واقع الأنثروبولوجيا العربية :
يقول المؤرّخ العربي / جمال الدين الشيّال / : " انقلب الأوروبيون إلى ديارهم بعدما منوا بالهزيمة في الحروب الصليبية، وقد بهرتهم أنوار الحضارة العربية / الإسلامية، وأخذوا مفاتيح تلك الحضارة، فتفرّغوا لها ... يقتبسون من لآلئها وينقلون آثارها، ويدرسون توليفاتها. وقد ساعدتهم عوامل أخرى ،جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية، على أن يسيروا بالحضارة في طورها الجديد، على طريقة جديدة تعتمد أكثر ما تعتمد، على التفكير الحرّ أوّلاً وعلى الملاحظة والتجربة والاستقراء ثانياً. فمهّد هذا كلّه لهم السبيل إلى كشوف علمية جديدة شكّلت الطلائع لحضارة القرنين، التاسع عشر والعشرين."
ويتابع / الشيّال / : كان الأوروبيون يفعلون هذا كلّه، في حين كان الشرق – بما فيه العالم العربي- قد اتّخذ لنفسه، أو اتّخذ لـه القَدَر، أسلوباً آخر من الحياة، يختلف كلّ الاختلاف عن هذا الأسلوب الذي اصطنعته أوروبا لنفسها، أو اصطنعه القدر لها."
وعلى الرغم من اعتراف بعض مفكري أوروبا بتأثير التراث الحضاري العربي على الحضارة الغربية الحديثة، فقد ساد اتّجاه ناكر ومتنكّر لهذه الحقيقة التاريخية، من خلال السعي نحو طمسها، أو التقليل من شأنها. وقد دعم هذا الاتّجاه، حركة الاستعمار الأوروبي للعالمين : العربي والإسلامي، مؤكّدا عجز العرب والمسلمين عن الابتكار والإبداع، والإسهام في ركب الحضارة الإنسانية، الأمر الذي يجعل من " التغريب " أمراً ضرورياً لمواكبة تطوّرات العصر الحديث.
ولهذا، فمن الضروري العمل على فحص التراث العربي / الإسلامي، بتنوّعه وغزارته،ودراسته دراسة متأنية ومتعمّقة، ولا سيّما تلك الأعمال ذات الصلة المباشرة بالأنثروبولوجيا، من أمثال : مؤلّفات أخوان الصفا، وكتاب " الحيوان " للجاحظ، وكتابا ت / أحمد ابن مسكويه/ الخاصة بآرائه عن النشوء وتحوّل الأحياء بعضها من بعض، وغيرها كثير.
فقد تؤدّي هذه الدراسات إلى إعادة تاريخ الأنثروبولوجيا من جديد، أو على الأقلّ، إعادة أصولها المعرفيّة والمنهجيّة، بحيث لا تردّ جميعها إلى عصر النهضة (التنوير) في أوروبا فحسب، بل قد يوجد في هذا التراث الحضاري العربي، الكثير من المفهومات والنظريات عن الجنس البشري والحضارة الإنسانية، وأوجه الحياة اليوميّة ومشكلاتها، ممّا لا يزال يشغل بال الباحثين الأنثروبولوجيين المعاصرين.
وعلى الرغم من غنى العلوم في هذا التراث العربي، فإنّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) لم يلقَ الاهتمام في الدوائر العلمية والبحثية العربية، كما هي الحال في المؤسسّات العلمية الغربية وباحثيها، سواء في البحوث الميدانية / التطبيقية، أو في الدراسات الأكاديمية، كالدراسات الفلسفية والنفسية والتربوية..
وثمّة بعض الباحثين (الأكاديميين) العرب يشيرون إلى أنّ الأنثروبولوجيا، دخلت إلى العالم العربي، في الثلاثينات من القرن العشرين تحت اسم " علم الاجتماع المقارن" وذلك على أيدي عدد كبير من علماء الأنثروبولوجيا البريطانيين، مثل : (إيفانز بريتشارد – هو كارت – وبريستافي) ممّن تولّوا التدريس في الجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن ). ثمّ جاء بعدهم في الأربعينات، عميد الأنثروبولوجيين في ذلك الحين، الأستاذ / رادكليف براون / الذي قام بتدريس الأنثروبولوجيا في جامعة الإسكندرية، تحت اسم (علم الاجتماع المقارن) أيضاً، وذلك لعدم احتواء برامج التدريس الجامعي – في ذلك الحين – على مادة الأنثربولوجيا
إنّ التوقّف قليلاً عند التصويرات التي تمّ تشييدها مثلاّ، عن الثقافة والمجتمع العربي في الفكر الأنثروبولوجي، ولا سيّما تلك التصويرات الناتجة عن علاقة الأنثروبولوجيا بالمجتمعات العربية، لهو أمر على غاية من الأهمية.
