رسالتي إلى أردوغان
كتبها د.راغب السرجاني
أستاذي الجليل، وأستاذ جيلنا كله الأخ الحبيب أردوجان.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
أشاهد مع أمتنا الكريمة، ومع العالم أجمع كذلك، جهودكم المباركة لإعزاز الإسلام، والدفاع عن مقدساته وحرماته، فهنيئًا لكم اجتماع الصالحين من أبناء أمة الإسلام على حبكم وتأييدكم، وأسأل الله أن يثبتكم، وأن يرزقكم نور البصيرة، وحسن العمل، وروعة الخواتيم.
أستاذي الجليل.. رأيت أن من واجبي وأنا أرى مسيرتكم الرائعة، أن أسهم بما أستطيع لتدعيم موقفكم، وأن أدلي بدلوي بعدة وصايا قد يجعل الله فيها خيرًا لك وللأمة، وقد تكون سببًا في نجاتي يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأسأل الله أن تلقى هذه الوصايا منه القبول، وأن تجد طريقها إلى قلبك وعقلك..
الوصية الأولى:
قد ولاك الله أمرًا عظيمًا، وشأنًا جليلاً، فأنت إمام من أئمة المسلمين، يتولى بشكل مباشر قيادة دولة عظيمة فيها خلق كثير، فيا لسعادتك إن كان عملك خالصًا لله! فأول السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وأحسبك -والله حسيبك- هذا الإمام، فلا تخطوَنَّ خطوة إلا وأنت تحتسبها لله، ولا تقدمَنَّ على أمر إلا وأنت ترجو المثوبة من الله، ولتعلم أن النية تتقلب كثيرًا، فعليك دومًا بتجديدها، ولا يغرنك الآثار الجليلة لأعمالك؛ فإن الله يحبط عمل الشهيد والعالم والجواد إن كان لغيره ، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، ولا تركن إلى الدنيا فإنها زائلة، ولا يلهينَّك مال ولا كرسي عن طاعة ربك، واعلم أنك موقوف بين يدي العزيز الجبار، وأن الله سيسألك عن الذرة والقطمير، فأعد لكل سؤال جوابًا، ولتدرك أن البشر يُسألون عن أنفسهم وأزواجهم وأولادهم، أما أنت فسيسألك ربنا عن شعب كامل، بل قد يسألك عن أمة الإسلام التي تعلقت قلوبها بك، فالحذر الحذر من نسيان هذا اليوم الطويل، والعمل العمل لكي تظهر أمام الله في أبهي صورة وأنقى سريرة.
ثم انتبه -أخي أردوجان- إلى أن كل ما وصلت إليه هو محض فضل من الله ، وكل ما نجحت فيه من قرارات وأفعال هو توفيق من الحكيم الخبير سبحانه، فلا يدخلنَّك عُجْب أبدًا، ولا تقولنَّ إنما أوتيته على علم عندي، وأظهِرْ دومًا الافتقار إلى الله، وانسب إليه كل أعمالك؛ فهو الناصر، وهو المعز، وهو المعطي، وهو المتصرف في كونه كله، ولتكن حيث أمرك الله أن تكون، ولتحذر أن يراك الله حيث لا يجب أن يراك، واجتهد في تطبيق شريعة ربك ففيها النجاة في الدنيا والآخرة، ولا يدفعنك إرضاء الناس إلى إغضاب ربك، ولتعلم أن ارتفاع قدرك مرهون باتباعك لكتاب الله وسنة رسوله الكريم ، فإياك إياك أن تهجرهما، وليكن نصب عينيك أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
الوصية الثانية:
شعبك هو زادك -بعد الله - في هذه المسيرة المباركة، فالضعف الذي نراه في غالب الحكام العرب نتج عن انفصالهم عن شعوبهم وهجرهم لمصالحه، فلا تهمل حاجة شعبك وراحتهم أبدًا، ولا تخالفن إرادة شعبك الذي اختارك لقيادته إلا إذا أمرك بحرام، فإنْ فعل فلا تطعه ولو ضاع ملكك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا تحتجبن عن شعبك أبدًا، وليكن لك تواصل دائم مع الفقير والأرملة واليتيم، ولا تقبلن بظلم في دائرة حكمك، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، ولا توليَنَّ أحدًا ولاية إلا إذا كان يستحقها، وراقبْ ولاة أمرك وتابعهم، ولا تسمحن لهم بفساد أو تجاوز؛ فإنك تحمل وزر ذلك كله. ولا تقربَنَّ المنافقين منك فإنهم لا يزيدونك إلا ضعفًا وخبالاً ولو كانوا يمدحونك أو يعظمونك، ولتحرص على تفوق بلدك في كل المجالات؛ فالإسلام دين شامل ينتظم كل أمور الحياة، فلا ينبغي لنا أن نرى صورة من صور الضعف في أي قطاع من قطاعات دولتك، فليكن جيشك قويًّا، واقتصادك عملاقًا، وجامعاتك متفوقة، ومستشفياتك متقدمة، وشوارعك نظيفة، وإعلامك واعيًا، ومدارسك أخلاقية.
