فلما رآني حثّه فلحق بآخر قدّامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا، ورماني أحدهما فألظظت به فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة، على ثفره ولببه الياقوت، والزّمرّد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة، عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب ولها شناق - أو زمام - من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت؛ وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتي التاج.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عن أبي عبيدة العنبرىّ، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه؛ فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحموني، ولا غيركم لبقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أنتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محممد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: قال سعد: والله إنّ الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت: وايم الله - على فضل أهل بدر - لقد تتبّعت من أقوام منهم هنات وهنات فيما أحرزوا، ما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله، قال: والله الذي لا إله إلّا هو؛ ما أطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة، أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتّهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن الكشوح.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس العجلىّ، عن أبيه، قال: لما قدم بسيف كسرى على عمر ومنطقته وزبرجه، قال: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! فقال علىّ: إنّك عففت فعفّت الرعيّة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر حين نظر إلى سلاح كسرى: إن أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة.
ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله
وكانوا فيما زعم سيف ستين ألفا.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلّب، قالوا: ولما بعث سعد بعد نزوله المدائن في طب الأعاجم، بلغ الطلب النهروان؛ ثمّ تراجعوا، ومضى المشركون نحو حلوان، فقسّم سعد الفئ بين الناس بعد ما خمّسه؛ فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلّهم كان فارسا ليس فيهم راجل؛ وكانت الجنائب في المدائن كثيرة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبىّ بمثله، وقالوا جميعا: ونفّل من الأخماس ولم يجهدها في أهل البلاء. وقالوا جميعا: قسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، والذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنىّ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة؛ وكان فتح المدائن في صفر سنة ستّ عشرة. قالوا: ولما دخل سعد المدائن أتمّ الصلاة وصام، وأمر الناس بإيوان كسرى فجعل مسجدا للأعياد، ونصب فيه منبرا، فكان يصلّى فيه - وفيه التماثيل - ويجمّع فيه، فلما كان الفطر قيل: ابرزوا، فإنّ السنّة في العيدين البراز. فقال سعد: صلّوا فيه؛ قال: فصلّى فيه، وقال: سواء في عقر القرية أو في بطنها.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما نزل سعد المدائن، وقسم المنازل، بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جولاء وتكريت والموصل، ثم تحوّلوا إلى الكوفة.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب، وشاركهم عمرو وسعيد: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كلّ شئ أراد أن يعجب منه عمر؛ من ثياب كسرى وجليّه وسيفه ونحو ذلك، وما كان يعجب العرب أن يقع إليهم، ونفّل من الأخماس، وفضل بعد القسم بين الناس وإخراج الخمس القطف، فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل لكم في أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق قسمه؛ وهو بيننا قليل؛ وهو يقع من أهل المدينة موقعا! فقالوا: نعم ها الله إذا؛ فبعث به على ذلك الوجه، وكان القطف ستين ذراعا في ستين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب؛ فيه طرق كالصّور وفصوص كالأنهار؛ وخلال ذلك كالدّير، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونوّاره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. فلما قدم على عمر نفّل من الخمس أناسا، وقال: إنّ الأخماس ينفل منها من شهد ومن غاب من أهل البلاء فيما بين الخمسين؛ ولا أرى القوم جهدوا الخمس بالنفل؛ ثم قسم الخمس في مواضعه، ثمّ قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك، إلّا ما كان من علىّ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا، ولم يبق إلى التروية؛ إنك إن تقبله على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له، قال: صدقتني ونصحتني. فقطّعه بينهم.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى، ثقل عليهم أن يذهبوا به، وكانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه؛ فكأنهم في رياض بساط ستين في ستين؛ أرضه بذهب، ووشيه بفصوص، وثمره بجوهر، وورقه بحرير وماء الذهب؛ وكانت العرب تسمّية القطف، فلما قسم سعد فيئهم فضل عنهم، ولم يتّفق قسمته، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن الله قد ملأ أيديكم، وقد عسر قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به نفسا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء؛ ففعلوا. فلما قدم على عمر المدينة رأى رؤيا فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره؛ فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق، فقام علىّ حين رأى عمر يأبى حتّى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا! إنه ليس لك من الدنيا إلّا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتني. فقطّعه فقسمه بين الناس، فأصاب علياّ قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا؛ وما هي بأجود تلك القطّع.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: وكان الذي ذهب بالأخماس؛ أخماس المدائن، بشير بن الخصاصيّة، والذي ذهب بالفتح خنيس بن فلان الأسدي، والذي ولىّ القبض عمرو، والقمس سلمان. قالوا: ولما قسم البساط بين الناس أكثر الناس في فضل أهل القادسيّة، فقال عمر: أولئك أعيان العرب وغررها، اجتمع لهم مع الأخطار الدين، هم أهل الأيام وأهل القوادس. قالوا: ولما أتى بحلىّ كسرى وزيّه في المباهاة وزيّه في غير ذلك - وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زي - قال: علىّ بمحلّم - وكان أجسم عربي يومئذ بأرض المدينة - فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس؛ فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيّه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع، حتى أتى عليها كلها؛ ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. ونفّل سيف كسرى محلّما، وقال: أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا! هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا أو مثله! وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيم يضرّه ولا ينفعه! إنّ كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزج امرأته أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده؛ وأحمق بمن جمع لهم أو لعدوّ جارف! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عمر مقدم الأخماس عليه حين نظر إلى سلاح كسرى وثيابه وحليّه، مع ذلك سيف النعمان بن المنذر، فقال لجبير: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! إلى من كنتم تنسبون النعمان؟ فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء، أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فقال: خذ سيفه فنفّله إياه، فجهل الناس عجم، وقالوا لخم. وقالوا جميعا: وولّى عمر سعد بن مالك صلاة ما غلب عليه وحربه، فولى ذلك؛ وولّى الخراج النعمان وسويدا ابنى عمرو بن مقرّن؛ سويدا على ما سقى الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، وعقدوا الجسور، ثم ولّى عملهما، واستعفيا حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزنّى، ثم ولّى عملهما بعد حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف.