ولذلك، فإذا أردنا القيام بمحاولة تأريخ لعلاقة الفكر الأنثروبولوجي الغربي، بالمجتمع والثقافة في العالم العربي، فإنّ إيفانز بريتشارد وإرنست غيلنر، سيتصدّران ليس فقط قائمة عدد من الأنثروبولوجيين الذين تعاملوا مع ثقافات ومجتمعات العالم العربي والإسلامي، وإنّما أيضاً لأنّ تجربة الاثنين معاً تعبّر عن أحد أشكال تجليات هذه العلاقة، في جانبها الأوروبي على الأقل.
فقد حاول كلّ من بريتشارد و غيلنر، ومن واقع انتمائهما للثقافة الأوربية المعاصرة، أي باعتبارهما مثقفين قبل أن يكونا أكاديميين، فهم هذا الواقع الاجتماعي والثقافي ذي الخاصية العربية الإسلامية، هذا الواقع الذي يقع في مقابل الغرب الثقافي والاجتماعي. وكان الهاجس الأهم الذي يشكّل صلب اهتمام غيلنر في هذا الجانب – وما زال -، ليس التفصيلات الأثنوغرافية المميّزة للثقافة العربية والمجتمع العربي، وإنّما هي البحث في الآليات والقوانين المنطقية، التي يعمل وفقها النظام الاجتماعي في هذه البقعة من العالم.
لقد قام / إرنست غيلنر / الأنثروبولوجي والفيلسوف، وعبر دراساته الإثنولوجية أولاً والأنثروبولوجية ثانياً ، بتحليل جانبين على غاية من الأهميّة، يكوّنان من الثوابت الرئيسة البارزة في البنى الاجتماعية العربية ، ألا وهما: الإسلام والقبلية. فقد قادته محاولته الاستقرائية إلى عمله الحقلي (الميداني) الأنثروبولوجي في جبال الأطلس في الغرب العربي، بقصد اختبار مفهوم " الانقسامية " مثال :الأسرة / العشيرة، البداوة / الحضر، الشعبي / الرسمي ، وغيرها من الثنائيات. وذلك باعتبار أنّ الانقسامية هي السنة البنيوية البارزة للنظم القرابية والسياسية في المجتمعات العربية القبلية .
ومثلما ذهب المعلّم / إيفانز بريتشارد / إلى البحث في العوامل المحليّة المساعدة في إعادة التوازن في الانقسامية القبلية، أي فيما رآه المعلّم من دور للإسلام باعتباره نظاماً أيديولوجياً، تجسّد في التنظيم الاجتماعي لأبناء برقة (في ليبيا) وفي الحركة الصوفية السنوسية، هكذا أيضاً سعى / غيلنر / . وهذا ما أوضحه في كتابه " أولياء الأطلس " حين حاول إيضاح كيف كان التصوّف الإسلامي، يؤدّي عبر نظام الزوايا والأولياء، أدواراً تعتبر مفصلية في إعادة التوازن إلى بنى اجتماعية، يدفع بها نظامها الإيكولوجي (البيئي) نحو الانقسام المتتالي.
هذا من جهة، أمّا من الجهة الأخرى، فقد عزا معظم الباحثين العرب عدم الترحيب بالأنثروبولوجيا وانتشارها في العالم العربي، إلى سببين أساسيين :
أولهما : عدم تقبّل فكرة التطوّر الحيوي عند الإنسان، بالنظر لتعارضها مع الفكر الديني وتفسيراته التي تؤكّد أنّ الإنسان مخلوق من عمل الله، وليس نتاج حلقة تطوّرية ذات أصل حيواني .ولكن ثمّة بعض المفكّرين العرب من دعا إلى التوفيق بين الفكرتين، والأخذ منهما ما يفيد العلم.