ولا تنصرفَنَّ إلى قضية على حساب قضية أخرى، بل كن متوازنًا في كل أمورك، ولا تتركنَّ ملف الأكراد دون حلول واضحة ناجعة، ولتعلم أنهم في النهاية مسلمون أتراك، لهم حقوق كما أن عليهم واجبات، وإنك إن تقربت منهم، وأجزلت لهم العطاء بصدق وضعوك فوق رءوسهم، فهم أحفاد صلاح الدين الأيوبي. ولا تجعلَنَّ العلمانيين في بلدك عدوًّا لك، بل اعلم أنهم يحتاجون إلى نصحك، ويفتقرون إلى دعوتك، وقد منَّ الله عليك بما فقدوه، ولو علموا الحق فلعلهم يتبعونه، وبدلاً من أن يكونوا حجر عثرة في طريقك لعلهم يصبحون من حملة راية الإسلام في ربوع الدنيا، فلا تعتقدن أن كلماتك لهم ستذهب سدى، بل أخلص النية في دعوتهم، وسيفتح لك الله قلوبهم.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الوصية الثالثة:
في ظل علو العالم الغربي وخاصة أمريكا، وتفوقهم الاقتصادي والعسكري، تلهث معظم دول العالم للالتحاق بركبهم، والاعتماد عليهم، فلا تكونَنَّ من هؤلاء! بل لا بد أن يكون لك تميزك الخاص، واستقلالك المتفرد، ولا يعني ذلك عدم إقامة علاقات معهم، ولكن لا تكن هذه العلاقات علاقة تابع بمتبوع، إنما علاقة الند بالند، والنظير بالنظير، وأنتم لستم قليلين، إنما أنتم بالله كثير، بل أكثر منهم وأعز إن شاء الله، ولا مانع من السعي لدخول الاتحاد الأوربي لتحقيق طفرات اقتصادية وسياسية وحقوقية وغير ذلك، ولكن لا بد أن تنظر بعين الخبير إلى الثمن المدفوع، فلو كان من دينك أو حريتك أو استقلالية بلادك فلا تقبل أبدًا، وإن خفتم عالة فسوف يغنيكم الله من فضله..
ولا تنسَ أن أمريكا والاتحاد الأوربي وغيرهم من أهل الدنيا لا يبحثون إلا عن مصالحهم، ويوم كانت مصالحهم في إسقاط الخلافة العثمانية العظيمة سعوا إلى ذلك بكل طاقاتهم، واشتركت إنجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا في تفكيك الكيان الكبير، واجتهدوا لمسخه ومحوه من الوجود، ولكن أبى الله إلا أن يخرجك أنت وإخوانك الشرفاء إلى الدنيا مرة ثانية، لتعلنوا بفخر أن الإسلام لا يموت أبدًا، وإن نسي بعض الأتراك هذا التاريخ فالغرب لم ينسه أبدًا، ويظهر ذلك في أقوالهم وأفعالهم، فضع عينيك في رأسك، والتفت إلى ما يحاك لك، ولا تضع بيضك كله في سلة أمريكا أو الاتحاد الأوربي، بل وسِّع علاقاتك، وعمِّق جذورك، وابحث عن البدائل العالمية المفيدة، وقبل ذلك وأهم اعتمد على قوتك الداخلية في تركيا، وعلى قوة إخوانك المسلمين في الأقطار الإسلامية المختلفة.