قال: وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ عشرة - كانت وقعة جلولاء، وكذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وكتب إلىّ السري يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بذلك.
ذكر الخبر عن وقعة جلولاء الوقيعة
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: لما أقمنا بالمدائن حين هبطناها واقتسمنا ما فيها، وبعثنا إلى عمر بالأخماس، وأوطنّاها، أتانا الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه؛ وأنّ أهل الموصل قد عسكروا بتكريت.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة البجلّى، عن أبيه بمثله؛ وزاد فيه: فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إلى سعد: أن سرّح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وعلى ميمنته سعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، واجعل على ساقته عمرو بن مرّة الجهنىّ.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: وكتب عمر إلى عمر إلى سعد: إن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق؛ فقدّم القعقاع حتى يكون بين السواد وبين الجبل على حدّ سوادكم وشاركهم عمرو وسعيد. قالوا: وكان من حديث أهل جلولاء، أنّ الأعاجم لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس، تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرّجال؛ وخلّف فيهم الأموال، فأقاموا في خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم. قال عمرو، عن عامر الشعبىّ: كان أبو بكر لا يستعين في حربه بأحد من أهل الردّة حتى مات، وكان عمر قد استعان بهم؛ فكان لا يؤمّر منهم أحدا إلى على النفر وما دون ذلك؛ وكان لا يعدل أن يؤمّر الصحابة إذا وجد من يجزى عنه في حربه؛ فإن لم يجد ففي التابعين بإحسان؛ ولا يطمع من انبعث في الردّة في الرياسة؛ وكان رؤساء أهل الردّة في تلك الحروب حشوة إلى أن ضرب الإسلام بجرانه.
ثم اشترك عمرو ومحمد والمهلب وطلحة وسعيد، فقالوا: ففصل هاشم ابن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ستّ عشرة، في اثني عشر ألفا؛ منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ وممن لم يرتدّ؛ فسار من المدائن إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، وأحاط بهم، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلّا إذا أرادوا؛ وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا، كلّ ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب، فاتّخذوا حسك الحديد.
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عقبة بن مكرم، عن بطان بن بشر، قال: لما نزل هاشم على مهران بجلولاء حصرهم في خندقهم، فكانوا يزاحفون المسلمين في زهاء وأهاويل، وجعل هاشم يقوم في الناس، ويقول: إنّ هذا المنزل منزل له ما بعده؛ وجعل سعد يمدّه بالفرسان حتى إذا كان أخيرا احتفلوا للمسلمين؛ فخرجوا عليهم، فقام هاشم في الناس، فقال: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله. فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق؛ فلم يجدوا بدّا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم؛ تصعد منه خيلهم؛ فأفسدا حصنهم؛ وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه! فلما نهد المسلمون الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا يقدم عليهم الخيل، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا على المسلمين منه، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، إلا أنه كان أكمش وأعجل؛ وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فأقبلوا إليه؛ ولا يمنعنّكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، فحمل المسلمون ولا يشكّون إلا أن هاشما فيه، فلم يقم لحملتهم شئ، حتى انتهوا إلى باب الخندق، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو، وقد أخذ به؛ وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم؛ فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين فعقرت دوابّهم، وعادوا رجّالة؛ وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت جلولاء بما جللها من قتلاهم؛ فهي جلولاء الوقيعة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)