فبينما يقول الباحث الجيولوجي الدكتور / عبد الله نصيف / في كتاب " العلوم الاجتماعية والطبيعيّة " : ليس ثمّة تعارض – مطلقاً-بين الإيمان ومعرفة الإنسان عن الكون، واستخدامه هذه المعرفة للخير .. نجد أنّ المفكّر / زكي نجيب محمود / يقول في كتابه " هذا العصر وثقافته ": ليست الشطارة في تخريج المعاني التي تجعلنا نتصوّر أنّ ما جاء به الدين، هو نفسه ما يجيء به العلم في عصرنا .. وإنّما المهارة كلّ المهارة، هي في أن تبصرني بالطريق الذي أعرف منه كيف آخذ من الدين حافزاً، يحرّك الإرادة إلى (صنع) علم جديد أقدّمه لنفسي وللإنسانية جمعاء .
وثانيهما : ارتباط نشأة الأنثربولوجيا وبداياتها التاريخية بالاستعمار، حيث كانت الدراسات تتمّ على المجتمعات البدائية والمتخلّفة، بهدف معرفة بنيتها التركيبية وطبيعتها الثقافية، ممّا يسهّل استعمارها، في الوقت الذي كان فيه المجتمع العربي يعاني من الاحتلال والاستعمار، ويسعى للتحرّر والتقدّم .
فكما ارتبطت الجغرافيا مثلاً، بمشاريع علمية كانت تهدف إلى تحقيق كشوفات جديدة تتعلّق بتحديد طبيعة الكرة الأرضية، أي التخوم اليابسة منها وأقاليمها وبيئاتها والجغرافية، وكذلك توزيع البحار والمحيطات، وكذلك ارتبطت الأنثروبولوجيا واهتماماتها (البيولوجية والثقافية والاجتماعية) بمشاريع استكمال معارفها حول الإنسان، وبيئاته الاجتماعية والثقافية، أي بتلك المشاريع الأنثروبولوجية التي بدأت في الغرب، والتي آن الأوان لاستكمالها خارج أوروبا. وقد أتت ظروف الاستعمار في القرن التاسع عشر، لتمهّد الطريق لتلك المشاريع العلمية، وبذلك ارتبط تاريخ الفكر الجغرافي والأنثربولوجي بالخبرة الاستعمارية، وبأقاليم ومجتمعات وثقافات غير غربية.
وكان أن أدّت هذه العقلية الاختزالية والروح المتحاملة، إلى سيادة ميل هائل نحو تسييس المعارف والعلوم، وكذلك المؤسّسات والعلاقات الناتجة عنها. وكان من أبرز ضحايا تلك العلوم : الجغرافيا والأنثروبولوجيا. وإذا كانت الجغرافيا قد سلمت بجلدها، لأسباب تعود مثلاً إلى ترسّخ هذا العلم في الأكاديميات العربية، منذ الأربعينات من القرن العشرين، وإلى إسهام العرب المسلمين، البارز في هذا العلم منذ القدم، الأمر الذي جعل العرب المعاصرين أكثر ألفة معه، فإنّ الأنثروبولوجيا لم تحظَ بهذا القبول، حيث كان نصيب الأنثروبولوجيين العرب الأوائل، أقلّ بكثير – إن لم يكن معدوماً- عند مجاراتهم بالأوروبيين.
وهكذا تمّ التعاطي مع أي اهتمام أوروبي أو غربي، بالمجتمعات العربية أو الإسلامية وثقافاتها، على أنّه يقع في دائرة الأطماع الاستعمارية أو التآمر على العرب والإسلام. وأصبح كلّ إنسان غربي (يبدي شيئاً من الاهتمام بهذه الموضوعات) موضع شبهة وريبة في العالم العربي.
وعلى الرغم من اتساع الدراسات الأنثربولوجية لتشمل المجتمعات البشرية المختلفة، سواء في تكوينها أو في درجة تطوّرها، فما زالت ثمّة رواسب تعوّق اعتمادها كعلم يبحث في مشكلات المجتمع العربي وإيجاد الحلول المناسبة لها، ولا سيّما القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وعينُك إن أبدت إليك مساوئاً
فصُنها وقل يا عين للناس أعينُ
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسنٌ
الله يعطيك العافية خيو على الاختيار الراقي
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)