ودعني أهمس في أذنك وأقول لك: إن خبرتي بتاريخ الأمم تشير إلى أن نجم أمريكا في أفول، وأنها لا تسير إلى قوة بل إلى ضعف، وأن الزمن زمن تغيير، وسيشهد المستقبل القريب اختلافًا كبيرًا في موازين القوى العالمية، فلا بد أن يكون لك مكان على ظهر هذا الكوكب، وخاصة أنت، فأنت لست مسلمًا فحسب، ولكنك صاحب ميراث عظيم، فأنت حفيد قوم كانوا يحكمون نصف العالم، وسيعيد الله بإذن الله الحكم من جديد، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الوصية الرابعة:
لا بد للقائد المسلم من الاهتمام بقضايا أمته الإسلامية حتى وإن لم تكن تحت سيطرته المباشرة، فهو لا يهدأ له بال لرؤية انتهاكات حقوق المسلمين في أي مكان، فلا تتركن قضية من قضايا المسلمين إلا ويكون لك دور فيها، وفي مقدمة هذه القضايا قضية فلسطين، فهي قضية فارقة، فمن جاهد في سبيلها أعزه الله، ومن أهملها أو خانها أذله الله، وفلسطين هي شرف المسلمين، ونحن قوم قد نعيش بلا طعام أو شراب، ولكننا لا نعيش بلا شرف، فلا يغمضَنَّ لك جفن وهذه الأرض المباركة محتلة، إنما عليك بالعمل الدءوب حتى تعيد الأمور إلى نصابها، ولتراجع جيدًا قصة جدك العظيم السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله، الذي ضحى بملكه لكي لا يشارك في جريمة بيع فلسطين، فسِرْ على نفس الدرب مهما كانت الأثمان، ولتُعْلِ شأن الجهاد في بلدك، ولتحفز الشعب على تقبُّل تبعات مقاومة المشروع الصهيوني، مع علمي الكامل بتاريخ العلاقات التركية الصهيونية، ومع تفهمي لخطواتك المتدرجة، ومع إدراكي لوجود قوى تركية كبيرة تعارض مسارك، لكن -في النهاية- لن تعفيك الأمة من دورك في هذه القضية المصيرية، فلا تخذلن الشعوب المسلمة، ولا تقبلن برعونة صهيونية، أو تصلب يهودي، واعلم أن فلسطين أحد أكبر بواباتك إلى الجنة، كما أنها أحد أكبر بواباتك لقلوب المسلمين.
ولا تنس في خضم سخونة الأحداث في فلسطين أن هناك قضايا أخرى تحتاج إلى جهدك وفكرك، وفي مقدمتها العراق الشقيقة المجاورة لك، وكذلك أفغانستان وكشمير، وكذلك المسلمون في التركستان الشرقية، وقَدَرُك أن توجد في زمان كثرت فيه آلام المسلمين، لكن تذكر أنه على قدر الجهد يكون الأجر بإذن الله، وعلى قدر الإخلاص يكون التوفيق من الله
الوصية الخامسة:
لا تغفلن النظر الدائم في الشئون العربية، وليكن من أخص خاصتك من يتفرغ لهذا الشأن، فمكانتك في قلوب العرب كبيرة، وقيمتك محفوظة، وأنا أعلم أن هناك ميراثًا قديمًا من الكراهية بين العرب والأتراك زرعته ظروف مختلفة، ولكن آن الأوان للتخلص من هذا الميراث البغيض، ولتفرِّق في نظرتك بين الشعوب العربية وحكامها؛ فالشعوب العربية عاطفية، وتحب الإسلام بفطرتها، ويتحرك هواها مع من رفع الراية الإسلامية ودافع عنها، وتنتفض للشهامة والرجولة والمروءة، وتسعد بالخطباء الشجعان، وتسير وراء القواد الربانيين، فإذا وجدت هذه الصفات في قائدٍ رفعته إلى السماء ولو لم يكن عربيًّا، ولقد سرنا قبل ذلك خلف نور الدين وصلاح الدين وقطز والظاهر بيبرس، وجميعهم ليسوا من العرب، والله لا ينظر إلى الصور والأجسام، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكلنا معك ما دمت مع الله، وكلنا نحبك طالما تحب كتاب الله وسنة رسوله ..
أما الحكام العرب فغالبهم يبحث عن مصالحهم الخاصة، وقد يكرهونك كثيرًا، ويبغضونك طويلاً، فإنه كلما علا نجمك خسروا، وكلما ذاع صيتك حزنوا؛ فشعوبهم المقهورة تقارنهم بك، وأين الثرى من الثريا؟! فلا يحبطنَّك تعليق من أحدهم، ولا يزعجنك مقال في إعلام بعضهم، إنما هي فقاعات لا تلبث أن تزول
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]،
فلا ترفعَنَّ عينك عن الأمة العربية، فهي عمقك الاستراتيجي، وسندك في مواقفك القادمة، ولتحرص على مواقف فاعلة في ميادين السياسة والاقتصاد والعلوم والإعلام، ولتعط اهتمامًا خاصًّا لدولة السودان؛ فشعبها الأصيل في حوجٍ لك، وقيادتها ليست بعيدة عن توجُّهك، ووحدتكما نفع للفريقين، وحماية للمسلمين، ونكاية للصهاينة، وخير كثير إن شاء الله. ولتهتم باللغة العربية، ولتعمل على نشرها في بلدك وفي الدنيا، فهي ليست مجرد لغة قوم من الأقوام، إنما هي لغة القرآن، فمن وعاها أدرك الكثير، ومن أتقنها فَهِم المعاني، وفتح الله له من أبواب المعرفة ما لا يدركه غيره.
الوصية السادسة:
لي وصية لك أحسب أن الكثيرين قد يقولون إنه لا داعي لها، أو على الأقل قد يقترحون تأجيل الحديث عنها، ولكن -أستاذي الجليل- من أدراني أنني أعيش حتى أقولها لك، وهي وصيتي المتعلقة بالشأن الإيراني الشيعي..
بداية -سيدي الكريم- أنا أعلم أنك أقدر مني على أمور السياسة، وأفهم مني على توازنات القوى في المنطقة وفي العالم، لكنني أردت أن أنقل لك خبرتي بالتاريخ، ودرايتي بالعلوم الشرعية؛ ولهذا فإنني أقول لك بصدق: لا ينصر هذا الدين -أستاذي العظيم- إلا من أحاطه من جميع جوانبه، ولا يُعِزُّ هذه الأمة إلا مَن صلحت عقيدته، وصدقت نواياه، ولا يستقيم لمن بدَّل في الدين أو حرَّف، أو لمن لعن أوَّل هذه الأمة أن ينتفض بحميَّة لحراسة العقيدة، أو ميراث المسلمين.
أخي الحبيب، إن التاريخ يشهد في كل مرحلة أن الذي يطعن الأمة في ظهرها لا يقدر أن يمد اليد لمساعدتها، وعليك أن تراجع تاريخ أجدادك العثمانيين الأشاوس العظماء مع دولة الصفويين الشيعة الإيرانية، وتراجع كذلك رد فعل أجدادك عندما انهمرت القوات الشيعية الصفوية على العراق فدمروا بغداد، وأراقوا دماء أهل العراق السُّنَّة بالألوف، ولا يخفى عليك أن هذا يحدث الآن في العراق، والقتلى السُّنَّة بالملايين وليسوا بالألوف..
أنا لا أدفعك -أستاذي الجليل- إلى صدام، وأتمنى أن يحفظ الله بلدك وكل بلاد المسلمين، ولكني أريدك أن تتعامل بمنهج عمر بن الخطاب الذي قال فيه: "لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يخدعُني". فنحن لا نمكر ولا نخون العهود، ولكننا لا نُخدَع كذلك، ولا يسخر من عقولنا أحد.
أحببت أن أوصيك كذلك بالنظر إلى المنطقة كلها لا إلى تركيا فقط، ولتعلم أن كل علاقة ستتنازل أنت عنها في المنطقة ستكون من نصيب إيران في المرحلة القادمة؛ فالعالم العربي في حالة من الضعف الشديد لن تمكنه من الصمود أمام المد الشيعي بقوة، وليس لهذا الأمر إلا أنت، فالحذرَ الحذرَ، ولتعلم -يا أيها الزعيم المسلم- أنك الآن أمل أهل السنة في العالم أجمع، وأن ظهورك في علاقة صداقة قوية مع زعماء الشيعة قد تهز صورتك عند الجموع الغفيرة من المسلمين السنة، فتكون خسارتك أكبر من مكاسبك، ونحن لا نريد لمثلكم ذلك.
الوصية السابعة:
فلتحرص أيها القائد المحنك على توريث كل إمكانياتك وخبراتك إلى مَن بعدك، ولا أعني هنا أن تورِّث الحكم لأولادك كما اعتاد الضعفاء العرب أن يفعلوا الآن، ولكن أعني أن تهتم بتربية من يحمل الأمانة بعدك، فلا تفجع الأمة بذهابك دون بديل، فماذا لو جاء الأجل؟ وماذا لو انتهت فترة حكمك؟ وماذا لو حدث عارض -لا قدر الله- يؤذيك أو يضرك؟ أنا أعلم أن الأقدار بيد الله، وأعلم أن كثيرًا من العظماء ذهبوا ولم يذهب الإسلام والحمد لله، لكني رجل قرأت التاريخ، وعلمت أن السنن جارية لا تبديل لها ولا تغيير، وقد رأيت الأمة الإسلامية تثبت بعد وفاة العملاق عماد الدين زنكي؛ لأنه ربى عملاقًا آخر هو نور الدين محمود، ورأيت الأمة تثبت أيضًا بعد موت القائد الفذ نور الدين محمود؛ لأنه ربى الفاتح العظيم صلاح الدين الأيوبي. لكني -للأسف الشديد- رأيت الأمة تنهار وتتفكك بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي؛ لأنه كان منشغلاً بالأمور العظيمة كتوحيد الأمة وجهاد الصليبيين، فغفل عن توريث خبرته وحكمته وإيمانياته وطرق إدارته وقيادته لغيره، ولا نريد ذلك لأمتنا بعدك يا أردوجان..
أنا أعلم أنك تحرص على لقاءات الشورى مع أقرانك الأمناء، وخاصة الرئيس القدير عبد الله جول، ووزير الخارجية المحنك أحمد أوغلو، لكن هذا لا يكفي، بل يجب تربية جيل كامل من الشباب على نفس منهجك ورؤيتك واستراتيجيتك، وليكن ضمن هذا الجيل بعض الكوادر الخاصة المهيئة لإدارة الدولة بكاملها، أو إدارة بعض القطاعات فيها، ولتحرص على عقيدة هؤلاء ودينهم كما تحرص على مهاراتهم وحرفيتهم، فنحن لا نريد أمانة على حساب قوة، ولا قوة على حساب أمانة، إنما يجب أن تعلم أن
{خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].
الوصية الثامنة:
أستاذي الجليل أردوجان، لا بد أن ترفع سقف طموحاتك، فنحن لا نريد منك دولة تركية قوية فقط، إنما نريد لك ما هو أكبر من ذلك وأعظم، فلماذا لا يكون لك دور في إصلاح الخلافات والنزاعات بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى في الأماكن التي لا تطمح إلى نفوذ أو علاقات فيها؟ إنما تفعل ذلك لله ، فما أعظم الأجر لمن يصلح بين رجلين! فما بالك بمن يصلح بين شعبين! إن لك ولتركيا ثقلاً لا ينكر، وهذا الثقل نعمة من الله تستحق الشكر، وشكرها يكون بصرفها في موضعها، فليكن لك اهتمام بإرساء السلام بين الشعوب الإسلامية المختلفة.. وليكن لك دور في الإصلاح بين الجزائر والمغرب، وليكن لك دور في الصحراء المغربية، وليكن لك دور في توحيد الفصائل الفلسطينية، وليكن لك دور في فض النزاع بين ليبيا وتشاد، وليكن لك دور في حل مشكلة الحوثيين في اليمن، وكذلك لتوحيد شعب السودان..
ثم لترتفع بسقف طموحاتك أكثر وأكثر وتسعى إلى توحيد الأمة الإسلامية، وما المانع أن تعود الخلافة من جديد في زمانك أو بعد زمانك بقليل؟ إنها ستعود حتمًا كما وعدنا الرسول العظيم ، ولكن لا بد أن يكون لمثلك دور في عودتها، وليس بالضرورة أن تكون أنت على رأسها، فأنت رجل متجرد لله بإذن الله، فليكن على رأسها الأصلح في وقت قيامها، ولكن لا بد من بداية، ولا بد من خطوات، ولا بد من منهج، وأحسب أنك أقدر الأمة الآن على تدبير هذا الأمر وتنسيقه.. وأنا أعلم أن العالم لن يتركك، وأن أعداءك من غير المسلمين -بل ومن المسلمين- سيكثرون ويشتدون، لكننا نعلم أن الدعوات الصادقة يحاربها الأحمر والأسود من الناس، ولكننا نعلم كذلك أن النصر مع الصبر، وأن العاقبة للمتقين.
ولترفع سقف طموحاتك أكثر وأكثر وأكثر، ولتبدأ بنشر دعوة الإسلام في ربوع الدنيا، ولا ندعوك إلى سيف أو نزال، إنما بالتي هي أحسن، فلتفعل كما فعل سيد الأولين والآخرين عندما أرسل رسائل إلى ملوك العالم وأباطرة وقياصرة وأكاسرة يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكانت المدينة المنورة حينئذ أضعف من تركيا الحالية من ناحية السلاح والعتاد عشرات المرات، لكن قوة الإيمان حرَّكت هذه الدول الصغيرة لهداية العالمين.. وأنت الآن في مكانة مرموقة، ولك كلمة مسموعة، وقد رفع الله ذكرك في الشرق والغرب، فلا بد أنك مسئول يوم القيامة عن ذلك، فلا تكسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تجزع من كثرة الأعداء، ولا تحبط من ردود أفعال سلبية، أو استنكارٍ من بعض المساكين الذين لا يعرفون الله، وقد وصل أجدادك بالإسلام إلى أسوار فيينا، ووصلوا إلى البوسنة وكوسوفو، فلتصل أنت كذلك إلى غير ذلك من ربوع الدنيا.
وأنصحك أن تبدأ بأمريكا الجنوبية؛ فهي أرض بكر، وتاريخها مع الدول الاستعمارية الأوربية يؤهلها إلى الوقوف معك لا ضدك، وهم يحبون المسلمين بشكل عام، وليس لهم تاريخ من العداء معهم وبعضهم له مواقف أصيلة في نصرة قضايا المستضعفين في العالم، ومنها بعض المواقف ضد الكيان الصهيوني، وعندهم شورى حقيقية في معظم أقطارهم، وحتى الآن لم تصل إليها الدعوة الإسلامية كما ينبغي لبعد المسافات، وقلة الإمكانيات، وصعوبة اللغة، وهذا كله في يدك بإذن الله، فلترسل الدعاة تلو الدعاة، ولتُنشِئ المراكز تلو المراكز، ولتبعث بنفسك رسائل دعوة إلى الإسلام لعظمائهم وكبرائهم، ولتبدأ بشافيز رئيس فنزويلا؛ ففيه خير كثير إن شاء الله، وأحسب أنه لو علم الإسلام لاعتنقه، فهو يقوم بكثير من فروضه وأوامره غير أنه لا يوجِّه ذلك إلى الله ، فلتكن عونًا له على الإيمان، ومن أدراك لعله إذا أسلم أن يسلم شعب فنزويلا بإسلامه، بل ولعل الإسلام يدخل إلى كل أمريكا الجنوبية، ويصبح هذا كله في ميزان حسناتك، وليس هذا على الله بعزيز! وقد تحولت شمال إفريقيا وغرب آسيا إلى الإسلام في سنوات معدودات ثم انتشر بعد ذلك في كل مكان، وكذلك تحول شرق أوربا زمان أجدادك العثمانيين الأبطال إلى الإسلام، ثم انتشر إلى ربوع أوربا..
إن نشر الإسلام هو أجلُّ مهام الرسول ، ومن بعده الصحابة الكرام ، ومن بعدهم المجاهدون الأبرار من أبناء هذه الأمة، وأحسبك منهم إن شاء الله، والله حسيبك.
الوصية التاسعة:
اعلم -أيها القائد المسلم- أن كل ما سبق لا تقدر عليه بغير مدد من الله ؛ فالكون كونه، والملك ملكه، ولا رادَّ لقضائه، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، فلا تمل من طرق بابه، ولا تكل من طلب رحمته وتوفيقه، وليكن لك خلوة مع الله في الثلث الأخير من الليل، فهي خير زادٍ لك في حياتك ومماتك، ولا تقولَنَّ لا وقت عندي لقيام الليل وأنا منشغل بهموم دولة؛ فقيام الليل دأب الصالحين، وزاد المجاهدين، وسعادة المحبين، ونجاة يوم الدين، وهي فرصة لتراجع كتاب ربك بعيدًا عن ضجيج الحياة، وبعيدًا أيضًا عن زيف السلطان، فلعل الله أن يفتح لك فتوح العارفين، فتفهم ما لا يفهمه غيرك، وتدرك ما يعجز عن إدراكه القادة والمحللون، وكيف لا وأنت ستكون من أهل الله، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ولو أدركتَ متعة قيام الليل -سيدي أردوجان- ما قدرت على تركها، ولعلمت أنها خير من متاع الدنيا وزينتها، وليلهج لسانك دومًا بذكر الله، فهذا سيحفظك من كل سوء إن شاء الله، وقد كان رسول الله يفعل ذلك دومًا، وكذلك الصالحون معه ومن بعده، مع شدة انشغالهم وكثرة أعبائهم، وكان هذا هو سرَّ توفيقهم، وسبب نجاحهم.
الوصية العاشرة:
المرء -أستاذي الجليل- قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فلتحط نفسك ببطانة الخير، وليكن العلماء من أخص خواصك، وخاصة العلماء الربانيين الذين لا يطلبون مالاً، ولا يرغبون في سلطة، إنما يهدفون إلى نفع الأمة الإسلامية، والذين يحرصون على آخرتك أكثر من حرصهم على دنياك، ولئن تصحب أناسًا يخوِّفونك حتى تبلغ مأمنًا، خير لك من أن تصحب أناسًا يؤمِّنونك حتى تبلغ مخافة، والعلماء الصالحون كُثُر والحمد لله، ولا تكتفي بعلماء تركيا، ولكن انظر إلى علماء المسلمين جميعًا، فتواصل معهم، واطلب نصحهم، واسمع لهم، وتقبل منهم، واحرص على دعائهم؛ فإن لهم في الليل سهامًا لا تخطئ، والواحد منهم قد يشفع في أمة يوم القيامة، وهم على كل حال ورثة الأنبياء، وقادة الأمة، وهداية العالمين، فلا تفوتَنَّك صحبتهم، فهي أغلى من أموال الدنيا جميعًا.
كانت هذه هي وصيتي العاشرة لك -أستاذي الجليل- فتلك عشرة كاملة..
ولعل آخر ما أختم به رسالتي لك هو أن أعرب لك عن كامل فخري بك، وعظيم سعادتي بجهدك، وكم تمنيت أن ألقاك لأقبِّل رأسك، وأشدَّ على يدك، ولأقول لك: جزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء!! فقد بيضت وجوهنا، ورفعت رأسنا، وشرحت صدورنا، وأسأل الله أن يجعل نيتك صادقة وعملك صالحًا، وخاتمتك سعيدة، وآخرتك في صحبة سيد المرسلين محمد .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وأسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)